عمار علي
الحوار المتمدن-العدد: 4044 - 2013 / 3 / 27 - 15:35
المحور:
المجتمع المدني
بغداد دائما صريعة القرى والاغراب ,.
كل شي في بغداد يثير الخيبة , الخوف يسكن زواياها وازقتها وفي كل ارجائها الواسعة, الرعب سمة حاضرها المريض .البؤس يحيط بها كأساور صدئة, الكآبة زادها اليومي . ومحنهتا لاتنتهي , أنها محنة العصور .
ربما البغدادي الذي عاش هذه التجربة المرة قد تعود على ايقاع الحياة المتنوع ,من تفجيرات واغتيالات واجواء الخوف الذي تحول الى حالة عادية للاسف ,لقدصار الموت في بغداد لايثر الاسى ولا الاحزان!.
بغداد مدينة سوداء . الرايات ولافتات الموتى وملابس النساء كلها سوداء, ليس هناك لون يستفز المشاعر .وجوم مطلق منحوت على وجوه الناس والمدينة .الفرح شبه مستحيل أو يكاد يكون محذوف من قاموس الحياة .دجلة النهر الازلي يجري صامتا بلا لون . لاشيء هناك ...لاشيء سوى الخراب ..واكوام الازبال واسراب الذباب والكلاب السائبة.
بغداد مدينة نهارية بلا ليل ,ليل دجلة معتم ومنسي ومخيف.
ربما انا ارى المدينة بعين الزائر العابر.
ربما.!؟
مشهد أول .
مدينة الثورة .
المدينة التي يكرهها الحكام والأثرياء.
من ثلاث عقود أو منذ تأسيسها لم تتغير ملامحها بل ازدادت بؤسا وخراب.تعاقب عليها حكام واحزاب ومليشيات وهي لازالت تتوضأ بالموت.عالمها سري بأمتياز , في قاعها نظام مركب من كل المحرمات وفي سحطها تظهر الفضيلة ناصعة في وجوه الناس التي تختفي خلف أقنعة شتى.
مدينة الثورة مركبة وعالمها معقد ومخيف.
لاأحد ينقذ هذه المدينة المتناقضة. لاأحد يفك طلسمها الابدي.
ثانيا..
بغداد عاصمة الثقافة العربية.!
عاصمة الاشباح والعتمة.
شائعات تقول ان لصوص الثقافة ينتظرون الفريسة كي يفكتوا بها.
في صباح شباطي بارد , نزلت مشيا على الاقدام من باب المعظم الى شارع الرشيد , مررت بمكتبة الجمل والمكتبات التي تجاورها ,كانت خالية من أي زائر فقط اصحابها ينظرون الى الخارج بكسل .
الشوارع ترابية , الجسور مقطعة, الغبار يعلوا واجهات المحلات والسيطرات ,العكسرية تعيق حركة العابرون.
مررت أيضا بالمقاهي القديمة , البرلمان وحسن عمجي والزهاوي وام كلثوم ,وانحرفت الى وشارع المتنبي ,كتب مكدسة والباعة ينتظرون من يسال عن هذه البضاعة ,دخلت المتحف البغدادي الجميل ذات التراث والفكلور البغدادي العريق ’كان المتحف بلا زائرين , مؤشرات تؤشر الى الخراب والعطل.
توغلت في شارع الرشيد .عتيقا وعاطل,كأن وجه الشارع مصاب بالبثور والثآليل. الرصافي بلونه الاصفر المقيت مل من وقفته ومن ضجيج العربات التي تتقاطع مع حركة السيارات لحدالجنون المروري. الازبال على جانبي الشارع فوقها اسراب ذباب مرعب.الاطفال حولوا الشارع الى ملعب لكرة القدم, باعة السمك يقفون بصف واحد مكفهرين, اصحاب المحلات الكهربائية والتحفيات يجلسون على كراسي خشبية امام محلاتهم ضجرين. عبد الكريم قاسم يقف في ساحته بلا اكتراث .
ليس هناك معلم ثقافي أو جمالي في المدينة . حتى الاعمال الفنية الموزعة في ساحات بغداد تقف بملل لااحد يقف امامها ,تعيش عزلة واهمال ونسيان , ولولا حركة بعض السياسيون القدماء لم يكن لنصب الحرية قيمة تذكر.
بغداد عاصمة الاهمال على الاطلاق.
يتقرب لصوص الثقافة فرائسهم.
ثالثا ...
العشائر .
دولة الظل .حين تسقط الدولة تنهض العشيرة.
تلعب العشيرة الآن دورا حاسما في المجتمع وهي القضاء الوحيد في حل النزاعات بين الافراد والمجموعات,ويتميز رئيس العشيرة بمكانة اجتماعية عالية تقع في اعلى الهرم وقد تصل الى مستوى الملك اذا كانت العشيرة كبيرة العدد وذو موقع اقتصادي أو تقترب من الحكومة أو احد وزرائها.
وفي ظل هذا المناخ المعادي للمدنية .
تشاهد شعارات تظهر بمنع بيع وشراء أو استجار لان صاحب الامر مطلوب عشائريا.
مثلا صاحب هذه الدار مطلوب دم والدار لاتباع ولاتستأجر.
أو صاحب هذه المطبعة مطلوب عشائريا يمنع شراء هذه الارض وماعليها واعذر من انذر .
وحتى اسعار الفصل العشائري صارت معروفة للجميع ,تبدأ من المليون دينار الى ربع مليار دينار, واسعار شيوخ العشائر معروفة حين تصحبه العشيرة المطلوبة فهو ياخذ نسبة مئوية معروفة.
دولة الظل المتحكمة تسقط القضاء .
رابعا ....
الطوائف .
سرطان يفتك بالعراق .. تشظى المجتمع وصرنا مذاهب واعراق واديان ومافيات.
صارت الطائفة هوية .يرسخها الخطاب المشترك لغلاة المذاهب.انشطار عمودي وافقي وفي كل الاتجاهات حل بالمجتمع . عداء متبادل وهواجس خوف متبادلة ايضا. صراخ هنا وصراخ هناك .موت هنا وموت هناك . العقل عاطل وسدنة الخراب يعملون بقوة وطاقة لاتقاوم .
الكراهية تنتشر كالوباء .حرب نفسية تشن كل لحظة . وحرب حقيقية تدور على الارض , تفجيرات واغتيالات , واختطافات ,ومذابح تعد كالولائم .
حرب سيخسرها الجميع .
خامسا .....
العلمانيون نائمون.
نوم العسل.
دعاة الفضيلة يقحمون البلاد في آتون موت مذهبي .يدفعونها الى الجحيم . الصوت الاخر صامت, متردد, خائف. جماعات علمانية جريئة لاأحد يسندها .يخفت صوتهم ,يرتفع صوت الغلاة الدينيون .تظهر اللحى ,يشحب وجه البلاد.يرتفع صوت العلماني لكنه لايتجاوز شارع أو ساحة أو منتدى .
رافضي ان تتحول بغداد الى قندهار موسميون . يتذكرون بغداد في شارع المتنبي أو قيصرية كريم الحنش. يرفعون اصواتهم هناك فقط.
صامتون الى الابد ؟!
سادسا ......
عيد الحب.
السياسة تفسد الحب.
تحت نصب الحرية .حشدا اكثره من الرجال ,يحملون لافتات مطلبية وتدين الحكم, النساء المحتفيات بعيد الحب ,لاصوت لهن .
في مدينة مليونية . لاأحد يحتفل بعيد الحب ,سوى تجمعات معزولة .
هل المدينة ادمنت الاحزان والكراهية؟
سابعا .......
تفجيرات الاحد .. شباط شهرعراقي دموي .
عدم الاكتراث بالموت!
في الصباح دوت انفجارات في أطراف بغداد , كانت نتائجها مروعة ,وفي مدينة الثورة التي كانت حصتها ثلاث انفجارات عنيفة. تحدث الناس عنها كما لو أنها حدث عابر .
قال شاب يرتدي الجينز ويضع في أذنيه سماعات الام بي ثري .
ان سوق الدجاج تحول الناس فيه الى اشلاء وسيول من الدم , وصمت ومن ثم ترك المكان وهو يهز جسده على ايقاعات الاغاني التي يسمعها.
أمراة بيضاء ,يحيط الكحل عيناها , وتضع في اصابعها خواتم ذهب كبيرة ,ترتدي عباءة سوداء لاصفة.
قالت الناس تموت والحكومة لاتبالي بما يحدث . غادرت المكان بدون ان يظهر على وجهها أي اثر للحزن.
شيخ طاعن , بزيه الريفي ..
قال الحمد لله لم يكن عدد الموتى كثيرا, ان الله كان معنا!.
حشد مختلط قالوا انها مشيئة الله وامتحان منه!
الموت لامعنى له في زمن اغبر ولامعقول.
ثامنا ........
الانتخابات المحلية .
سوق نخاسة سياسية.
اللافتات تغزو شوارع بغداد بطريقة لاتنم عن عقل منظم ومتحضر, شعارات مضحكة وربما تثير البكاء.تهاني العشائر والافخاذ والعوائل للمرشحين التابعين لهذه التكتلات الاجتماعية التي ترتزق على مواسم الاعراس الانتخابية , ومواسم الانتحابات !, وساحات التسول السياسي المشرعن.
انتخبوا المواطن الشريف المحروم خادم المظلومة السيدة زينب .
عشيرة بني لام تهنئ ابنها الوطني الشجاع البار لترشحه للانتخابات.
السادة المكاصيص يرفعون آيات الشكر لابنهم الوطني المجاهد البطل بمناسبة ترشيحه للانتخابات.
انتخبوا العلوية .
أنتخبوا خادم المنبر الحسيني.
انتخبوا خادم الامام المهدي.
الاستاذ الساعدي خريج الدراسات الحوزووية يرشح على قائمة الاحرار.
المرشح المقاوم الذي هزم الاحتلال والفساد سيكون خادما للامام علي وأهل بيته.
أنتخبوا شيخ عشيرة بني كعب خادم المرجعية الشريفة .
الاستاذ الجامعي مرشح السادة الابرار .
تاسعا .........
حديث الكيات .
برلمان الشارع.
هناك شعار في كل ارجاء بغداد بلونه الاصفر ,يقول محافظتي اولأ.
علق احد الركاب محفظتي اولأ ,ساد المزاح والسخرية وانطلقت النكات . قال الذي يجلس خلف النافذة ,ان المرشح المحروم فكر ولم يجد غير الانتخابات مصدرا لرزقه وحتى يشبع فأنه سوف يسرق ولن يشبع.
وعلق آخر مدينتي تنتحب.
شابة محجبة . تحدثت بطريقة حزينة . انهم لصوص بأسم المذهب .قالت احدهم جاء الى قطاعهم يعدهم بأنه سوف يقوم بردم اماكن الاوساخ وسوف يقوم بتلبيط الشارع المؤدي الى مدرسة الاطفال في القطاع ووووو. لكنه قال يجب ان يقسموا بالقرآن والامام المهدي على ان ينتخبوه .
شاب يشتغل عامل بناء لازال بملابس العمل.
قال في الانتخابات السابقة كانوا يدقون على أبواب البيوت في المدينة يحملون بطانية وصينية فيها كيلوا لحم والقرآن معا , ولن يستلموا البطانية وكليوا اللحم حتى يقسموا بالقرآن سوف يمنحونهم اصواتهم بالانتخابات .
حديث الناس يثير الغرابة ,لانهم رغم الرفض العلني لكنهم سينتخبون هؤلاء رغم كل الاثام والخراب.
عاشرا ..........
مهرجان طريق الشعب الاول .
رئة الفرح الخجول.
ضفاف دجلة تنتشي بفرح عابر ,تنسمت رائحة غير رائحة البارود ودخان الانفجارات , ورائحة اللحم البشري المشوي بنيران الديناميت والاحزمة الناسفة.
في صباح آذاري معتدل .
كنت قد ذهبت الى المهرجان وانا احمل داخلي مشاعر الخوف من أي مفاجئة ,لان بغداد مدينة مفاجئات ,مدينة موت متوقع في كل لحظة. وكنت استعيد ذاكرتي ,كانت طريق الشعب كتاب يومي, وقاموس ثقافي , وموسوعة معرفة .
قلت متى تعود الى آلقها الاول؟
وصلت الى مكان المهرجان ,كان شهريار قد فرغ من تناول كاسه الاخير وشهرزاد انهت حديثها المباح ,أنفتحت روحي وهربت اشباح الموت , انفجرالفرح , وزال توتر اللحظة السابقة , وتوهجت بلحظة نشوة حقيقية .كنت اقرا ان الفرح يطرد الاشباح , واقول انها روايات ,لكن فعلا ان الفرح يهزم الاشباح ,الاشباح من كل نوع.
تجولت في ساحة المهرجان ,هناك وجوه اعرفها , مناضلون يعاندون الزمن ,رغم أثاره على سيمائهم ,مررت بخيمة طريق الشعب وهي تفرش ارشيفها ,سيرة محن وفكر وعطاء.
شباب وشابات ينثرون الفرح في المكان , غناء ورقص وشعر شعبي , ندوات ثقافية ,عروض مسرحية ,اطفال يفترشون الارض يرسمون ,منهمكون في مزج الالوان ,يرسمون اشجار ونخيل وطيور في سماء صاحية.
ذاكرتي أنفتحت على زمن المحنة . حين كنا نستنسخ طريق الشعب السرية في ورق شفاف , ونتناولها بفرح غامر وحذر شديد ,أيام كنا نهزم اليأس بقوة الأمل ,بقوة الحلم والوهم والافكار التي تنمحنا قوة مقاومة غريبة, هل للافكار قوة تهديم دولة العنف؟.
كانت طريق الشعب تعويذة , سحر سري ,طاقة مقاومة الخوف .
كان المهرجان بوابة فرح في فضاء قلق مرعب ,نافذة تشع نورا في عتمة الايام البغدادية, قوة تطرد الاشباح كل الاشباح.
في شمعتها الثانية سوف يتسع الضوء.
ويكبر طفل الامل .
هامش لم يحضر الانصار وتاريخهم المضمخ بالدم والعذاب هذا المهرجان , ليس هناك صورة أو كلمة أو اشارة ,منسيون ابدا.
#عمار_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟