|
لطفية الدليمي.. و مدنها
عادل سعيد
الحوار المتمدن-العدد: 4044 - 2013 / 3 / 27 - 14:26
المحور:
الادب والفن
قراءة في كتاب ( يوميات المدن ) للروائية لطفية الدليمي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * المرأةهي المستقبل اشبنغلر
* المرأة مستقبل العالم ، وانتِ مستقبلي اراغون
حين يمر العالم امامنا بمدنه و ناسه وعمرانه وشوارعه و اسواقه ، نتذكر رحالتنا السعيد ابن بطوطة ، وهو يطوف و يتعايش و يسجل و يدون يومياته بقلم الزائر الهادئ الذي حـلّ ضيفا مكرما في العديد من المدن ، فلم تستشعر خطاه التيه ، و لم تفترس روحه الغربة و لكن ان يردّكَ رصيف الى رصيف و تتعثر روحك بين الأجساد و الملامح و النظرات ، فهذا يعني انك لا تنتمي الى المكان و لا الزمان و لا الون و لا الرائحة . لست سوى غريب والتغرب او اللجوء او المهجر ، مجاورة لسمات العدم ، لأنه يعني ( المسافة بين كينونة ناجزة مهددة و صيرورة مستحيلة ، وهو حالة من ضياع القصد و الدوران في حلقة مفرغة من ضلال الخطى ) ، والغريب ، كما عبر عن حالته شاعر قديم مجهول : اِن الغريبَ لهُ استكانةُ مُذنبٍ و خضوعُ مديونٍ و ذلُّ غريبِ فإذا تكلّمَ في المجالسِ مُبرمٌ واذا اصابَ ، يُقالُ غير مصيبِ وقد يحتمي الغريب وهو يتفشى في غُربته ، بلغته ( كقميص مضاد للضلال ) اما اللغــة الأخرى ، فستكون شبه فندقٍ يقيمُ فيه الغريبُ مؤقتا ، بعدَ ان غادرَ وطنا ، بدا هو الآخر .ضيقا بمساحة و مضمون فندقٍ انتهت صلاحيةُ اقامتنا قيه . و وسط مدينة كباريس بجمالها و انوارها ومعمارها و حدائقها تتحصنُ الغريبة ( الكاتبة ) بما بما اختزنته في ذاكرتها و روحها عن هذه المدينة ، خصوصا فنونها و آدابها و تاريخــــــها لتكون بمثابة الظل الحاني والصديق ، الذي اشار اليه محمود درويش ( ظل الغريب علـى الغريب عباءةٌ )و في باريس لابد ان يحظر اجمل فتيانها الشاعر و ( النخاس و مهـــــــرب الأرواح ) لاحقا ، آرثر رامبو بسحر شعره و عبقه و تاريخ حياته اثر زيارة الكاتبة لمنطقــــة شارلفيل حيث بيته والحي الذي نشأ فيه ، وسيكون لرامبو هنا ( دفء الظل ) ) و حنو الرفيق ، رفيق التغرب والتشرد ، حين قادته حياته الغريبة الى مجاهل اثيوبيا و عـــــدن وفي كل هذا فالعراق حاضر في كل زاوية او شارع او التفاتة في باريس ، انها باريــــــس عراقيا!! .. والمدن في ( يومياتها ) لا تجري وفق يومياتها هي ، بل وفق يوميات الغريبــــه وطقسها الداخلي ، و حتى ازمنتها لا تحضر بتوقيتاتها هي ، بل بتوقيت عراقي : ( وحدي احمل وطنا زائلا ، وحولي المدن ، ارشف الشاي وأراك تنبثق من العبير الساخن ، وحين احيطك بذراعيّ، لا امسك الا الهواء ، اعدو في مياهك ( العراق ) لا شيئ سوى اصداء من طوفان التكايا ، وفقهاء يتداولون جدل التطهر من قطرة دم او لمسة انثى فبيل الركوع و سادة الموت بعمائم بيض و سود وقبعات ، يرددون اهازيج القتل برمّانات وسيوف و فتاوى ) . و الملاحظ في اسلوب الكاتبة لطفية الدليمي ، كما هو في روايتها ( سيدات زحل ) ان الزمن لديها سائل تتحرك على مسطحه عبورا الى الماضي ، او تغوص في نقطة مـــــا فيه مستعيرة مقطعا تاريخيا ، او حكائيا، او اسطوريا ، لتسليط الضوء على قضية او فكرة .تود لفت الإنتباه اليها او تبنيها حتى ، دون التصريح بذلك بجمل جاهزة او جازمة و كذلك فيما يخص المكان ، فهي تؤخذ مقطعا او ( خلية ) من المدينة تشكل مركــــــز النبض او التوتر فيها، بما يؤمن ايصال المكان الى القارئ بأجوائه و طقوسه و روائــــــحه كما ان الثيمات التي تعالجها الكاتبة، لا تكرس لها فصلا في الكتاب خاصا بها ، بــــــل ان الكشف عنها او الحديث عنها ، نستخلصه من مجمل الكتاب . فالحديث عن بغداد المـوت و القتل و الهتك والحرائق و الدمار ، نراه مبثوثا في فصول متفرقة من الكتاب ، وهي حين تقابل بين المدينة كمقطع حي في الزمن، وبين المتحف كمحتوى تجمد فيه الزمن ، فهي تفعل ذلك من اجل فضح التاريخ وهو ساكن مجمد في متحف او فضح تاريخ المدينة الحي و دخان الحرائق ينبعث من ابنيته او الدماء تسيل في شوارعه . والمتحف التاريخي غير محايد ، فهو يعرض الملوك والأميرات و ابّهاتهم و حليهم و ذهبهم ، و لكنه لا يعرض رعب الرجال والنساء من وصائف الملكة الذين دفنوا احياء ، و لا يعرض صيحات الحلاج و انيـــن السهروردي و هلع ابن المقفع ، واذا انصف المتحف يوما وفعل ذلك ، فأين سيضع مــــن دفنهم صدام في مقابره الجماعية !؟ وفي حديثها عن التاريخ ، تشير الى نوع من النوستالجيا ( المريضة ) حين تقول : ( اَن يكون لشعب ما تاريخ طويل تهاوى اثر هزائم او انتكاسات ، فذلك يعني وجود جرح عميق يدفع به الى الإنغماس في توهمات طفولية و هوس مرضي في عشق الماضي الذي يوفر له ملاذا من عدم توائمه في الحاضر و عجزه عن تمثيله ) . ثم تورد مقولة لمونتســـــكيو كضد نوعي ، تقول: ان الشعوب السعيدة لا تاريخ لها . فهي شعوب تحيي الزمن فـــي .مدى الراهن ، و ترنو الى وعد الغد ، و لا تلتفت قط الى الوراء . ( و يبقى التاريخ جثة مبهرجة ببريق الذهب و الأكاذيب ، فيما يختض جسد الفن بالرؤى و الرغبات و تجليات الجمال ) .. تقول الكاتبة هذا ، وهي تتحدث عن نوع من المتاحــف لا يحفل بالزيف وتلافيق التاريخ و المؤرخين ، الا وهي متاحف الفنون التشكيلية ، التي تعرض ابداع الرسامين ، وما اسبغوه على العالم من جمال ، ومنهم الرسام هودلر في متحف زيورخ ، الذي ابدع في تصوير جمال المرأة وبذخ جسدها ، باعتبار الإحتفاء بالمرأة احتفاء بالحياة ، والفن كما قال نيتشة ، يتشهى الحياة ، والحياة امرأة ، و المستقبل امرأة ، او كما قال الفيلسوف اشبنغلر: ( المراة هي المستقبل ) ، وهذا يذكر بمقولة اراغون : المرأة مستقبل العالم ... و انت مستقبلي! و قضية المرأة هي قضية محورية في جميع اعمال المبدعة لطفيــــــــــة الدليـــــــــــــــمي فهي حتى حين تتحدث عن اساطير وادي الرافدين مثلا ، فهي تناقـــــــــش الأسطورة وكيف تناولت موضوعة المرأة . ففي اسطورة ( انوما آليش ........ ....حينما في الأعالي ) تبرز كيف ان المؤلف و الآلهة قد تآمروا على الملكة الأم تيامات ، و قاموا بقتلها ، في اشارة الى انهاء العصر الأمومي او عصر المرأة ، رغم الإشارة الى ان دمها عجن مع الطينة التي صنع منها البشر .وحين تتحدث عن ملحمة زيوسيدرا ؛ المــــلاح التائه ، فهي تربطه ربطا ابداعيا لافتا ، بما جرى و يجري في العراق الآن ، حين تقول؛ دعوا السفينة تغرق، فالوا ذلك شرط التراجيديا ، دعوا الطوفان يطغى ، ذلك شــــرط ظهور المنقذ وقيامته من غيبته . لماذا لم يتلق زيوسيدرا التائه فوق غمر الماء علامة السماء !؟ هل كانت الرؤيا خديعة و الحلم فخا !؟ ماذا صحب الملاح في الفلك المنكود!؟ ذكورا مخصيين ام نساء عواقر !؟ ام مسوخا ستسود الأرض بحد السيف !؟ام حمل ضــــــراوة الناس ، فتوالد منها رجال الكهوف براياتهم و سيوفهم و طواطم قبائلهم !؟ بماذا بنـــــى الملاح سفينة الهلاك ؟ بالدموع ام بعجينة النفط و طحين الأجساد !؟ ام من زنبق .سوسن ولبلاب!؟ وحده صبي عابق باللقاح ادرك ساخرا ، ان الفلك اكذوبة من صنع يأسنا مَن لقّن الفتى حكمة ان لا يؤمن بحكمة ابدا!؟ وفي الكتاب اشارة الى مصطلح الأنتروبيا ، والذي جرى تعريفه من قبل عظيموف على انه الحصيلة الكونية من الطاقة المتبددة عشوائيا وغير القابلة للإستغلال و الإسترجاع . وعلى هذا الأساس ، بإمكاننا ان نخمن مقدار الطاقة المهدورة ، عراقيا ، باعتبارنا جزءا من هذا الكون في عراق الهتك و الإبادة والفتك والحروب . على ان الكاتبة تفترض ( الحب ) كمضـــــــــاد اساسي للإنتروبيا. وفي الكتاب اشارة الى ( الوهم ) كعلاج ضد الخواء و العدم الناتج عن الحروب او الفشل الشخصي ايضا . ثم تتحدث عن ان الفنان يحتمي بنوع خاص من الوهم ، ( الوهم الجميل ) مقابل قبح الواقع و سلطته الفاتكة. و اذا عدنا الى اليوميات الأقسى ، يوميات بغداد ، تطرح السيدة لطفية سؤلا مشوبــــــا بالمرارة والألم ، وهي تستذكر الموت والخراب في بغداد ما بعد منتصف العقد السابـــــق فتستحضر ذهنية البرابرة الجدد من السلفيين ، الذين قدموا من عصور الخرافة ، ومجلدات العفن ، وفتاوى الدم ، فهي تتساءل : ــ لماذا لا تقبل بوجودي في الحياة ، كما انا ، بينما اقبل بوجودك كما انت !؟ وفي اختتام حديثنا الموجز عن المدن ويومياتها ، لابد من الإشارة الى اللغة الثرية والضـــخ الشعري العالي ، هذه اللغة الفذه التي ابدعت السيدة لطفية في شحنها بأقصى حمولة ممكنة من الإتقاد الشعري والفكري . ولا بأس ان نورد اخيرا صرخة مقاتلة من امرأة قررت خوض حرب وجودها حتى النهاية ، حرب دفاعها عن كينونتها كأنثى و امرأة وانسان ، يؤدي الحجر عليها في بيتها الى ظهور جيـــل دموي قامع و مقموع ، في بلد اصبحت الحياة تُتداول فيه افتراضيا ، بعد كل هذا المــــوت والموات : ( انا امرأة تجازف في كل برهة و تراوغ موتها . اتجول في ظلال الوحوش البشريةالتي ترفــــع * سيوفها الصدئة ، تجز بها رقاب الخارجين على الخرافة ، و الذاهبين الى سلطة العقل . امضــــي .قدما في مجازفاتي الخطرة ) ..
#عادل_سعيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خارج المداولة
-
سيداتٌ .. مِن زُحل
-
حين يقيل الشاعر ضميره
-
فناء صوفي
-
بصقة دم في الضمير!!
-
اولمبياد الدموع
-
سحابة .. كاسرة
-
هذا العربي .. المُدلّل!
-
صلاة السلفي
-
هذا النادل
-
نشيد بلبالا .. ام نشيد الأنشاد!؟
-
الشيوعي الأخير .. قي محنته
-
سفارات
-
نوافذ
-
شعراء
-
العائد الذي لم يجد
-
بقعتا ضوء
-
الشاعر الكواز
-
آلهة
-
دلشاد مريواني
المزيد.....
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|