|
حدوس ثاوية
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1162 - 2005 / 4 / 9 - 12:22
المحور:
الادب والفن
تناهى إلى سمعه وهو منغمس في الكتابة على شاشة الكومبيوتر بأن زوجته" خيال " ذات الملامح الأوروبية، والأصغر سناً منه بخمس سنوات، واثقة، على ما يبدو، ثقة عمياء بوفاء زوجها " مهنّد الحمداني " وإخلاصه، منقطع النظير لها، بحيث أنها رسّخت في أذهان جاراتها الثلاث اللواتي لا يبددن أية فرصة في اللقاء الحميم الذي قد يستمر إلى ساعتين أو أكثر في أسوأ الأحوال على رغم مشاغلهن المنزلية الكثيرة، وارتباط بعض منهن بالحصص الإلزامية لتعلّم اللغة الهولندية التي تنطوي على صعوبات جمّة دفعت بـ " أم مازن "، صديقة " خيال " المقرّبة إلى القول الذي ذهب مثلاً بين أفراد الجالية العراقية في مدينة زاندام " لو يصنع الواحد صاروخاً أسهل مما يتعلم هذه اللغة الهولندية! ". كان مهنّد يسترق السمع أحياناً، أو أنهن لا يتورعنَ في الحديث بصوتٍ عالٍ مُؤكِدات بأنَّ الإخلاص ليس خصلة بشرية، وأن المرأة الحقيقية ينبغي أن تخشى على زوجها دائماً، ولا تترك له الحبل على الغارب، خصوصاً إذا كان هذا الزوج يعمل في وسط فني متفتّح لا يعير اهتماماً للأعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة ! قالت أم أحلام بنبرة تحريضية حازمة: " إن زوجي لا يخرج من المنزل أبداً ما لم أرافقه حتى في شراء مشروباته الروحية من السوبر ماركت المجاور لشقتنا!". تطلّع مهنّد عبر الفسحة المنزاحة من ستائر النافذة الكبيرة فألفى الليل قد هبط قبل أوانه بكثير. هكذا خالجه شعور رمادي قد يكون مبعثه تحريض النسوة الثرثارات لزوجته على أن تكون أكثر صرامة مما هي عليه الآن، لأن النسوة الأوروبيات، حسب تصورهن القاصر، يمارسن الخيانة الزوجية كما يشربن فناجين القهوة صباحاً! وقف مهند أمام المرآة قليلاً، سوّى ربطة عنقه الحمراء، ثم ضمّخ عنقه بعطر فرنسي نفّاذ أخرج أم خلدون من صمتها المفخّخ، ودفعها إلى التشكيك قائلة: " هل أنتِ متأكدة يا خيال من أنه ذاهب إلى مهرجان شعري أم إلى حفلة زواج؟ ". حمل مهنّد حقيبته الجلدية التي تنسجم تماماً مع بذلته السوداء مخلِّفاً وراءه عطره الفرنسي، ولغطهن المتواصل، وتحذيراتهن المستديمة لزوجته بضرورة تضيّيق الخناق عليه للحد من سفراته الكثيرة، وخروجه الدائم منفرداً بحجة المشاركة في الندوات الأدبية والمهرجانات الفنية. كان قطار الـ " Intercity " سريعاً وخاطفاً وهو ينهب الأرض المنبسطة نهباً، وسيصل إلى روتردام عندما يبتلع بحر الشمال قرص الشمس المتواري خلف الغيوم المتكاثفة التي تشي بمطر ثقيل، أو حينما " يكون الليل طفلاً " حسب توصيف صديقته الهولندية " تانيا "، المرأة الجذابة، النافرة التي تطلقت مرتين، وها هي الآن تبحث عن زوج ثالث ذي خلفية ثقافية غير أوروبية، كما تقترح، لأنها ملّت من التعاطي على وفق المعايير الاجتماعية الهولندية السائدة. لقد تعرّف بها مهند في واحدة من المهرجانات الشعرية عن طريق صديقه المصري " أو الرجل العجوز " كما يشيع هو عن نفسه ليؤكد " شبابه الدائم الذي يتجدد كلما أضاف امرأة إلى قائمة نسائه ومحضياته اللواتي ينجذبن لقدرته الجنسية التي يستمدها من مصادر غامضة خارقة. ". كانت تانيا قد سبقته إلى الصالة الفخمة، وقد جلست في الصف الأول منتظرة دورها في قراءة بعض نصوصها الشعرية الجديدة. ثمة قصائد قصار كتبتها من وحي علاقتها العاطفية الحديثة بمهنّد، وقارئ هذه النصوص أو سامعها لا يجد صعوبة في ملامسة هذه العلاقة الساخنة، فلا رموز، ولا أقنعة. نصوص مكشوفة، بسيطة، لكنها عميقة تهتز لها شغاف القلب، وتكشف فيها من دون مواربة عن الشخص الذي تعلّقت به، وأحبته إلى درجة الولَه. لم تنتبه خيال إلى حجم الشكوك التي زرعتها صديقاتها الثلاث قبل أن يغادرنها إلى بيوتهن، فثقتها العمياء بزوجها كانت تنأى بها عن السقوط في هذا الخانق المؤرق الذي سيقلب حياتها إلى جحيم لا يُطاق لو أنها سقطت فيه فعلاً. عند منتصف الليل رنَّ الهاتف فجاء صوت مهند معتذراً بأن القطار الأخير قد يفوته إذا ما وصل إلى أمستردام بعد منتصف الليل، ومن الأفضل أن ينام عند أحد أصدقائه المقرّبين ويعود في صبيحة اليوم الثاني. لم تنسَ زوجته أن تذكّره بأن غداً مساءً هو موعد رحلته إلى الدار البيضاء، فطمأنها بأنه سيعود في الصباح الباكر من يوم غد ليتأهب لهذه الرحلة التي يترقبها منذ زمن طويل. نامت زوجته طوال الليل على وسادة هادئة رغم التخرصات التي حشرتها الصديقات الثلاث في تلافيف رأسها المطمئن الذي لا يبالي بأقاويل النسوة. في الصباح ارتدى مهند ملابسة المتناثرة، ولملم أشياءه المبعثرة حاشراً إياها في حقيبته اليدوية عائداً لـ " خياله " التي تنتظره من دون أن تهتز ثقتها فيه. في المساء قبل أن يودعها، طلب منها أن تضع منامته، ومنشفته الصغيرة، وملابسه الداخلية في الغسّالة، لكنها تقاعست ليلة رحيله، فسوّفت الأمر إلى صبيحة اليوم التالي. قبل أن ينبلج الصباح أرادت أن تسمع صوته عبر هاتفه النقّال، لكنها لم تشأ أن توقظه مبكراً، وقالت في نفسها " سأتصل به في الساعة السابعة أو قبلها بقليل، إذ اعتاد مهند أن يستفيق في هذا الوقت حسب توقيته البايولوجي، كما يزعم ". فتحت حقيبته السوداء ومازال النعاس يغالبها، ومن دون أن تنظر إلى ملابسه المدعوكة بشكل عشوائي دسّت منشفته، ومنامته، وملابسه الداخلية في جوف الغسالة الذي أوشك على الامتلاء، ثم شغّلت الغسالة، وعادت إلى الفراش من جديد. أطبقت أجفانها، ونامت، ثم أفاقت مذعورة لأنها تأخرت قليلاً من موعد المدرسة. قالت في سرها سأتصل به حينما أعود. في منتصف النهار عادت متلهفة لسماع صوته، قررت أن تزوّل أرقام هاتفه النقال، لكن شعوراً غريباً دفعها لأن تنشر الغسيل في شرفة المنزل. مدت يدها إلى جوف الغسالة، وتجمّدت في مكانها فاغرة فاها وهي تحدّق بلهع إلى " مشدّة صدر " وردية اللون استلّتها من بين ملابسه الداخلية التي كانت تفوح منها رائحة " الثقة العمياء ". انخرطتْ في بكاء حار وهي تكتشف أول مرة عدد الليالي الكثيرة التي بات فيها مهند خارج المنزل بعد أن حفَّزت " حمّالة النهدين الوردية " حدوسها الثاوية أو العاطلة على الأصح.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المخرج العراقي ماجد جابر: الحيادية والتلقائية هما من مقومات
...
-
المخرج هادي ماهود: علينا أن نستثمر هذه الحقبة لصناعة أفلام و
...
-
المخرج هادي ماهود: الإنسان البسيط يتحدث على سجيته، ولا يتصنّ
...
-
المخرج هادي ماهود: لم أكن سعيداً بفيلم - جنون - الذي فاز بجا
...
-
الفنان ستار كاووش لـ - الحوار المتمدن -: أحب الموضوعات التي
...
-
الشاعرة التونسية زهرة العبيدي لـ - الحوار المتمدن -: القصيدة
...
-
موفَّق السواد في (أسرَّة الفتنة): مُخيّلة مشتعلة تستقطر عسل
...
-
هادي ماهود في فيلمه التسجيلي الجديد - العراق وطني -: كوميديا
...
-
مدخل إلى نصب الحرية - لعدي رشيد: تفتيت الحبكة، وتشتيت الأحدا
...
-
الفنان الهولندي خيرت يان يانسن: أكبر مزوِّر في القرن العشرين
...
-
فيلم - فيزا - لإبراهيم اللطيف الحاصل على التانيت الذهبي لعام
...
-
المخرج عدي رشيد في فيلمه الجديد - غير صالح للعرض -: بنية الت
...
-
- الرحلة الكبرى - للمخرج المغربي إسماعيل فروخي: عدسة مُحايدة
...
-
فيلم - الأمير - لمحمد الزرن: يجمع بين النَفَس الكوميدي والوا
...
-
- بغداد بلوجر - لسلام باكس:الفيلم الذي وُلِد مكتملاً، والمخر
...
-
القصّاص الدنماركي الشهير هانز كريستيان أندرسون: في سيرة ذاتي
...
-
السلاحف يمكن أن تطير لبهمن قباذي: مرثية موجعة للضحايا الصامت
...
-
البرلمان الهولندي يعلن - الحرب - على التطرّف الإسلامي، ووزير
...
-
في الدورة الـ - 55 - لمهرجان برلين السينمائي الدولي: جنوب إف
...
-
الرئيس الأمريكي في خطابه الإذاعي الأسبوعي يؤكد على دحر الإره
...
المزيد.....
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
-
مسيرة طبعتها المخدرات والفن... وفاة الممثلة والمغنية البريطا
...
-
مصر.. ماذا كتب بجواز سفر أم كلثوم؟ ومقتنيات قد لا تعلمها لـ-
...
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|