|
قصتان قصيرتان
أحمد فيصل البكل
الحوار المتمدن-العدد: 4039 - 2013 / 3 / 22 - 11:26
المحور:
الادب والفن
" ساعة الفرج " .. قصة قصيرة
ولّى " موسم " المدارس بحلوّه ومرّه ، وربما فاقت مرارته حلاوته ، وها هو ذا موسم الصيف يزفر أنفاسه الوليدة ، يُصدر أنفاساً غلاظ ممزوجة بأثقال الأشهر العجاف ، مكتومة ، محمومة ، شقيّة ، نابعة من صدر أكل عليه الضيق وشرب ، بل لها وإستروح ! وأي ضيق ! ضيق الدين ، وإقتراب مواعيد إستحقاقات الدفعات الأولى لشيكات التُجّار ، والهرولة خلف عقارب الساعة ، وعقارب الساعة قد تتوقّف في أية لحظة ، فليس في مقدور أحد أن يدرك متى يبدأ الموسم في قلب السوق ومتى ينتهي ، فهو يبدأ بإقبال " الزبون " ، وينتهي بعزوفه وإدباره ، فمتى يُقبل ، ومتى يعزف ويدبر على وجه التحديد ، تلك هي المسألة التي ينتفي معها اليقين ، وإن كنت أعتى التجار وأرفعهم شأناً ، فسوق التجارة هو اليم ، وأمّا الزبون فهو النوّة التي لا يُعرف لها وقتاً ، ولا يُدرك لها ميعاداً ، ولا تُقرأ لها ملامح ، وحين تأتي فلا تبقي ولا تذر . يتغيّر على إثرها كل شيء . كل ما هنالك من فرق أن نوّة السوق نوّة مطلوبة ، محمودة ، مُشتهاة ، مُنتظرة دوماً ، وإن طال الإنتظار . والحال لا يختلف كثيراً قبل أن يحتدم الصراع في قلب السوق بالنسبة لأرباب الأعمال ، فعلي الأطراف في الواقع يبدأ كل شيء . وهم لا يدركون أيضاً ما الذي يبتغيه الزبون أو العميل على وجه الدقّة .. الجدّة أم المحافظة؟ الكم أم الكيف؟ ليس في وسع أحد التأكيد . أنفاس الموسم مكتومة ؟! أي موسم ذاك ؟! وأي أنفاس تلك التي يزفرها ؟! إنها أنفاس التجار في الواقع ، فشهقاته من شهقاتهم ، و زفراته من زفراتهم . حركته من حركاتهم ، وسكناته من سكناتهم . نعم هو له روح ، و روحه هي ايضاً روحهم .
الرجل مازالت خفيفة داخل السوق وخارجه ، خفيفة جداً ، حد النُدرة ! في خُف الريشة ! والسؤال عن الرجل ومدى خفّتها لا يقتصر على المحال ، حيث قلب عمليات البيع والشراء ، بل يتعدّى إلى المصانع والمكاتب ، فرجل العميل للآن لا تقل خفّة عن رجل الزبون . والخفّة في حقيقة الأمر ليست خفّة الحركة ، وإنما خفّة الرغبة ، وخفّة الجيب في غالب الحال . وحالما تطول خفّة الرجل ، تتسلل وقتئذ خفّة من نوع آخر مُستقرّها ألباب التُجار ، فتطير وتطيش على إثرها .
صب اللعنات على عالم السياسة ، وكل من ينتمي إليه ، وعلى شعب أمسى في جملته بين عشيّة وضحاها يعي كل ما يقول وكل ما يفعل ، وإلقاء المسئولية على وزارات الداخلية المتعاقبة لتقاعسها عن منع تهريب البضائع الشرق آسيوية الأرخص المنسلّة عبر مواني المدن الساحلية ، ليس إلّا هكذا يفسّرون حالة الشلل التي تصيب سوقهم من فترة لآخرى .
العمال جالسون على ماكيناتهم ، وكل ما فيهم يتحرّك دون إمهال طالما أن كل ما في الماكينات يتحرك أيضاً بلا إمهال . ربما تحسبهم في باديء الأمر إن كنت لم تعتد رؤياهم أعضاء فرقة شعبيّة لإحدى الفنون الحركيّة ، وحين تطالع أرجلهم وهي ترتفع فترتفع معها تروس الماكينة ، وحين تهبط أطرافها الحديدية فتهبط معها أيديهم ، وهم لا يتخيّرون حركاتهم تلك ولا يشعرون بها ولا بوقعها من فرط ما آلفوها وآلفتهم ، ربما تُدهش وتتسائل : من السيد ومن المسود ؟ ومن يدفع الآخر للحركة المتواصلة تلك ؟ هم أم تلك ؟ إقترب أحدهم من ذلك المصنع الكائن بأحد أحياء شرق القاهرة ، وأوقف عربته " النصف نقل " بالقرب منه . وما أن وطأت قدمه أرض الشارع وبجانبه من كان يقود العربة حتى وجد في وجهه من يرحّب به ترحيباً فيه من الإفتعال بقدر ما فيه من التلقائية ، قبل أن يقوده إلى أعلى . وليس المهم من يقود بالأسفل ، فليقود بالأسفل من يقود ، ولتُختزن الطاقات إلى ما هو آت .
صعدوا ثلاثتهم إلى الدور الثالث ، المستقبِل ، والمستقبَل ، ومن خلفه السائق وفي يمناه المفتاح . ما أن دخل حتى أطلق نظرة خاطفة جابت أرجاء الشقّة وجدرانها في ثوان . قصدت نظرته كل شيء عدا ذلك الرجل الذي كان يجلس خلف مكتبه بعينين هائمتين في شيء ما كان يقرأه أو يسترجعه ، حتّى قُدّم كل منهما للآخر : الحاج حسن .. الأستاذ نادر . وهنا نظر كل منهما إلى الآخر نظرته الأولى ، قبل أن ينتصب جسد الحاج حسن منثنياً نصف إنثناءة ليرحب بضيفه داعياً إياه للجلوس على أحد الكرسيين المواجهين لبعضهما البعض على الدفّة الآخرى للمكتب . المسافة لم تكن كبيرة على أية حال ، كرسي خلف المكتب ، وكرسيين أمامه ، والكراسي الثلاثة المكسوّة بالجلد البنّى تكاد تلتصق بالمكتب تماماً ، كما ينبغي أن يكون الأمر ، فلا يجدر بأية كلمة أن تتسلل إلى خارج تلك الرقعة . رقعة المكتب والكراسي الثلاثة .
أخذ الأستاذ نادر واجبه ، والواجب كان خفيفاً كل الخفّة ، ربما ملائمةً للظرف ، للإستهلالة . مشروب طبيعي كان . ليس إلا . ثم إندفع شريك الحاج حسن قائلاً وإبتسامته - التي تبلغ حد البلاهة أحياناً - متسعة كاشفةً تلك الأسنان التي إستبد بظاهرها وباطنها القطران : وأخبار بني مزار إيه يا أستاذ نادر ؟ - أجابه وهو يمعن النظر في هاتفه كأنه يبحث عن شيء ما : نحمد الله يا حاج أشرف . الناس مستنية توزيع الشغل في أجرب وقت . أنا بجالي يومين في مصر ، والشغل صراحة في أماكن وأماكن ، وإنت تحت شفت بنفسك ضهر العربية لسه فيه أماكن . الموسم دة كتير خايفين يجازفوا بشغل كتير علشان مايخسروش بضاعتهم . - الحاج حسن وكأنه لم يستمع إلى ما قد قيل للتو : من بني مزار نفسها يا أستاذ نادر ؟ - أجاب وهو يتلمّس الزجاجة الفارغة أمامه : أيوة . من بني مزار نفسها . ثم راح يتلفّت حوله وقال في نبرة بها مسحة ثقة ملؤها الصلف : العينات موجودة ؟ - الحاج أشرف مجيباً قبل أن يكمل الرجل سؤاله : موجودة . لحظة واحدة . وقام ليسير بإتجاه الباب الخلفي جاذباً إياه بعد أن أشبعه شريكه بنظرات تفوق في بلاغتها أي حديث ، دون أن ينبس أثناء حديثهما بحرف . فقط ينتهي من سيجارة ليُشعل الآخرى وكأنما يوكّل دخّانه بالنطق نيابة عنه . وما أن عاد حاملاً بضاعته وعيناته حتى وقف قبالة الرجل عارضاً عليه الفستان تلو الآخر ، فيُمسك هو بدوره بهم ويتفحّص كل ما فيهم ، وأعين الحاج حسن تراقب تعبيراته في هدوء يبدو مصتنعاً . نظرة إلى أعلى ، ونظرة إلى أسفل . دخان إلى الداخل ، ودخان إلى الخارج . دون كلام . والعميل يقتل العينات بحثاً ، وهو في الحقيقة لا يتفحّص عينات ، وإنما يتفحّص ذهناً لا يهدأ ، وقلباً لا يهنأ ، وبالاً لا ينعم بالراحة . المساحات المطرّزة هي الأيام والساعات التي تفلّت فيها النوم ، وتمنّع ، وإستعصى . وقطع الصناعة اليدويّة اللامعة المتراصّة هي الضحكات التي كانت تصدر على دفعات ، ضحكات ليست من الصفاء في شيء . أمسك الرجل بأحد الفساتين وأخذ يقلّبه ثم إستوقفه ظهر الفستان وقال : الحتّة حلوة . الموديل كويس . لكن سوستة الضهر مش كفاية ، الحتّة بمجاسها دة مش هتلبّس عيال كتير . عندنا في جبلي الزبون بيشتري الحتّة تعيش معاه اربع خمس سنين ، فبياخد مجاس أكبر من اللي محتاجه . كدة حتة زي دي سوجها يتحرج . فما كان من الحاج حسن الا ان قال باسماً في نبرة معتدلة : والله يا استاذ نادر الحتة بتطلع للزبون الفاهم ، وكل حتة لها زبونها . وحتة زي دي هيحتاجها زبون فاهم عاوز يلبّس بنته ويفرح بيها . - يا حاج حسن أنا عارف اللي بجول لك عليه . زبون جدامي اخد لابنه بدلة ، الكامر كان واصل فوج سرّة العيّل ، والجاكيتة عند ركبته . زبوني هو اللي بيحكمني . لكن هي حتة حلوة . جالونها ، وجيليها نضيف ، وفيها شغل . كانت بس محتاجة اتنين تلاتة سنتي مساحة هنا وهنا علشان زبونها . وإلتفت عن يمينه إلتفاتة سريعة قبل أن يقول مشيراً بسبابته : تعرف يا حاج أشرف إن الحتة دي كمان سوجها يجف عندنا ، الزبون في جبلي يجول لك لا ، اللون الفاجع دة يلم لي الحشرات . معقول ؟ آه والعدرا . تصدج انت بجى ؟! فنظر الحاج أشرف إلى شريكه ، ثم عاد يرمق الرجل الجالس قبالته في صمت كأنما آنس وإستشرف منه هو الآخر رغبة ما . أشعل -الضيف- هو الآخر سيجارة . صمت مُطبق ، فنظرات مستلَبة . صمت العارفون هو ، العارفون بقواعد اللعبة . واللعبة تقول أن المصالح مشتركة غير أن أحدهم فقط من يفوز . نظرة من هنا من خلف فقّاعات الدخان الملتوية ، ونظرة من هناك من خلف سحابة دخانية متكاثفة . العيون خبيرة ، عارفة بأن نظرة العين كزلّة اللسان ، فاضحة ، لا يمكن رد أثرها . لا أحد يتعجّل الحديث ، فنبرات الصوت ونغماته ، وتوقيت الحديث ، قد يكشف ما يحاول كل طرف ستره ، فالرغبات والحاجات الآن قد إستحالت إلى سوءات ، وجب حجبها ، ولا يجوز سواه . الحاج حسن يلجم شريكه بنظرة من آن لآخر ، فخفة الرجل لا تبرر ابداً خفة العقل . والعميل يرفع كل فستان على حده ، يبعده عن ناظريه ، يفتّش كل ما فيه ، ويمعن النظر به ، كأنما يجني بفعلته ما عظم من التلذذ ، ففي التقييم لذة لا ريب ، وفي التجاهل كذلك ، او في تكلّفه ، لذة آخرى ، كان يسعى الرجل القابع خلف مكتبه الظفر بها . ودون تردد سألهم الرجل : والأسعار عامله ايه؟ - باللهجة نفسها التي تخلو من أي تردد أجاب الرجل المقابل له مسرعاً : موديل 101 اللي في إيدك يعمل خمسة وسبعين . - واللي جبله ؟ - سبعين . - ستين . - سبعين . لوى الرجل شفتاه ، وجذب نفساً بدا وكأنه إستقر بين أضلاعه . - الحاج حسن مطرق الرأس وبسمته بين شفتيه وبصره معلّق على المطفأة : قريب من النوفوتية دة يا أستاذ نادر . وكل حتة على قد شغلها انت عارف . والشيفون اللي عينك عليه دة جديد . - الرجل وقد إحتفظ بهدوءه : النوفوتية في سوقه . فيه منه . لكن أسعارك تقيلة . - الرجل المقابل له وإبتسامته المعتادة تطفح على وجهه : إحنا جايبين معاك من الآخر يا أستاذ نادر ، حد تاني كان ممكن يلاعبك .
قام الحاج حسن وإتجه للداخل في صمت قبل أن يقطع شريكه شوطاً لا بأس به قائلاً : نظام شغلك إيه يا استاذ نادر ؟ فأجاب الرجل وكأنه شعر أن الملعب قد إفتسح له : أنا بلم شغلي ، ولما بيتوزّع ، والناس تفرش ، والحتّة سوجها يمشي ، بسدد دفعة لكل مكان . حسابي مفتوح إن شاء الله . والمهم البلد تهدأ علشان خاطر الزبون يتطمن على جرشه . - يقول الحاج أشرف وكأن وقع الحديث قد حفّزه للمضي : حسابنا مفتوح إن شاء الله لحد يوليو وأغس.. ، داهمه شريكه قبل أن يكمل حديثه صائحاً : يوليو وأغسطس إيه يا أشرف ؟! إحنا بنفتح حسابات لرمضان والعيد ؟! - العميل وكأنه لم يأبه أو يلتفت لحديثهما محافظاً على ما إكتسب : أنا هاخد من الحتة دي ستين ، ومن دي زيهم ، ومن دي خمسين بإذنك يا رب . إرتعش الوجه المقابل له ، وتداعت كل ما بدت عليه من بهجة بنظرة واحدة من شريكه ، قبل أن يقول -الأخير- في غير إكتراث بكل شيء ، خفة الرجل ، وعقارب الساعة ، وكل شيء : إحنا مابنفتحش حسابات يا أستاذ نادر ، إكتب لنا شيكاتك ، وإنزل السوق إشتغل براحتك ، وسدد على راحتك ، لكن إحنا حساباتنا مقفولة . - أنا حسابي مفتوح مع الكل ، وبيوصل 200 ، و250 ، و300 ألف في أوقات . واحد منهم كنت عنده امبارح وحياة ربنا - قال وهو يهز يده ويبسطها على الفساتين أمامه - . - دي طريقة شغلنا مع اي حد يا أستاذ نادر . - ولو حتة مااشتغلتش و إتكررت تاني مرة ؟ - أول مرة علينا ، لكن لو إتكررت تاني . عليك . كل السوق بيتعامل كدة .
صمت يطبق من جديد ، وتتبعه نظرات . نظرات تستجدي في بلاهة ، ونظرات تنتظر في خبث ، ونظرات تعلن الإستسلام . تسلّم الرجل فاتورة بضاعته ، قبل أن يدس يده في جيبه مخرجاً دفتر شيكاته . الحبر يركض ويعدو فوق الورق . شيك ، فالثاني ، فالثالث ، فسلام ، فضحكات ، فغمزات .. إلى آخر اليوم .
" عذراً يا عم حسنين " .. قصة قصيرة
عذراً يا عم حسنين فهم لا يدركون من الأمر إلا ما يرون ، وما أقل ما يرى الناس ، وما أفقر ما يطالعون . قليلُ ، فقير ، سطحي ، باهت ، شائه ، أسمر ، كلون جلدك يا عم حسنين . أسمر مثله على الدوام ، لا يتغيّر ، ولا يدركه التبدّل . حُكم نهائي ، فصل ، لا رجعة فيه ، ولا عود . لم يكن عم حسنين قبل ذلك اليوم قد إختبر مثل ذلك الإحساس ، إحساسه بنفسه ، وإحساسه بالفزبة . والفزبة في حياته أمست هي رأسماله ، إلى جانب لسانه . فالفزبة تطلق جسده ، ولسانه يحل " كيس " الزبون ، ويفك عقدة جيبه .
والحق أن عم حسنين ليس له من دخل ثابت ، فهو يشتري بضاعة مستعملة ، أو بضاعة بها " ديفوهات " ، ومن ثم يقوم هو بإخفاء تلك العيوب برشاقة لسانه الذي يوجّه به زبونه إلى حيث يريد ، و زبونه على الدوام ليس صيداً يسيراً ، فهو زبون " المنشيّة " ، وليس زبون " جاردن سيتي " ، وهو الآخر جيبه ثقيل ، ونظره حاد . فأما ثقل الجيب فهو من صعوبة إختراقه . وأما حدّة النظر فهي من سهولة إختراقه . وعم حسنين ينتظر ايضاً في أغلب الأحيان بواقي بضاعة المحلات والمصانع ويقوم هو بإعادة تشغيلها في نطاقه . كما أن مجال عمله ليس ثابتاً ، غير أن أغلب بضاعته هي من الملابس ، ويوم رزقه هو يوم الجمعة ، حيث يذهب منذ السادسة صباحاً قاصداً السوق الشهير الحافل بشتى صنوف المبيعات . ولأنه يؤمن تمام الإيمان بأن الرزق يحب الخفيّة ، فهو لم يخل ابداً من خفة ، وزناً ، وحركة . وفي ذلك اليوم كان عليه أن يوصل بنفسه زوجته وأولاده إلى حماته ليزورونها ، وكان عليهم ركوب الفزبة للمرة الأولى .
عم حسنين يتقدّمهم ، ومن خلفه زوجته والأولاد . الفزبة تدور ، وتنطلق . تهدأ ، وتعدو . وما أن يزيد هو من حدّة الضغط على البنزين ، حتى تتلاحم الأجساد ، يضغط فتأتلف ، ويرخي فترتجف . المطب الأول ، تعلو الفزبة ، فيعلو معها من يعلوها ، وتهبط ، فيهبط . يعلون في الواقع ، ويهبطون . يُسرع ، فيزيد ويضاعف في سرعته ، الزوجة تُحكم الإمساك به ، والأولاد يتشبّثون بها ، فيغالون في التشبّث . أجساد تلهث ، وتئن . تلهف في وحدة ، وتئن في إتحاد . لهاثها ظاهر ، وأنينها باطن . فالأولاد مازالوا صغار ، وعرض الطريق بالنسبة لهم كعرض البحر . الإشارة الأولى . يوقف عم حسنين الفزبة كارهاً ، النظرات مصوّبه إليه من خلف الزجاج ، إستخفافاً ؟ شفقةً ؟ لا يهم . المهم أنها مصوّبة . وأحدهم من داخل سيارة الأجرة يصيح في وجهه : يا أخي بيعها وهات لك " سيات " بدل الشحططة دي . معذور ! لا يدرك ما يشعر به عم حسنين الآن ولا يكاد يتسع صدره لإحتوائه .
إشارة المرور تُفتح ، وعم حسنين يضغط ، فيبالغ في الضغط . الإستمساك يتضاعف ، والتشبّث يتعاظم . الأجساد تتخبّط ، فتتوحّد ، لحماً في لحم ، وعظماً في عظم . كرة لحم ملفوفة ، بلا ثقوب ، وبلا منافذ . دون إنفصال ولا إنفصام . نظرات المساكين تتابع ، وهم حقاً مساكين ، فهم يظنّون أن الزجاج المغلق ، والأبواب ، والجنوط العريضة ، والأسقف ، إنما هي مواد تجلب الشعور بالخصوصيّة ، والأمان الباطني ، وما هم في ذلك إلّا واهمون . النظرة تصوّب ، وعم حسنين يضغط ، ويضغط ، وكرة اللحم يتعاظم تماسكها ، وماذا يضيره ؟ إنه في عز مجده الآن ، إنه يكتشف ما لم يكتشفه راكب السيارة " الفور باي فور " ذاك ، أو راكب الآخرى " الزيرو " . الضغط مستمر ، وكرّة اللحم في قلب الطريق تتضخّم ككرة ثلج في قلب المحيط ، إلى أن وصلوا . فكانت الفُرقة . عم حسنين في ناحية ، والزوجة والأولاد في ناحية ، والفزبة في ناحية . إلّا أن النشوة لازالت مستبدّة بنفس عم حسنين ، ومازال يتسائل : لماذا كانوا هؤلاء ينظرون إليه هكذا فيطيلون النظر ؟ ولكن عذراً يا عم حسنين ، فهم لا يدركون إلّا ما يرون ، وما أقل ما يرى الناس ، وما أفقر ما تدركه أفهامهم !
#أحمد_فيصل_البكل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خالعة العقد .. قصة قصيرة
-
- أزمة وعي -
-
هل الإسلام دين شمولي؟ نظرة لحد الردّة
-
مدام هناء .. قصة قصيرة
-
الضاحك الباكي .. قصة قصيرة
-
المأزوم .. قصة قصيرة
المزيد.....
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|