روبير البشعلاني
الحوار المتمدن-العدد: 4038 - 2013 / 3 / 21 - 17:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
القوى التغييرية العلمانية في بيروت حائرة في إيجاد المخرج الممكن من الحشرة التي وجدت نفسها فيها منذ عقود بعدما أحكمت القوى الإجتماعية الطائفية السيطرة على شوارعها منذ اتفاق الطائف الذي كرّس, فيما كرّس, خروج الحركة الوطنية من الساحة السياسية.
الحيرة تظهر أولاً في الإختيار المتعدد والمتردد لتحركات تتميّز بعناوين سياسية ومطلبية جائلة لا أهداف سياسية مترابطة وجليّة لها. ومن الواضح أن خلفيات القوى والشخصيات التي تقف وراء هذه التحركات تتفاوت في مدى تصوراتها لما يجري على الأرض وفي تفسير أسبابه وخلفياته.
علينا ثانيا أن نعترف بأن عدم نجاح مشروع الحركة الوطنية التي قادت حرب "الغربية" منذ 1975 هو طبعاً فشل سياسي ذريع. لكنه فشل لا يتعلق بموازين القوى. أي أن الحركة لم تنكسرلأنها كانت أضعف من الفريق المقابل بل هي سقطت من الداخل بسبب التحولات التي شهدتها الساحة الإجتماعية اللبنانية ولا سيما الشيعية منها.
على أي حال وأيا تكن أسباب الفشل هذا فالمؤكد هنا أن اصحاب هذه الحركة, أو من تبقى منهم بعد أن تركها قادتها السابقون والتحقوا بغالبيتهم العظمى, مباشرة أم بالواسطة, بفريق "أهل السنة" في لبنان الذي يحمل إسما فنياً هو حركة 14 أذار وبمجمّع عوكر السياحي, لم يدرسوا بعدُ عِبر المرحلة السابقة والأسباب العميقة لخيباتهم. ومن المفارقة هنا أن تجد أطرافاً تعتمد الزيادة في الحركة وتتقصدها بدون أن تجِدّ قليلا في الدراسة والتعليل. يجربون حظهم في الإكثار من الشيء آملين ربما الفوز بالأجرين. التجريب ملك الساحة على بياض.
تعالوا نقارب التحركات الأخيرة والمتنوعة لمختلف مكونات هذا التيار لكي نكتشف سوية الخيط السري الذي يماسكها. من حملات إسقاط النظام الطائفي مروراً بالمطالبة بنظام إنتخابي حديث وعصري نسبي وغير طائفي فضلا عن مطلب الزواج المدني وتعريجاً على الحملات المطلبية التي تنحصر بغالبيتها بالقطاع العام ولا سيما قطاع المعلمين, وصولا َأخيراً وليس آخراً الى معركة وأد الفتنة, عناوين تشي بوجع هذا التيار وألمه : الطائفية والطوائف ونظامها. عدة ملاحظات تفرض نفسها هنا :
من الملفت أولا أن أصحاب هذا التيار لم يعودوا الى دراسة نصهم في هذا الموضوع بالرغم من فشلهم فيه بالذات وفي مختلف الحقبات التاريخية السابقة وكذلك بالرغم من عدم بقائه مقتصراً على لبنان "الإستثناء" بعد انتشار "الوباء" اللبناني و"اللعنة" في طول المنطقة وعرضها. ما نزال في نظرية النفخ. الطبقات الاحتكارية أو الكومبرادورية تنفخ في أتون التمذهب والتطيف لكي تقسم الطبقات ذات المصلحة. ولم يأتِ على بال هؤلاء أن هذا "الوباء" موجود في منطقتنا منذ قرون وقبل أن يحصل لنا شرف التمتع بولادة الطبقات الكومبرادورية بكثير, وحتى قبل ولادة رب عمل هذه الكومبرادورية, الإمبريالية.
لم يأتِ على بال أحدٍ أن الطائفية هي حكم الطوائف. والطائفة ليست الدين ولا حتى كنيسته, كما ننقل عن الغرب غالباً, بل القرابة المتدينة أي العشيرة المتطورة. وبهذا المعنى فإنها ليست "وعياً" بل جسم إجتماعي مادي علينا أن نفهمه لكي نفهم طبيعة صراعاته ورهاناته التي تبدو لنا من بعيد رهانات "عبثية". لم يخطر على بال أحد أن يغلق مؤقتاً "السنكسار" الذي نقل عنه تجربة تاريخ شعوب أخرى في لحظات تاريخية مختلفة لكي يطرح على نفسه مهمة دراسة واقعه هو. فلو كانت الطائفية وعياً مقلوباً, ماذا تكون الطائفة إذاً ؟ وعي الوعي ؟ ولو كانت وعياً "منفوخاً" يعالج بالتربية والتعليم والتناصح والتوعية والتنبيه ألم يكن من المنطقي أن تكون اليوم في خبر كان بعد كل ما أقمناه عليها من صلوات وحملات تبشيرية ونضالية ونقابية وشبابية ونسائية وحقوقية ؟
إن نظرة متفحصة عن قرب لمجمل التحركات الأخيرة للتيار التقدمي اللبناني تقودنا الى وجود نظرتين ورؤيتين تتحكمان بالخلفية النظرية لهذه الحركات. واحدة "طبقية" ترى في العمل النقابي والإكثار منه والتشديد عليه وسيلة ناجعة للشفاء من "الوباء" وثقب الفقاعة الطائفية وتوحيد أصحاب المصلحة "الموضوعيين" في مختلف الطوائف. وهي التي تقف خلف غالبية التحركات النقابية الأخيرة وتعمل على إذكاء نارها بكل الحطب المتوافر. واخرى سياسية ترى في التشديد على "فضح" علل النظام وسيلة ل"توعية" الجماهير " المضللة" حكماً. وهي التي تقف وراء التحركات ذات الطابع المدني الحديث والعصري. أما التظاهرة الأخيرة, تظاهرة وأد الفتنة, فهي أغلب الظن محاولة لجمع النظرتين.
واضح في هذا السياق رهان التيار الأخير على الفئات المحدثة من المجتمع كقوة دافعة ورهان التيار الأول الراديكالي على "الطبقات" الشعبية. مأساة هاتين النظرتين أولاً قدامتهما. فليس من جدّة في أي منهما. كله مجرب سابقاً وعلى مدى عدة عقود وأثبت فشله الذريع بالوقائع المثبتة بدليل ما نحن فيه اليوم. فالغزل على المنوال نفسه وبالمواد نفسها من الصعب أن يعطي نتائج مختلفة اليس كذلك ؟
إلى ذلك فإن القوى الإجتماعية المعوّل عليها في الحالتين قشرية الجلدة أو جنينية الولادة أو هامشية الترسخ في بيئتها كما تثبت كل التجارب التاريخية السابقة سواء في لبنان أم في دول المنطقة كلها. أضف أيضاً وهم المدرسة الأولى التي تتوجه بمطالبها التغييرية الى نفس "الطبقة" ذاتها التي من المفترض أنها هي المستفيدة من الواقع السائد الحالي. فكيف تطلب الإصلاح من المستفيد من عدم وجوده ؟ بالضغط "الشعبي" ؟ أي بعدة مئات من السكان على الأكثر لا يملأون مسجداً واحداً من مساجد الطوائف الهائلة العدد والسعة ؟ قليل من الواقعية.
الإكثار من الحلول القديمة والمجرّبة لا يمكن منطقياً ان يضيف أي شيء على القراءة المتقادمة لنمط العيش العربي واللبناني منه أيضاً. وأما الإعتقاد بأن مأزق النظام الطائفي اللبناني الحالي وعجزه عن متابعة الدوران الإعتيادي هو مؤشر على نهايته وعلى سقوطه الموضوعي فهو. كما أزعم, وهمٌ موصوفٌ إضافي, طوباويٌ وطفوليٌ, ذلك أن المظهرَ الذي نراه لا يعبّر حتى الآن عن سقوط النظام كمحتوى طائفي بل عن تغيرات أصابت "ميثاقه" أو بنية قواه الطائفية وتوازناتها الداخلية فيما بينها عطفاً على لحظة تاريخية جديدة أدت من جهة الى بروز ودخول طوائف جديدة قوية العدد والشكيمة سواء في لبنان وخصوصاً في المحيط الإقليمي والعربي ومن جهة ثانية بسبب التحولات التي تجري في المنطقة على خلفية الصراع المحتدم بين الامبريالية الغربية المريضة والدول الصاعدة وكل من حلفائهما الدوليين والإقليميين والعرب.
وهنا نعود الى بيت القصيد, الى المحيط, الى صراعاته العامة التي شكلت وتشكل على الدوام مفتاح توازن النظام السياسي اللبناني استقراره. المعضلة في مكان والتغييريون اللبنانيون يفتشون في المكان الخطأ حيث يوحد إضاءة. المشكلة الحقيقية اليوم هي في احتدام الصراع على المنطقة ككل, الشرق الأوسط الجديد, على أرضها وإرادتها ومواردها, على الأرض وما تحتها وفي ظل غيابٍ لأي مشروع سياسي عربي رؤيوي يطمح الى بناء الدولة العصرية المستقلة والصاعدة.
ملايين العاطلين من العمل وملايين العاملين بلا أمل وملايين الشباب المهمش, وملايين الفقراء في بلادنا الغنية , الصعاليك أعداء الطوائف بالطبيعة, يأملون بأن يكونوا وقود بناء دولة وطنية عربية صاعدة لا وقود الحركات الرجعية المشبوهة الملتحفة زوراً وبهتاناً بتفسير للدين والإسلام يبرر بناء طائفتهم- الكريمة. ثورة ديموغرافية جبارة نقلت اعداد السكان عندنا الى حوالي 400 مليون نسمة في أقل من خمسة عقود خلخلت معها كل التوازنات السابقة وكل نمط العيش السابق وجعلت الطوائف وجميع القرابات عاجزة فعلياً عن تلبية مطالبهم الأولية بالنمط المافياوي القرابي الحالي وبسبب التفاوت بين حجم الموارد الحالية وشكل توزيعها الهرمي المقلوب وبين حجم الحاجات الهائلة المستجدة الأمر الذي خلق فرصة تاريخية لا سابق لها.
المتاهة التي وجد نفسه بها تيار التغيير في لبنان حلّها ليس في اجترار الوصفات السابقة المحلية الضيّقة بل في النظرة الأوسع, الى المنطقة حيث يجري الصراع ُ, صراعُ الوجود والمستقبل. هنا يجب التموضع واتخاذ الموقف الحكيم والشجاع والمبادرة ببلورة الرؤية والمساعدة في بناء هذا المشروع المستقبلي لا في زواريب بيروت ولا على " جسر القمر" الرحباني.
وما الكلام على وأد الفتنة , وبالرغم من طابعه الإنساني الشكلي والحريص على بلاده, إلا شكل من الإستقالة من الدور التاريخي المطلوب من "أهل" التغيير في لبنان. فالموقف هذا ليس فقط عديم الفعالية, إذ لا يقدم ولا يؤخر في حساب رهانات وصراع المصالح الإقليمية والدولية أوالطائفية المحلية, بل يتميّز بتضليل النفس والناس حول حقيقة طبيعة الصراع الدائر في المنطقة اليوم والرهانات القائمة. بل لنقل أنه يحمل كمية من التعمية تتضمن حياداً غير مفهوم من قبل قوى تغييرية وذلك عندما تساوي بين فرقاء "الفتنة", أي بين من يعمل على مساعدة الناهب الدولي في تعزيز هيمنته على بلادنا وبين من يواجهه أيا تكن هويته أو أسبابه.
إلى هذا وذاك يشي هذا الشعار, وأد الفتنة, بقصور أصحابه عن فهم حتى طبائع "أهل" المجتمع المحلي في لبنان ورهانات المتصارعين فيه بحيث جعلهم جاهلين بمصالحهم وينقادون الى غرائزهم العمياء والى حروب عبثية كما شاع القول خطأً.
المتاهة حلُها في التموضع في قلب الصراع الشامل للمنطقة وفي بلورة مشروع طموح, عربي, لبناء دولة عصرية مستقلة صاعدة يعتمد على الصعاليك العرب الجدد, الشباب الكثير المهمش, يضع حداً لعملية النهب الامبريالي لبلادنا ويسترجع مواردنا لكي يتمكن من بناء اقتصاد عصري منتج يسمح بإمتصاص هذه الأعداد المليونية من القادمين الى مجتمع مقفل. وحده, على ما أظن, هذا المشروع الرؤيوي يستطيع أن ينتزع المبادرة السياسية من القرابات الرحمية والدينية المنتشرة والمسيطرة في طول بلادنا وعرضها. مقتل القرابات "المساحات الكبرى" والصراعُ اليوم هو على المساحة العربية الكبرى وطريق الخروج من المأزق هو بمحاولة الخروج منه لا بتكرار المكرر.
#روبير_البشعلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟