|
تعلَّموا العربيّة وعلِّموها للنّاس - ألحلقة الأولى (1)
شوقي إبراهيم قسيس
الحوار المتمدن-العدد: 4036 - 2013 / 3 / 19 - 22:17
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ملخّص تنفيذي: قد لا يختلفُ اثنان على أنّ نسبةَ العربِ الذين بإمكانِهم التّعاملُ مع اللّغة العربيّة بكفاءةٍ ودونَ أخطاءَ وتجاوزاتٍ هي نسبةٌ صغيرةٌ في مجتمعاتنا العربية، وهي نسبةٌ تتضاءلُ مع الزّمنِ بوتيرةٍ مثيرةٍ للقلق. ونجدُ العديدَ من الطّلّابِ يتخرَّجون من المدارسِ الثّانويّةِ بتفوِّقٍ في عددٍ من المواضيعِ، لكنْ بعلاماتٍ متدنيّةٍ في اللّغةِ العربيّةِ، ومعظمُهم يعبّرونَ، حين تتحدَّثُ معهم، عن كرهِهم الشَّديدِ لموضوعِ اللّغةِ العربيّةِ وعن خوفِهم منه. لذا تجدُ في حلقاتِ هذه الزّاويةِ طرحاً لأفكارٍ ورؤىً عن مشروعٍ ضخمٍ هدفُه أنْ نخرِّجَ من ثانويّاتِنا شبّاناً وفتياتٍ يعرفونَ لغتَهم ويتعاملونَ معها شفهيّاً وكتابيّاً بكفاءةٍ ودونَ أخطاءَ وتجاوزاتٍ لغويّةٍ ونحويّةٍ، وأنْ نحبِّبَ موضوعَ اللّغةِ ونقرِّبَه إلى قلبِ الطّالبِ وإلى وعيِه وإدراكِه بدلاً من أنْ نخيفَه منه ونجعلَه يكرهُه. والمحاورُ الرئيسيّةُ لهذه الأفكارِ هي: أوّلاً، إجراءُ تغييراتٍ جذريّةً في الأساليبِ المتّبعةِ حاليّاً في تدريسِ العربيّةِ في المدارس الابتدائية والثّانوية، وخاصّةً تدريسَ علومِ النّحو. تشمَلُ هذه التّغييراتُ: أوّلاً، ألإبتعادُ عن نهجِ التّلقينِ (التّبصيم) وعن أسلوبِ توضيح الواضح وتبسيط البسيط الذي تَتَّبِعُه كتبُ تدريسِ النحو. ثانياً، إجراءُ مقارناتٍ كلمّا أمكنَ مع اللّهجةِ (أو اللّهجات) العاميّةِ ومع لغاتٍ أخرى لتقريبِ موضوعِ اللّغةِ إلى قلبِ وإدراكِ الطالبِ حتى لا يشعرَ بأنّه يدرسُ لغةً جديدةً، ولإبرازِ خصوصيّاتِ وجماليّاتِ العربيّةِ. أخيراً، ألتَّشديدُ على النِّظامِ الهندسيِّ الدَّقيقِ في قوانين اللّغةِ، وعلى أنّ هذا النِّظامَ خالٍ كُلِيّاً من الفوضى الموجودةِ في لغاتٍ أخرى، وعلى أنّه موجودٌ في لغتِنا كما تكلّمَها أجدادُنا منذ الولادة وقبلَ أنْ يضعَ علماءُ النّحوِ قوانينَها. ثانياً، خلْقُ مسارَين في تدريسِ اللّغة في الثانويات. ألمسارُ الأولُ مبسَّطٌ وأساليبُ التّدريسِ فيه تنطبقُ على الجميعِ، وهدفُه أنْ يعرفَ الطّالبُ لغتَه لا أنْ يعرفَ عنها. والمسارُ الثّاني لمن يرغبُ في اختيارِ علومِ اللّغةِ كحقلِ تخصّصِه في المستقبل، وتُدرَّسُ فيه بعمقٍ جميعُ علومِ النّحوِ واللّغةِ. وسأتطرَّقُ في عدّةِ حلقاتٍ إلى المشتركِ والمختلِفِ بين المسارين. ثالثاً، إلغاءُ تدريسِ كلِّ مواضيعِ النّحوِ الّتي لا تساعدُ الطّالبَ على إتقانِ لغتِه، ويكونُ الإلغاءُ في المسارِ العامِّ فقط. رابعاً، أن تُدرَّسَ مواضيعُ النّحوِ المختلفةُ من خلالِ مناقشةِ النّصوصَ الأدبيةَ، النّثرية أو الشّعرية، بدلَ أنْ تكون هناكَ حصصٌ مخصّصةٌ لقواعدِ اللّغةِ تُتلى خلالَها قوانينُ النّحوِ بجفافٍ على مسامعِ الطُّلاّب. خامساً، عدمُ القبولِ بأقلِّ من ستِّ وحداتٍ أو ستِّ حصصٍ في الأسبوعِ للّغةِ الأم. وما يلزمُ من وحداتٍ إضافيةٍ للُغةِ الأمِّ يكونُ على حسابِ اللّغاتِ الأجنبيّةِ. أخيراً، تخصيصُ وقتٍ أكثرَ للكتابةِ الصحيحةِ وللتعبيرِ عن الأفكارِ كتابياً بلغةٍ سليمةٍ وواضحةٍ وعصريّةٍ، وتخصيصُ وقتٍ أكثرَ للقراءةِ الصَّحيحة ولكلامٍ شَفَهيٍّ صحيحٍ بالفصحى. ما يقرِّرُ العددَ النِّهائيَّ لحلقاتِ هذه الزّاويةِ هو تجاوبُ القراءُ مع المواضيعِ المختلفةِ، وما يطرحونه من أسئلةٍ إضافيةٍ ومن أفكار. وسأحاولُ خلْقَ جوٍّ لطرْحِ أسئلةٍ ولحوارٍ ونقاشٍ في أمورٍ عامّةٍ تتعلَّقُ بتاريخِ وحضارةِ العربِ، مع التّركيزِ على علومِ الألسنيّاتِ عامّةً وعلومِ اللّغةِ العربيّةِ بشكلٍ خاصّ. كذلك، سأضيفُ كلَّما أمكنَ عنصراً من المتعة، وذلك بالتّطرُّقِ إلى أخبارٍ ونوادرَ من إرثِنا الأدبيِّ ومن تاريخِنا. بعضُ المعلوماتِ قد تكونُ معروفةً للجميع، لكنْ لا بأسَ من تكرارِها لأهميَّتِها ومركزيَّتِها في الموضوعِ أو للتَّذكيرِ بها. وأكرِّرُ أنّ ما يحتاجُه العربيُّ أوّلاً وقبلَ كلِّ شيءٍ هو أنْ يجيدَ لغتَه ويكتبَها ويقولَها دونَ أخطاء؛ وبعدَ أنْ يعرفَ لغتَه يمكنُه أنْ يعرفَ عنها بأنْ ينتقلَ إلى تفاصيلِ الإعرابِ الموجودةِ في كتبِ تدريسِ قواعدِ اللّغةِ، والتي لا تدخلُ إلاّ في بابِ الفلسفةِ النّحويةِ. تبدأُ الحلقاتُ بعرضٍ لخصائصِ العربيّةِ واللّغاتِ السّاميّةِ الأخرى، ثمّ أنتقلُ إلى أمورِ النّطقِ والكتابة (الإملاء) في اللّغةِ العربيّةِ، وبعدَها أدخلُ في موضوعِ الصّرفِ والنّحوِ (أو القواعد) الشّائكِ.
أللّغات السّامية: هي لغاتٌ أربع: العربية، الآرامية، العبرية، والأمعرية (أو الأمهرية). والأخيرة هي لغةُ الكثيرين من أهلِ الحبشة. أمّا بالنّسبةِ للّغاتِ الثّلاث الأخرى، فقد سمعتُ مراراً مَن يقولُ إنّ العربيّةَ هي أمُّ اللّغاِت الساميّة، أو الآراميّة هي اللّغة الأمّ، وهذا خطأٌ شائعٌ، إذ لا توجدُ لغةٌ يمكنُ اعتبارُها اللّغةَ الأمّ لبقيّةِ اللّغات السّاميّة. ويمكنُ تصوُّرُ ما حدثَ على أنّه في البدءِ كانت هذه اللّغاتُ مجرّدَ لهجاتٍ مختلفةٍ انتشرت بين الشّعوب السّاميّة في شبهِ جزيرةِ العربِ وفي بلادِ الرّافدين وفي بلاد الشّام، ومع مرورِ الزَّمنِ ازدادتِ الفروقُ بين هذه اللّهجاتِ، فتبلورت كلٌّ منها إلى لغة مستقلّة. حافظت هذه اللّغات على خصائص لغويّة أساسيّة مشتركة بينها لتبرّرَ ضمّها في عائلة لغوية واحدة، لكنّها اختلفت في خصائصَ أساسيةٍ أخرى تجعلُ كلاً منها لغةً مستقلّة. تجدرُ الإشارةُ إلى أنّ العربيّةَ بقيت مستعمَلةً وسائدةً بين فئةٍ كبيرةٍ منَ النّاسِ دونَ انقطاعٍ لأطولَ فترةٍ زمنيّة. أمّا الآراميّة (أو الكنعانيّة)، وكانت هناكَ آراميّةٌ غربيّةٌ في بلادِ الشّامِ وآراميّةٌ شرقيّةٌ في بلادِ الرّافدين، فقد سيطرَت لفترةٍ طويلةٍ في العصورِ القديمة، وكانتِ اللّغةَ السّائدةَ في بلادِ الرّافدين وسوريا الكبرى، لكنّها تقلَّصتْ في العصورِ المتوسِّطة والحديثةِ لتنحصرَ كلغةٍ للطُّقوسِ الدّينيّةِّ وكلغةٍ بيتيّةٍ في بعضِ القرى الأشوريةِ والسّريانية1 في سورية والعراق. أمّا العبريّة فلم تستعملْ إلاّ لفتراتٍ قصيرةٍ ومتقطِّعةٍ عندَ بعضِ القبائلِ العبرانيّةِ في العصورِ القديمة، ثمّ في الأندلس تحتَ حكمِ العرب؛ وحدثتْ لها عمليّةُ بعثٍ في أواخر القرنِ التّاسعِ عشر تبنّاها "إليعزر بن يهوذا"، فأنتجتْ جهودُ هذا اليهوديّ الأوروبيّ لغةً هجينةً تعمُّها الفوضى والتّناقضات. ومن اللاّفتِ للنّظر أنّ القبائلَ العبرانيّةَ في فلسطين أيّامَ السَّيِّدِ المسيح استعملَتِ اللّغةَ الآراميّةَ لا العبريّة كلغةِ الخطابِ السّائدة. إضافةً إلى تشابهِ مفرداتٍ كثيرةٍ وإلى تشابهِ تصريفِ الأفعالِ (بأزمانها) والأسماء مع الضّمائرِ، يميِّزُ اللّغاتِ السّاميةَ كعائلةٍ لغويةٍ معالمُ رئيسيّةٌ ثلاثة: تُكتبُ من اليمينِ إلى اليسار. لغاتٌ اشتقاقيةٌ. لغاتٌ صوتيةٌ مقارنةً باللّغاتِ اللاّتينيةِ.
يمين - يسار، يسار - يمين: جميعُ اللّغات الأوروبيّة تُكتبُ من اليسار إلى اليمين، لكنّ اللاّفتَ للنّظر أنّ العمليات الحسابية فيها تجري من اليمينِ إلى اليسار (المنازل العشرية) كما وضعها العرب في القرن الثامن أو التّاسع الميلادي.
لغةٌ اشتقاقية: نعني بلغةٍ اشتقاقية أنّ مفرداتٍ عديدةً فيها مشتقَّةٌ من جذرٍ ثلاثيٍّ مكوَّنٍ من ثلاثةِ حروفٍ صوتيّةٍ بترتيبٍ معينٍ، فيتجمَّعُ حولَ كلِّ جذرٍ مفرداتٌ يوجدُ بينَها ما هو مشتركٌ في المعنى أو التَّعبير. مثلاَ، الجذرُ العربيُّ (ع ل م) مختصٌّ بالعلمِ والمعرفة، والجذرُ [ع م ل]، وهو مكوَّنٌ من نفسِ الحروفِ بترتيبٍ آخَرَ، مختصٌّ بالعمل. والجذر [ج م ع] مختصٌّ بكلِّ ما يتعلَّقُ بالجمع، وهو جذرٌ غنيٌّ تجدُ حولَه مفرداتٍ كثيرةً: ألأفعال (بأزمانها الثّلاثة): جَمَعَ، أَجْمَعَ، جَمَّعَ، جامَعَ، تَجَمَّع، إجْتَمَعَ، واستجمع. ألأسماء (بما فيها المصادر): ألْجَمْعُ، ألْجِماعُ، ألْإجْماعُ، التَّجميعُ، ألْمُجامعةُ، ألتَّجَمُّعُ، ألْإجتِماعُ، علم الْإجتماع، ألْجماعةُ، ألْجميعُ، جميعاً، ألْجُموعُ، ألْمجموعُ، أَلْمُجَمَّعُ، ألْمُجْتَمعُ، ألْمَجْمَعُ، ألْجامِعُ، ألْجامعةُ، ألْجُمُعةُ (يوم). ويضعُ النّظام الاشتقاقي بين أيدينا ما نُسَّميه "ألميزان الصَّرفي" الَّذي نزينُ به المفرداتِ المختلفةَ، وفي هذا الميزان نعطي الحرف الأوّل من الجذر الاسم "فاء"، والثّاني الاسم "عين" والثّالث الاسم "لام"، فيتكوّن لدينا ميزان فيه الحروف [ف ع ل]، ونشكِّلُها حسب تشكيل الكلمة التي نرغب أن نزينَها، ثمّ نضيف إليها الحروف الّتي أضيفت إلى الكلمة عند اشتقاقها من الجذر مشكّلةً كما في الكلمة، فينتج لدينا وزنُ الكلمة المشتقّة. فأوزان جميع الكلمات تكونُ فيها دائماً الأحرف لام وعين وفاء حسبَ ترتيبِها وتشكيلِها في الكلمة. وأوزان بعض الأفعال والأسماء من جذر [ج م ع] تكون: [جَمَعَ - فَعَلَ، تَجَمَّعَ - تَفَعَّلَ، أَلْجَمْعُ - أَلْفَعْلُ، أَلْجِماعُ - أَلْفِعالُ، أَلْمَجْمَعُ - أَلْمَفْعَلُ]. نجدُ في لغاتٍ أخرى مفرداتٍ متقاربةً في اللَّفظِ وفي المعنى، وقد تكوَّنَت باشتقاقِ واحدةٍ من الأخرى. ففي الإنجليزيّة نجدُ كلماتٍ مثلَ (People, Population, Popular). لكنّ الغالبَ في اللّغاتِ اللاّتينية هو التركيبُ المزجيُّ للكلماتِ (Automobile) من (Auto + Mobile)، أو خلْقُ كلماتٍ مختلفةً لمعانٍ متشابهةٍ (Factory, Manufacture) وكلماتٍ متشابهةً لمعانٍ مختلفةٍ (Write, right). والاشتقاقُ في هذه اللّغات، عندما يحدثُ، لا يكونُ حسبَ نظامٍ معيَّنٍ ومحدَّدٍ، ومن جذرٍ مشتركٍ، كما هو الأمرُ في اللّغاتِ السّاميّة. وأكتفي بمثالين من العربيّة: ألأوَّلُ يدلُّ على (تخصُّصِ) وزنٍ معيَّنٍ من أوزانِ الفعلِ لاستعمالٍ معيَّن، فأفعالُ وزنِ [فاعَلَ]، نحوَ [قابَلَ وعامَلَ]، جميعُها تحملُ معنى القيامِ بالعملِ من طرفٍ واحد، بينما أفعالُ وزنِ [تَفاعَلَ]، نحوَ [تَقابَلَ وتَعامَلَ]، فيها مشاركةُ الأطرافِ في القيامِ بالعمل. فنقولُ مثلاً: [عامَلْتُ الأَسيرَ مُعامَلةً ليِّنةً، ومُعامَلتي لِلأسيرِ كانَتْ ليّنةً]، بينما نقولُ: [تَعامَلْتُ مَع رِفاقي بِأَدَبٍ، وتَعامُلُنا مَع بَعْضٍ كانَ بِأَدَبٍ]. كذلكَ نقولُ: [خاصَمْتُ صَديقي]، مقابلَ [تَخاصَمَ الأصْدِقاءُ]. ونقول: [قابَلْتُ الْمُديرَ]، مقابلَ [تَقابَلَ الْمُديرُ والأسْتاذُ]. ثُمَّ إنّ أوزانَ [فَعَّلَ] و [أَفْعَلَ] مِيِّزتُها الرّئيسيّة هي تعديةُ وزْنِ [فَعلَ] إذا كانَ لازماً، نحوَ: [شَجُعَ أَخوكَ، وشّجَّعْتُ أَخاكَ. حَضَرَ الْوَلَدُ، وأَحْضَرْتُ الْوَلَدَ]، أو زيادةُ مفاعيل [فَعلَ] إن كان متعدِّياً، نحو: [دَرَسَ الطّالِبُ عُلومَ الْحاسوبِ، و دَرَّسَ الأستاذُ الطّالِبَ عُلومَ الْحاسوبِ]. والمثالُ الثّاني هو اشتقاقُ المصادرِ من أوزانِ الأفعالِ المختلفة، فمصدرُ الثلاثي [فعلَ] هو "أَلْفعلُ" بتشكيلاتٍ مختلفةٍ للفاء والعين في الفعل وفي المصدر [ضَرَبَ – أَلضَّرْبُ، لَعِبَ – أَللَّعِبُ، عَمِلَ – أَلْعَمَلُ]، ومصدر [فاعَلَ] هو [أَلْمُفاعلةُ] نحو [عامَلَ – مُعامَلةً، قارَنَ - مُقارَنةً]، ومصدر [فَعَّلَ] هو [أَلتَّفْعيل] نحو [دَرَّسَ – تَدريساً]، ومصدر [تَفَعَّلَ] هو [أَلتَّفَعُّلُ] نحو [تَقَدَّمَ – تَقَدُّماً]، ومصدر [تَفاعَلَ] هو [أَلتَّفاعُلُ]، و [إنْفَعَلَ] هو [أَلْإنْفِعال] نحو [إنْكَسَرَ - إنْكِساراً]، ومصدر [إفْتَعَلَ] هو [إفْتِعال] نحو [إنْتَصَرَ - إنْتِصاراً]؛ ولا يجوزُ غيرُ ما ذُكِر. وهذه مقارنةٌ لغويةٌ سريعة بين العربيةِ والعبريةِ والآراميةِ من حيثُ الجذورِ والإشتقاق والتّصريف: أوّلاً، تشتركُ العبريةُ والآراميةُ في استعمالِ الهاء كأداةٍ لتعريفِ الأسماء. وإذا تذكَّرْنا أنّ الهاءَ والهمزةَ يوجدُ بينهما استبدالٌ بينَ لغةٍ ساميّةٍ وأخرى، وجدنا أنّ الهاء كأداةٍ للتعريف هي نصفُ أل التعريف (ألهمزة) العربية. وتجدرُ الإشارةُ إلى أنّ همزةَ الإستفهامِ العربيةَ تقابلُها هاءُ الاستفهام (ה‘ השׁאלה) العبريةُ، مثلاً: "هَشومير أَحي إنوخي، השומר אחי אנוכי?" ("أحارسُ أخي أنا؟"، تكوين، 4/9). ثانياً، لنأخذِ الجذرين ِ[ك ت ب] و [س ف ر]. ألجذرُ الأوّلُ مشتقّةٌ منه كلماتٌ في اللّغتين العربيّة والعبريّة متعلّقةٌ بالكتابة. ففي العربيّةِ نجدُ مشتقّاً منه كلماتٍ كثيرةً مثل: كَتَبَ (بأزمانه الثّلاثة)، كِتابٌ، مَكْتَبٌ، مَكْتَبةٌ، وكاتِبٌ. وفي العبرية نجدُ أيضاً الفعلَ كَتَبَ (كَتَبْ، כתב) بأزمانِه الأربعة (ماضٍ وحاضر ومستقبل وأمر)، ونجدُ كلماتٍ مثلَ مكتوبٌ أو رسالةٌ (مِخْتَبْ، מכתב)2 وخَطٌّ (كْتَبْ وكْتيبْ، כתב و כתיב) وإملاءٌ (هَكْتَبَه، הכתבה). أمّا كلمات عبريّة مثل: كِتابٌ (سِفِر، ספר) ومدرسةٌ (بيت سِفِر، בית ספר، وتعني بيت الكتاب) ومكتبةٌ (سِفْرِيَه، ספריה) فنجدُها مشتقّةً من الجذر [س ف ر]، وهو في العربيّة جذرٌ لمفرداتٍ تتعلّقُ بالسُّفور وبالسَّفَر، وفي العبريّة هو جذرٌ آخرُ لكلماتِ الكتابة. وفي العربيّة "سِفْرٌ" (بكسر السّين) هي كتابٌ أو كتابٌ كبيرٌ أو جزءٌ من التّوراة. ثالثاً، لننظرْ إلى كلمة "شَهْر" العربيّة (جمعُها "أَشْهُر" كجمع قِلّه، أي من ثلاثة إلى عشرة، و"شُهور" كجمع كثرة، أي فوق العشرة). لقد استعملتِ العبريّةُ هذه الكلمةَ لتشيرَ إلى الهلال (سَهَرْ، סהר)3، بينما تقولُ العبريّةُ عن الشّهر (حودِشْ، חודש)، وكلمةُ (حَدَش، חדש) بالعبريّة معناها جديدٌ أو حديثٌ. أمّا الآراميةُ فتقولُ عن الشّهر "يَراح"، وهذه الكلمة في العبريّة (يَرِيَح، יריח) تعني القمر. أخيراً، لننظرْ إلى الجذرِ [ل ح م]، وهو جذرٌ مختصٌّ في جميعِ اللُّغاتِ السّاميّةِ باللُّحْمة والإلتصاق، ومن مفرداتِه في العربيّةِ نجدُ كلمةَ "لَحْمة"، والّتي تلتصقُ بالعظمِ في بناءِ الجسم. أمّا في العبريّةِ فمنَ الكلماتِ المشتقّةِ من هذا الجذرِ نجدُ الكلمةَ التي معناها خُبْز (لِحِمْ، לחם). فلماذا اشتقَّ العربُ كلمةَ "لحمة" بينما اشتقّ العبريّون كلمةً "خُبْز" من جذرِ اللُّحْمةِ؟ إذا تمعنّا في معيشةِ القبائلِ العربيّةِ والقبائلِ العبريّةِ في شبهِ الجزيرةِ نرى أنّ الأولى اعتمدتْ بالأساس على الصَّيدِ، بينما اعتمدتِ القبائلُ العبريّةُ على الفلاحةِ، كمصدرٍ رئيسيٍّ للغذاء. فاشتقّتِ القبائلُ العربيّةُ أهمَّ مصدرٍ للطَّعام، وهو اللَّحمة، واشتقّتِ القبائلُ العبريّةُ أهمَّ مصدرٍ للطّعامِ، وهو الخبز، من جذرِ الإلتحام. أمّا كلمةُ "لَحمة" فقد عبّرتِ العبريّةُ عنها بكلمةِ (بَسَر،בשר)، ويقابلُها في العربيّةِ كلماتٌ مثل (بَشَر وبَشْرة). ومن مفرداتِ [ل ح م] في العبريّةِ نجدُ الكلمةَ التي تعني حَرْباً (مِلْحَمَهْ، מלחמה)، والْمَلْحمة في العربيّة هي الحربُ ذاتُ القتلِ الشَّديدِ أو الوقعةُ العظيمةُ؛ ونجدُ أيضاً الكلمةَ التي تعني حربة أو سَيْف (حِرِبْ، חרב). أمّا جذرُ الحروبِ [ح ر ب]4 العربيُّ فقد اشتقَّ العبريّون منه الكلماتِ المتعلّقةَ بالخراب، والخَراب بالعبرية هو (حورْبَنْ، חורבן)، فيقولون عن خرابِ هيكلِهم (حورْبَن هَبَيِتْ) أو خرابُ البيت. ألتّصريف مع الضّمائر: تجدُ في قائمة 1 أدناه تصريف الفعل (كَتَبَ) وتصريف الاسم (بَيْتٌ) مع الضّمائر في العربيّة والعبريّة، وذلك لتقف على التّشابه الشّديد في تصريف الأفعال والأسماء في اللّغتَين. إنتبهْ إلى الأمور التّالية في القائمة: أوّلاً، لا يوجدُ ضميرٌ (منفصلٌ أو متَّصل) للمثنّى في العبرية. ثانياً، صيغة المضارع العربية تُستعمل في العبرية للتّعبير عن الزّمن المستقبل، أمّا المضارع فقد عبّرت عنه العبرية بصيغة اسم الفاعل. ثالثاً، كتبتُ الكلمات العبريّةَ بالضّبط كما تُكتَبُ (وليسَ بالضّرورةِ كما تُلفَظُ) بتلك اللّغة لكنْ بأحرفٍ عربيّةٍ. رابعاً، تُلفظُ الباء (V) في جميع كلمات "كَتَبَ" العبرية، أمّا الباء في "بيت" العبرية فهي في أوّل الكلمة، ولذا تُلفظُ باءً لا (V). خامساً، تُلفظُ الكافُ العبريّةُ كافاً عندما تكون أوّلَ حرفٍ في الكلمة، وتُلفظُ خاءً في غيرِ ذلك. لذا فالكاف في صيغِ المستقبل من (كَتَبَ)، والكاف كضميرٍ متّصلٍ بالاسم، تُلفَظان خاءً. أخيراً، كتبتُ جميعَ الكلماتِ في القائمة مشكَّلةً تشكيلاً كاملاً وعصريّاً، و "تشكيلٌ كاملٌ وموحَّدٌ وعصريٌّ" هو موضوعُ الحلقة الخامسة.
قائمة 1 تصريف فعل واسم مع الضّمائر في العربيّة والعبريّة ألضّمير ألضمير ماضي ماضي مضارع مستقبل بَيْتٌ بَيِتْ ألعربية ألعبرية ألعربية ألعبرية ألعربية ألعبرية ألعربية ألعبرية هُوَ هو كَتَبَ كَتَبْ يَكْتُبُ يِكْتوبْ بَيْتُهُ بيتو هُمْ هِمْ كَتَبوا كَتْبو يَكْتُبونَ يِكْتِبو بَيْتُهُمْ بيتَمْ هِيَ هي كَتَبَتْ كَتْبَهْ تَكْتُبُ تِكْتوب بَيْتُها بيتَهْ هُنَّ هِنْ كَتَبْنَ كَتْبو يَكْتُبْنَ يِكْتِبو بَيْتُهُنَّ بيتَنْ أَنْتَ أَتَّهْ كَتَبْتَ كَتَبْتَ تَكْتُبُ تِكْتوبْ بَيْتُكَ بيتْكَ أَنْتُمْ أَتِّمْ كَتَبْتُمْ كَتَبْتِمْ تَكْتُبونَ تِكْتِبو بَيْتُكَمْ بيتْكِمْ أَنْتِ أَتْ كَتَبْتِ كَتَبْتْ تَكْتُبينَ تِكْتِبي بَيْتُكِ بيتِكْ أَنْتُنَّ أَتِّنْ كَتَبْتُنَّ كَتَبْتِنْ تَكْتُبْنَ تِكْتِبو بَيْتُكُنَّ بيتْكِنْ أَنا أَني كَتَبْتُ كَتَبْتِ أَكْتُبُ إكْتوبْ بَيْتي بيتي نَحْنُ أَنَحْنو كَتَبْنا كَتَبْنو نَكْتُبُ نِكْتوبْ بَيْتُنا بيتِنو أَنْتُنَّ أَتِنْ كَتَبْتُنَّ كَتَبْتِنْ تَكْتُبْنَ تِكْتِبو بَيْتُكُنَّ بيتْكِنْ أَنا أَني كَتَبْتُ كَتَبْتي أَكْتُبُ إكْتوبْ بَيْتي بيتي نَحْنُ أَنَحْنو كَتَبْنا كَتَبْنو نَكْتُبُ نِكْتوب بَيْتُنا بيتِنو
لغة صوتيّة: ما نعنيه بقولِنا "لغة صوتيّة" هو أنّها على الغالب تُكتبُ كما تُنطَقُ بالضّبط. وقدِ امتازتِ العربيّةُ عن أخواتِها من اللّغاتِ السّاميّةِ بأنّها التزمتْ بقوانين الصَّوتيّات، والتي سأشرحها في حلقة قادمة، التزاماً كاملاً ومطلقاً. بالمقابل، فإنّ العبريّةَ هي أقلُّ اللّغاتِ السّاميةِ التزاماً بقوانينِ الصَّوتيّات.
أوّل أبجدية صوتيّة (هجائيّة) في التّاريخ: لِنفهمَ بعمقٍ ميّزاتِ اللّغاتِ الصّوتيّةِ علينا أنْ نبدأَ منَ البدايةِ، أي منذُ وضعَ آباؤُنا الكنعانيون أوّلَ أبجديّةٍ في تاريخِ البشريّةِ؛ كانَ ذلكَ حوالي سنةَ أَلفَيْن قبلَ الميلاد، وعلى السّاحل السّوريّ للمتوسط. لا شكّ أنّ اختراعَ الأبجديةِ الصّوتيّة كوسيلةِ اتّصالٍ كتابيةٍ هو أعظمُ اختراعٍ في تاريخِ البشرية. وكانت القفزةُ الفكريّةُ الكبرى أن ينتقلَ الإنسانُ من رموزٍ كتابيةٍ تعبّرُ عن أشياءَ إلى رموزٍ تعبّرُ عن الأصواتِ التي نخرجُها من جهازِنا الصّوتيّ عندما نتكلّم. وبهذا أوْجَدَ مخترعو الأبجديّةِ الصوتيّةِ الوسيلةَ الأكثرَ مباشرةً للتّعبيرِ الدّقيقِ عمّا نخرجُه من أصواتٍ خلالَ كلامِنا الشفهيّ. وكانَ اختراعُهم من الدِّقّةِ وعمقِ التّفكيرِ بحيثُ قرّروا أنّ رمزاً أو شكلاً (حرفاً أبجديّاً) واحداً يشيرُ إلى صوتٍ واحدٍ فقط لا غير. ولا يجوزُ أن يشتركَ أكثرُ من رمزٍ أو شكلٍ في التّعبيرِ عن صوتٍ واحد، ولا يجوزُ أن يُعبَّرَ عن صوتٍ واحدٍ إلاّ بشكلٍ (حرف هجائي) واحد. لقد صدَقَ الباحثُ جورج بيروجين حينَ قالَ عن هذا الاختراع: إنّ ابتكارَ الأبجدية كان حدثاً هامّاً جدّاً لا يمكنُ مقارنتُه بأيّ حدثٍ آخَرَ في تاريخِ الجنسِ البشريّ. وهو أعظمُ من ابتكارِ الطباعةِ، إذ أنّ تحليلَ الكلام وإرجاعَه إلى عناصرِه الأوليةِ يحتاجُ إلى عملٍ فكريّ عظيم. وممّا لا شكّ فيه أيضاً أنّ الكنعانيّين، وهم عربٌ جذورُهم في شبهِ الجزيرةِ، همُ الذين ابتكروا أوّلَ أبجديّةٍ صوتيّةٍ في التّاريخ. وقد دعاهم اليونانيّون باسم الفينيقيين5، وسمّوا أبجديتَهم الأبجديةَ الفينيقية. وتتكوَّنُ هذه الأبجديةُ من اثنين وعشرينَ حرفاً تتبعُ ترتيبَ [أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت]. وتُكتبُ من اليمينِ إلى اليسار. ومنها نشأتْ باقي الأبجديّاتِ السّاميّة، والأبجديّة الإغريقيّة، والأبجديّة اللاتينيّة، وباقي الأبجدياتِ الأوروبيةِ الحاليّة. وتسمياتُ الحروفِ في الأبجديّةِ الكنعانيّة هي ذاتُها في الأبجديّاتِ العربيّةِ والآراميّةِ والعبريّةِ لتشابُهِ هذه اللغات. فالحرفُ الأوّل يسمّى ألِف، وتعني رأس البقرة؛ والثّاني بيت (الباء)، وتعني المنزل أو البيت؛ والثّالث چيمل (جيم مصرية)، وتعني الجَمَل؛ ودَلِت (الدّالّ)، أي مطرقة الباب؛ وياد (الياء)، وتعني اليد أو السّاعد؛ وكاف، أي كفّ اليد؛ ولَمِد أو لَمَدْ (أللام)، أي اللُماد وهو مسّاس البقرة؛ وميم، أي الماء الكثير أو اليم؛ ونون، وتعني الأفعى. ولا نحتاجُ إلى جهدٍ كبيرٍ لنرى التّشابهَ بين الأسماءِ الكنعانيّة لهذه الحروفِ وأسماءِ الحروفِ اليونانيّة والإنجليزيّة: ألكنعانية: أَلِف بيت جيمِل دَلِت كاف لَمِد ميم نون أليونانية: ألْفا بيتا جاما دِلتا كابا لامدا ميو نو ألإنجليزية إيه بي سي دي كيه إلْ إمْ إنْ
لاحِظْ أنّ الأحرفَ ك ل م ن في وسط الأبجديّةِ الكنعانية، تجدُها بهذا التّرتيب في وسط كلّ الأبجديّاتِ الأوروبيّةِ تقريباً (K L M N). ومن اللّافتِ للنّظرِ أنّ أسماءَ الحروفِ في الأبجديّات الساميّة يبدأُ كلٌّ منها بالصّوتِ الذي يُعبِّرُ عنه ذلك الحرفُ، وهو الحال، إلى حدٍّ ما، في الأبجديّة اليونانيّةِ التي كانت أوّلَ أبجديّةٍ أوروبيّةٍ توضعُ على نسقِ أبجديّةِ الكنعانيّين؛ أمّا في الأبجديّةِ الإنجليزيّةِ مثلاً فلا نجدُ إلاّ عشرةَ حروفٍ تبدأُ أسماؤُها بالصَّوتِ الذي يعبِّرُ عنه ذلك الحرفُ. هناك اختلافٌ حولَ تاريخِ ابتكارِ الأبجديّةِ الكنعانيّةِ، وحولَ نشوءِ وتطوُّرِ الأبجديّةِ الصّوتيّةِ. لكنّ المرجّحَ أنّ البدايةَ كانت حوالي سنة 1800 ق.م.على السّاحلِ السّوريِّ للمتوسط. وإليكَ بعضُ الآراء: يقولُ أحدُ المصادرِ إنّ الأبجديّةَ الكنعانيّةَ استُخدِمَتْ في المنطقةِ السّاحليةِ لشرقيِّ المتوسطِ في الفترةِ من 2000 إلى 600 ق.م، أي العصرِ الذّهبيِّ لكنعان. وذلك اعتماداً على أنّ أقدمَ الشّواهدِ عليها حتّى الآن تعودُ لعامِ 1100 ق.م. وأشهرُها النّقشُ الموجودُ على ناووسِ (تابوت حجري) أحيرام ملك جبيل حوالي 1000 ق.م. لكنّه يضيفُ أنّ هذه النُّقوشَ تُعتبرُ تطويراً وزيادةً في التّجريدِ عن الأبجديّةِ الكنعانيّةِ الأوليّة (نحو سنة 1800 ق.م.). ومصدرٌ آخرُ يذكرُ أنّه في عامِ 1933 عُثر في مدينةِ أوغاريت (راس شمرة، قرب اللاذقية) على رقيمٍ صغيرِ الحجمِ يحوي ثلاثينَ شكلاً مسماريّاً، تبيَّنَ بعدَ التّدقيقِ أنّ هذه الأشكالَ ما هي إلاً حروفُ أبجديّةٍ لم يُعرفْ لها نظيرٌ. وقد تأكَّدَ الباحثون من أنّ هذه الأبجديةَ هي الأولى في العالم، ومن أنّها ترجعُ إلى منتصفِ الألفِ الثّاني قبلَ الميلاد. وكان العالم "مونتيه" قد عثر عام 1922 م على أبجديّةٍ أخرى في جبيل منقوشةٍ على ضريح أحيرام ترجعُ إلى القرنِ الحادي عشر قبلَ الميلاد. وتعودُ أهميّةُ هذا الضريحِ في الواقع إلى النّصِّ المكتوبِ عليه بأحرفِ أبجديةٍ ما زالت تُعتبَرُ حتّى الآن الشّكلَ الأوّليَّ للأحرفِ العربيةِ واللّاتينيّة. وكان الكنعانيون قد تبنّوا الكتابةَ التي نراها في أوغاريت. قبلَ ذلك كان من المألوفِ عند الكنعانيين استعمالُ الكتابةِ المسماريةِ الّتي كانت منتشرةً في بلادِ الرّافدين، والّتي استمرّت وسيلةً للكتابة عند الأكّاديين والسّومريين والعموريين العرب القدماء، ثمّ سكّان أوغاريت من الكنعانيين. وكان لا بدّ من استعمالِ هذه الكتابةِ بسببِ طريقةِ النّقشِ على ألواحِ الطّين بمسمار خاصّ. لكنّ المهمَّ في أوغاريت أنّ الكنعانيين قاموا بحذفِ أكثرِ الإشارات الّتي كانت تلازمُ الكلمات، واكتفوا بصورةٍ تناسبُ الصّيغةَ الصّوتيّةَ، فكانت الحروفُ الأبجديّةُ الأوغاريتيّةُ هي أوّل أبجديةٍ في العالم. أمّا عز الدين المناصرة فقد كشفَ عن خريطةٍ جديدةٍ لأوّلِ أبجديّةٍ في العالم، سمّاها "الأبجديةَ الشّاميّة"، ناسفاً بذلك تصنيفَ الألمانيِّ "شولتسر" لِما سمّاه "اللّغات السّامية". واستبدلَ المناصرة، وفقاً لوكالةِ الأنباءِ الفلسطينيّةِ "وفا"، مصطلحَ "سام" بـِ "شام"، لافتاً إلى أنّ المستشرقين أهملوا اكتشافَ المستشرقِ "فيلندرز بتري" عام 1904 لما سمّاه "الكتابات السّينائية الكنعانية"، والتي تسمّى "كتابات الفلسطينيين البدائيّة" أو "الأبجدية الأولى"، والتي تطوّرت لاحقاً إلى "الكنعانية الفلسطينية". وحدّد المناصرة تاريخَ هذه الأبجديةِ الأولى بعام 3400 ق.م. ثمّ وصلتْ ذروةَ نضجِها في القرن الثالث عشر ق.م. في الساحل الفلسطينيِّ. ويستشهدُ المناصرة بما جزَمَ به المستشرق "سبرنجلنج، Sprengling" من أنّ صانعي الأبجديّةِ الأولى الكنعانيّةِ هم من جنوبِ فلسطين وجنوبِ شرقِ الأردن. وعن انتشارِ الأبجديّةِ الكنعانيّةِ في أوروبا يقولُ المؤرّخون إنّ قدموس، شقيقَ أوروبا، قد مضى إلى بلادِ اليونان باحثاً عن أختِه، وأنشأَ مدينةَ "قدميا" شمالي أثينا، وقامَ هناكَ بتعليمِ النّاسِ أبجديةَ الكنعانيين. واستمرّتْ هذه الأبجديّةُ مستعمَلةً في اليونان مع بعضِ التحريفِ، وحاملةً التّسمياتِ الكنعانيةَ القديمةَ نفسَها. بعد ذلك تبنّاها الرّومان وانتشرت في جميعِ الكتاباتِ الغربيّة. ولقد عُثرَ على نقشٍ برونزيٍّ من عصر الإمبراطور "غاليان" يحملُ في أحدِ وجهَيْه صورةَ قدموس يعلّمُ أهلَ طيبة الأبجديّةَ الكنعانية، والنّقشُ موجودٌ حالياً في المكتبةِ الوطنيةِ في باريس. كتب المؤرّخُ هيرودوتس، في القرن الخامس ق.م. (تاريخ هيرودوتس، جزء 5): إنّ الفينيقيين القادمين مع قدموس جلبوا إلى الإغريق معارفَ كثيرةً منها الحروفُ التي لم يكونوا يعرفونها. وكان القدموسيون يستعملونها بادئَ الأمرِ بشكلِها الفينيقيِّ المألوفِ، ومع الوقتِ أدخلوا عليها بعضَ التغييراتِ، كما غيّروا أيضاً في لسانِهم. وآنئذٍ كان كثيرٌ من الإغريق محيطين بالفينيقيين من الأيونيين أو القرطاجنيين (وهم كنعانيو الأصل، [ش ق]6)، فتعلّموا منهم الحروفَ واستعملوها محرّفةً قليلاً، لكنّهم استمرّوا بتسميتِها بالكتابةِ الفينيقية" وحوالي سنة 800 ق.م. ظهر الأتروسكيون في شمالِ إيطاليا، ويعودُ أصلُهم إلى الساحلِ السوريِّ، فنقلوا الأبجديةَ نفسَها إلى الرومان، وبدأت باللغةِ اللاتينيّة. ثمّ استفاد "كيرلّوس" من هذه الحروفِ لوضعِ أسسِ الكتابةِ السلافيّة.
هوامش: 1. سمعتُ من يقولُ "اللغة السريانية" أو من يقول "اللغة الأشورية" حين يتحدثون عن السريان أو الأشوريين ولغة طقوسهم الدينية. في الواقع، لا توجدُ لغةٌ سريانيةٌ مستقلةٌ ولا لغةٌ أشورية، وما يستعملُه السريانُ هذه الأيام في كنائسِهم وبيوتِهم هي اللغةُ الآرامية أو تحريفٌ لها. 2. يُستعملُ حرفُ الكاف في العبريةِ للتعبيرِ عن صوتَين، صوتِ الكاف وصوتِ الخاء، ويُستعملُ حرف الباء للتعبيرِ عن صوتِ الباء وصوتِ (V). أما حرفُ الفاء فيستعملُ أيضاً للتعبيرِ عن صوت (P). 3. ألشّكل أو الحرف (ש) هو لحرفِ الشّين العبري، لكنّه يُستعملُ في كثيرٍ من الكلمات لصوت السّين أيضاً. أما الشكل أو الحرف (ס) فهو الذي يشير إلى حرف السين في الأبجدية العبرية. 4. ألتّشابه بين جذر الحرب [ح ر ب] وجذر الخراب [خ ر ب] واضح؛ وكما قال أبو تَمّام في قصيدة "فتح عموريّة": لَمّا رَأى الْحَرْبَ رَأْيَ الْعَيْنِ تَوْفِلِّسٌ وَالْحَرْبُ مُشْتَقَّةُ الْمَعْنى مِنَ الْحَرِبِ 5. يعتقدُ البعضُ أنّ الفينيقيين هم قومٌ مختلفٌ عن الكنعانيين، وهذا خطأٌ شائع، فما الفينيقيون وفينيقيا إلاّ أسماء أطلقَها اليونان على الكنعانيين وبلادِهم كنعان. لتوخي الدقة، ما حدث هو أنّ إحدى الغزواتِ المدمرةِ التي اجتاحت كنعان كانت غزوةَ الفلستيين بين 1200 و 1000 ق.م، وهم أقوامٌ غيرُ ساميّة غزت كنعانَ من جزرِ المتوسِّطِ واليونان، واحتلّوا عمومَ الساحلِ الكنعانيِّ من عكا حتى غزة. وهكذا انقسمَ الشريطُ الكنعانيُّ الى قسمين: الثلثين العلويين (الشماليين) للكنعانيين الذين سيصبحُ اسمُهم منذ تلك اللحظةِ الفينيقيين، والثلث السفلي للفلستيين. وهكذا التصق بقسمٍ من كنعان اسمُ فلسطين. 6. وما القرطاجيون (أو القرطاجنّيون) أو البونيون أو الأيونيون إلاّ كنعانيون. وما حدث هو أنّه بعدَ الدمارِ الذي لحقَ المدنَ الكنعانيةَ في كنعان، وبعد الغزواتِ من شعوبٍ وقبائلَ خارجةٍ عن المنطقة، وجد أهالي المدنِ الكنعانيّةِ أنْ لا رابطَ يربطُهم ويجمعُ صفوفَهم ليستعيدوا قوتَهم في درءِ الأخطارِ الخارجية. لذلك ضجروا، وهم التجّارُ وسادةُ البحارِ وأصحابُ أعظمِ الأساطيلِ التجاريةِ، فهاجر قسمٌ منهم صوبَ السواحلِ الإفريقيّةِ على المتوسط والأطلسي. كذلك كان هناك نصيبٌ من تلك الهجراتِ إلى السواحل الأوروبية. ربّما تكونُ هجراتُ الكنعانيين إلى خارجِ بلادِهم قد سبقت تاريخَ 1200 ق. م، لكنْ المؤكد أنّ بحارتَهم قد تعرفوا على مناطقَ كثيرةٍ وعمّروها. والعشراتُ من المدنِ الإفريقيّةِ الموجودةِ اليومَ على ساحلِ المتوسِّطِ وساحلِ الأطلسيِّ أنشأها وعمّرها الكنعانيون، وما الاسمُ "قرطاج" (بنَوها حوالي عام 814 ق.م) إلا اسمٌ آراميٌّ معناه "القرية الجديدة". وما اسمُ هانيبال العظيم إلا اسمٌ آراميٌّ معناه "حبيب الإله"، ومنه جاء الاسمُ "هاني" في العربيّة.
#شوقي_إبراهيم_قسيس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تعلّموا العربية وعلِّموها للنّاس - ألحلقة الأولى (1)
المزيد.....
-
تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا ي
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب: خطوة جديدة لتعميق العلاقات الثنائ
...
-
بين الالتزام والرفض والتردد.. كيف تفاعلت أوروبا مع مذكرة توق
...
-
مأساة في لاوس: وفاة 6 سياح بعد تناول مشروبات ملوثة بالميثانو
...
-
ألمانيا: ندرس قرار -الجنائية الدولية- ولا تغير في موقف تسليم
...
-
إعلام إسرائيلي: دوي انفجارات في حيفا ونهاريا وانطلاق صفارات
...
-
هل تنهي مذكرة توقيف الجنائية الدولية مسيرة نتنياهو السياسية
...
-
مواجهة متصاعدة ومفتوحة بين إسرائيل وحزب الله.. ما مصير مفاوض
...
-
ألمانيا ضد إيطاليا وفرنسا تواجه كرواتيا... مواجهات من العيار
...
-
العنف ضد المرأة: -ابتزها رقميا فحاولت الانتحار-
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|