|
10 سنوات على احتلال للعراق العملية السياسية على الحافة
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 4036 - 2013 / 3 / 19 - 21:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في ضوء تظاهرات الأنبار 10 سنوات على احتلال للعراق العملية السياسية على الحافة
في ليلة 20-21 آذار (مارس) العام 2003 شنّت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة حرباً مفتوحة على العراق، بعد أن فشلت في الحصول على تفويض دولي من جانب الأمم المتحدة، وكانت مبرراتها المعلنة تقوم على ذريعتين أساسيتين: الأولى أن العراق يملك أسلحة دمار شامل، لا سيّما الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية، إضافة إلى مادة الانثراكس التي يمكنها قتل مئات الآلاف من البشر، وذلك يشكّل تهديداً لجيرانه وللسلم والأمن الدوليين، والثانية تقوم على علاقة الحكومة العراقية بالارهاب الدولي وتشجيعها للقوى الإرهابية، لا سيّما تنظيمات القاعدة المتهمة بتفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 والتي استخدمت لاحقاً مبرراً لاحتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003، الأمر الذي يثير القلق والمخاوف بشأن مستقبل المنطقة والعالم، خصوصاً احتمال امتلاك هذه القوى بعض أسلحة الدمار الشامل، الأمر الذي سيطيح بالاستقرار والسلم والأمن الدوليين. وأضافت واشنطن "مبرراً" آخر لشنّها الحرب، هو رغبتها في إقامة نظام ديمقراطي في العراق، يمكن أن يكون نموذجاً على مستوى دول المنطقة، بل والعالم الثالث، وذلك بسبب معاناة الشعب العراقي من نظام الاستبداد والقمع، من جهة ورغبتها في تقديم "النموذج" من جهة أخرى. ولعلّ، المبرّرات الثلاثة، ليست بحاجة إلى دليل كبير لإثبات بطلانها وعدم صدقيتها، لا سيّما بعد مرور عشر سنوات على الاحتلال، وفي ظل استمرار الصراع الطائفي-الإثني، واضطرار واشنطن قبل بناء الديمقراطية المنشودة إلى مغادرة العراق على عجل، خصوصاً بتعرّضها إلى خسائر فادحة، مادية ومعنوية، إضافة إلى أزمتها المالية والاقتصادية التي استفحلت على نحو مريع وكان أحد أسبابها هو الحرب على العراق، ناهيكم عن رفض الرأي العام العالمي والغربي بشكل عام، والأمريكي بشكل خاص لمبررات الحرب وطلبها الانسحاب من العراق خصوصاً بعد فضائح سجن أبو غريب وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان. وإذا كانت الولايات المتحدة على حق حين دعت إلى إقامة نظام ديمقراطي في العراق والتخلص من الدكتاتورية، لكنها في واقع الأمر حمّلت العراق كوارث جديدة زادت من معاناة السكان بعد حروب دامت نحو ربع قرن ونظام استبدادي قارب ثلاثة عقود ونيّف من الزمان وحصار دولي استمر لنحو ثلاثة عشر عاماً. ولنعد الآن إلى أجواء شن الحرب على العراق خصوصاً لفحص بعض المزاعم، فعلى لسان كبار المسؤولين، الذين شنّوا الحرب بمن فيهم الرئيس جورج دبليو بوش، الذي اعتبر المعلومات المضللة هي التي كانت وراء غزو العراق. فبخصوص أسلحة الدمار الشامل فإن لجان التفتيش التي جابت البلاد طولاً وعرضاً أكدت في العام 2005 خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، وهو ما كانت تعرفه قبل ذلك من خلال عشرات المرّات من زيارتها سنوياً طيلة نحو 12 عاماً لمواقع عراقية، بما فيها ما عُرف " بالمواقع الرئاسية"، بل حتى لغرض النوم تجاوزاً على كل معايير السيادة الوطنية التي ظلّت مجروحة حتى الآن، بل ومكبّلة بنظام العقوبات الدولية التي زاد تطبيقه على العراق أكثر من 23 عاماً، حيث يخضع العراق إلى نحو 75 قرار دولي بموجب الفصل السابع، حتى وإن ألغي تأثير بعضها الفعلي، لكنه عملياً لم يتحرر من تبعاتها كلياً. وأكّدت أحداث السنوات العشر الماضية من الاحتلال ووقائعها أن العراق لم يكن له علاقة بتنظيمات القاعدة، بل أن العراق كبلد أصبح مرتعاًَ لهذا التنظيم بعد الاحتلال، لدرجة أنه صار مصدّراً للارهاب على نطاق المنطقة والعالم، والسبب يعود إلى فتح الحدود على مصراعيها لكل من هبّ ودبّ بعد الاحتلال، وإلى خطة واشنطن في استدراج الارهابيين من تنظيمات القاعدة أو غيرهم إلى العراق ليتم القضاء عليهم أو توجيه ضربة ماحقة لهم، وهو تبرير غير منطقي، بل في غاية السوء بل هو جريمة دولية بكل معنى الكلمة ودفع العراقيون بسبب ثمناً باهظاً، وقد اضطرّت القوات الأمريكية إلى الانسحاب، في حين استمر تنظيم القاعدة بالوجود، بل والتفريخ أحياناً، حتى وإن تعرّض إلى هزّة كبيرة بمقتل أسامة بن لادن في 2 أيار (مايو) 2011، وقبله مقتل قائده في العراق أبو مصعب الزرقاوي في 16 حزيران (يونيو) 2006، وامتلك التنظيم قدرة للتكيّف مع الأوضاع والانتقال السريع، من العراق إلى سوريا وإلى مناطق أخرى في المغرب العربي، وصولاً إلى مالي حسب زعم الفرنسيين، وعاد التنظيم بقوة إلى العراق خلال انتفاضة الأنبار في أواخر العام 2012 والتي لا تزال مستمرة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، محاولاً استغلال تردّي الأوضاع السياسية وتدهور الحالة الأمنية، ليقوم بأعماله الإرهابية وخصوصاً عدد من التفجيرات الكبيرة التي أعلن عنها. أما ديمقراطية الرئيس بوش التي أرادها للعراق، فتحوّلت من التبشير بمشروع سياسي واقتصادي للديمقراطية وحقوق الإنسان والرفاه الاقتصادي والتنمية البشرية، على غرار مشروع مارشال الأمريكي لأوروبا في العام 1947، إلى مسعى للحفاظ على الاستقرار، وهذا الأخير ليس سوى محاولة لطمس الهوّية العراقية الموحّدة، واستبدالها بهوّيات فرعية، بل وتقديمها على الهوّية الجامعة، بغض النظر عن حاجة الأولى للانتعاش وضمان الحقوق والمواطنة الكاملة والمساواة. وتحوّلت الديمقراطية المحمولة جدّاً إلى نظام للمحاصصة والتقاسم المذهبي والإثني عبر صيغة بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق (13 أيار/مايو 2003- 28 حزيران/يونيو 2004) من خلال مجلس الحكم الانتقالي الذي كرّس أسساً خاطئة وتفتيتية لدولة ما بعد الاحتلال بزعم الديمقراطية التوافقية، تلك التي تم التعامل معها على نحو تقسيمي، لدرجة أنها عطّلت كل شيء بحجة التوافق. ولعلّ استمرار تدهور الأحوال، إضافة إلى أهوال السياسات وعلى جميع المستويات، فقد انعدمت الثقة بين الأطراف السياسية، بما فيها بعض الحلفاء أو المشاركين في العملية السياسية وفي خارجها أيضاً، حيث أخذ السخط الشعبي يزداد وحركة الاحتجاج تتعاظم، واندلعت شرارتها في محافظات العراق الغربية والشمالية التي اجتاحتها تظاهرات عارمة انطلقت من الأنبار وامتدّت إلى مناطق أخرى بما فيها العاصمة بغداد، ولقيت دعماً وتأييداً متفاوتاً من قوى مختلفة، بعضها جزء من العملية السياسية، وبضمنهم كتلة السيد مقتدى الصدر "الأحرار" والقائمة العراقية وكتلة التحالف الكردستاني، إضافة إلى أطراف من خارجها أيّدت المطالب التي يمكن تلخيصها بإطلاق سراح المعتقلين الأبرياء، ولاسيما المعتقلات وإعادة النظر بقانون المساءلة والعدالة الذي أدى تطبيقه السيء إلى حرمان الآلاف من حقوقهم، وإلغاء المادة (4) من قانون الإرهاب التي تستخدم كيدياً وثأرياً ضد الخصوم السياسيين وإلغاء اعتماد " المخبر السري"، إضافة إلى رفع الحيف الذي وقع على أبناء هذه المحافظات ووضع حدّ لسياسة التهميش وغير ذلك. لقد أصبح المشهد السياسي العراقي خلال السنوات العشر الماضية سريالياً بكل معنى الكلمة، فالتوافق أصبح لغماً، لدرجة أن كل كتلة تدافع عن منتسبيها بغض النظر ارتكابه أو أخطائه أو أدائه الرديء، سواءً كان موظفاً رفيعاً أو نائباً أو مسؤولاً سياسياً، وهكذا يتم التوافق أحياناً في السكوت عن المفسدين والمزوّرين والمخطئين، والحكم أقرب إلى صفقات وتواطؤات وتقاسم في كل شيء. وقد ظلّت وزارة مثل الدفاع وأخرى مثل الداخلية، إضافة إلى وزارة الأمن الوطني شاغرة منذ أكثر من سنتين بزعم عدم حصول التوافق، واضطرّ اتفاق إربيل إلى "التوافق" غير المتوافق عليه دستورياً على أن يكون لرئيس القائمة العراقية الدكتور أياد علاوي موقعاً جديداً خارج الدستور، وهو موقع "رئيس الرؤساء" أو ما سمّي رئيس مجلس رسم السياسات العليا، لكن هذا الاتفاق وصل إلى طريق مسدود حتى قبل تشكيله وإقراره برلمانياً، لأنه ولد ميتاً بالأساس، الأمر الذي فجّر الأزمة وجعلها مفتوحة على كل الاتجاهات، وقد حاولت القائمة العراقية لاحقاً وبالتعاون مع كتلة التحالف الكردستاني الاطاحة برئيس الوزراء العراقي نوري المالكي دستورياً، وذلك عن طريق سحب الثقة منه بواسطة أغلبية 163 صوتاً في البرلمان، لكن هذه المحاولة لم تلق النجاح. من جهة أخرى شهد المسرح السياسي احتكاكات جوهرية بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، ولا تزال المشاكل مستمرة ومعلقة وأهمها: احتدام وتوتر العلاقة بخصوص عقود النفط واستثماراته وموضوع عائدية محافظة كركوك ومصير المادة 140 وما سمّي "بالمناطق المتنازع عليها" وعلاقة البيشمركة الملتبسة بالجيش العراقي، وغير ذلك من الأمور التي وردت في الدستور، لكنها كانت مبهمة ومثيرة للاختلاف، فضلاً عن تفسيراتها الخاصة أو الضيقة. إن ما يحصل اليوم من توتر في الوضع السياسي هو الأخطر منذ احتلال العراق في 9 نيسان (ابريل) 2003 ولحد الآن، ويندرج ذلك في إطار تحدّيات الدولة العراقية ككل، ولا يقتصر على مستقبل العملية السياسية في لحظة من لحظات اقترابها من الحافة. تحديات الواقع العراقي!! وإذا أردنا الحديث عن أهم التحديات فيمكن إجمالها بـ: التحدي الأول ويكمن في الطائفية السياسية، التي تكرسّت بعد الاحتلال، لا سيما بصيغة مجلس الحكم الانتقالي، الوصفة التي جاء بها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي، حين اعتبر العراق مجرد مكوّنات لا يجمعها جامع بل إنها قائمة على وحدة إجبارية أو أنها موحدة بالإكراه وما إن أطيح بالنظام السابق انهارت الوحدة المفروضة للدولة العراقية وظهرت الكيانات الحقيقية، الطائفية والإثنية هي (الشيعة والسنّة والأكراد). ومثلما في السابق، فإن الأمر في الحاضر أيضاً وعلى نحو أشد، هناك "طائفيون بلا دين" على حد تعبير عالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي، لأن المتديّن الحقيقي لا يمكن أن يكون طائفياً، مثله مثل المسلم الصادق والمؤمن الصحيح. ومثلما صعد الاتجاه الطائفي، فإن الاتجاه الديني المتطرف من الفريقين وجد طريقه إلى الواجهة أيضاًَ، ولهذه الأسباب استهدف المسيحيون في العراق، وفجّرت كنائسهم وأديرتهم ولوحقوا على نحو لم يحصل في تاريخهم الوسيط والحديث، لا سيّما علاقتهم بالمسلمين، بل وصل الأمر بالبعض إلى الطلب منهم دفع الجزية وهو النظام الذي ألغته الدولة العثمانية منذ أواسط القرن التاسع عشر، والاّ فإن عليهم مغادرة العراق أو الموت، وقد اضطرت عشرات الآلاف منهم إلى الهجرة عن بلدهم قسراً، ومثل هذا الأمر حصل للأيزيدية والصابئة (المندائيون) والكلدان والآشوريين وغيرهم. التحدي الثاني- انهيار الدولة وضعف هيبتها سادت قبيل الاحتلال نظرية أمريكية مفادها ضرورة تفكيك الدولة العراقية السابقة بزعم طبيعته المركزية الاستبدادية الدكتاتورية وغذا كان الافتراض صحيحاً، فإن الاستنتاج خاطئاً، خصوصاً وأن استبدال المركزية البيروقراطية الأوامرية الاستبدادية لم يكن وفقاً لمتطلبات المصلحة الوطنية العراقية، بالحفاظ على وحدة العراق وسيادته وموارده، والتوجّه بها نحو التنمية والديمقراطية وإعادة إعمار ما خربته الحروب وما تركته من تأثيرات بما فيها الاحتلال نفسه، بل على العكس من ذلك ازداد التشظي والتفتيت في المجتمع على نحو لم يسبق له مثيل لا سيّما بعد انهيار الدولة، فقد صمم الاحتلال لا على الاطاحة بالنظام الشمولي السابق فحسب، بل استهدف الدولة ككيان قائم، وذلك بعد الفوضى الخلاّقة التي بشّر بها وعمل عليها المشروع الأمريكي في العراق. وكان هذا المدخل التمهيدي ضرورياً لتعميق الصيغة الطائفية والإثنية، وترافق ذلك مع السعي لتفكيك مؤسسات الدولة خصوصاً بقرار بول بريمر (13 أيار (مايو) -28 حزيران (يونيو) 2004)، القاضي بحل الجيش، وكان ذلك ثاني قرار بعد توليه إدارة العراق مباشرة بعد قرار اجتثاث البعث، كما أقدم على حلّ الأجهزة الأمنية وترك البلاد عرضة للفوضى والتمترس الإرهابي لاحقاً. ومنذ ذلك الحين ولحد الآن (10 سنوات) ولا تزال الدولة شبه غائبة وهيبتها متدنية وضعيفة، لا سيّما وهي تعاني من الشحن الطائفي والتمترس المذهبي والإثني وتعدّد الولاءات، وخصوصاً وجود ميليشيا مسلّحة، كانت ترفع السلاح تحت عناوين مختلفة باسم "مقاومة" الاحتلال أو "الدفاع عن النفس" أو ضمن الموجة الطائفية، لا سيما بوجود التنظيمات الإرهابية، وخصوصاً تنظيم القاعدة. وقد شكّلت الحكومة تنظيمات ميليشياوية مسلحة أسمتها تنظيمات "الصحوة" لمقارعة تنظيم القاعدة، وبعدها عمدت على تشكيل "مجالس الاسناد"، ولا شكّ أن امتلاك السلاح يوازي أحياناً استخدامه، فما بالك عندما يكون استخدام السلاح " مشروعاً" ومقنناً من جانب الدولة، الأمر الذي أصبحت فيه مظاهر العنف والعنف المضاد مستشرية إلى حدود كبيرة. وعلى الرغم من كل ذلك فقد عجزت الدولة حتى الآن على القيام بوظائفها الأساسية، والمقصود بها حفظ الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وتشهد البلاد انفلاتاً أمنياً بين الحين والآخر الأمر يضعف الثقة بالدولة المهتزّة بها الثقة أساساً، ومع أن الوضع الأمني قد تحسّن نسبياً مقارنة مع العام 2005-2006، الاّ أن الانفجارات والمفخخات وكواتم الصوت والعمليات الانتحارية وأعمال الارهاب الأخرى لا تزال مستفحلة، بل إنها تطلّ برأسها عند كل أزمة سياسية. وقد ارتفع منسوب العنف والارهاب عند محاكمة نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، وزاد رصيدها عند ملاحقة وزير المالية رافع العيساوي، واليوم فإن التوتر الأمني على أشدّه بسبب تظاهرات محافظة الأنبار التي امتدت لتشمل محافظات صلاح الدين ونينوى (الموصل) وديالى وكركوك وأجزاء من بغداد وتململات في محافظات أخرى، فضلاً عن نشاط جديد لتنظيم القاعدة والجماعات الارهابية الأخرى. إن قضية الأمن هي قضية سياسية بامتياز، ودون تحقيق توافق سياسي حقيقي وحلّ المشكلات القائمة على أساس مشترك، فإنه سيبقى هشًّا والنظام العام رخواً بما فيه أرواح وممتلكات المواطنين، بل عرضة للاختراق في أية لحظة، طالما هناك غياب لعقيدة أمنية وعسكرية موحّدة، فضلاً عن أن إعادة تأسيس الجيش بالصورة التي تمت فيها كان أقرب إلى "اتحاد ميليشيات" بزعم التوازن بين المكوّنات، وخصوصاً القوى المتنفّذة التي أرادت تضخيم حجمها في الجيش والأجهزة الأمنية، التي كان ينبغي ابعادها عن السياسة والاستقطابات الطائفية والحزبية، خصوصاً وقد عانى الجيش السابق من مظاهر الأدلجة بحجة كونه "الجيش العقائدي"، وإذا به يقع اليوم إضافة إلى ذلك بالتوجّه الطائفي، المصحوب بصيغة التقاسم الوظيفي والمحاصصة الطائفية، تلك التي ستبعد الجيش عن أدائه المهني وحرفيته المطلوبة، فضلاً عن الانقطاع في الخبرة والتدرّج. لا تزال الدولة لحد الآن غير قادرة على بسط سلطانها على أجهزتها ومرافقها الحيوية، وتتنازعها عوامل صدام وألغام مختلفة، ابتداءً من دستورها حمّال الأوجه والمليء بالألغام، ومروراً بقانون انتخابي يعيد انتاج الطبقة السياسية ذاتها، ووصولاً إلى الاحتقان السياسي والاجتماعي ذي البعد المذهبي، إضافة إلى التداخلات الخارجية الاقليمية والدولية ودورها في ضعضعة الوضع السياسي. وبعد كل هذا وذاك فقد فشلت الدولة من تأمين الخدمات الضرورية: الصحية والتعليمية، إضافة إلى الكهرباء والماء الصافي وخدمات الصرف الصحي في العديد من أنحاء البلاد، بل حتى في بعض أحياء العاصمة بغداد، إضافة إلى مشاكل البطالة والفساد المالي والاداري المستشري. التحدي الثالث- التقسيم لعلّ الأخطر في مشروع التقسيم العراقي أو العربي هو ما يجري حالياً في العديد من البلدان العربية وبقدر ما يتعلق الأمر بالموضوع العراقي، فإن استمرار التظاهرات والاعتصامات دون حلول سريعة سيؤدي إلى تكريس الأمر الواقع، مع تقديري أن الزمن يسير باتجاه التباعد والاختراق، كلّما استمرّ الحال على ما هو عليه، ولم تعالج المشاكل المتفاقمة. إن جو بايدن وهو المعروف بحماسته لمشروع تقسيم العراق يجيب على سؤال التقسيم بدم بارد بعد كل الذي حصل للعراق، خصوصاً بشأن تشكّكه في مآل احتلال العراق، لاسيما من خلال إستدراكه بقراءة ارتجاعية للماضي بالقول: فيما إذا قدّر لنا العودة إلى الوراء ربما ما كنّا فعلنا ذلك! رامياً التقويم النهائي على ذمّة التاريخ "التاريخ وحده يحمل الجواب!"، فإن في ذلك إجابة بليغة بعد نحو عشر سنوات من الاحتلال، الذي قرعت له كل الطبول، وهو جواب أقرب إلى الرئيس بوش. لقد راهن جو بايدن على الحرب الأهلية التي تطل برأسها بين الحين والآخر، وغذا ما اتسعت نارها لتأكل الجميع، حينئذ سيصل هؤلاء جزعاً وبعد عناء طويل، إلى أن يسأل كل فريق نفسه: فهل سيصبح تقسيم العراق " أحسن" الحلول السيئة؟! وهل حان موعد القطاف بحيث أصبحت الدولة العراقية برسم التقسيم بعد تجاوزنا مرحلة التنظير إلى التفسير وصولاً الى مرحلة التشطير؟ وفي هذا السياق، يتم استعادة تفاصيل مشروع جو بايدن الذي روّجه بشكل أجندة في 9 آب (أغسطس)2007، فلم يعد الحديث عن البلقنة أو اللبننة أو الصوملة أو الغسلفة أو الأفغنة مجرد حديث نظري، بعد أن دخلنا في حديث العرقنة بجزئياته وتفاصيله. وكان غراهام فولر من مؤسسة راند الأمريكية والوثيق الصلة بالمخابرات المركزية الأمريكية قد سأل في العام 1992: هل سيبقى العراق موحداً للعام 2002، وهو سؤال استبطاني يحمل بعضاً من الرغبات المكبوتة أو اسقاطاتها على الواقع، لكن موعده جاء أو اقترب الآن، حيث بدأ الحديث عنه بصوت عالٍ، سواء بعد الاحتلال وعلى نحو أكثر خطورة هذه الأيام، أي بعد مرور 10 سنوات، لا سيّما موضوع التشطير بما يهدد وحدة العراق الإقليمية، والأمر لا يتعلق بالتنظير حسب بل للتنفيذ، وإن كان مثل هذه الأطروحات قد بدأ الترويج لها من قبل تروست الأدمغة ليس بشأن العراق فحسب، بل بشأن العالم العربي الذي وصفه الرئيس الأمريكي الأسبق أيزنهاور بأنه "أقيم قطعة عقار في العالم"!! وهو ما تحدث عنه برنارد لويس في مطلع التسعينيات أيضاً الذي قسّم العالم العربي إلى 41 ولاية أو دوقية أو كانتون. وكان كيسنجر قد تحدث عن دويلات ذات هوية آحادية، عرقية أم دينية أم طائفية أم مذهبية أم غير ذلك لسهولة تطويعها والاستيلاء على مصادر الثروة فيها ولمنع تهديدها لحليف الولايات المتحدة الاستراتيجي " إسرائيل". وكان الرئيس بيل كلينتون ونائبه آل غور وزير خارجيته كريستوفر قد طرحوا فكرة الشك ببقاء العراق موحداً، خصوصاً بعد معاقبة العراق كأول دولة بعد انتهاء الحرب الباردة، وكأخطر منتهكي الحظر على انتشار الأسلحة المحرمة دولياً. وقد علّقت ادارة كلينتون الوحدة الإقليمية للعراق على سياسة المجتمع الدولي، خصوصاً باستمرار الحصار الدولي ونظام العقوبات اللذين أديّا الى التآكل التدريجي للمجتمع والدولة بإضعاف مقوّمات استمرار الدولة وذبولها مع عوامل هدم داخلية (سياسات الاستبداد)، بحيث يمكن الانقضاض عليها وتقسيمها وإلغاء نموذجها المركزي سواءً عبر الفيدرالية أو الولايات أو غيرها، خصوصاً بصياغات ملتبسة وصلاحيات تثير الكثير من الاشكاليات مثلما وردت في الدستور. ترافق مشروع إنهاك الدولة العراقية تمهيداً لتقسيمها لما سمي سياسة الاحتواء المزدوج، وفيما بعد بإصدار قرارٍ من الكونغرس الأمريكي أطلق عليه اسم " قانون تحرير العراق" عام 1998، وخصص الكونغرس للجماعات العراقية المتعاونة مع واشنطن أنذاك مبلغاً قدره 97 مليون دولار، وانعقدت على أساسه اجتماعات في وندسور وواشنطن، وكان اجتماع لندن المحطة الأخيرة عشية ضرب العراق، خصوصاً بصدور قرار مجلس الأمن 1441 الذي رغم أنه لم يرخّص للولايات المتحدة القيام بالغزو، لكنه كان فاصلاً لانتهاء الترتيبات اللازمة لتنفيذ المشروع، وبعد اجتياح العراق أصدر مجلس الأمن القرار 1483 في 22 أيار/مايو 2003 الذي " شرعن" الاحتلال، وكان حل المؤسسة العسكرية الإعلان الأول للبدء بفكرة تعويم الدولة تمهيداً لعملية التشطير. ولكن هل سيقف التقسيم عند حدود العراق؟ أم أن عدواه ستنتقل إلى دول الجوار العربي والإسلامي وعند ذاك سنكون أمام المشهد الذي تصوّره وسعى إليه هنري كيسنجر : عالم عربي وإسلامي يتشظى وينشطر إلى دويلات وكانتونات وطوائفيات !! والكل أقليات!!. وإسرائيل دولة " الأقلية" اليهودية النقية الأكثر تقدماً وعلماً وتكنولوجيا وهو ما سبق لزبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي السابق أن تحدث عنه في كتابه الموسوم " بين عصرين - أمريكا والعصر التكنوتروني" الصادر في العام 1970. التحدي الرابع – الفساد الإداري والمالي إذا كان الفساد المالي والاداري موجوداً في ظل النظام السابق، لاسيما في فترة الحصار الدولي الجائر التي دامت 13 عاماً، وخلال ما سمّي باتفاق " النفط مقابل الغذاء" بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي، وترافق ذلك مع ما أطلق عليه فضيحة " كوبونات النفط"، وامتداداتها العربية، فإن هذه الظاهرة تفشّت واستشرت على نحو لم يسبق له مثيل بعد الاحتلال، واتهم الكثير بها، بمن فيهم نحو 1000 من كبار المسؤولين وبضمنهم 15 وزيراً، لدرجة أن أحد المسؤولين الأمريكان وصف الفساد "بالتمرد الثاني" بعد الارهاب، وكانت السفارة الامريكية في بغداد قد أصدرت تقريراً اعتبرت فيها " أن العراق غير مؤهل حالياً حتى لتطبيق قوانين مكافحة الفساد تطبيقاً بدائياً"، فالمحاكم ما زالت ضعيفة وعرضة للترهيب السياسي وأسهمت أموال النفط المهرب في تغذية الميليشيات، وفي وقف عملية إعادة الاعمار. وجاءت فضيحة الأسلحة الروسية في أواخر العام 2012 لتفتح الباب على مصراعيه مجدداً، بخصوص قضايا الفساد، الأمر الذي أثار ردود فعل متبادلة من داخل الأوساط الحكومية بما فيها " الأخوة الأعداء" حول الفساد المالي والإداري والمتورطين فيه. ولعل آثار الفساد تمتد إلى أبعد من الجوانب المالية والادارية، بحيث تصل إلى المساس بالقيم الانسانية والاجتماعية، فضلاً عن التجاوز على القوانين المنظمة للحياة العامة، بما يؤدي الى تعطيل دور القانون والقضاء ويسهم في تضليل الرأي العام، وعندما تختفي مؤسسة الدولة الحامية والضامنة وتضعف وتتفكك هيبتها يتم اللجوء الى المؤسسة التقليدية الدينية والطائفية والعشائرية والجهوية على حسابها، بما يسهم في تعميق الانقسام الاجتماعي ويساعد في تعزيز الكراهية والأحقاد داخل المجتمع، خصوصاً بغياب مرجعية الدولة ودورها في حسم نزاعات الأفراد والمؤسسات. سيناريوهات مثيرة!! هناك عدداً من السيناريوهات المثيرة التي قد تواجه الوضع القائم، وقد تعصف بالعملية السياسية برمتها: السيناريو الأول أن تلتجئ حكومة المالكي إلى شن حملة عسكرية ضد المناطق الخارجة على سلطاتها، وعندها يصبح الصدام حتمياً، وإذا ما استمر فيمكن من خلال التوظيف الطائفي أن يتحوّل إلى احترابات أهلية أو نزاعات مسلحة تشمل مجاميع مذهبية أو باسمها تلعب فيها الميليشيات الدور الأكبر. ولو غامرت الدولة وسلكت هذا الطريق فستحكم على نفسها بالفشل المحتّم في إدارتها، بل فشل مستقبلها السياسي بالكامل. من جهة أخرى فإن كردستان وحكومة الاقليم تعتبر شبه مستقلة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وإلى حدود كبيرة خارج نطاق الدولة العراقية، ووضعها أقرب إلى الكونفدرالية، فهل ستتصرف حكومة المالكي باتجاه كونفدرالية في المناطق الغربية والشمالية، وربما كونفدراليات، أقرب إلى الانفصال منها إلى الوحدة إذا افترضنا اختيارها الطريق الكردي. أما السيناريو الثاني فهو أن تقدّم حكومة المالكي تنازلات وتلبي ما طالب به المتظاهرون، لكن العدّ العكسي سيكون جاهزاً، لأن الوقت مثل السيف إنْ لم تقطعه قطعك، وكان على رئيس الوزراء أن يستجيب خلال الأيام الثلاثة الأولى لمطالب المتظاهرين، متجنباً أي استفزاز يتعلّق بالكرامة، وبالمقابل فإن بعض القوى المتطرفة والتي لا تريد التوصل إلى حلول حاولت الضرب على الوتر الحساس لإحداث المزيد من التباعد بين المتظاهرين ومطالبهم العادلة والمشروعة وبين الحكومة ودولة القانون تحديداً، وذلك لتصبح المعالجة السياسية غير ممكنة، خصوصاً في ظل استمرار الفتنة الطائفية التي سيكون درءها صعباً، وإذا ما بدأ الصدام فلن يستطيع أحد وقف بسهولة، ناهيكم عن تطور نتائجه الكارثية. السيناريو الثالث هو الضغط على المالكي لتقديم استقالته، لا سيما من طرف كتلة الائتلاف الوطني ومحاولة لمنع الاحتراب وتسوية الأمور بتلبية مطالب المتظاهرين، وإعادة النظر بالعملية السياسية، لا سيما بالدستور وقانون الانتخابات وإطلاق سراح المعتقلات والمعتقلين الأبرياء وحل القضايا المتعلقة الأخرى مثل قانون المساءلة والعدالة والمادة 4 ارهاب وإلغاء فقرة المخبر السرّي وغيرها من المطالب، إضافة إلى إيجاد توازن في أجهزة ومراتب الدولة، خصوصاً معالجة قضايا وعقد التهميش والإقصاء للسنّة التي يطالب بها المتظاهرون. لعلّ مثل هذا السيناريو سيحدث ارتباكاً وتغييراً جديداً في توازن القوى، وفي تقديري سيتم بعده إعادة تركيب وتحالف واصطفاف القوى والجماعات السياسية على نحو مختلف عمّا هو قائم باستثناء التحالف الكردستاني مع بقاء مشكلاته مع المعارضة، حيث سينسحب بعض أعضاء كتلة دولة القانون، وقد ينظم بعضهم إلى كتلة الصدر " الأحرار" أو إلى المجلس الإسلامي الأعلى " كتلة مواطنون" أو يكوّنون تكتلات جديدة، كما من المرجح انسحاب بعض أعضاء القائمة العراقية وتشكيلهم كيانات جديدة، وانضمام بعض قادة التظاهرات إلى كيانات قائمة أو تكوين كيانات جديدة، يمكن أن يلتحق بها الآخرون. بتقديري لم يعد بالإمكان إبقاء القديم على قدمه أو إعادة التشكيلة الأولى أو طاقمها، فتظاهرات الأنبار ستطيح بأركان كثيرة، وقد تلغي أدواراً سياسية سابقة، مثلما قد تفتح الأبواب للاعبين سياسيين جدد، فثمة اختلالات غير قليلة ستجري على توازن القوى، حيث تتصدع الكتل والجماعات وستبدّل بعضها تحالفاتها وستكون انتخابات العام 2014 مجسّاً جديداً، لكن تحدّيات الدولة تحتاج إلى وقت لمواجهتها، وهذا يتطلب استقراراً وسلاماً أهلياً وصراعاً مدنياً طويل الأمد!.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلاح أميركا ضدها!
-
تديين الدولة أم - دولنة- الدين!؟
-
هوبسباوم وتغيير العالم
-
تشيلي في الزمن العربي
-
العولمة والإعلام .. أثمة مبالغات؟
-
هل دستور مصر منزلة بين المنزلتين؟
-
الماركسية والدين: التباسات العلاقة وأسس المصالحة
-
المشهد السياسي العراقي: 4 تحدّيات في الأفق
-
عملية إيمرلي!
-
التغيير والمأزق الحضاري
-
سايكس بيكو -الثانية- أو ما بعد الكولونيالية !
-
المفاضلة بين -ضحيتين-!
-
المظاهرات حق مشروع والمطالب مشروعة وعادلة
-
- الأخوة الأعداء - في العراق!
-
ماذا يريد المتعصبون والمتطرفون من المسيحيين؟
-
كردستان: العنف بضدّه
-
فيتو النفط
-
في نقد الموقف اليساري من القضية الفلسطينية
-
أكاديميون وبرلمانيون
-
نعيم الهوّية أم جحيمها في العراق؟
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|