|
قراءة في رواية التيس الذي انتظر طويلا
عقيل الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 4032 - 2013 / 3 / 15 - 19:18
المحور:
الادب والفن
قراءة في رواية التيس الذي انتظر طويلا.
المؤلف: رياض رمزي.
الناشر: دار الحصاد. دمشق 2013
عدد الصفحات: 448
من كتب هذه الرواية هو صديق ربطتني به علاقة قديمة منذ سنوات الدراسة في كلية الاقتصاد و العلوم السياسية في جامعة بغداد في اواسط ستينيات القرن المنصرم، ثم في مرحلة الدراسات العليا في موسكو. بعد أن حصل كلانا على درجة الدكتوراه في الاقتصاد وقد عملنا سوية في جامعة وهران في الجزائر. لسنين طويلة كنا نناقش مواضيع مختلفة: نظرية فائض القيمة لماركس، طريق التطور اللارأسمالي، المشاكل التي تواجه حركات التحرر، الإسلام السياسي... كان كل واحد منا يتصدى ببراهينه الخاصة ويحدد و يرسم شكل مستقبل الوطن معتمدين على حصيلة نظرية و أماني أعطتنا تسهيلات للوصول إلى نتائج قاطعة، مستبعدين تصديق ما يخالفها. ثم توالت السنين و أخفق اليسار و تراجع الوطن فتوزعت اهتماماتنا. أصبحتُ متخصصا في تاريخ العراق الجمهوري وفي شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم، و صار هو روائيا برغم عدم وجود سوابق لديه في هذا المجال. في مكتبتي العلمية ثمانية كتب عن تاريخ الجمهورية الأولى (14تموزز1958-9شباط 1963) و في مكتبته كتاب واحد (الدكتاتور فناناً). سألته قبل سنين إن كان يكتب شيئا قال أنه يكتب رواية. قلت له ماذا؟ قال نعم رواية. لم يقلها بابتهاج لأنه كان يتحسَّب للفشل. ما أثار ذهولي أنه مجال يمت بصلة بعيدة ، إن لم يكن بعيداً جداً، إلى موضوع الاقتصاد. عندما نقلت إليه دهشتي قال بنص كلماته" لتلافي ما حدث لبلاد كنا نفكر فيها و نعتبرها أنموذجا لشكل المستقبل السعيد، فأن الطريقة الوحيدة للتفكير هي البحث عن مجال تعبيري آخر لا يوجد فيه مجال للتعامل مع فرضيات احتمال وقوعها بعيد". و بما أنه لم يكن يرغب في الخوض في أفكار و نظريات مدى خطأها كبير، فالرواية- كما يظن- مقصد جيد لمن يسعى أن يحرق كل الجسور مع حرفة التنبؤ بما يحدث. لأنه ببساطة يعتقد أن ما نتنبأ به لبلادنا سوف لن يحدث أبدا. من هنا فهو قال لي في أحد رسائله لي" لابد من تحويل التجربة البشرية إلى خيال، أي لا بد من خلق واقع وهمي عن طريق تحويل الواقع الفعلي إلى عجينة جديدة نضعها في التنور، كي تطبخ جيدا. فأشخاص الخيال أكثر نضوجا من أهل الواقع. وفقا لهده الطريقة لابد من إعادة رواية ما حدث بطريقة خيالية". بهده الطريقة فأبطال روايته الجديدة أشخاص فعليون عاشوا في هذه البلاد و لكنهم مارسوا حياة محرّفة لا تلتزم بما حدث لهم فعلا في واقع الحال. أنها حياة كي نفهمها جيدا لا بد من خلق مصير آخر لشخصياتها الفعلية التي عاشت في الزمن الماضي( حسين مردان، عبد الأمير الحصيري، قدوري العظيم، يوسف صاحب معمل الثلج، أبو عادل مدير مؤسسة مد اليد للمعدمين...). لكي نفهم ما حدث في فترة معينة في تلك الأرض فلا بد من خلق مصير آخر مختلف لتلك الشخصيات عن طريق خلق أدوار جديدة لها، مصائر جديدة، أي إعادة بناء الواقع للوصول إلى جوهر ما حدث، تمهيدا لتحديد ما كان يجب أن يكون، ذلك ما نطلق عليه قدرة الرواية على إعادة بناء واقع جديد: الواقع الذي كان يجب أن يتخذ شكلا آخر.
من خلال نقاشاتي معه و إطلاعي على مسودات بعض فصول الرواية يمكنني القول عنها كخلاصة: أنها رواية عن امرأة هاجرت إلى العاصمة من جنوب البلاد. عندما وصلت إلى العاصمة تلقفتها شخصيتان: القاضي الذي عملت في بيته كخادمة، ثم مدير مؤسسة مد اليد للمعدمين الذي شجعها على نظم الشعر و ساعدها على نشره. لكن الأقدار شاءت لها أن تقع في حب شاعر كبير عاملها بتعال يميز فئة المثقفين. انفصلت عنه. ثم شاءت لها الأقدار أن تتزوج شرطيا أخذها من العاصمة إلى مدينة صحراوية حيث كان يعيش. أهم وقائع الرواية تحدث في شهر شباط، ذات الوقع الخاص في النفسية الجمعية للفرد العراقي منذ العهد الجمهوري الثاني (9شباط1963-9نيسان 20039
لغرض الثأر مما وقع للأم من ظلم، بعثت بابنها إلى عاصمة البلاد كي ترعى انتقامها من رجال غير جديرين بها. لكن الابن، الذي ورث الشعر عن أمه، يصاب هناك بمرض فقدان القريحة فيكف عن نظم الشعر.
هناك شبه كبير بين البطل هنا و سانتياغو في رواية الشيخ و البحر لهمنغواي. فكما يبدو لي فإن محاولاته لاستعادة قريحته تذكرني بمحاولات سانتياغو لصيد سمكة المارلين. ما يشترك فيه البطل مع سانتياغو هو العناد في استرجاع شيء مفقود. وهو عناد يجر الألم على صاحبه من خلال تكرار المحاولة. فسمكة المارلين التي جذبت سانتياغو عميقا في البحر كي تجعل التراجع مستحيلا، تشبه ما فعلته القريحة مع هذا الشاب عندما سحبته بعيدا عن هناءه الروحي. إذ لم يستطع لثلاثين عاما رغم محاولاته المتكررة من استعادة قريحته. و برغم إعلانه هزيمته فهو لم يستطع إجبار قلبه على قبول الهزيمة. هكذا إذن، البطل و سانتياغو يدركان أنهما أبحرا بعيدا عن الحالة الأولى و أن العودة إلى تلك الحالة شبه مستحيلة. لكن سانتياغو يعود في النهاية إلى الشاطئ مع سمكة منزوعة اللحم كما عادت القريحة إلى البطل لكنها منزوعة الفائدة.
لماذا أطلق الكاتب على البطل اسم تَيََْس؟. هذا هو مأزق البطل في حياته. إذ انطلاقا من وهم قدرته على استرجاع قريحته استنادا إلى قوة غامضة فيه تطالبه باسترجاع ما فقد منه. أنه العناد الذي ورثه عن أمه التي من جراء خيباتها وهي تتعاطى الشعر قررت مواجهة تلك الخيبات ليس بالإقلاع عن الشعر بل المضي فيه و تحويله إلى هوس و عناد، تعلمه منها عندما حوّل جلساته في السابعة من كل مساء إلى عادة فكان يظن، شأن والدته، أنه سوف يفقد قيمته ككائن إن تخلى عن تلك العادة. أول من أطلق عليه الاسم هو بائع عرق سوس كان قد شاهده يسير مع السائرين نحو أحد المساجد. دهش البائع وهو يشاهد طريقة سيره المميزة و رأسه المرفوعة و شكل عينيه اللتين كانتا تصوبان النظر نحو موقع الطريق. عندما شاهده البائع طريقة السير المليئة بالوجاهة هتف" هذا التيس ما فيه أقوى منه". و هي نفس العبارة التي رددها الطبيب عندما ذهب البطل إليه ليعرض علَّّته عليه.
ما حدث للبطل يشبه ما حدث لبطل كافكا، الذي تم إلقاء القبض عليه دون معرفة السبب. تتوالى المحن على البطل وهو يدرك أنه لا يستحق ما يحدث له. فقد غابت قريحته بطريقة لف غيابها الغموض. عندما علمت أمه بما حدث له هرعت لإنقاذه بطريقة مبتكرة، عندما أقنعته أن غياب القريحة ليس غير حدث مليء بالمعنى. دلّته والدته، بطريقة مبتكرة، على ذلك المعنى: لأن القدر حبّذ أن يفرِّغه لمهمة أخرى، و أنه نوع من القدر يجعل من يقع عليه الاختيار أن يتخلى ليس برضا عن قدره السابق. و كي ينفذ المهمة الجديدة عليه أن يحرق كل جسوره مع ما شبَّ عليه من حب للأشعار الذي هو إدمان يعيقه عن تكريس نفسه لما عهد إليه القدر من مهمة. رواية تشي بالكثير من المفاهيم الفلسفية وذات نهج ، اعتقد على قلة معرفتي، تفتقد إليه الرواية العراقية على وجه الخصوص.. حيث ستفتح كوة جميلة في التناول الواقعي السحري .. آمل من المختصين بالنقد الادبي الوقوف على هذا المنتج كي يقيم بما يستحق. هذا الاعتقاد مستنبط ، كما أرى، من قراءته الفلسفية لحقبة صدام حسين عندما حلله نفسيا/اجتماعيا في كتابه (الدكتاتور فنانا). انها بكل بساطة رواية تستحق القراؤة والوقوف عندها بتمعن.
#عقيل_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عامر عبد الله - مثقف عضوي
-
الابداع والهم النضالي - ابراهيم الحريري نموذجا
-
إعادة ترميم صورة الزعيم تعقيب الباحث عقيل الناصري
-
القطار الأمريكي 1963 وسباق المسافات الطويلة (الأخيرة)
-
القطار الأمريكي 1963 وسباق المسافات الطويلة (7)
-
القطار الأمريكي وسباق المسافات الطويلة (6)
-
الانقلاب التاسع والثلاثون- 1963 القطار الأمريكي وسباق المساف
...
-
الانقلاب التاسع والثلاثون- 1963،القطار الأمريكي وسباق المساف
...
-
الانقلاب التاسع والثلاثون- 1963،القطار الأمريكي وسباق المساف
...
-
الانقلاب التاسع والثلاثون- 1963 القطار الأمريكي وسباق المساف
...
-
القطار الأمريكي وسباق المسافات الطويلة (1-10)
-
من تاريخية العنف المنفلت في العراق المعاصر :4-4)
-
من تاريخية العنف المنفلت في العراق المعاصر : (3-4)
-
من تاريخية العنف المنفلت في العراق المعاصر انقلاب 8 شباط 196
...
-
من تاريخية العنف المنفلت في العراق المعاصر :
-
14 تموز والتيار الديمقراطي
-
حوار عن قاسم وتموز
-
(8-8) من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر
-
(7-8)من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر
-
(6-8)من تاريخية الانقلابية العسكرية في العراق المعاصر القسم
...
المزيد.....
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|