صالح ميرولي
الحوار المتمدن-العدد: 4028 - 2013 / 3 / 11 - 13:09
المحور:
الادب والفن
كان الذهاب الى بيت خالتي الاثيرة الى قلبي في العطللة الصيفية وقضاء بعض الايام مع اولادها قمة السعادة ,حيث التخلص من عفن الازقة الضيقة التي كنا نسكن ..الى فضاءات مفتوحة, تنعم بعليل الهواء وبالشمس الساطعة حد الحرقة اللذيذه..كنت وقتها في العاشرة من عمري ,وكان مجرد التفكير في الذهاب قبل ايام ,معناه اطلاق العنان للخيال الطفولي المتطلع لاكتشاف عوالم جديدة..
خالتي طيبة وحنونة تسمح لنا بممارسة العابنا بكامل الحرية ولكن الى حين.. وهذا الحين هو الساعة الرابعة عصرا ,موعد مجئ زوجها الشرطي العامل في وزارة الداخلية.. والذي كنا نخشاه ونكرهه في آن..وحينها يبدأ صيامنا عن اللعب. وتصاب حكايانا وكركراتنا الطفولية بالخرس.
زوج خالتي هذا لايمكن تصنيفه ضمن صنف البشر,فلقد كان كائنا خرافيا,يحمل صفاتا قلما تجدها في انسان آخر..جلف صلف مكفهر الوجه عبوسه, بعينينين تسكنان تحت حاجبين كثين يتطاير منهما الشرر تنظران بشزر وتتحركان بشكل متوجس متفحص لكل نظرة اوهمسة اوآهه..فم كريه يعلوه شارب بنهايات معقوفة للاسفل..اذا ابتسم وقلما يحدث ذلك كشف عن كل خرائب الحروب الكارثية,واذا تحدث معك فأن رذاذ بصاقه يصل الى آفاق المجرات السماويه..طويل مفتول العضلات.. ولايمكن ان انسى ان له كف جلموديه.. اتذكر انها صافحت صدغي واذني مرة عن طريق الخطأ عندما كان يحاول صفع ابنه سلمان ,الذي تفاداها ببراعة الخبير المتمرس لتستقر عندي .. وتجعل اذني تطن لمدة اسبوع كامل.
كانت له طقوس غريبة وعجيبة تجد لها خالتي الطيبة تبريرات غير مقنعة..بعد ان يأكل ما طبخت خالتي يعمد الى حبسنا في غرفة صغيرة , نعم يحبسنا جميعا وخالتي ..ليدخل للغرفة الثانية لينام ساعة او اكثر ,ليستفيق بعدهاويحررنا من سجننا بشروطه التي تحصي علينا كل حركاتنا وهمساتنا وانفلاتنا الطفولي العفوي..والمخل بتلك الشروط يجني على نفسه وعلى الاخرين .. وكأن الخطأ خطأ جماعي وتضامني..وعندما اقول الجميع فأعني ان خالتي تأكل المقسوم بالتساوي معنا , ان لم يكن اكثر.. وافضل سلاح لديه لاداء مهمته السادية تلك هي الحزام العسكري .. وكنت بعد زمان اسائل نفسي متعجبا كيف ان خالتي الوديعة تلك تحملت النوم مع هذا المتوحش في سرير واحد على الاقل ثمان مرات لتنجب منه سبعة اولاد وبنت.؟
كان لزوج خالتي كروان حبيس القفص..متعلق به ومحب ..وكان يتباهى مبالغا ان كروانه يقرأ مئة لغه.. والمقصود ان كروانه هذا يشدو او يصدح بأنغام متعددة تصل الى المائة....وقد درجت العادة ان يقال لغة بدل الشدوة او الصدحة, وقد بلغ به الولع انه كان يناجيه متوهما ان بينهما لغة مشتركة للتفاهم ..حتى ليخال اليك انه فقد ماتبقى له من عقل – وهذا ان وجد شئ من عقل لديه-حيث كانت تنتابه نوبات ضحك غير طبيعية ..الى زعل ..الى صمت ..الى وجوم.. وتعود الكرٌة ثانيةالى الضحك..ومما لاانساه ابدا ,انه اذاق خالتي المسكينة ضربا مبرحا لانها نسيت يوما ان تضيف الماء او بعضا من حبوب الدخن او الفستق.. ولم تنفع توسلاتها وبكاؤنا بالعفو او الصفح..الى ان اشبع ساديته عندما رأى الدم يسيل من انف خالتي التي لاحول لها ولا قوه .
كنت امقته جدا.. لابل كنا نمقته جميعا بلا استثناء حد الموت .
في يوم حزيراني جميل افقت على شدو الكروان ..كان زوج خالتي قدغادر الى عمله كالعادة وخالتي في المطبخ مشغولة بأعداد الفطور والبقية يغطون في نوم عميق.. لاادري اي احساس شدني الى شدوه.. احسست انه كان يبكي حريته التي لها يتوق .. ويشكو هم الاسر والوحدة..نعم هو يستصرخني ان حررني .اعتقني فقد اوشكت ان اموت .. هذا سجن مقيت وهناك في الفضاء الرحب حريتي ووطني واهلي..حررني ارجوك !..وفي لحظة تعاطف غريبة وجدتني افتح باب السجن الصغير الكبير واهمس :طر...الى حيث حريتك. الى اهلك واحبابك..أهو تعاطف مع سجين الى الحرية يتوق.؟. ام هي روح الانتقام من زوج خالتي الذي امقت ؟ لكنني لم اكن في معرض التفسير والتحليل..
تردد الكروان للحظة بعد ان اتخذ موقعا ابعد ما يكون عن الباب .. وكأنه لايصدق مايحدث.. ابتعدت قليلا لأشعره بالامان..لتحدث بعدها اللحظة الحدث .. حيث انطلق بكل مااوتي من قوةوليحط على عالي شجرة ليست بالقريبة.. ويسمعني آخر شدوة عذبه .. اهي شدوة الشكر والعرفان لي لتحريري اياه ؟ لا ادري ..لكن الاكيد انهاعلى الاقل شدوة الخلاص من العبودية والاسرالى رحاب الحريةالفسيح.
عندما افقت من نشوة المحرر البطل .ارتسمت امامي صورة زوج خالتي بكل مابها من قبح.. فأصبحت ارتجف خوفا.. حتى شعرت بأن اليتاي ترتجفان بشكل لاارادي ..استجمعت مابقي لي من قوى وبدأت مسرعا جمع ملابسي ووضعها في كيس السفرللرجوع الى بيتنا حيث الدفء والامان ..ودعت خالتي التي استغربت رغبتي المفاجئة بالذهاب وحاولت اقناعي بتناول الافطار.. لكنني لم اكن اقو على الانتظار ,فقبلت يدها .. وخرجت اعدو متلفتا ورائي .. متمنيا لو ان باستطاعتي استعارة جناحي الكروان لدقائق .. وانجو بنفسي من هول جريمتي !!
بعد حوالي ستة اشهر التقيت بأبن خالتي سلمان .. الذي اخبرني بأن أمري افتضح وسجلت الجريمة بأسمي .. وان ابيه توعدني بشر الانتقام .. لكن هذا لم يمنع ابيه من اقامة احتفالية من احتفالياته للعائلة جمعاء بدواعي الاهمال واللامبالاة للكروان ذي المئة لغه.
بعد سنوات سبع او ثمان كبرت واشتد عودي .. سكنتني السياسة مزيحة ذاك الطفل التواق الى الانفلات واللعب وجعلتني احرق المراحل لاصبح رجلا يخوض معارك سياسية بكل ما بها من التزام وانضباط والتي لا تخلو من مخاطر جمه..انتميت الى تنظيم يساري محظور يدعو للعدالة والمساواة.. مناوئ للنظام الدكتاتوري الاستبدادي الذي اسرنا في قفص كبير يدعى الوطن.. فنسيت كل شئ .. الا زوج خالتي..
كان العمل الحزبي السري يتطلب تضحيات كثيرة.. وكنت قد هيأت نفسي لاسوأ الاحتمالات..كأن يقبض علي متلبسا بتوزيع منشورات تحريضية او مشاركا اساسيا في مظاهرة منددة بالسلطة الباغية.. او ان ينهار ويعترف علي احد الرفاق تحت قسوة التعذيب ..فيقبض علي واقضي تحت قسوة التعذيب.. كل ذلك لم يكن ليرهبني ابدا ..لانني كنت قدحسمت امري فنذرت نفسي قربان قضيتي العادله.
غير ان شيئا واحدا كان يقض مضاجعي ويخدش كرامتي وعنفواني ..فجل ماكنت اخشاه هو ان يتم بعد الامساك بي ..احالتي بعهدة زوج خالتي ..الذي يعمل جلادا في مديرية الامن العامة في القسم المعني بمكافحة التنظيمات اليسارية الملحدة المحظوره !!
#صالح_ميرولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟