نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1158 - 2005 / 4 / 5 - 10:04
المحور:
الادب والفن
"أنى لي فراغ لتثقيف الألم حتى يأخذ هيئة حربة أبنوس تلاحقها الطرائد!؟" هكذا يسعى الذاهب إلى ما سيقتله, بلا أمل في العودة. هذه هي الحركة الأساسية التي تحكم ديوان الشاعر الشاب منتصر عبد الموجود الأول "حروب و هزائم" الصادر عن سلسلة الكتاب الأول بالمجلس الأعلى للثقافة. ليس فقط يمشي الشاعر إلى حلمه فتسبقه الخناجر كما في سنتمتالية محمود درويش, بل إن الطريدة تطارد حربتها, تسعى إليها بكل قوتها, ليكون الألم هو ذاك الفعل المثقف الذي يدفع الشاعر لكتابة قصيدته و يسعى وراءها, عارفاً أنها حربة أبنوس جديدة ستنغرز فيه, و عارفاً أنه ما أن يكتبها فلا عودة له منها. يصف الشاعر الوجود باعتباره خروجاً لا عودة منه "مأزق الخروج على هدى شعلة من خراب سبل العودة ثم السقوط مع أول هزة من غربلة الخلائق". إلام يفضي هذا الذهاب غير المحدود و غير الناظر خلفه؟ إلى نص ضعيف الذاكرة, باعتبار العودة هي عمل الذاكرة الأساسي. تسير القصيدة في خط تصاعدي فتنتقل من مكان إلى مكان و من بطل إلى بطل في عمل يشبه عمل الحلم الذي هو كذلك ضعيف الذاكرة. يكتب منتصر عبد الموجود: "شاحذاً للغائبين صوته على حجر الصدأ يتربص الصرير عند الأبواب, لا يستوقف الكثيرين مثل كمان فشل في الترويج لأحزانه فشرع – متذمراً من السينما التي أساءت استغلاله لإنبات القشعريرة على جلودنا – في ملاحقة العشاق ككلب صيد لا يقايض بإخلاصه لسيدته الفضيحة و يخرج رغم كل نقاط الزيت و البطء الحريص على قتله تفادياً كاشفاً أسنانه التي يصح أن تصير معراجاً يصعده مع الغبار إلى ذاكرة المكان لتحرير هواء يعيد إلى الفراغ هيبة مدموغة ب, منجل, و جمجمة في رداء أسود".هكذا تنتقل بؤرة القصيدة من الصرير إلى الكمان إلى كلب صيد إلى الهواء, بدون النظر خلفها و محاولة استعادة تاريخها. لا تتم الإشارة إلى العودة إلا في البيت الأخير "بينما العائد – بسمته الموحش- موغل في اقتطاع سكينته دون جدوى". هناك إذن محاولة العودة و هناك اللاجدوى, كأن التقدم للأمام يتم قسراً, أو كأن الطريدة هنا تدفع دفعا نحو حربتها, لا تطاردها هذه المرة, حيث الحربة قدر و حيث النظر للخلف/ العودة لعنة أو وهم في أفضل الأحوال (عنوان القصيدة : وهم أن تعود). هل يتذكر أحد في رواية ليلة الغلطة للطاهر بن جلون (ذلك الروائي المغربي الذي تتكرر الإشارة إليه في الديوان) عندما اسلمت شخصية زينة الراية إلى الأصدقاء الأربعة ثم إلى سالم بالتحديد ثم إلى سلمان رشدي ثم إلى دهمان وجميلة؟ يفعل الشاعر هنا شيئاً كهذا.
هذا السرد السائر في طريقه بلا أدنى نية لربط ما سيحدث بما حدث بالفعل, أحيانا ما ينقطع لصالح استشراف ما سيحدث, وهو استشراف يسير في اتجاهين متناقضين "كالعادة/ سأقول لها/ كل غرف البيت لك/ عدا واحدة/ ? لأنها/ كالعادة أيضاً/ ستدخلها/ فسأضطر إلى قتلها". هذا الاستشراف هو حركة إلى الأمام باعتباره سرداً لما سيحدث, و في ذات الوقت حركة إلى الخلف باعتباره تأسيساً على ما قد قرأ بالفعل في قصص ألف ليلة و ليلة و قصة الرجل ذي اللحية الزرقاء, هذا التأسيس الذي تعبر عنه الكلمة الملولة (كالعادة). تصل هذه الحركة المزدوجة إلى أقصى جدليتها في جملة من قصيدة "نكوص": "كانت البناية متاهة/ سلالم تصعد إلى أسفل/ و سلالم تهبط إلى أعلى/ و سلالم تفضي إلى سلالم".. إنه التقدم إلى الخلف بكل قسوته. هذا التبادل بين حركتين متناقضتين ينتج جدل الخسارة.. خسارة تقتات على الأخرى و التي تقتات عليها "عصب في آخر رأسي/ ناحية اليمين/ كلما حاولت النسيان/ يشتعل/ و كلما اشتعلت/ ينسى، و كلانا/ خاسر".
ثم بعد ذهني تأملي هو الأبرز في الديوان غير أنه ما يكون مفاجئا كذلك هو البعد البصري, و الذي يبدو واضحاً في مقطع "عثرات العابر" من قصيدة "حروب و هزائم" الطويلة , حيث ثم "خلفية من أنا دون النفاذ" و حيث "ما ان استدار فمي – كالحنين الفتوح على الماضي- في مقام التقبيل/ حتى أدركني ثبات الفوتوغرافيا المتواطئ". يصل البعد البصري إلى سخريته الوافرة حينما يكون "الجموع – بملحمية – يهشون الذباب".. في تصويره الإيقاع الرتيب لفعل هش الذباب من قبل الجموع, و إلى كاريكاتيره في مقطعي "هكذا" و "بعد" حينما يتم النداء ب "أيها المضغوط/ حتى بطلان وجودك", حيث نجد الوجود نفسه و قد أصبح موضوع الضغط و الانسحاق, لا الجسد و لا المكان, و لا حتى الروح, إنه الوجود و الذي يعرفه هيدجر بأنه كل ما يتم التفكير فيه. هذا الدفع الكاريكاتيري بالصفات إلى أقصاها و التجاور ما بين الهزل و الرعب, إلى حد انتفاء الخيوط الفاصلة تماماً, و هذه المشهدية المسرحية كذلك, كل هذا يستثمره الشاعر جيداً في قصيدته "حفار القبور" و التي تتناص – كمشهد مسرحي- مع مشهد حفار القبور الشهير في هاملت. يوسع الشاعر هنا المشهد الشكسبيري لجعله اكثر درامية و حسية كذلك. " وبعد غفرة تفقد تهتز الشواهد لصعود الجنيات في رقصة جماعية مدغدغة الحواس ثم يتدافعن نحوي لأختار إحداهن, كلهن ساحرات, كلهن لعوبات, كلهن يحملن رائحة حياة عشت أرقبها خلف غلالة من غبار أقداري.... و في كل صباح أقول لنفسي: جنية البارحة أكثرهن سحراً, أكثرهن جمالاً (و بعد صمت للتأكد) و أكثرهن حزناً لأن الجمال الحق قرين الحزن". فبينما يتذكر حفار القبور في هاملت حبيبته السابقة و هو يغني فإن حفار القبور هنا يغني, لا متذكراً حبيبته السابقة, بل مضاجعاً بالفعل الجنية الصاعدة من شواهد القبور و مركباً إياها على وجه أكثر مشيعات الميت حزناً, لا اكثرهن جمالاً, ليس لأن الجمال الحقيقي قرين الحزن هذه المرة و لكن لأن في القصيدة طقساً ساحراً من التغذي على حزن الآخرين, من اتخاذه قوة لضخ مزيد من البهجة في جسد حفار القبور. هكذا تتحول هزلية حفار القبور القديم "الذي كان يصيغ تأملات ساخرة حول أوفيليا المنتحرة و ما إذا كانت قد ألقت بنفسها في الماء أم أن الماء قد ألقى بنفسه عليها" إلى حسية وحشية لدى حفارالقبور الذي بين أيدينا و هو يصرخ ببهجة ملكية : "شكراً لك أيتها الحياة, لأنك تنتهين بالموت/ شكراً لك أيها الموت, لأنك حريص على الوقوع تحت صولجاني/ وأنت.. أيتها الأفواه المغلقة على أسنان من الدود/ أيكم سيفتح اليوم لأطعمه وديعة طيبة يهبني حضورها الميمون أكثر وجوه نساءها حزناً/ لأركبه على جنية الليلة".
إلى أين تتجه القصيدة في هذا الديوان, هل نحو انفجارها الداخلي العاصف.. بعد أن استمرت تتصاعد و تتصاعد؟ نرى عامل البناء في القصيدة التي تحمل اسمه يعطي قوالب الطوب أرقاما تصاعدية ليضع بعددها قروشا قي الحصالة "صنعها من طمي صبارة مأخوذ من حديقة المقاول الذي يسرق عرقه, و الذي لن يكف عن التعريض به إذا اكتشف حلمه بانفجار الحصالة عن موجة فضية تحمله في رحلة حج إلى السور العظم ليبكي عجزاً و ندماً يعصفان بكيانه معزياً نفسه بنشوة ان تلمس يده الحجارة". يأتي انفجار الحصالة بالسلوى الروحية أخيراً (الشرقية, ممثلة في السور العظيم. كما سنرى, سيلجأ الشاعر في نهاية ديوانه و بعد انفجاره تماما إلى قصيدة الهايكو اليابانية!) السلوى الروحية التي تصاحب موتاً يترك أثراً لا يروح "يده التي أرهقت الجيران هذا الصباح و هم يرفعونها عن حائط غرفته مباغتين بأثر غامض سيكلف الرطوبة لسنوات و سنوات ظلالاً و خطوطاً قد تنجح و قد لا تنجح في محوه".
تتجه قصائد الديوان للتعقيد شيئاً فشيئاً, بدءاً من قصائده الأولى متناهية البساطة و حتى قصائده ما قبل الأخيرة. غير أنه و على عكس من التيمة العامة التي تحكم قصائده (السير إلى الأمام بدون نية للرجوع) فإن الديوان يفاجئنا بنهاية هادئة, بعد الانفجار, كما أسلف, هي قصيدة طويلة بعنوان "في حضرة الهايكو" تنقسم إلى أربعة عشر مقطعاً على نمط قصائد الهايكو المتناهية الصغر و البساطة (و العمق؟) معاً.. عبر تساؤلات داهشة و بدئية "مياه الجدول ليست عميقة/ لكن الناس/ يعبرون الجسر مسرعين" و تأملات أخرى حكيمة للغاية (و الحكمة شيئ يختلف, بداهة, عن التعقيد) "انظروا الطائر المرمي على الشاطئ/ يا لقوة الجسد/ وقت خروج الروح", غير أنه ما يسم هذه المقاطع جميعاً, و بالتأكيد ما يسم شعر الهايكو كذلك, هو التركيبات البسيطة للجملة, هذه البساطة التي لا تبدو متآلفة تماماً مع أجزاء الديوان السابقة, إذا استثنينا قصائده الأولى التي لا تتسم بتركيب خاص. هل يكمن في هذا طقس دائري من العودة إلى حيث ما بدأنا, طقس هو النقيض من طقس الذهاب بلا تاريخ أو ذاكرة, و لا محاولة للنظر خلفاً؟ أم هو الكتاب وقد أغلق على نفسه و غدا كما كان في البدء, شفرة لا حل لها إلا عبر الفض العنيف لبكارتها و اقتحام غلافها؟
اسم الكتاب : حروب و هزائم (ديوان)
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة (سلسلة الكتاب الأول)
الكاتب: منتصر عبد الموجود
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟