|
خرائب العقل .. 12 - تحرش بعد الغروب
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4022 - 2013 / 3 / 5 - 14:13
المحور:
الادب والفن
اتكأ على الحائط وأغمض عينيه، وبقي لحظات طويلة في هذا الوضع، وقبل أن يغلبه النعاس هب واقفا واتجه إلى النافذة المطلة على الشارع الذي يبدو صامتا ومعتما. فتح مصراعي النافذة ليدخل هواء المساء البارد، وأخرج رأسه مطلا ناحية اليمين حيث يمتد الشارع بعيدا حتى ساحة المدينة الرئيسية حيث تتناهى أصوات بعض السيارات القليلة، ثم إلى اليسار حيث المبنى الرمادي الكبير المضاء بنور مصفر وحيث لافتة كبيرة تلعب بها الريح مكتوب عليها "مركز شرطة المدينة". صورة أخرى. يتبعها قضية خاسرة صريرالصوت الصدئ يتحرر من قيود الاسفلت ويقتحم الشارع، في حركة لولبية تبتعد وتقترب حسب تموجات عربات قطارات الليل الرمادية. يمزق ستار النافذة، ويقفزفوق السرير بملابسه الكرتونية، ويشعل في قلبه نارا تبخره دخانا لسيجارة أخيرة بعد منتصف الليل أو قبله بقليل. هذه هي اللحظة المميتة، لحظة تراكم الأصوات في خيط واحد يزن كصوت ثلاجة قديمة، والشرشاف الأسود ينفخه الليل شراعا أبيض يجتاز صحراء البحر على صوت احتراق البترول في بطن الحوت. ويغرق .. يغرق الصوت للحظات في صمت محاصر بين الموجة والموجة، وينظر إلى الظلمة وراءه، ويعود إلى المدينة النائمة، حيث يعاوده الضجيج. جدار الطين يئن .. يئن تحت ثقله، ويغمض عينيه وينتابه النعاس .. يتشقق الجدار.. وتخرج الجرذان والأفاعي والعقارب والصراصير والفئران، وتنتشر زاحفة تحتل الغرفة والسرير والدولاب والكراسي، تملأ الأزقة والشوارع، وتحتل المدن، وتغزو الشواطئ والموانئ والبحيرات والأنهار،وتملأ الكهوف والمقابر والحفر والتجاويف والثقوب. الجدار الطيني يعود إلى نفسه، يتثاءب ويعاوده الملل والنعاس، ويحلم ببقعة بترول تعكس الوان العالم السفلي وتريه طريق العودة. بقعة زيت على اسفلت الشارع تعكس ضوء مصباح ليلي باهت، وصوت خطى مسرعة، امرأة تتراقص أقدامها ظلا يمتد على الجدارالمقابل. ظل الرجل يخرج من وراء العمود الكهربائي، هائل كجذع شجرة يابسة، يرفع إحدى يديه، فتطيرفي الهواء إلى الناحية الأخرى من الشارع، وتلتصق كمغناطيس بصدر المرأة المذعورة، تنزعها برعب وتقذف بها في علبة القمامة على الرصيف. يسقط الرجل على الأرض، تحيط به عشرات القطط الجائعة ، يزحف .. يزحف على بطنه كدودة والقطط تمزق جسده وتلحس الدماء السوداء .. يزحف .. ويزحف حتى يختفي في شق الجدار الطيني النائم، والذي ما يزال يحلم ببقعة زيت تعكس ألوان العالم المعتم على أسفلت الشارع المبلل، والمضاء بمصباح ليلي باهت يلقي باشعته المصفرة على جسد حيوان لا إسم له، ملقى بجانب علبة القمامة المقلوبة. ربما طفلة مرمية تنتظر على حاشية العتمة، صوتها يخترق الليل، تنهض وتجري وتسقط ثانية، تجري للقاء المرأة المسرعة نحوها لابسة سريرها، ملتحفة بالغبار الأحمر الذي يغطي الكون. تقذف برأسها إلى السماء، رمانة متيبسة حباتها مثل سبحة عجوز متكئ على جذع نخلة. وتموت الطفلة النائمة في نومها، تموت الطفلة الميتة في نومها، مغمضة العينين وتختفي في حفرة عميقة في ذاكرة الكون. المرأة المذعورة تجري وتجري حتى المبنى الرمادي الكبير في نهاية الشارع، حيث تحاصرها عشرات العيون النهمة، والأيدي الدبقة تلتصق بجسدها، والكلمات اللزجة تحاصرها من كل جانب، وتلتهم جسدها كالذئاب الجائعة وتقذف بجثتها على الرصيف هيكلا عظميا بلا عظام. في قبرها، تنسل عبر شق ضيق إلى السماء، تنفجر وتتحول إلى غبار أحمر يملأ الكون، وتنتشر ذراته في كل مكان. ويرتفع صوتها ذات يوم من حنجرة المغنية الذي فقدت لسانها وأكلت عينيها. لايجب العودة إلى الوراء، إذا نظرت إلى الوراء فإنك تتحولين إلى تمثال من الملح. تمثال من الملح أومن اللحم المهترئ .. ما الفرق .. المهم ألا تنظري خلفك، فالماضي سم يجري في عروق الحياة، وعليك إغتياله كما الثواني والدقائق الحاضرة .. الماضي فخ ينصبه الشيطان من أجل أن يستولي على أرواحنا وحياتنا الحاضرة، الماضي روح الجرائم التي ارتكبت وترتكب على ظهر الكرة الأرضية. ففي ذلك اليوم الممطر، في موسم لاإسم له في ذلك الوقت، حين التقط قابيل حجرا وهو ينظر في عيني هابيل قائلا .. سأقتلك .. سأقتلك لأنني لا أحتمل رؤيتك، وسقط هابيل على الأرض المبللة، وفي رأسه حفرة بحجم حجر تنزف دما يختلط بالارض والسماء، وتردد صوت الرعد مخاطبا القاتل: أين هابيل أخوك؟ .. فقال لا أعلم، هل أنا حارس لأخي ؟. فقال صوت الرعد: ماذا فعلت؟.. صوت دم أخيك يصرخ من أعماق الأرض. ملعون أنت من الأرض التي فتحت مسامها لتستقبل دم أخيك المتخثر، الأرض لن تعطيك بعد اليوم سوى الملح والرماد، تائها وهاربا تكون في الأرض. الأسطورة طويلة ومملة، فالأساطير أفيون الشعوب، كما تقول أسطورة أخرى، الأسطورة أعطت للرجل دور القاتل والقتيل، ونسيت الضحية الأولى للعنف البشري على مدى الأزمان والعصور، فحرمت المرأة حتى من دور الضحية في أسطورة الرجال، وأخرجت ونفيت نهائيا من قصة التكوين وتحولت إلى مجرد عظم. غير أن المبررنجده عادة في الأساطير حيث الخيط الأسود يختلط بالخيط الأبيض، وحين لا نعود قادرين على تمييزهما، يكون الوقت وقت الأحلام والكوابيس والأوهام، والنبيذ الأحمر ولفافات الحشيش، وصلوات التراويح والأدعية والإبتهالات، وابر الهيروين، والكوكايين، ومسرحيات منتصف الليل الرديئة، وأحاديث البارات الفارغة، وخطب الشيوخ الذين يحلمون بالحوريات ويسيل لعابهم وهم يرتلون الآيات التي تصف الجنة والفردوس، حيث تتأرجح خيوط الضوء الزرقاء بين الآونة والأخرى، تشكل الفضاء مساحات ظلية تتداخل وترتطم بعضها بالبعض، تتفتت قشرة الوجود، وتتدحرج الكرة الأرضية المنخورة بالدود في أقبية الذاكرة المسودة، تنتحر الأمسيات الصيفية، وتنشر الغيمة الموعودة ظل أجنحتها على الورقة البيضاء، فتتكاثر الإشارات النملية السوداء وتسحب الأفكار وراءها مثل خيوط العنكبوت، صلبة وواهية في آن واحد. ويتمدد الجدار الطيني، ويلحس جرحه، ويقبل الشفق المبلل بالمطر، وينام البشر في اسرتهم الدافئة، أو في صناديقهم مثل دراكولا، ويحلمون بالدم المتخثر، وانفجار البراكين، وتململ الجبال، وفيضانات الأنهار، وحرائق الغابات. يحلمون بكارثة كونية تغير حياتهم وهم ينامون في الصناديق أو الأسرة أو فوق الجرائد القديمة، في العمارات والشقق والبيوت الريفية، أو تحت الجسور وأعمدة الكهرباء، وفي محطات المترو والشوارع والمراحيض ومراكز البوليس، والمصحات النفسية والعقلية ومستشفيات الروح والجسد، في كل مكان، في السجون والمسارح وعلب الليل والنهار. الحلم الأزلي يبرز مخالبه المكسورة، ويمثل دور “المرعب“. والقمر الفضي يتثائب من السأم، والدخان يتصاعد من مداخن المصانع، ويفتح ثغرة في السماء تتسلل منها الشمس، ويعم ظلام كثيف في الغرفة رقم 22.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خرائب الوعي .. 11 - الشاعر والعطش
-
خرائب الوعي .. 10 - المرأة التي أكلها النمل
-
خرائب الوعي .. 9 - لا يحب الله والله لا يحبه
-
خرائب الوعي .. 8 - الطابق الثاني
-
خرائب الوعي .. 7 - قوارب الهجرة إلى الجحيم
-
خرائب الوعي .. 6 - الصندوق
-
خرائب العقل .. 5- الحاشية
-
خرائب الوعي .. 4 - مقبرة الضباع
-
خرائب الوعي .. 3 - العمياء وقصر الغول
-
خرائب العقل .. 2- وطني حقيبة وأنا مسافر
-
خرائب الوعي 1- البداية
-
ليبيا .. الثورة القادمة
-
محطة الكلمات المتصلة
-
الفضيحة
-
حوار مع الله .. الحلقة السابعة
-
لقاء مع الله .. الحلقة السادسة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الخامسة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الثالثة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الرابعة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الأولى
المزيد.....
-
قبل إيطاليا بقرون.. الفوكاتشا تقليد خبز قديم يعود لبلاد الهل
...
-
ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية
...
-
حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
-
عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار
...
-
قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح
...
-
الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه
...
-
تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
-
مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة
...
-
دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
-
وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|