|
في نقد الراديكالية السياسية العربية (6)
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 4019 - 2013 / 3 / 2 - 21:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
اجترار الزمن وتبذير التاريخ – التجربة العراقية الحديثة
جسّد العراق الحديث بصورة نموذجية سيادة الزمن الراديكالي وتحلل تاريخ الدولة، أي النموذج الصارخ لتبذير الرأسمال الاجتماعي والتاريخي للأفراد والجماعات والمجتمع والدولة. حيث أدت ظاهرة انتشار وسيادة الراديكالية السياسية في العراق الحديث إلى جعلها إحدى اخطر الظواهر الاجتماعية والثقافية بالنسبة لوجود وآفاق تطور البدائل فيه. ولعل أهم نتائجها الخطرة الحالية تقوم في صعود واستفحال الحركات الراديكالية الإسلامية المتطرفة (السلفيات المتشددة أو الأصولية). ويقف العراق الآن أمام حالة استفحال نماذج من الراديكالية لا تقل همجية من تلك التي أنتجتها. وهي حالة "طبيعية" لا يمكن توقع صيغة أخرى لها في ظروفه الحالية. بل يمكن القول، بأنها ظاهرة سوف تستقوي تدريجيا إلى أن تبلغ ذروة انحطاطها بعد خروجها العارم من سجن التوتاليتارية البعثية "العلمانية" والدكتاتورية الصدامية الطائفية. فقد اندثر حزب البعث وتحولت بقاياه المتربية بتقاليد التسلط إلى قوى همجية تحترف القتل العشوائي عوضا عن القتل المنظم!! ولم يبق من الحزب الشيوعي الأقدم والأعرق والأوسع جماهيرية والأكثر تأثيرا وتنظيما وقوة دعائية سوى أطلال خربة. وبالتالي لم يكن مصير الشيوعيين والبعثيين بوصفهم القوى السياسية التي وحّدت بواعث التمزيق الهمجي للفكرة الوطنية والاجتماعية، سوى النتيجة المترتبة على الخضوع المتعصب لأيديولوجيات مقلوبة من حيث أولوياتها، ومحكومة منذ البدء بفشل محتوم بسبب ابتعادها الفعلي عن إدراك طبيعة المشاكل التي تعاني منها الدولة والأمة. كما أنهما مثلا وتمثلا بطريقة لا تخلو من السذاجة التاريخية فورة الراديكالية العالمية المتراكمة في التقاليد الأوربية. لكن إذا كانت التقاليد الراديكالية الأوربية هي النتاج الوجداني المتناثر على طريق العقلانية العريقة والرأسمالية الأشد تنظيما، فإنها في ظروف العراق المتخلفة لم يكن بإمكانها أن تكون أكثر من نزوع إرادي عادي، عادة ما يلازم الذهنية المتطفلة على مظاهر المعرفة. من هنا تحولها إلى مرتع للجهلة وأنصاف المتعلمين، الذين تحولوا بين ليلة وضحاها إلى "طبقة عاملة" و"جماهير كادحة". ولم تعني هذه الكلمات في الدعاوي الأيديولوجية للشيوعيين والبعثيين في أفضل الأحوال أكثر من مصطلحات منتقاة من قواميس التعليم الابتدائي للطلبة بدون وعي فلسفي يناسبها. بينما كان تاريخ العراق ضعيفا بمعايير التراكم النظري والعملي للأفكار السياسية. بل يمكننا القول، بأنه كان يخلو من تقاليد الفكر النظري السياسي العلمي. من هنا لم تعن كلمات الجماهير والعمال والكادحين وأمثالها في الأيديولوجيات العملية للشيوعية والقومية (البعثية) سوى الوقود التي لا تحتاج لغير شرارة "الفكرة الثورية" لكي تحترق في أتون معارك "وطن حر وشعب سعيد" أو معارك "الوحدة والحرية والاشتراكية". لهذا لم ينتج تاريخ "الحرية السعيدة" و"الوحدة الاشتراكية" غير دخان الراديكالية الخانق. وتحته كانت الجماهير والعمال والكادحين، أي الفئات الاجتماعية العريضة ترزح تحت عبودية غاية في التعاسة وإفقار مريع وتجزئة جعلت من رجوعها إلى "مصادرها الأولى" أمرا مقبولا ومعقولا بمعايير العقل والوجدان. من هنا رجوع الأقليات القومية إلى أعراقها، والطوائف إلى طائفيتها، والقلقين والفقراء إلى "الإيمان". وهو نكوص جعلت منه الدكتاتورية الصدامية أداتها السياسية الجديدة في حملاتها الإيمانية وهمجيتها القومية وشراستها الطائفية. وفيها نعثر على حالة الانحطاط وذروتها التامة القائمة في مفارقة تعايش راديكالية وعبودية في "أحزاب جماهيرية"!! واستكمالها "المتجدد" في صعود ما يمكن دعوته بالراديكالية الدينية السياسية للغلاة الجدد! إذ ليست هذه الراديكالية سوى الاستظهار المقلوب لزمن الراديكالية القومية الدنيوية الفارغ، أي لزمن السيادة شبه المطلقة للراديكالية الدنيوية (العلمانية) البعثية. بمعنى إن الراديكالية التي استطاعت إفراغ التاريخ المعاصر للعراق من خلال تهشيم المشاريع الواقعية لبناء الدولة والمجتمع المدني والثقافة العقلانية أدت إلى إنتاج "بديلها" في الراديكالية الإسلامية. إذ تكشف التجارب التاريخية للعراق عن حقيقة تقول، بأنه كلما كانت الراديكالية المتسلطة همجية كلما أصبحت الراديكالية المناوئة لها اشد همجية منها. إن الحصيلة العامة التي يمكن التوصل إليها من خلال دراسة وتحليل مختلف جوانب الظاهرة الراديكالية بشكل عام والعراقية بشكل خاص، هو أن تاريخها يبرهن على أنها بلا تاريخ فعلي بمقاييس الدولة الحديثة والفكر النظري العلمي. وبالتالي يمكننا الحديث عن انتهاء "المرحلة الدينية" المتشددة في الوعي السياسي، بما في ذلك في الحركات الإسلامية السياسية. لكنه انتهاء يحتوي على احتمالين متكافئين من حيث النتيجة، بمعنى إنهما يصبان في نفس المجرى العام المشار إليه أعلاه، أي في مجرى انتهاء المرحلة الدينية المتشددة في الوعي السياسي. وهي حالة تتسم بقدر كبير من التوتر الداخلي. وذلك لأنها تشكل مضمون عملية تاريخية أكثر مما هي عملية فكرية. فالحديث هنا لا يجري عن انقلاب أو تحول تاريخي أو فكري في التشدد الديني، وذلك لأنه كان على الدوام جزء جوهريا من تقاليد الوعي الديني بشكل عام والمذهبي بشكل خاص، بل عن انتهاء مرحلة التشدد الديني في الوعي السياسي. فتجربة العراق الحالية، والعالم العربي ككل تبرهن على أن اجتياز "المرحلة الدينية" في الوعي الوطني والقومي، أي تذليل تقاليد الذهنية الأسطورية واللاهوتية هي مهمة "القوى الدينية". وهي مهمة تتراكم في مجرى بناء الدولة والمجتمع والثقافة الحديثة، أي أنها عملية لا ينجزها غير التيارات الدينية نفسها بعد أن تقف أمام مهمة الارتقاء إلى مصاف الفكرة الليبرالية أو الاندثار مع غبار الهيجان العنيف للأصوليات المتطرفة. أما سرعة تطورها فتتوقف على كيفية ونوعية إرساء أسس النظام الديمقراطي العقلاني الدنيوي الحديث. وليس مصادفة أن تكون التجربة العراقية الحالية الأكثر والأشد تعقيدا وعنفا. فهي التجربة الأولى التي تتكسر فيها مرحلة قرن من الزمن لكي تبدأ مرحلة التاريخ الفعلي. وهو مخاض معقد وانتقال ذاتي، أي تلقائي للحركة التاريخية الملازمة لصعود القوى السياسية الجديدة. لكن مفارقة هذه الظاهرة تقوم في طرحها بعد قرن من الزمن الضائع، مهمة البحث عن بدائل واقعية لما خلفته الراديكالية السياسية من تبذير وتحطيم وتهشيم للتراكم التاريخي للأمة، وتدمير للعقل والعقلانية والضمير الاجتماعي الحر. وهي بدائل لا يمكنها الاستقرار والنمو إلا في حال استنادها إلى فكرة اجتماعية وطنية ذات أبعاد قومية عربية. بمعنى قلب المعادلة التاريخية المشوهة للنظريات والأفكار من خلال صنع معادلة تاريخية عقلانية تبدأ بالفكرة الاجتماعية وتتكامل بالفكرة الوطنية لتنتهي بالفكرة القومية، بوصفها حلقات واقعية وضرورية ومستقبلية. فهو الأسلوب الوحيد الذي يعيد للرأسمال الاجتماعي حيويته ضمن صيرورة وتراكم الرأسمال التاريخي للأمة. وما لم يجر انجاز هذه المهمة التاريخية الكبرى، فإن الغلو يصبح النسق الأكبر للوعي الاجتماعي والممد الأكبر لمجاري الانحطاط المعنوي، أي للتبذير الدائم لقواه الاجتماعية. ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في نقد الراديكالية السياسية العربية (5)
-
في نقد الراديكالية السياسية العربية (4)
-
في نقد الراديكالية السياسية العربية (3)
-
في نقد الراديكالية السياسية العربية (2)
-
في نقد الراديكالية السياسية العربية (1)
-
التصنيف العقلي والثقافي للفلسفة والأديان عند الشهرستاني
-
الفلسفة والكلام الإسلامي في منهج الشهرستاني
-
الفلسفة وموقعها في المنهج التصنيفي والبحثي للشهرستاني
-
المنهج النقدي والتدقيق العلمي للفكرة الفلسفية عند الشهرستاني
-
-الحقيقة العقائدية- وقلق البحث عن اليقين في الموسوعات الإسلا
...
-
-الحقيقة العقائدية- وقلق البحث عن اليقين في الموسوعات الإسلا
...
-
الشهرستاني ومنهج تأسيس أهمية العلم الفلسفي (2-2)
-
الشهرستاني ومنهج تأسيس أهمية العلم الفلسفي (1-2)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي- (20) (المقال الأخير)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي- (19)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (18)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (17)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي(16)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (15)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي(14)
المزيد.....
-
رصد طائرات مسيرة مجهولة تحلق فوق 3 قواعد جوية أمريكية في بري
...
-
جوزيب بوريل يحذر بأن لبنان -بات على شفير الانهيار-
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
لحظة هروب الجنود والمسافرين من محطة قطارات في تل أبيب إثر هج
...
-
لحظة إصابة مبنى في بيتاح تكفا شرق تل أبيب بصاروخ قادم من لبن
...
-
قلق غربي بعد قرار إيران تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة
-
كيف تؤثر القهوة على أمعائك؟
-
أحلام الطفل عزام.. عندما تسرق الحرب الطفولة بين صواريخ اليمن
...
-
شاهد.. أطول وأقصر امرأتين في العالم تجتمعان في لندن بضيافة -
...
-
-عملية شنيعة-.. نتانياهو يعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي في
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|