|
في نقد الراديكالية السياسية العربية (4)
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 4015 - 2013 / 2 / 26 - 22:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الزمن الراديكالي وتهشيم بنية الوعي التاريخي للدولة والأمة
عندما ننظر إلى ظاهرة الانحطاط المتنامية في العالم العربي المعاصر، فإننا نرى تراكم ثلاث طبقات تاريخية أدت، على خلفية الأزمة الشاملة للدولة العربية الحديثة، إلى تبذير كل تراكمه الذاتي كما هو جلي في صعود اشد النماذج والأشكال غلو وتطرفا، بوصفه الرد المشوه على فشل المشروع التنموي والتحديثي للدولة والنخب السياسية العربية. فقد كانت الصيرورة العربية الجديدة بمختلف قواها الاجتماعية والسياسية والفكرية مرتبطة ومحكومة في الوقت نفسه بثلاث ظواهر كبرى في التاريخ الحديث. وهي ظاهرة الغزو الاستعماري، والحرب الباردة، وصعود الفكرة الليبرالية. وجميعها ظواهر "غربية" (أوروأمريكية) المنشأ، عالمية التأثير والأبعاد. من هنا إشراكها الجميع، بما فيه العالم العربي، في عملية جديدة أخرجته من تقوقعه الذاتي وانغلاقه العميق في السلطنة العثمانية المتهرئة. ومن ثم إدراجه في فلك الحركة التاريخية الجديدة التي استطاعت أن تستثير فيه تيارات متقطعة من النهضة الأدبية والإصلاح الديني - السياسي والانبعاث القومي. وهي عملية تاريخية معقدة لم تتكامل في الوجود والوعي العربي المعاصر. من هنا استمرار الخلل البنيوي في الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة. إذ يكشف هذا الخلل أولا وقبل كل شيء عن عدم تكامل بنية الوعي الذاتي العربي، الذي برز بوضوح في ثلاثة أشكال مختلفة يكمل أحدها الأخر في مجرى تاريخه الحديث. الأول وهو صعوبة بناء الدولة العصرية والتحديث، والثاني سهولة انجراره وراء صراع المصالح والعقائد الذي ميز اغلب تاريخ الحرب الباردة (اغلب القرن العشرين)، والثالث يقوم في انقباضه الذاتي واستعصاء قدرته على التحول صوب الديمقراطية والإصلاح البنيوي الشامل بعد انهيار المواجهة التاريخية للمعسكرين (الاشتراكي والرأسمالي). فقد بقى العالم العربي من بين المناطق القليلة في العالم التي تتلذذ بنفسية وروحية المعسكر. وتشير هذه الحالة إلى بقاء وتعايش المراحل التاريخية الثلاث في وجوده ووعيه المعاصر كما لو أنها مكونات لا يمكن المزج بينهما. ويشير هذا الواقع بدوره إلى بقاء المشاكل والإشكاليات الكبرى في تاريخه الحديث دون حلول، أي انه لم يتطور من الناحية النوعية. من هنا بقاء اغلب مكونات تاريخه التقليدي في الوعي والممارسة، بما في ذلك السياسية. وأصبح هذا الواقع، من الناحية المادية والمعنوية، مرتعا للثقافة التوتاليتارية. وليست هذه النتيجة معزولة عن هيمنة التقاليد السياسية الراديكالية بمختلف أشكالها ومستوياتها ومظاهرها في كل مجرى القرن العشرين في العالم العربي. إذ ليس تاريخه السياسي في مجرى القرن العشرين ولحد الآن سوى هيمنة الزمن الراديكالي الدنيوي منه والديني. فعندما نتأمل التجارب التاريخية العاصفة لصعود الراديكالية السياسية العربية الحديثة، فإننا نقف أمام استفحال دورها وتكاملها التدريجي في "منظومة" الاستبداد والانغلاق الثقافي. وترافقت هذه الظاهرة بطبيعة التغير الهائل الذي جرى على تاريخ الجغرافيا السياسية للعالم العربي وتجزئة وتفتيت تراكمه الطبيعي للرقي المدني والدولتي والاجتماعي. ومن ثم لم يكن صعود الفكرة الوطنية والقومية في ظل انتفاء شروطها الضرورية منذ عشرينيات القرن العشرين، سوى المقدمة المشوهة لتصنيع آلية الراديكالية السياسية، أي آلية الإنتاج الدائم للحثالة والهامشية والأوهام والأيديولوجيات التوتاليتارية والعقائد الأصولية. مع ما كان يرافقها من تفعيل لا عقلاني للجماهير، أي "للقوى السياسية" المتحزبة والهائجة. فقد احتوت هذه العملية في أعماقها على احتمال صعود الزعماء والأبطال والقواد الجماهيريين والجمهور، بوصفه الوجه الآخر لسيادة نفسية الغوغاء والرعاع. لكنها كانت تحتوي بالنسبة للعالم العربي على مخاطر الإعاقة التاريخية للتاريخ، أو التشويه المفتعل للمسار الطبيعي الملازم للدولة والمجتمع والثقافة والأمة. وحالما أصبحت هذه الظاهرة آلية قائمة بذاتها منذ خمسينيات القرن العشرين، فإنها تحولت إلى "مرجعية متسامية" بالنسبة للوعي السياسي الراديكالي، أو أنها جعلت من الراديكالية فكرة متسامية عبر مطابقتها مع أيديولوجيا الثورة والانقلاب بوصفها العقيدة المقدسة لحرق مراحل التاريخ. وليس مصادفة أن تصبح فكرة حرق مراحل التاريخ الصراط المستقيم لبلوغ الجنة القومية والتقدم، أو المطّهر الذي ينبغي أن تحترق في مجرى عبوره كل الأوساخ العالقة على الجسد والضمير والعقل العربي. من هنا تحول انقلاب يونيو عام 1952 العسكري في مصر إلى "نموذج" الثورة، و"الضباط الأحرار" إلى نموذج "القوة السياسية" الجديدة. وسوف تكرر سوريا هذه المزاوجة بين الثورة والحرية في الأفعال والرجال عام 1954، ثم يعيد العراق تفعيلها عام 1958. بمعنى تكامل الفكرة الراديكالية وقواها السياسية الجديدة في المثلث الفعال (مصر وسوريا والعراق) للفكرة السياسية العربية في القرن العشرين. إن تحول الظاهرة الراديكالية إلى آلية تصنيع وتفعيل القوى السياسية "الجديدة"، وتحولها إلى نموذج في القيادة، كان يحتوي في أعماقه على سحق وحدة المنطق والتاريخ في الفكرة السياسية بوصفها اجتهادا عقلانيا في إدارة شئون الدولة والمجتمع. وليس مصادفة أن تضمحل تدريجيا وتتلاشى فكرة المجتمع المدني والحرية والإدارة، وعوضا عنها تبرز الملامح الناتئة "للزعيم السياسي" و"القائد الجماهيري" و"الأب الروحي". وهي صيغة كانت تتآكل فيها كل الاحتمالات العقلانية للبدائل. ومن ثم كانت تحتوي في أعماقها على تذليلها التدريجي بوصفها اجترارا للزمن أكثر مما هي تجارب التاريخ. مع ما ترتب عليه من تصنيع "منظومي" دائم للانحطاط. ومن بين اشد ملامح هذه الظاهرة هو استفحال نفسية وذهنية الراديكالية السياسية والتوتاليتارية الدنيوية والدينية في الوعي الثقافي بشكل عام والممارسة السياسية بشكل خاص. ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في نقد الراديكالية السياسية العربية (3)
-
في نقد الراديكالية السياسية العربية (2)
-
في نقد الراديكالية السياسية العربية (1)
-
التصنيف العقلي والثقافي للفلسفة والأديان عند الشهرستاني
-
الفلسفة والكلام الإسلامي في منهج الشهرستاني
-
الفلسفة وموقعها في المنهج التصنيفي والبحثي للشهرستاني
-
المنهج النقدي والتدقيق العلمي للفكرة الفلسفية عند الشهرستاني
-
-الحقيقة العقائدية- وقلق البحث عن اليقين في الموسوعات الإسلا
...
-
-الحقيقة العقائدية- وقلق البحث عن اليقين في الموسوعات الإسلا
...
-
الشهرستاني ومنهج تأسيس أهمية العلم الفلسفي (2-2)
-
الشهرستاني ومنهج تأسيس أهمية العلم الفلسفي (1-2)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي- (20) (المقال الأخير)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي- (19)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (18)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (17)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي(16)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (15)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي(14)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (13)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (12)
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|