|
الصاعد إلى السماء
فؤاد قنديل
الحوار المتمدن-العدد: 4008 - 2013 / 2 / 19 - 13:21
المحور:
الادب والفن
لمّا اخترقت قلبك الرصاصة الحية التي أطلقها عليك قنّاصٌ منزوع الضمير يقبع فوق سطح احدي العمارات وله قلبُ ميت ، تهاويت على صدري وسقطنا معا ، وفي غمار ذعري لمحت ابتسامة تكسو وجهك .. تخلقت بهدوء كإشراقة فجر ليلة مقدسة ، وشرعت أشعتها تتشكل تدريجيا من جهامة الوجه الوردي المتحفز، والعيون التي تنادى للصباح الجديد المتعثر في تلافيف السحب . . كان وجهك مثل وجه مصر التي حاولت استعادة بهاءها من نفق طويل مترب وبارد وكئيب يفوح بالتعاسة المكدسة. أنت لابد تذكر عندما كنا معا في يوم " جمعة الغضب " بالميدان الكبير المحتشد بالثورة والهتاف .. تتناثر فوق رءوسنا بذور الأحلام الخضراء كحمامات بيضاء صغيرة تتعلم الطيران ، بينما كانت أفراخ الأمل تنقر على جدران البيض من الداخل باحثة عن نور الحياة .. كنا هناك عند الناصية القريبة من الجامعة الأمريكية . نهتف ونغنى ونتعانق ، دون أن نتوقف عن صد عدوان المدججين بالخوذات والقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه والسيارات المدرعة والمدافع الرشاشة والملابس السوداء والأوامر التي تمتح من سلطة عمياء أسكرتها على مدى عقود طويلة خمر القمع والتعذيب.. الغريب أننا المعرّضون للسحق بكل هذه الآلات القاتلة لم نكن نحمل أي حقد أو كراهية ضد من يصبون عدوانهم بكل قسوة علينا كأننا نؤمن في أعماقنا أنه دورهم وأن الذنب ليس ذنبهم ، لكن الشعب جميعه ربما دون اتفاق كان قد قرر ألاّ يستسلم أبدا حتى لو مزقوهم إربا. ألححت عليّ في أن أقبل لقيمات تُسكت جوعي المتسكع بأمعائي . لم أكن أنا وأنت قد أكلنا منذ يومين إلا تمرتين .. لقد لقيتك في الميدان ولم أعرفك من قبل ، لكنى ظللت ملتصقا بك.. أتعلم وأحمى سني الكبيرة وجسدي الهش .. لا أكف عن متابعتك وأنت تركض وتعين هذا وتسند ذاك .. شعرت أنك تختزل الثورة لي .. أنت الشعب المارد الذي أفاق أخيرا بعد طول سبات وعزم على محو الماضي بكل ما فيه من عفن .. رأيتك وأنت تحمل حاجزا حديديا يعجز عن حمله ثلاثة رجال ووضعته أمام تجمع لبعض النسوة والأطفال وقد لمحت حياءهن وانزوائهن .ثم قفزت في خفة غزال لتعلق الميكروفون فوق عمود النور . قدّمت إلىّ الرغيف الذي تناقلته عشرات الأيدي دون أن تنقص منه لقمة . قبلت دعوتك وأخذت ربعه وقضمت منه لقيمات ، بدا لي كأنه قربان وزّعَته علينا الملائكة عند بوابات الجنة ، أما أنت فقد أسرعت تدس خبزك في أيدي العابرين .. كان جوعك في الحقيقة للحرية والكرامة ..أيها المعانق للموت كصديق غاب عنك طويلا ، وعندما رأيته فرحت وأخذته في أحضانك وابتسمت . هل تراك ابتسمت لمّا أدركت أن الأماني التي راودناها بشغف تطرق الآن أبوابنا الصدئة المحملة بطبقات متراكبة من خيوط العناكب ، وأن الحلم الذي ظل بعيدا متشبثا بالسماء يهبط الآن أمام الأعين المتلهفة ، ويدنو من الأرض المتشوفة ؟!! كم أنت جسور لأنك انتزعت بروحك الشفيفة بللورة الحرية التي طالما اغتصبها الحكام بلا رحمة ودون أن تمر أحوال المحرومين والمهمشين ولو لحظات على شاشة خواطرهم المنهمكة في إشباع نهمهم الملتاث بجبال المال وبحار المتع ، و يتمرغون على الرياش داخل القصور تحرسهم كلاب مردة وقلاع قابضة على مصائر وأعناق البسطاء حريصة على ألا تترك لهم إلا الفتات من ووعود وهواء .!!! يا لك من رائع لأنك رأيت أن الموت منبع لا ينضب للبهجة بديلا عن حياة في كنف من خذلونا واستباحوا حرماتنا وأرضنا وكرامتنا دون أن يهتز لهم جفن !! .. يا لك من رائع لأنك وهبت بمنتهى الإقدام والفروسية حياتك لتكون قُبلة الحياة لمن يأتون بعدك وحتى يكونوا أبدا مرفوعي الرءوس ، وليسيروا على سجادة ممتدة إلى ما لا نهاية من العدل والحب والسلام !. . أنت - بإرادة الله - سمحت لهم أن يولدوا أحرارا وأعزة ، فنم قرير العين أيها الصديق واعلم أن لا شيء بعدك سيكون كما تركته .. ستتغير الأفعال والأماني والرؤى والآفاق . أغلب الظن أن كل المواطنين اليوم صاروا مختلفين ..لن يكون شاغلهم الأول الثرثرة في المقاهي و أسعار الخبز واللحم والغاز والمخدرات والرواتب والنزوات الصغيرة .. لن يعبئوا بالمباريات الهزيلة والمسلسلات السقيمة وبرامج الغثاء ، فلقد غيرت وكل الشباب بانفجاركم النبيل شرائح " الهارد وير " في أجهزتهم كي لا تنشغل إلا بالحق والخير والجمال والعمل والبناء والتسامح والتنافس والتكافل والوحدة والمؤازرة لكل من يبنى ويحمى الوطن . هاهو نشيدك الشجي يا من نفذت إلى قلوبنا بعملك العبقري ، يأتينا وأنت على شاطئ بحر الخلود .. ينادى الوطن.. بلادي بلادي .. لك حبي وفؤادي .
#فؤاد_قنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من الثورة إلى السيرك
-
نعم .. نكره العلم
-
الجماعة تكره الثقافة
-
أسباب العنف في مصر
-
لماذا أنا مسلم عَلماني؟
-
هل جاء كما تمنينا ؟
-
في عين العدو
المزيد.....
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|