|
خرائب الوعي .. 3 - العمياء وقصر الغول
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4007 - 2013 / 2 / 18 - 18:10
المحور:
الادب والفن
الرجل المتكئ على جذع الشجرة وسط قطعة أرض محروقة مثبتة باربعة مساميرعلى جدار ابيض، ينهض من مكانه بتثاقل، يلتقط فأسه ويبدأ يحفر. صورة أخرى، يتبعها الإنتظار. وبدأ المطر في الهطول وأخذت اجري، أجري، وهي تجري بجانبي أو أمامي، حامية رأسها بيديها إتقاء للمطر الصباحي الخفيف، ألهث وأتذكرلهاثه، تنفسه العميق لحظة رأيته لآخرمرة قبل أن أندس تحت الغطاء، بوجهه الشاحب ويديه النحيلتين. كان مغمض العينين، وغابت عني عينيه حينما كنت أجري وأنظرإلى رجليه النحيلتين العاريتين تتأرجحان على ظهر أمه المسرعة نحو المستشفى. ربما أردت أن أرى عينيه لاتأكد من أنه لن يموت ويختفي وجهه إلى درجة النسيان. ولكنني في ذلك الوقت لم أتعرف بعد على الغياب والفناء، والضياع في الفراغ الزمني. في الصباح استيقظت على أصوات تبكي بكاء مكتوما، شعرت بوخزة دقيقة في صدري، نهضت مسرعا وأزحت الغطاء عن وجهه، كان كما تركته البارحة، مستلقيا في سكون في ركن الغرفة، غيرأن يده النحيلة الموضوعة فوق صدره لم تعد تعلو وتهبط .. وسألت إن كان سيفتح عينيه مرة أخرى، ومتى ولماذا؟ وجريت، جريت طويلا حتى كاد قلبي ينفجر. أريد أن أتخلص من هذه الغصة في حلقي، أن ينشق صدري وأتنفس بعمق هواء الصباح المبلل. غيرأن الصباح لم يأت، ولم أستطع أن أفهم العلاقة بين الموت، وبين اختفاء عيون الأطفال. ذلك أن جارتنا "العمياء" كانت مليئة بالحياة مثلنا، تحكي لنا الحكايات كل ليلة، وتنقلنا قبل النوم إلى عالم غريب مليء بالخضرة والحياة، بالأنهار والعيون ذات المياه الصافية كالمرايا، عالم ملئ بالكهوف والغابات والغيلان والقصور المسحورة، عالم من الحيوانات والطيور والمخلوقات المجنحة والتي تتكلم وتغني وتفكروتحب وتكره، العمياء لم تكن ميتة، كانت مثلنا تأكل ما نأكله وتشرب نفس الماء الذي نشربه. وإن كانت والدتها تحاول أن تطعمها في بعض الأحيان لحم الأفاعي كي تستعيد بصرها، ولكنها لم تكن اللحم تحب ترفض أن تتحدث عن ذلك، وتفضل أن تحكي لنا القصص حين تنام معنا في ليالي الصيف تحت ضوء القمرالفضي البارد، كانت ترافق حكاياتها باشارات غريبة من يديها وأصابعها التي كنا نرقبها في الظلام من تحت اغطيتنا. سألتها ذات يوم إن كانت نائمة دائما، فهزت رأسها بالنفي، وأضافت بانها ترى ما لانراه نحن، وسألتها إن كانت تستطيع أن ترى في الظلام، ولكنها لاتعرف ماهو الظلام، وأن الوقت بالنسبة إليها لا يتغير، الذي يتغيرهو إحساسها بحرارة الشمس، أو برودة القمر. بحثت في كل أنحاء الذاكرة عن إسمها، أفرغت كل الدواليب والصناديق، قلبت كل الأوراق، بحثت في جيوبي وتحت الأحجار على حاشية الطريق، سألت العرافة والدرويش ومخبرالمباحث العامة والخاصة ودليل الهاتف.. سألت السماء والأرض عن إسمها. عمياء بلا إسم ولا عنوان، بلا وجه ولا جسد، عمياء تبحث عن عينيها، فتحكي لنا الأسرار القديمة، ونسافرمعها على ظهرالحيوان المجنح ليحط بنا وسط غابة مظلمة، نبحث عن زهرة الحياة، أمام بيت كبيرتفوح منه راحة الأكل والنبيذ، ونسمع صرخات الغول في الداخل وهو يضرب زوجته وأطفاله، ويتعارك مع ظله الضخم على الحائط المقابل، فتهتز الجدران والأشجار، وتهرب الطيور الليلية مفزوعة، ونرتعش تحت الغطاء، ونلتصق ببعضنا، وننتظرصوت العمياء يقودنا وسط صحراء العتمة إلى مساحات ضوئية شاسعة شفافة تعوم بين أصابعنا، وتقودنا إلى ذلك المسرب المضيء المفضي إلى الصباح، حيث نستيقظ فجأة عند ملامسة وجوهنا للماء البارد، ونحس بشعاع الشمس الدافئ يرسل في أجساجنا لذة أليفة، ويقذف بنا إلى الشارع، إلى عالم مضاء مبهر، وننسى العتمة والبرد والجوع، وحكايات العمياء، وكلب الغولة المفتوح البطن، والمخيط بسعف النخيل، والذي يظل يجري ويجري حتى لحظة إغماض العينين. لولا العمياء لما تحملنا موت الاطفال. كنت قد تعودت على حضوره، فبدا لي البيت والشارع خاليين، وأصبح السكون ثقيلا، والصمت يبعث رعدة في الجسد، والامسيات أكثركآبة مع غروب الشمس. تحاشيت البقاء في البيت وحيدا، كنت أتخيل عينيه المغمضتين، ألتصقت أكثر فأكثر بالآخرين وبنفسي. كنت في مواجهة شيء يخيفني ولا أستطيع أن أفهمه، لاأستطيع الكلام عنه إلى أي أحد. نوع من الخوف الكوني- الحيواني. أحيانا أثناء نومي أسمع تنفسه العميق بجانبي، وأعرف أنه لم يمت، وانه أصبح مثل قصر الغولة وكلبها وحصان السلطان، وابنته الجميلة ذات الشعر الذهبي الطويل. مخلوقات ليلية لا أستطيع الاحساس بها إلا مصحوبة بصوت العمياء الخافت، باشارات يديها وأصابعها الدقيقة. صوت خافت مثل فكرة، خافت خافت مثل قطرات المطرالصباحي الخفيف، يتساقط حلقات فضية على التراب الأبيض الساخن. وبعد سنوات أختفى صوتها وراء أصوات أخرى أقل خفوتا، وحل الحديد والإسمنت والقطران، محل الطين والجبس والتراب. حيث بدأت تتراقص حلقات الحديد في حركة لولبية نحو الأرض فتحفرحفرة، تحفر قبرا، تقطع شجرة، تفجرجبلا، تشيد سدا وجدارا يخترق السماء. تختنق الشجرات الشوكية، وتهرب الحيوانات وتموت مختنقة بكثافة الدخان، يشكل سحبا ملونة تتشابك وتتداخل، رائحة الكبريت تملأ الأرض، وضجيج الآلات والبشر والحيوانات يتردد عبر أجهزة الراديو والتلفزيون، في الشوارع والأسواق الشعبية ومحطات المترو والقطارات، في المقاهي والبيوت والحانات وعلب الليل وعلب النهار. والحلقات الحديدية تتراقص وتتشكل مربعا أسودا صدئا يرتكزعلى حائط المدخنة الداخلي، جسده يتحول حديدا باردا يتربع ويستدفئ بنار الحطب ويحلم بليالي الحصاد، حيث تطحنه الشمس وتشويه وتضربه بسياط فولاذية ساخنة طوال اليوم. تحرق الشمس عينيه، وتحيله وتحيل جسده إلى عود متيبس يحلم بطعم الماء وبرودته، بطعم الخبز مع طاسة الشاي الساخنة، يحلم بأن وقت الحصاد لم يحن بعد، يتربع في ركن ما ويحلم بسيجارة وطاسة قهوة وجريدة قديمة. وفي فجراليوم التالي والذي بعده، وفي كل فجر احفرلأصل إلى الطفل المدفون في أعماق ذرات التراب المبلل، ويزداد الخوف وهو يغوص في حفرته أكثر فأكثر، يزداد الخوف من الظلمة والرطوبة ولهاث الله يطارده. يلبس قفازا وخودة السلامة ويرتقي السلم، يجتازالسورالطيني القديم، يريد العودة، يحاول الهرب حين استيقظت الأفاعي فجأة في أعماقه، غير أن صوت الكلب يقترب مرعبا، لهاثه يملأ أذنيه وأنفه، في رأسه طنين طويل لا يحتمل. يلقي نظرة أخيرة وراءه ويقفز في الهواء.. رأسه بين يديه، ويقفز في الهواء، ويصرخ مثل جريح. يتيه طويلا في الشوارع المعتمة بلا هدف، حتى يجد نفسه أخيرا واقفا مثل عمود كهربائي أمام باب خشبي قديم في نهاية الشارع .. يدخل .. يقفل الباب وراءه، يتقشر ويدخل السرير، الجدران تحيط به، جدران تحدق فيه، قريبة من بعضها البعض، تكاد تتلامس لو تمد ايديها، في الركن سريرقديم وبجانبه عجلة دراجة ومنفضة وكتاب. يطفئ النورويجذب الغطاء على وجهه ويواصل السيروحيدا في صحراء بلا خارطة، تقوده سحابة. يصل إلى صخرة ضخمة مثل جبل محاطة بالرمال، يتحسسها بيديه ويحتضنها، يلتصق بها ويدخل في جوفها، يتعرف على تفاصيلها الداخلية، ينقش على جدران ذراته قصة الكون كما رآها في حلمه البعيد. تتداخل ذراتها في ذراته، يتحدان، وتختفي الصخرة في أعماقه. ويحس بأنه يختنق ويجد صعوبة في التنفس . ويصرخ بصوت مبحوح لايسمع. يغمض عينيه من الألم، يعصرهما، تنفجران دما يسيل على خديه مثل الدموع. ينحني على الأرض يلتقط فأسه ويحفر. يحفرطوال اليوم، وطوال الليل، واليوم التالي، والذي بعده. يحفر ويحفر ويحفر نفقا نحو الجحيم. يحفر ويحفر، ويتخيل جسده النحيل فوق كومة من الجمرالملتهب. يشعر بجلده يحترق، ويشم رائحة الشواء، وتقرصه بطنه فجأة. الجوع .. الجوع، وترن في أذنيه سلاسل العمال والعبيد وتدمى جسده المعذب. احفروأحفر، لم أعد أرى السماء ولا الأرض. ظلام مطلق في أعماق هذه الكرة الصخرية المتعفنة. احفروأحفروأتقدم مثل جربوع. سألتقي حتما بجربوع يحفرمثلي في الاتجاه المعاكس. أو ربما سأثقب الأرض، فتنكمش في النهاية مثل نفاخة. واستمرفي الحفر حتى الفجر،حيث تستيقظ العمياء وتفتح عينيها فترى الطفل الوحيد الذي رأت ميلاده وحياته وموته يفتح عينيه فجأة في أعماق الظلمة، يفتح عينيه لترى ما لم تره أبدا من قبل، صورة الميلاد والموت في لحظة واحدة أبدية. هذه اللحظة، لحظة فتح عينيه، لترى حفرتين عميقتين تعجان بالدود، ويتملكها رعب كوني غريب، كالذي اجتاحها عندما أحست بملمس وطعم لحم الأفعى في فمها. ويرفعه شخص ما لا يتذكره عن الأرض بين ذراعيه ويحملنه إلى الشارع باكيا، وشعر بخوف شديد لصراخ أمه وآلامها وهي تغمض عينيها وتعض شفتيها وتشد بيديها الاثنتين على حاشية البطانية التي تجلس فوقها، محاطة بعدة نساء يتحدثن بصوت مرتفع ومختلط برائحة البخور ورائحة الدم والتعويذات الغريبة. رائحة الدم التي ما تزال مخبأة في ركن قصي من ذاكرته. أدار رأسه وأخذ يبكي وينادي أمه. كان يخاف أن تختفي، تتبخروسط الدخان الذي يملأ الغرفة. حينما خرج الشارع، مسح دموعه، حين رأى الشارع الطويل يمتد أمامه فسيحا مثل بحر وراى عشرات الاطفال يلعبون ويصرخون ويتقاذفون ويجري بعضهم خلف بعض. وحينما لامست أقدامه أرضية الشارع الرملية انطلق مندفعا وسط الامواج الباردة، وتنفس عميقا، ورأى لآخرمرة – قبل ان يغطس رأسه في المياه الباردة، صورة امه وهي تتألم، وتذكر ذلك الخوف الذي اجتاحه لحظة سمع بكاء مكتوما في الصباح، لحظة رفع الغطاء من على وجه الطفل المستلقي على الحصيرة في ركن الغرفة. وفكر بأنه في لحظات الصفاء، لحظات الطفو فوق سطح العالم والاشياء، نعتقد بأن الخوف شئ لا يمكن أن يخيفنا لأنه يمكن التغلب عليه عقليا، باعتباره حالة إنفعالية تحدث داخل الدماغ، وانه ليس هناك شيء خارجه، ونعتقد بأن الخوف مثل الزكام، حالة مرضية خفيفة يمكن القضاء عليها بحبة من الاسبرين، أو بكأس من الويسكي، أو بطاسة من القهوة. ولكن درجة الخوف تزداد باضطراد كلما اكتشفنا المزيد من الدهاليز والمغارات والطرق والمسارب في الداخل والخارج، درجة الخوف تزداد مع ازدياد وعينا بالجدران الكلسية المقشرة التي تعكس ظلالنا المرتجفة. وعندما نتقدم عدة سنين نحو الموت، يصبح الخوف عادة قديمة، مرافق أزلي، مثل الصداع والزكام وآلام الظهر والقرحة، نتعود عليه، نحبه، نرقص له ، نتأمله، نفكر فيه، ونحلله من جميع الوجوه والزوايا، ويصبح دليلا على وجودنا، وبأننا لم نتشيأ، ولم نتحول إلى تماثيل من الملح وسط هذه السبخة المتشققة الممتدة على مرمى البصر في جميع الاتجاهات.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خرائب العقل .. 2- وطني حقيبة وأنا مسافر
-
خرائب الوعي 1- البداية
-
ليبيا .. الثورة القادمة
-
محطة الكلمات المتصلة
-
الفضيحة
-
حوار مع الله .. الحلقة السابعة
-
لقاء مع الله .. الحلقة السادسة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الخامسة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الثالثة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الرابعة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الأولى
-
لقاء مع الله .. الحلقة الثانية
-
ليبيا: الثورة المسروقة .. مرة ثانية
-
ليبيا: الثورة المسروقة
-
بوادر هزيمة الثورة اللبية
-
العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثالثة
-
العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثانية
-
العدمية وأسطورة الكينونة
-
كوكا كولا... إشكالية المثقف
-
سفر العدم والجنون
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|