رحمن خضير عباس
الحوار المتمدن-العدد: 4005 - 2013 / 2 / 16 - 10:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما انْ تسمع ببغداد حتى يترائى لك حجم ثرائها الفكري . كل حرف من اسمها يشعّ بهالة من الفكروعمق في العلم وذروة في الفن . منذ تأسيسها على يد المنصور . وهي مشدودة الى مشيمة المعرفة , تنهل منها وتنتجها . كانت واحة للعلم والأدب . وموطنا لأرهاصات فكرية تركت ميسمها على الزمان والمكان لعالم كان يزخر في الجهل والخرافة .كانت فضاءا شاسعا للتطور . حجم الثقافة فيها يستوعب العالم . حفلت بالعلماء في الفلك والرياضيات و الفلسفة , والأدباء والشعراء والنحويين كانت الكتب التي احتضنتها مكتباته تصل الى تخوم الصين .
بغداد الأزل بين ماض زاهر وبين حاضر لايسر الناظر. وفي فضاء هذه اللحظة الزمنية المشبّعة بالقلق والتأزم . جاء الدور لأختيارها ( عاصمة للثقافة العربية ) . وفي الحقيقة انه مثار للفخر والأعتزاز ان تصبح بغدادنا عاصمة للثقافة , ولكن هل تمتلك بغداد في هذه اللحظة مقومات التبوأعلى قمة الثقافة ؟ لا اعتقد ذالك . واذا تجاوزنا الحقيقة – مكابرة او عنادا - وسلمنا بضرورة أخذ دورنا التتابعي , بعد عمان وتونس وغيرها من العواصم العربية . وها نحن على ابواب تنصيب مدينتنا عاصمة للثقافة . وهناك استعدادات مكثفة تجري في وزارة الثقافة . كما تم رصد مبالغ هائلة ( حوالي نصف مليار دولار ) لتغطية فعاليات هذه المناسبة . ولكن السؤال الكبير الذي يقفز حائرا . هل أنّ بغداد جاهزة لتكون عاصمة للثقافة عام 2013 ؟ لسان المعنيين بالأمر من الحكومة تجيبك بنعم . ولكن واقع الحال لبغداد 2013 يقول لك لا .. بغداد غير جديرة ان تكون عاصمة للثقافة في هذا العام , ولافي الأعوام القليلة التي مضت. اصبحت
بغداد مدينة تفتقر الى الثقافة , فهي ترف في غير محله , وذالك لأنشغال هذه المدينة بلملمة روحها المتشظية , وترميم جسدها الذي قست عليها سواتر الأسمنت الطائفية . ليست الثقافة مجرد شعار نكتبه ونصممه ونعلقه كلافتة على اوجه المحلات وعلى اعمدة الكهرباء . انها منظومة متكاملة , تبدأ من الدراسة الأبتدائية حتى تصل الى المتاحف, مرورا باكشاك بيع الصحف والمجلات الى المكتبات العامة الى دور السينما الى المسارح الى نوادي الثقافة وبيوتها الى وسائل الأعلام وبرامجه الى دور النشر والطباعة والمحاضرات ..الخ . وحينما نتأمل هذه المفردات التي تكوّن عمود الثقافة الفقري نجد انها غير موجودة على الأطلاق . وان وجد بعضها فبشكل لايتلائم وسمعة بغداد .
المدارس في بغداد تدعو للرثاء , فهي لاتتوفر على ابسط المستلزمات ,من القسم الى الرحلة والسبورة والمعلم والمنهج وعدد الطلاب والطريقة التدريسية .. وهذا الأمر ينسحب على كل المراحل حتى الجامعية منها . سواء من حيث البنية التحتية او من حيث طرق التدريس والمناهج ,وباختصار فان هذه المدارس لاتنتمي الى افاق عصرنا الراهن , لذالك فأن جل طلبتنا يتخرجون وهم شبه اميين . وقد ينسحب هذا الأمر على المراحل الجامعية التي لاتوفر لطلبتها سوى النزر اليسير, مقارنة مع جامعات العالم .
اما المكتبات العامة فقد انقرضت من الوجود باستثناء القليل منها , وهذا القليل لايلبي الحراك الثقافي ولايلبي الطموح . اما مكتبات بيع الكتب فتقتصر على شارع المتنبي فقط . هذه المكتبات اضحت واحة بغداد الوحيدة , وهي تقاوم كل عوامل التردي بوسائل دفاعية من اجل البقاء , ومن اجل ان يستمر الحرف بالتوهج ,وكأن شارع المتنبي هو السد الذي يحاول ان يحمي بغداد من فيضان الجهل .
اما دور المسرح فانها تدعو للرثاء , فقد علق عليها غبار الأهمال رغم محاولات رجال المسرح في فتح نوافذ لأعمال مسرحية ولكنها تبقى محدودة . ان المسرح في بغداد في محنة , واكثر المسارح مغلقة فكيف تكون بغداد عاصمة لثقافة دون ان يكون ثمة وجود لبنية مسرحية ولو على صعيد المكان . اما عن السينما, فقد انقرضت هذه المفردة من قاموس بغداد . ففي سبعينات القرن الماضي كان عصر الدور السينمائية التي كانت تتميز بالفخامة والأناقة . وكانت مصدرا من مصادر الثقافة الأنسانية , من خلال مهرجانات الأفلام التي تأتي الى بغداد بين الحين والآخر , والذي تنقل عيون الأدب الأنساني عبر اشرطة مرئية , ولا انكر ان بعض الأفلام كانت تافهة او تجارية او للفرجة ولكن ذالك لم يقلل القيمة الكبرى لعالم السينما الذي حُرمت منه اجيالنا الراهنة .لقد تدهورت هذه الدور السينمائية اثناء حكم الطاغية ,إنسجاما مع حملته الأيمانية الكاذبة , واستمر التدهور بعد السقوط . ولااعتقد ان الحكومة تنوي تأهيل القديم منها , او بناء الجديد . ذالك لأن البعض يرى في السينما وسيلة ترفيه تتعارض ومنهج الأحزاب الأسلامية التي تعتقد بأن السينما وسيلة ترفيهة تتعارض ومعتقداتهم . متناسين ان السينما هي مدرسة للحياة , منها نستطيع أن نستخلص عصارات التجارب الأنسانية , مما تقدمه من وسائل وقصص وتجارب . ولاننفي الجانب الترفيهي منها , ولكن حتى هذا الجانب هو انعكاس لوضع ما . يجب علينا ان نؤسس دور سينمائية وفق المواصفات العالمية لتكون هذه السينما رافدا للثقافة .كما ينبغي أن تتغير النظرة السلبية للسينما وتتبوأ المكانة التي تستحقها .
كيف يمكن لبغداد ان تكون عاصمة للثقافة واعداد غفيرة من مثقفيها مازالوا في بلدان المهجر او المنفى ؟ هناك الكثير من كبار الشعراء والنقاد والباحثين والفنانين والصحفيين في الشتات , يملئون العالم بأعمالهم وكتاباتهم وابداعاتهم عن العراق وعن بغداد . هؤلاء لم تتخذ اي خطوات في طريق عودتهم الى الوطن الأم . والذين عادوا الى الوطن سرعان ما فضلوا الرجوع الى المنفى . كيف يمكن لبغداد ان تكون عاصمة للثقافة والمثقف فيها يعاني من التهميش ومن انعدام الفرص الحقيقية ليتبوا المكانة التي يستحق ؟ كنت اتمنى ان تتوج االثقافة في بلدي وذالك بإختيار احد الشعراء او الفنانين او الأدباء او الأكاديميين ليصبح وزيرا للثقافة بمعزل عن تقاسم الحصص ! عند ذالك نشعر بأنّ الثقافة بتتعافى وان بغداد ستكون عاصمة فعلية لها .
كيف يمكن لبغداد أنْ تنسى استباحة المتحف الوطني , وهو من اعرق واغنى المتاحف في العالم . لقد استبيح من قبل الغزاة ومن قراصنة التحف ومن الأوغاد الغارقين في حقد تأريخهم ومن الرعاع تحت غطاء اليانكي المدجج بالسلاح . كل هؤلاء وغيرهم استباحوا ثروة العراق الحقيقية وحضارته التي تمتد لآلاف السنين . وليس هناك محاولات حقيقية للبحث عن الجناة او البحث عن الآثار المنهوبة . ولااعتقد ان بغداد سترضى ان تتوج تتويجا كاذبا وهي مازالت تئن حزنا على كنوزها الحقيقية المفقودة.
كانت القراءة صفة تميز العراقي . اما الآن فإن العراقي لايقرأ . ان النسب الأحصائية تشير الى حقيقة مرة , وهي شيوع امية المتعلمين , اي انهم لايقرؤون . والذي يقرأ فتكون قراءته شحيحة لاتتعدى الجريدة او المجلة . وقد قامت حملات رائعة من قبل منظمات ديمقراطية ومن شباب متحمس لتشجيع القراءة تحت عنوان ( انا عراقي , انا اقرأ) واعتقد ان هذه الحملات ستكون ذات اثر ايجابي على مستقبل الأجيال , لأنها تعزز روح القراءة لدى الأطفال والشباب وحتى الكبار.
كيف تكون بغداد عاصمة للثقافة وتمثال الرصافي يعجُّ بالأزبال . ذالك الشاعر الذي افنى حياته في الكلمة والحكمة والوطنية , هل نجازيه بهذه الطريقة الهمجية ؟ ومع ذالك يعتبر الشاعر الرصافي تمثاله محظوظا اذا قيس بتماثيل أخرى تعرضت للتخريب والسرقة , بدوافع مختلفة .ومنها تمثال السعدون وتمثال ابي جعفر المنصور .
ستكون بغداد عاصمة حقيقية للثقافة . حينما نجعل من العراق واحة للتعايش بين اطيافه . وحينما نخصص لها ما تستحق من الأموال والجهود . الثقافة هي مفتاح نجاحنا , وهي السبيل الوحيد الذي يجعلنا نقف على اقدامنا وننافس الأمم في مجالات الأبداع . الثقافة هي علاج كل أمراضنا الأجتماعية والسياسية . فهي وصفة سحرية تجعلنا نتقدم بثبات . عندذاك لانحتاج الى مهرجان شكلي للثقافة , وهو لايساوي في نتائجه ما صرف عليه من أموال .
أوتاوة / كندا
#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟