|
المجتمع الحديث بين العقلنة واللاعقلنة
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 4003 - 2013 / 2 / 14 - 20:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يرجع العديد من المفكرين نشوء المجتمع الحديث الى التبلور التدريجي لعملية يدعونها بعملية العقلنة ، ويعود الفضل على وجه الخصوص في تطوير هذه الفكرة المركزية ، الى الالمان عموما والى السوسيولوجي الالماني المعروف ماكس فيبر . يميز ماكس بين عدة انماط من السلوك الفردي : 1 --- السلوك التقليدي المرتبط بالأعراف والتقاليد والتراث . 2 --- السلوك الوجداني الذي تقوده الاهواء والانفعالات . 3 --- السلوك العقلاني من حيث القيمة ، وهو نمط السلوك الذي لا تقوده وتوجهه الدوافع والغرائز ، بل توجهه القيم العلمية والأخلاقية والدينية والجمالية التي تجعل الافراد ينذرون حياتهم من اجل تحقيق قيمة من القيم وترسيخها وإشاعتها ، كمنافحة الارستقراطي عن شرفه ، والفنان عن مذهبه الفني ، والمناضل عن القيم الدينية او السياسية التي يؤمن بها . 4 --- إلا ان السلوك العقلاني الحق هو السلوك العقلاني وفق غاية من الغايات العلمية . وهذا السلوك يقتضي الملائمة القصوى بين الغايات والوسائل . وهذا الضرب من العقلانية يدعى بالعقلانية الأداتية الموجهة نحو تحقيق غايات نفعية مع اصطناع كل الوسائل الكفيلة للوصول الى هذه الغايات . والمثال النموذجي للعقلانية الأداتية هو سلوك صاحب المقاولة او المشروع الرأسمالي الذي يتوخى تحقيق اكبر قدر من الربح ، وكذا سلوك المخطط الاستراتيجي العسكري الذي ينظم جيشه بهدف تحقيق النصر في المعركة . ان عملية العقلنة بهذا المعنى تعني التنظيم ، والحساب ، والنجاعة او الفعالية . إلا ان عملية العقلنة ، التي رافقت نشأة المجتمع الحديث ، بل تولد عنها النظام الاجتماعي الحديث ، هي عملية اجتماعية عامة تقوم على تنظيم مختلف العمليات الاجتماعية تنظيما حسابيا دقيقا بهدف تحقيق نتائج ملموسة وناجعة . وقد استندت هذه العملية الى فكرة فلسفية مفادها ان العقل هو الهيأة التي يتعين ان توجه كافة العمليات الاجتماعية ، وهذه الاخيرة تجد نفسها مضطرة للتخلي عن سيطرة التقليد والتراث وقيم الماضي ، لتسلك وفق منطق الفعالية والحساب والمردودية . فكأن هذه العمليات الاجتماعية المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مدفوعة حتما نحو الاستقلال الذاتي بهدف الخضوع فقط لمنطق داخلي قوامه النظام والحساب والفعالية . فمثلا لكي تنخرط المنشأة الرأسمالية في سياق تسيير وتدبير منهجيين لنشاطاتها ، فان عليها ان تنفصل كليا عن الخضوع للمجموعة العائلية . ان عملية العقلنة ترتبط اذن لا فقط بالحساب والصياغة الصورية والفعالية ، بل ايضا بنزع الطابع الشخصي عن العلاقات الاجتماعية ، اي اعطاءها طابعا عما يعبر عنه بصيغ قانونية ، ومن ثمة التوازن الضروري بين تقدم العقلنة وتقدم التشريع والقوانين ، مع اضفاء طابع شمولي غير شخصي على هذه الاخيرة . وبعبارة اخرى ، فان العقلنة تعني تنظيم كافة مستويات الحياة الاجتماعية تنظيما تحكمه قوانين لا شخصية ، تنظيما يكون فيه كافة الافراد متساوين من حيث المبدأ في الخضوع لهذه القوانين ذات البعد الصوري ، وتشكل البيروقراطية في هذا المنظور ، الفئة التي يوكل اليها امر تدبير وتسيير هذه العمليات المختلفة . تفترض اذن العقلنة حدا ادنى من العقلانية والصورية والمساواة امام القانون ، والتمييز بين الخصوصي والعمومي . لكن اذا كانت هذه العملية هي الصيغة السائدة في معظم مجتمعات الغرب ، فليس معنى ذلك انها الصيغة الوحيدة القائمة ، بل هي الصيغة المهيمنة ، ومن ثمة صرامة القوانين وقداسيتها . اما في المجتمعات التي داهمتها الحداثة التقنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية بعنف ، ومن ضمنها المجتمعات العربية ، فقد حدث نوع من الامتزاج والاختلاط الشديد بين المعايير التقليدية والمعايير العصرية ، مما ادى الى تكوّن مزيج مجتمعي غريب . ورغم ذلك فقد اظهرت البيروقراطية العربية قدرة هائلة في تليين العقلنة ، وتكييفها بإعطائها مضمونا ملموسا عبر الزبونية والمحسوبية والرشوة والنهب ، وفي احسن الاحوال يقدم اليك البيروقراطي العربي خدماته " العمومية " مقابل خدمات اخرى اذا كنت " تمتلك " انت الآخر قطاعا آخرا من قطاعات الدولة او من القطاع الخاص . وهكذا تصبح القوانين مساطر رخوة ، مطاطة ، ’تقص وفق المقاس الشخصي ، كما تتحول الملكية العمومية الى ملكية خصوصية ، وتصبح الرشوة والنهب والزبونية ممارسات " مشروعة " . كل هذه السلوكات يتحقق فيها عنصر واحد من عناصر العقلانية الأداتية ، هي المنفعة والفائدة ، لكنها منفعة تبقى فردية تنتفي فيها معايير الشمولية والصورية والتخطيط الحسابي العقلاني ، انها اذن " عقلانية " فردانية فوضوية ، وهذا ما يجعلها تحقق فوائد على المستوى الفردي لا على المستوى الجماعي والعمومي . انها تقدم الافراد ولا تقدم المجموعة ولا الجماعة . ومن الاكيد ان هذا المزاج السلوكي هو تعبير عن صراع بين نمطين مختلفين ، نمط حداثي ونمط تقليدي ، ولكنه صراع ينتج نموذجا ثالثا هجينا ، غير ذي شكل محدد ، ويسهم في احداث نوع من التباطؤ في تراكم العقلانية الصورية التي لا يمكن بدونها ان يتحقق تراكم تاريخي ايجابي .
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منظمة 23 مارس -- نقد برنامج - حزب التقدم والاشتراكية --
-
سورية بلد جميل ، دمره المجرمون
-
الحزب العمالي
-
منظمة 23 مارس -- في التوجه السياسي المرحلي -
-
الدرك الملكي
-
منظمة 23 مارس الماركسية اللينينية - التقرير التوجيهي -
-
الاغنية السياسية
-
المنطلقات النظرية للاشتراكية الصهيونية البروليتارية
-
الحركة الاسلامية بالمغرب ( 6 )
-
الحركة الاسلامية الاخوانية بتونس ( 5 )
-
الحركة الاسلامية في لبنان ( 4 )
-
الصراع بين حزب البعث والسلفية الاخوانية في سورية ( 3 )
-
التيار السلفي في مصر ( 2 )
-
ملف عن السلفية الاسلاموية ( 1 )
-
النخبة وزمن التّيه السياسي
-
الثورة آتية لا ريب فيها
-
عودة كريستوفر رووس الى المنطقة
-
في الثقافة الوطنية القومية الاصيلة
-
الماركسية والتراث والموقف من الدين
-
تسعة واربعين سنة مرت على حرب اكتوبر . ماذا بعد ؟
المزيد.....
-
مع شروق الشمس فوق واشنطن.. شاهد لحظة ظهور حطام طائرة في نهر
...
-
بعد التأجيل.. إسرائيل تبدأ بإطلاق سراح فلسطينيين من سجونها
-
مقتل سلوان موميكا الذي أحرق القرآن في السويد، ماذا نعرف عنه؟
...
-
مقتل سلوان موميكا الذي أحرق نسخاً من القرآن في السويد
-
إعادة بناء غزة ـ سعي مصر لجني مكاسب.. ما ثمن ذلك عند ترامب؟
...
-
مسؤول مصري يكشف سبب التأخر في إخراج المصابين في غزة عبر معبر
...
-
السويد تقدم لأوكرانيا أكبر حزمة مساعدات عسكرية منذ 2022
-
دولة أوروبية تواجه 72 ساعة من الظلام بسبب الخروج من نظام الط
...
-
هيئة الاتصالات الروسية تعلن التصدي لنحو 11 ألف هجوم إلكتروني
...
-
الجنود الفرنسيون يغادرون آخر قاعدة لهم في تشاد
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|