|
كان الشعر ولا يزال...
خالد الصلعي
الحوار المتمدن-العدد: 4003 - 2013 / 2 / 14 - 00:22
المحور:
الادب والفن
كان الشعر ولا يزال بركان انفجار ، يحرك سواكن المجتمع عموديا وأفقيا ، يقلق الحاكم الغافي في أبراجه الحريرية ، ويشحذ همم الشعوب الهائمة في حلكة مصيرها..طورد الشعراء ، وقتلوا وحوربوا ، وألبوا ضدهم الفقيه والسياسي والعسكري ورجل الشارع ...لكن هؤلاء جميعهم يسترقون سمع صوته ، وقراءة حروفه . كان الشعر ولا يزال ، زلزال الطمأنينة والاستكانة ، يرج أرضها العاقر ، وسطحها الضامر ، يثور من أجل تجاوز الراهن ، مخلصا لمبدأ التطور في أرقى تجليات الروح الانسانية اذ تلتئم بروح الكون فيزيقيا وميتافيزيا ...وهذا هو سر الحرب الضروس التي يتعرض اليها الشعر من كل حدب وصوب ، لأنه يجمع المتناقضات ، ليمنح الانسان بعده الشمولي ، والطبيعة لغتها الخبيئة ، وحده الشاعر من ينطقها على لسانه ، ويقدمها بوحا طازجا للأسماع التواقة الى صوت ناي بلا قصب ، وخرير ماء بلا انسياب ، ووجود طافح بالأمل والكينونة ككائن محسوس ومعاش . وليس ككائن متعب كئيب . كان الشعر ولا يزال عاصفة الزمن الخامل ، به يدرك الانسان أن للعالم جهات متعددة ، وليس له جهة واحدة ، وحين تشتد العاصفة ، يدرك الانسان أن البالوعة لا تختار بين الحرير والقش ، أو بين الدقيق والثخين ، او بين السيد والعبد ، من هنا تم استدعاء الآلات المتحكم فيها عن بعد ، لتخمد أوار العاصفة ، وتهذب من هيجانها . لكنهم جميعا الآلات والمتحكمون نسوا أن الروح من أمر ربي ، وأن الشاعر كائن لا يمكن برمجة مواقيت انبعاثه أو عودته ، بحكم مبدأ العود الأبدي الهايدجيري ، أو النشأة التوليدية النيتشوية ، فهو لا يؤمن الا بالشاعر الجلي ، اما الشاعر الغائب ، فتلك قضية تهم مجالا آخر ، لايعني الشاعر في شيئ . كان الشعر ولا يزال وسيضل لغة المنبوذين ، ليس بالمفهوم البودليري ، بل بالمفهوم الأبولينيري ، لأن الواقع فعلا ظاهرة متجاوزة بالنسبة للفنان ، للشاعر ، والرؤيا هي مستقبل قريب ، ان لم يعشه الشاعر ، تبقى له ريادة الحدس والتنبؤ. فالشاعر ليس بالضرورة ابن بيئته كما تسوق نظرية الارتهان الى الواقع ؛ بل هو يحمل في احشائه بيئته ، ويتشرد بها في ملكوته الشعري الذي يكف أن يكون ذاتيا كلما انبجس الوعي عن تكوين أصيل لشعرية الشاعر ، وبذلك يصبح الشاعر غجري الطبع ، لا مستقر له ، رحالة ليس بأثر الخطو ،وانما بأثر الحرف ؛ وان ترسخ جسده في مكان أضيق من خرم ابرة ، أو سم خياط . والا كيف نفسر ابداعه الذي يتجاوز الواقع الذي يعيشه ، والظواهر الحافة به ، واستعابه لمختلف الفنون والعلوم والعقائد ؟ وتجاوز الواقع وما وراء الواقع ؟ كيف نفسر أسفاره التي تجوس المحيطات والآفاق البعيدة ؟ بل كيف ننكر بساتينه ودواليه ، أزهاره وأشواكه ، صحاريه وبحاره ، أرضه الشخصية وسماءه الذاتية ، وتجواله فيما قبل التاريخ ،حيث لم يكن غير العماء سيد الوجود ؟. الشاعر روح الكون اذن ، بالقوة وبالفعل ،بالنظرية و بالتطبيق ، بالمعاش وبالتأمل . انه التجاوز في أرقى صوره ، والتأصيل الشفاف للوجود المتجدد . لذلك تجده أبدا مطاردا من قبل ثقافة الواقع ، لأنه العدو الصريح لكل واقع ، لا يخفي وجهه ، ولا يتقنع ، ولا يأخذ بمبدأ التقية ، ولا يحرص على حياة هو غير مقتنع بها ، أما لغة التهديد والسيف والوعيد ، والمشنقةوالمقصلة والنفي ، فهي حقائق معطاة ، وقد يحيا بفضلها حياة أرقى من حياة النكران والاقصاء واللامبالاة ، أو الخضوع والاستكانة. الشاعر هو المحارب الجسور لكل ثبات ويقين خارج منظومة شعريته ، لا يؤمن بالضرورة ،الا ضرورة التغيير والتحول الى الأرقى والأسمى والأبهى ، تراندستالي في وحل واقعه ، اشراقي في عتمة مجتمعه . لأنه الجوهر الذي يحن الى جوهر الوجود الانساني ، فيبغض العرضي والفاني ، ويصارع ذرائعية تبرير التمكين ، بفرضية الامكان ، ويشاكس علة التعيين بوجوب الامعان ، ويأبى الانصياع للظاهر ، لايمانه القوي والراسخ بأن ليس هناك ظاهر بغير باطن ، وما دامت هذه حقيقة الحقائق التي لا ينكرها الا متزمت أرعن ،فلم لا ننخرط جميعا في البحث عن نفائس هذا الباطن ؟ . لا يتعلق الأمر اذن ب"أنا " الشاعر ، بقدر ما يتعلق بحقيقة الأشياء وجوهر الوجود وكنه الكينونة ، فأنا الشاعر مهما تضخمت وانتفخت هي في حقيقة كوة ضوء صغيرة ، لكنها قد تضيئ كونا كبيرا ، من هنا تصبح انا الشاعر لا شيئ أمام حقائق الوجود الجوهرية والباطنية والسرية . واذا كان الجميع يتفق على ظواهر الأشياء ويقف عند عتبة قشورها ، فان الشاعر وحده يأبى الا أن يعارض هذا التوجه وهذا الانقياد ، ليغوص الى بواطن الظواهر وأعماق أعماقها ،وكأن لسان حاله يصرخ في الموتى ؛ أريد الحياة . والحياة بطبيعتها لا تتجلى في ظواهر الوجود وتعيناتها السطحية، فتلك هي انعكاسات الانعكاس ، بقدر ما تتجلى في المخبوء والمستور والباطن والخفي والعميق والغائب . تماما كأي كائن في طور الفقدان والغياب المؤقت ، قبل أن يتحول الى بذرة أوجنين أومشروع . من هنا يكون الشاعر قبل وبعد ، وحرف الربط هو تجربته الذاتية التي ترتق البعدين في مداهما اللامحدود ، والمنسرح بغير حدود . الروح حين تئن وتصرخ لا يسمعها غير الشاعر . والروح هنا بمفهومها العربي وليس الألماني او الفرنسي ، انها الجوهر الكلي ، وقد اقتيد الى معقل المادة عنوة واغتصابا ، فتشيأ الكون واصبح كل شيئ مجرد بضاعة ، حتى الروح بدأت تتسرب اليها سمات البضاعة بفعل انخراط المحسوبين على الشعر في بيع رؤاهم ،وتطلعات شعوبهم ،وأحلام مجتمعاتهم ، ورهان الانسانعلى انسانيته ، بكل مداليلها الفيزيقيةوالميتافيزيقة المقدسةوالمدنسة ، الى رأس مال لا جنس له ولا وطن ولا انتماء . كأننا أمام تنين كوني وليس صيني . فاصبح الشعر مبعثه ليلة حمراء أورحلة بلهاء ، أوحسابا بنكيا بين جدران صماء ، الى درجة أن الدماء أصبحت تجري تحت أرجل شعراء الغباء وعلى وقع قهقهاتم البذيئة .فكاد الشعر يموت لولا أنه روح أصيل ، الا من اصوات قٌدر لها ووعت رسالتها أن تغرد خارج السرب ،وبعيدا عن القطيع . وتلك هي روح الروح . ولولا ان من شأن طبيعة الوجود ان يعتصر اللب لبه ،كلما دب الفساد في قشوره ، ويستقطر الجوهر جوهره كلما هاجم الصدأ أديمه ، لما أدركنا المشي في جنازة الشعر ، ولما استطعنا تقديم العزاء في فقدان الروح .
#خالد_الصلعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منتعلا أملي أمشي
-
الرويبضة...وضرورة الحسم
-
الاغتيال السياسي والرهان الخاسر
-
أمطار الجحيم -22- رواية
-
الغيب ليس من شأننا -قصة قصيرة -
-
المواطنة بالوصاية
-
أمطار الجحيم -21- رواية
-
موت حزب الاتحاد الاشتراكي
-
وصايا للغراب
-
نضج الثورة المصرية
-
أمطار الجحيم -20- رواية
-
أمة جاوزت مدة حمل حلمها
-
الفساد حالة طارئة
-
ارحلوا عنا فقد تعبنا من مهازلكم
-
أمطار الجحيم -19- رواية
-
انتقام اليوطوبيا
-
التفاحة لم ترث خطيئتها
-
العاصفة والجعة -قصة طويلة
-
اطار عام لقصيدة ما
-
ورطة فرنسا ...مالي أو الكنز الدفين
المزيد.....
-
مسلسل حب بلا حدود 35 مترجمة الموسم الثاني قصة عشق
-
نضال القاسم: الأيام سجال بين الأنواع الأدبية والشعر الأردني
...
-
الإمارات تستحوذ على 30% من إيرادات السينما بالشرق الأوسط
-
رواية -الليالي البيضاء- للكاتب ضياء سعد
-
كيف ألهم عالم الموضة والأزياء الأفلام السينمائية؟
-
عــرض مسلسل حكاية ليلة الحلقة 5 مترجمة قصة عشق وقناة الفجر
-
مغامرات القط والفار 24 ساعة.. تردد قناة توم وجيري TOM and JE
...
-
عمّان.. الشاعر الكتالوني جوان مارغريت مترجما إلى العربية
-
-الرياض تقرأ-.. هيئة الأدب تطلق المعرض الدولي للكتاب وقطر ضي
...
-
-الرياض تقرأ-.. انطلاق فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 202
...
المزيد.....
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
-
البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان
...
/ زوليخة بساعد - هاجر عبدي
-
التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى
/ نسرين بوشناقة - آمنة خناش
المزيد.....
|