|
تنويعة بوهيمية
أحمد فرحات
الحوار المتمدن-العدد: 4001 - 2013 / 2 / 12 - 22:18
المحور:
الادب والفن
إلى فريدي ميركري
لقد ولد ومعه الضحكة ، ومعه أيضا حس بأن العالم مجنون ، كذلك قال ساباتيني ، ثم انطلقنا في الطرقات كفئران ملونة بالأحمر والأخضر والأسود ، حس الفوضى لدى الفئران صريح ، لدينا القدرة على المرح ، وعلى الهروب في أي جحر ، تحت ليلنا أو ننام بالنهار ، نعم ، نحن نتلون كل يوم ، نختفي ، تحت الأحمر و تحت المكياج ، في ألوان اللوحة ، أو في بقع الثياب التي لا تنظف ، ستبصر النشاز في كل مكان ، و ستتقزز ، لكنني أعرف أن نشاز العالم منسجم ، حتى في استدارة ردف الحسناء التي تقود أمها العجوز بقلق ، نعم ، ثم سألنا ، هل نحن في الحياة حقا ؟ ، أم أنها مجرد فانتازيا الأصدقاء والصخب والأضواء والألوان ؟ ، وجدنا أنفسنا محبوسين هنا ، لا هروب من وقائع الليل والنهار ، اقترب ، اقترب بشدة من الواقفة أمام الفاترينا حتى تحس أنفاسها ، وتجاعيد وجهها المخبأة تحت البودرة وقل لها – ستفاجأ – " افتحي عينيك ، ارفعي وجهك إلى السماء ، وانظري " ، ها سيبدأ العرض .
بصوت متموج تحت الليل والضوء المسلط على الوجه ( أنا مجرد ولد فقير ، لا أحتاج إلى تعاطف ، أتيت في فجاءة مسرعة ، وسأخطف في فجاءة مسرعة ، قليلا في السماء ، وقليلا في التراب ، يا رفاق هل تشعرون بالانسجام ، بتموجي مع الليل ، في أي اتجاه ستهب الرياح ؟ ، هل هذا يهمني ، لا يهمني شيء ) .
كانت أمي جالسة تشرب الشاي بلبن وتسمع عبد الحليم بجوار النافذة ، سمعت تهشم الزجاج ، أنا فأر البيت الصغير ، أنا الذي يداعب صديقات أخي ويمعن النظر في عيونهن حتى يخجلن ، انطلقت تلاحقني بشبشبها الرخيص ، وأنا أضحك ، كانت تصرخ ، وكان إخوتي يتابعون العرض بضحك ، أنفلت من هوي الضربة ، وأندس بين مقاعد الطاولة ، ثم العبور من فوق الطاولة ، كنت قد قذفت بحجر زجاج النافذة ، أريدها تلاحقني ، لا أحبها حزينة مع عبد الحليم حاملة همي وأنا في السابعة وهي تعرف السرطان جيدا ، انتصرت ، تحركت ، لهثت ورائي ، ثم ذهبت إليها أراضيها ، " يا أحمد الزجاج مكلف " ، " يا أمي اضحكي ، بالله ألم يمتعك صوته " ، قلت لها " اضربيني " ، قبلتني وضحكت ، فأطفأت الأنوار ، ودخل إخوتي بتورتة عيد ميلادها تنتصفها شمعة ، نعم ، هذه الشمعة سوف تنطفيء .
تحت الضوء أرتدي الأبيض في الأبيض ، ملون الوجه واليدين بالأبيض أجثو على ربكتي ( أماه ها أنا ذا ، ولدك قَتَل ، وضعت المسدس قبالة جبهته ، سحبت الزناد ، الآن هو ميت ، أماه هل تعرفينه ، تعرفين ضحكته ، تعرفين قسوته على ابنة جارتك ، تعرفين دلاله وهو يستيقظ ناعسا ، هل تعرفينه ، رائحة ثديك كانت لا تزال في وجهه ، نظرة عينيك قبل أن ينام كانت لا تزال تقفز في عينيه ، لقد مات يا أماه ، طفلك ) ، صوتي الناعم الصغير ( أماه لقد بدأت الحياة لتوها ، لكنها ذهبت في اللحظة يا أماه ، هل أخذت وقتي كله ) ، صوتي الأجش الغليظ ( أماه ، هل يمكنك أن تفهميني ، هل البراءة هي الفارق بين رجل وصبي ، أماه لست بخاطيء ) ، أمي الآن تبكي علينا ، أنا وهو ، في صوت واحد يفرقه العمر ( أماه لم أقصد أن أبكيك ، كلا ، لم أقصد ، لا تبك يا أماه ، لو لم أعد اليوم ، فسأعود غدا ، لو لم أعد غدا ، فاستمري يا أماه ، استمري ، كأن شيئا لم يكن ) ، في ردائي الأحمر في دائرة ضوء وسط الظلام ( يبدو أن الوقت قد حان ، لقد تأخرت عليكِ كثيرا ، أماه كلانا مريض ، كلانا هالك ، أماه أشعر بالقشعريرة تسري في ظهري ، أماه جسدي يأكلني ، وداعا ، وداعا يا رفاق ، أرى وجوهكم تضحك وتسعل وتحمر رغم الظلام ، أعرف أنكم تنظرون ، ربما لم تنظروا لي جيدا ، سأترككم جميعا بالأسفل ، وأواجه الحقيقة وحدي ، أماه ، لا ، لا يذهب وجهك من أمامي ، لا أريد أن أموت الآن ، أحيانا كنت أتمنى لو لم أولد من البدء ) ، أماه هل نبض قلبك بالخوف ؟ ، لا تخافي ، أنا هنا ، انظري ، كنت أؤدي الدور ، ما أؤديه هو " أنا " ، ألعبه بإتقان ، أمي لم تكن تعرف أني سأهرب من البيت لأسافر باريس ، اتخذ القرار فجأة ، لم أرد أن أواجهها ، فشعرها كان يتساقط ، وأسنانها كذلك ، أمي أنا أرقص تحت المطر ، وأسير على بلاط الشوارع الفرنسية الأسود القديم ، الأضواء هنا لامعة ، وولدك الماهرلا يفتضح تحتها ، أدخل الحواري القديمة ، أصافح العاهرات اللائي يعرفنني جيدا ، أقبل " ماري " في شفتيها ، وأترك أحمرهما ولا أمسحه ، أغني مع الرفاق ، وصوتنا يدوي بين الجدران الصخرية ، وأنا أشعر برعشة الموت في نسمة الهواء البارد ، الموت يأتي في هذه اللحظات ، فهي تأتي بسهولة وسرعة ، وتذهب بسهولة وسرعة ، مثلنا تماما ، وأكتب ليلا القصص وأحكي لك فيها تشردي ، وانسجامي وخوفي من شجنك مع عبد الحليم وأنت وحدك ، وأنا أيضا وحدي ، ربما تبكين .
أرى الفتي الصغير يكبر ، ويرقص التانجو ، وفتاة المقهى تخشى أن تقترب منه أكثر فيحررها ، فأرسلت له نادلا آخر ( أرى هذا الولد النحيل في الزاوية ، يا أنت ، يقترب بملابس نومه وخديه الأحمرين ، يقفز كالوسواس ، وأقفز كالوسواس ، أهمس له في الظلام " هيا من هنا " ، ويضيء المكان كله ، الأصدقاء كلهم يطوقوننا ، الرسام والمغني ، والشاعر ، والممثل ، والمخرج ، والمصمم ، و الموسيقار ، والنحات ، ورافع الستار وخافضه ، يقولون في نفس واحد " لا ذهاب من هنا " ، يدي في يده ، " هيا من هنا " ، الأنظار " لا ذهاب من هنا " ، أقول " أثبت لكم ما أردت ، الكاتب يرقص ، ويغني ، ويلحن ، ويمثل ، يا " أنا " " هيا من هنا " ، "نعم دعوه يذهب " ، " لا لن يذهب " ، يختفي الولد الذي كنته ، ويظلم المكان كله ، ويسقط الضوء على ثيابي الحمراء ، تقدمي يا ماري ، سنرقص الفالس الأخير ، همست لي في أذني بنَفَس حريري " بوهيميون حتى الموت " ، تحدرت دمعتي وهمست " بوهيميون حتى الموت " ، سُلها ، ومرضي الخطير جعلني بلون الجليد ، بكامل زينتها ، في زيها الأحمر ، تأخذ الخطوة ، وتترنح خطوة ، وتتهاوى ، ماري لا يمكنك أن تتركيني الآن ، همست لي " مت بروحك ، كما أنت ، لا تضغي لهم ، مت فنانا ، مت وحشيا حرا كما أنت ، لا يوقفك الانتظار ، لا تبال كثيرا بهم وهم يتحدثون ، مت كما أنت " ، قبلت شفتيها ، وتركت أحمرهما ولم أمسحه ، وأظلم المكان ) . ماتت ماري داخل النص وخارجه ، في أي وجهة ستهب الرياح اليوم ، لا يهمني شيء . أماه هل لا زلت قيد الحياة ، لا يمكن أن أحطم الزجاج من جديد ، لا يمكن أن تستمعي لعبد الحليم من جديد ، بعد الكلام الكثير ، والغناء ، والرقص ، والألوان ، و الورق ، والجنس و المرض اللعين ، هل يمكن أن تعرفي ولدك الصغير ؟ ، أماه هل تسمعين صوتي ، لماذا لا تجيبين ؟
في الصباح كنت مرتديا بنطالا أسود ، وقميصا أصفر ، أدخن سيجارتي ، وأسير أمام الفتارين في باريس ، وقفت بجانبها وهي تحمل ثلاثة أكياس ضخمة ، سألتها مفاجئا " هل تشعرين بالشجن ؟ " ، ابتسمت لي وقالت " لمَ " ونظرت لي بارتياب ومضت ، نعم يا صديقي ، نعم يا ماري ، خارج النص ، سنفقد جميعا المعنى ، ولكن استمر يا صغيري ، استمر ، لا يهمنا شيء………
#أحمد_فرحات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عصر الباكتريا
-
وردة الفيولا
-
مرثية المريد
-
اللا ميدان
-
الماديون الجدد سردا
-
( قصة قصيرة جدا عن حلمي سالم )
-
برومازيبام
-
مدينة الإنسان
-
داندي قلق
-
انفعالية : كلنا خالد سعيد
-
قراءة في مجموعة البقاعي الشعرية الجديدة الصادرة بالإنكليزية
...
-
توحّش سلس: قراءة في مجموعة مرخ البقاعي الانكليزية الجديدة
-
توحّش سلس: قراءة في مجموعة مرح البقاعي الشعرية الجديدة
المزيد.....
-
أم كلثوم.. هل كانت من أقوى الأصوات في تاريخ الغناء؟
-
بعد نصف قرن على رحيلها.. سحر أم كلثوم لايزال حيا!
-
-دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|