|
إختفاء رباب ماردين 2
حوا بطواش
كاتبة
(Hawa Batwash)
الحوار المتمدن-العدد: 3999 - 2013 / 2 / 10 - 22:19
المحور:
الادب والفن
فارقتني السيدة نخايلة لدى النافورة التي في الحدائق العلوية لتعود الى أعمالها في البيت، بعد أن عرّفتني على البيت وما حوله، وكان الوقت ما يزال مبكرا، فقررت البقاء في الحدائق، مستمتعة بجمال منظرها ونقاء هوائها. اتّجهت نحو ممرّ ضيّق تحفّ به نباتات تفوح بروائح الميرامية والزعتر والنعناع، فوصلت الى حديقة صغيرة مسوّرة بأشجار السرو وتضم مساكب ورود جميلة في جانبيه وأرجوحة خشبية واسعة بمواجهة البيت. كان المكان خلابا بهدوئه وجماله وموقعه المنعزل عن الأنظار. عدت الى ساحة النافورة وهبطت عبرالدرجات الى الحدائق السفلية، فرأيت رجلا بملابس موسخة بالتراب ينكش الحديقة. التفت اليّ الرجل بشيء من الاستغراب، ثم قام على رجليه واقترب مني. "آسفة إن كنت قد أزعجتك... أردت فقط أن أتأمل هذه الحدائق الجميلة." قلت معتذرة. "لا، لم تزعجيني بالطبع." رد بصوت أفقدته الشيخوخة معظم قوته. "أنا الآنسة مدنية، ممرضة السيدة ماردين،" قلت بسرعة، ردا على التساؤل الذي في عينيه. وأضفت: "وصلت قبل قليل." لم أرَ على وجهه أية علامة توحي بالمفاجأة. "تشرّفنا، آنسة مدنية. أنا عمك قاسم البستانيّ." قال بحرارة. أدهشني ذلك الرجل العجوز، الذي لا بد أنه قد تجاوز السبعين، بقوة جسده المحفوظة ورقته ووداعته. أحسست أني أحببته من النظرة الأولى. سألته: "وهل أنت من يعتني بهذه الحدائق الجميلة؟" "نعم، هذا صحيح." "لوحدك؟" "هناك من يساعدني فيها أحيانا. هل أعجبتك؟" "طبعا. إنها رائعة الجمال." "أنا سعيد أنها أعجبتك." "منذ متى تعمل في هذا البيت؟" "منذ وقت طويل جدا، لم تكن فيه السيدة ماردين في مثل حالها اليوم. المسكينة! لم تنل السعادة التي تستحقها في حياتها. أرجوك أن تعتني بها جيدا أيتها الآنسة العزيزة." إبتسمت له ووعدته أن أفعل ذلك. ثم عدت الى غرفتي. استغربت من البستاني العجوز، الذي أصرّ على أن أناديه بالعم قاسم. كانت ملامحه تدل على طيبة قلبه وصفاء نفسه. إلا أنني استغربت من كلامه عن السيدة ماردين. بدا لي وكأنه يكِنّ لها معزة خاصة. إنه يعمل في هذا البيت منذ وقت طويل، وقد عايش كل أحداثه. ترى، ماذا يعرف عن اختفاء رباب؟ راودني الخاطر أنه قد يكون عونا لي في معرفة الحقيقة. .................................................
كنت جاهزة للنزول. إنه موعد طعام العشاء. سيكون الجميع هناك. السيدة ماردين تحب أن يجتمع أفراد العائلة كلهم على مائدة العشاء، بعد عودتهم الى البيت من مشاغلهم المختلفة، وقد قالت لي إنها تريد أن أشاركهم طعام العشاء كل يوم. كنت متشوّقة للتعرف على باقي أفراد العائلة. دخلت الى غرفة الطعام بصحبة السيدة ماردين والسيدة نخايلة، فوجدت الجميع قد اتّخذوا مقاعدهم حول المائدة، بانتظار السيدة ماردين. كانت الغرفة كبيرة وفسيحة، تحتوي في طرفها الأيسر على مائدة طويلة للطعام، وفي طرفها الآخر، ركن للجلوس تضمّ أرائك بنية غامقة تتوسّطها طاولة خشبية مستديرة. وكان للغرفة باب زجاجي كبير يفتح على شرفة مطلة على الحدائق. جلست السيدة ماردين على رأس المائدة وأشارت لي بالجلوس الى يمينها، في المقعد الثاني، الذي كان خاليا. فعلت ذلك بينما العيون تلاحقني بفضول. "أعرفكم على الآنسة مدنية، ممرضتي الخاصة. لقد وصلت اليوم وستقيم معنا في البيت." قالت السيدة ماردين، ثم قدّمت لي كل فرد من أفراد العائلة. ابنها الأكبر، وسام ماردين، شاب أشقر ذو ملامح وجه ناعمة، كان جالسا الى يساري. ابن عمتها عصام أخشيد، رجل في سنواته الخمسين، يتسم وجهه بالجدية والصرامة، كان جالسا في المقعد الثالث الى يسار السيدة ماردين. ثم زوجته حميدة أخشيد، امرأة رقيقة الملامح، أشرفت على الخمسين من العمر. ابنتهما كلوديا أخشيد، صبية جميلة ورقيقة، ذات شعر ذهبي وطويل، جلست الى يميني. أما حسام ماردين، الابن الأصغر للسيدة ماردين، فهو غائب بسبب العمل. كان المقعدان الأول والثاني الى يسار السيدة ماردين خاليين. خمّنت أن الأول مخصّص لحسام ماردين الغائب، والثاني لا بد أنه كان لزوجته المختفية... رباب. وكان من الواضح أن لكل فرد في العائلة مكانه المحفوظ الذي لا يأخذه عنه أحد. أنهت السيدة ماردين ترحيبها بقولها: "أهل وسهلا بك، وأرجو لك إقامة طيبة معنا." ثم بدأنا بالأكل بعد إشارة من السيدة ماردين. "تبدين صغيرة على عمل كهذا، يا آنسة مدنية. هل لديك خبرة؟" سمعت عصام أخشيد يسألني. "كنت أعمل في مستشفى لمدة ثلاث سنوات، ولكن لم يسبق لي أن عملت كممرضة خاصة من قبل." أجبته. "هل أنت من سكان هذه المنطقة؟" سألني وسام ماردين. "لا." أجبته. "ليس من هنا." وكنت أدعو في نفسي أن لا يسألني أحد أكثر من ذلك. وجدت الجميع يلزمون الصمت، مستغرقين بأكلهم. وبعد لحظات، سألت السيدة ماردين بفضول: "وأين عائلتك؟" أجبتها بصوت هادئ: "لم تعد لي عائلة بعد وفاة والديّ." بدت علامات التأثّر واضحة على وجه السيدة ماردين. "أنا آسفة. لم أقصد أن أذكّرك." "لا بأس. كان ذلك منذ وقت طويل." قلت. توجّهت إليّ السيدة ماردين سائلة: "هل عرّفتك السيدة نخايلة على البيت، آنسة مدنية؟" "نعم. إنه بيت كبير وجميل وقد أعجبتني الحدائق المحيطة به، فهي رائعة." "طبعا. هذا من صنع المبدع قاسم. إنه ممتاز." قالت السيدة ماردين بفخر. ثم أضافت: "لدينا خلف البيت إسطبل للأحصنة، هل تجيدين ركوب الحصان؟" "في الحقيقة... لا." "على كل حال، إن أردت سأوصي السائس لتعليمك. الطبيعة هنا جميلة جدا. يمكنك الركوب والتجوّل في أوقات فراغك." "يسعدني ذلك، شكرا جزيلا." "لا داعي لشكري. كما قلت لك، أريدك أن تشعري بالراحة معنا." بعد انقضاء العشاء قمنا لاحتساء القهوة في زاوية الجلوس القريبة، ولم تمكث معنا السيدة ماردين طويلا، فقد نادت للسيدة نخايلة كي تقودها الى غرفتها للراحة، أما عصام أخشيد فقد انسحب من المكان بعد رشفة سريعة من القهوة، وفهمت من هذا التصرّف أن عادة احتساء القهوة بعد الأكل هي اختيارية. بقيت أدردش قليلا مع السيدة أخشيد وابنتها، فوجدت نفسي بعد عدة دقائق أشعر بشيء من الودّ نحوهما. كانت حميدة أخشيد على قدر كبير من اللطف والرقة، ويبدو أنها أورثت صفاتها هذه الى ابنتها كلوديا التي كانت مفعمة بالصفاء والبراءة. جلس معنا وسام ماردين لوقت قصير، وشاركنا في الحديث، وهو يبعث بابتسامة لبقة من وقت الى آخر. سمعته يسألني إن كنت أريد المزيد من القهوة. أجبته بأنني اكتفيت. رأيته يبتسم ابتسامته اللبقة وهو يملأ فنجانه من جديد، بعد أن أجابته السيدة أخشيد باكتفائها هي الأخرى. "يبدو أن الرجال أكثر تعلّقا بالقهوة من النساء." قال. رمته السيدة أخشيد بنظرة صلبة، وقالت: "وأكثر غباءً! نحن نحب القهوة ولكن لا نسرف في شربها كما تفعلون أنتم." أطلق وسام ماردين ضحكة مرحة، خفيفة. "أنت تتحدّثين وكأنك تمثّلين كل النساء. هل ابنتك كلوديا مثلا تفعل كما تقولين؟!" قال بنبرة مبطنة بالسخرية. التفتّ الى كلوديا فلمحت في عينيها شيئا من ارتباك غير مفسر. ولكنها لم تقل شيئا. "كلوديا لا تشرب القهوة على الإطلاق، كما ترى." ردت السيدة أخشيد بنبرة تحدٍ. "فهي ما زالت صغيرة. وهل رأيتها تشرب القهوة مرة واحدة؟! أنظر إليّ أنا وإلى الآنسة مدنية." ولكن وسام ماردين نظر الى كلوديا وابتسم بشيء من الغموض، ثم قال ببساطة: "فعلا... النساء أكثر ذكاءً. "
يتبع...
#حوا_بطواش (هاشتاغ)
Hawa_Batwash#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اختفاء رباب ماردين 1
-
المستعجلة
-
أنا أحس
-
حديقة مفتقدة
-
دراجة نارية صغيرة
-
ليلة خائبة
-
جدي
-
الحب والعاصفة 23
-
كلمات حب في القمامة
-
رحلتي الى باريس
-
تساؤلات بريئة- الجزء الثاني
-
الحب والعاصفة 22
-
أنانية أنا
-
ابتسامة الصباح
-
الحب والعاصفة 21
-
قوة التأثير على الناس البسطاء
-
الحب والعاصفة 20
-
عائدون الى الروضة
-
الحياة حسب ايفا ايلوز- سيد قشوع
-
الحب والعاصفة 19
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|