كريم مرزة الاسدي
الحوار المتمدن-العدد: 3995 - 2013 / 2 / 6 - 10:11
المحور:
الادب والفن
الشاعرجميل الساعدي بين د . المقالح وإثم قصيدة النثر ...!!
كريم مرزة الاسدي
ذهب ( أدونيس) إلى أنْ " ليس لدينا شعر جديد , فالجديد لا ينهض إلاّ إذا كانت لنا رؤية مغايرة للرؤية القديمة , وأنا أشكّ في وجود مثل هذه الرؤية " (1) , وقد بيّنا وجهة نظرنا حول المقولة المقالة في موضوع سابق , ومثله الدكتور عبد العزيز مقالح , وهو ناقد عربي كبير , وباحث قدير , ورئيس جامعة جدير , إذ كنـّا لا نعرف كيف ذهب به التطرف في دعوته للمغايرة إلى حد بعيد , وقد نقبل منه على مضض قوله : " وبغض النظر عن نجاح هذه المحاولة أو إخفاق تلك المحاولة , فإنَّ مسارات التغيير ينبغي أن تستمر , ويجب ألا تتوقف ..." ( 2) , ولكن كيف - بربّك - نقبل منه , وتحت أي ذريعة أو مبرر - صرخته القاسية : " لعل الشاعر محمد أنعم غالب الوحيد بين كلّ شعراء الجديد - يقصد في اليمن - الذي لم يقترف إثم كتابة العمودي , ولم تشتهر أو حتى تروى عنه قصيد عمودية ..." (3) , ويدعم دكتورنا دعوته للمغايرة بقوله : " ويكاد القارئ العادي ينسى نفسه وسط الزحام , لكنه لابد أن يألف الجديد ويأنس إليه , وأن يرددمع حكيم المعرة :
ستألف فقدان الذي قد فقدته ***كإلفك وجدان الذي أنت واجدُ "
ليسمح لي الدكتور مقالح أن أحاوره في هذه الخصوصية فقط , لعلمي بجهوده المضنية في خدمة الأدب العربي ونقده , بعد أن أستعير كلمته بحق الدكتور طه حسين حين كتب عن الشاعر العربي الأموي العصر (وضاح اليمن) قائلاً : " غريب أمرالدكتور طه , كيف يصف شاعراًهذا مستواه الفني بالإسفاف والابتذال والسقوط واللين . " (4) , وعلى السياق نفسه , غريب أمر الدكتور مقالح , كيف نعت كتابة الشعر العمودي بـ (الإثم) , ويعتبر عدم كتابته مأثرة تستحق التمجيد , فهنالك احتمالان , إمّا أنّ الشاعر اليماني (الغالب ) , لا يجيد نظم الشعر العمودي , وهنا مكمن الإثم , على حد وصية الحطيئة :
الشعر صعب وطويل سلمهْ***إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهْ
زلت به إلى الحضيض قدمهْ***** يريـد أن يعربه فيعجمهْ
فمن هذا المنطلق ينقلب (الغالب ) إلى خاسر بالضربة القاضية , وإمّا أن الدكتور تخيّل أنّ الشعر العربي الأصيل أصبح يتيماً لا يوجد من يدافع عنه , بل عقيماً لا ينجب من يجدده , وهو يدافع عن أحد الشعراء العموديين من الطبقة الثانية في عصره , ويرتكز في دعوته على طود شامخ من شعرائنا العظام المعري - الذي استهجن حتى الرجز الجميل من بحوره لسهولة نظمه ,وكيف نسى الدكتور أنّ الفرد شيء , وأنّ النوع شيء آخر , وأن الفرد يموت ويفقد , فمن الممكن أنْ تألف غيره , , وأمّا الأمّة لا تموت ولا تـفقد تراثها , فكيف ستألف غيره , وكيف سيفقد النوع الإنساني , , ومن هذا النوع العرب غرائزه وأحاسيسه ليألف غبرها .
ألا ترى من حقـّنا على نهج الدكتور المقالح أن نقول أنّ الشاعر العراقي جميل حسين الساعدي لم يقترف إثم كتابة قصيدة النثر على حدّعلمي , وأنا ممتبع لما ينشره في المواقع العراقية , وخصوصاً (النور) و (المثقف ) منذ أكثر من سنة , بل لم أرقب حتى قصيدة (تفعيلة) له , والله أعلم بما سبق من نظمه , فالرجل بعيد عني بحكم الغربة , ولم أتشرف بمعرفته عيانياً , إلا عن طريق المواقع ما بين شعر منشور , وتعليق مكتوب , وأخذ وردّ على مابين السطور , وهذا لايكفي الناقد الشغوف لمعرفة خبايا النص والأنطلاق من التعريف إلى التحليل , وكلّ نفس لا تجيش بخوالجها إلا بما تحتمه عليها بيئتها , ومما لفت انتباهي أنّ الشاعر قضى طويلاً في غربته وتغرّبه , وأجاد اللغة الألمانية -حيث إقامته الحالية - قراءة وكتابة وترجمة , و نال شهادة أكاديمي بها أو بآدابها , كما يذكر زميله الشاعر العراقي سامي العامري في أول تعليق على أول قصيدة نشرت له في موقع (النور) بتاريخ (31 / 1 / 2012 م) , تحت عنوان (اقرعي الطبول ) قائلاً :
" جميل الساعدي الشاعر المجيد البليغ المحيط اللغتين العربية والألمانية بإتقان والحاصل على الماجستير بالأدب الألماني هنا في ألمانيا والذي ألف ونشر رواية بعنوان : تكملة للعبة الكريات الزجاجية قت في ألمانيا صدىً كبيراً ... وهي تكملة أدبية راقية لرواية هيرمان هسه الشهيرة , هذا الشاعر المخضرم في دنيا المنافي والمغتربات ! تراه يكتب الشعر العمودي بتمكن وبموهبة نادرة بل هو من ترجم مسرحية غوته الشهيرة : فاوست إلى اللغة العربية بشعر عمودي بارع حاكى لغة غوته وحافظ على معانيه وروحه الشاعرة , يطل علينا هنا بقصيدة رومانسية كثيرة التوهج وتنطوي على عتاب رقيق وروح نقية ومرحة رغم الألم !" (5)
والحقيقة اللغة الجرمانية عريقة صافية من الشوائب , وهي لا تأكل حروفها كالأنجليزية والفرنسية والإيطالية , إذ تعتبر سهلة النطق , صعبة الإنسياب , منبع اللغة الإنكليزية , فإن كان للأخيرة (شكسبيرها) , فللأولى (غوتهها) , وما (غوته) إلا الفرد المتميز من بين آلاف الشعراء والروائيين والكتاب الألمان , ولعل شاعرنا الساعدي , سهلت عليه الألمانية , لتعلمه اللغة الأنكليزية في وطنه الأم العراق , فاللغتان كما ذكرنا من أصل واحد , وتركيب لغوي واحد , ومع هذا كلـّه لم ينجرف إلى (إثم) التقليد والتجربة المعاصرة المغايرة !! كأنما أراد أن يقول أنّ الأصالة العربية لا تقل عراقة من الجرمانية , بل أعمق منها , وأبدع !
شاعرنا الأصيل شعرأ وأصلاً , نشر في موقع النور خلال سنة واحدة منذ التاريخ أعلاه إلى اليوم ما يقارب خمس وخمسين قصيدة , أي بمعدل قصيدة في الأسبوع الواحد , ولكن هذه القصائد نظمت في فترات متباينة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي حتى اليوم الحالي , ففي القصيدة المذكورة آنفاً (اقرعي الطبول ( , والتي يتشكل عقدها من ستة وعشرين بيتاً من بحر (الرمل) التام , ضربها قد جاء سالماً (فاعلاتن) , وأحياناً أصابه زحاف (الخبن) , فأصبحت التفعيلة (فعَلاتن) , وقافيتها متواترة ... فسيصكّ ُ سمعك اللحن الراقص , والنغم المغنى , وينتهي كل بيت بلفظ القافية المتواتر الهادئ المتعقل , فكأنما ينتهي بعد ثورته المنفعلة بـ (لا) المترددة , فالشاعر بين ثورة وردّة , تنافر وتجاذب , كبرياء ورضاء , وأنا - والحق يقال - لست بصدد نقد القصيدة , وإنـّما هدفي أنْ أأتي بإنموذج لشاعر قدير يقيم في غرب الدنيا , ويفقه لغة دنياه الجديدة بجدارة , وحافظ على شعره العمودي الأصيل بقدرة وإجادة , وإليك هذه الأبيات اللاهبة الراقصة الجذ ّابة : اقرعي إنْ شئت ِ للحرب ِ طبـــولا *** املأي الدنيا صهيــــلاً وخيولا
لك ِ أنْ تنتقمــــــــي أن تجعلــــي ****ما بنيناه ُ خرابـــــــا ً وطــلولا
لك ِ ما شئْت ِ .. فكونـــي ثورة ً **** وبراكيــن َ وريحــا ً وسيـــولا
حرّري العفريت َ من أغلالـه ِ ***** افتحي قُمْقُمــه ُ حتّــى يصـولا
لا أخالك بحاجة أن أدلـّك على التحدي الصارخ بأفعال أمره , ولا مبالاة بما تفعله انتقاما...هدماً ...ثورة... وهذا التناسق البياني الراقص الرائع في صدر البيت الثاني , وتسلسل واوات العطف الرابطة بين قوافي الأبيات ومعانيها , ومضامين حشوها بأعاريضها , فالأفكار المتعاقبة تتجسد في عضوية واحدة , وهكذا تستمر القصيدة في وحدتها المتماسكة حتى ختامها , وهذا دليل أكاد أنْ أدلك عليه للوصول إلى رقي النظم ليتلائم مع عصره :
طرَدَتْك ِ النفسُ من عالمِـــها *** قَبـل َ أن تعتزمي أنْتِ الرحيــلا
وُجْـــهة ُ الرحْلة ِ قد غيّرت ****بَعْـد َ أن ْ فكّرتُ في الأمْر ِ قليلا
وإذا مـــا الريح ُ مالت ْ فجأة ً ***كان َ للزورق ِ حـق ٌّ أنْ يميـــلا
بقى إلى آخر رحلته يتماهى بزهو الشعراء , ولو أنه أعطى لنفسه , وربما لها , قليلاً من العذر , ومن يعذر لا يعذل , كما يقول ابن خلفة الحلي في بنده :
أهل تعلمُ أم لا
أنْ للحبًِ لذاذاتْ ؟
وقد يعذرُ لا يعذلُ
مَن فيه غراماً وحوى ماتْ
فذا مذهب أرباب الكمالات
فدع عنك من اللوم زخاريف المقالات ...!!
لذلك حيرنا الشاعر الساعدي في بيته الختامي , هل الزورق قد مال بعد رحيلها شغفاً بها فتعلقا , أم حزناً عليها فتأرقا ؟! سؤال يبقى لغزاً جوابه عند صاحبه !!
ولا أطيل عليك - يا صاحبي - سنعرج على قصيدته (صور من الريف) المنشورة في موقع (النور) نفسه بتاريخ ( 19 / 01 / 2013 م ) , وقد نظمها في فترة السبعينات أبان الطبيعة المتبرجة الهائمة قبل الحروب المتعرجة الهادمة , وقد غيّر الشاعر نهجه من وصف طبيعته الغناء المغردة إلى التشبيب بغانيته العذراء المعطرة , ومن أنفاس ( ساكب روحه) محمد إقبال الخالدة إلى (ساكبة الزيت) على ناره لتأجيج شعلتها الخامدة , ويقرّ الرجل في أحد تعليقاته (النورية) عليها قائلاً :" إن من يقرا قصائدي القديمة ويقارنها بقصائدي الحديثة لا يصدق أنَّ ناظمها هو نفس الشاعر " , والحقيقة أنّ مسارب وصف الطبيعة تؤدي إلى رومانتيكية التشبيب بالحبيبة .
القصيدة التي نحن بصددها يتشكل عقدها من ثلاثة وعشرين بيتا من البحر البسيط التام المخبون , وقافيتها المتراكبة بحركة كسرتها الشجية , فإليك منها : ً
النهرُ ساجٍ وصفْوُ الليـــــلِ مُنتشــــرٌ*** ينســـابُ فــي كلِّ شئ ٍ غايةَ َ البُعُـــد ِ
كأنما الليلُ إذْ يمتــــــدُّ راهبـــــــــــــة ٌ ***راحتْ مُفكّــــــرة ً فـي معبد ِ الأبــــد ِ
كأنَّ دُنيــا ً مِـــنَ الإلهــــام ِ قدْ فُتِحَـــتْ*** فراح َ دفّاقُهـــا ينصبُّ مِــنْ صُعُـــــد ِ
فانزاح َ عنْ كُلِّ شــئ ٍ ما يُحجّبُــــــهُ *** *وحُرّرتْ مُهْجَــــــة ٌ مِنْ ربْقة ِ العُقَــد ِ
كأنمــــا النفــــسُ إذْ حَلّــتْ سكينتُــــها*** في عـــالم ٍ بمعانــي اللطْف ِ مُحـْتشد ِ
تمازجــتْ في مداها كلُّ خاطـــــــــرة ٍ **** بخاطر ٍ أزلــيٍّ غيـــــر ِ ذي أمَـــــــد ِ
لا الأمس تذكرُ منهُ مـــــا يُكدّرهـــــــا **** ولا ترى حكمــة ً في حمْل ِ هَمِّ غـدٍ
كما ترى مهّد من مطلع قصيدته غير المصرع بالخروج عن اجترار القديم , بل تعدّى الدلالات اللغوية المألوفة , فمنح صفة السجو للنهر , وقد جاء في القرآن الكريم : والضحى والليل إذا سجى , ومعناه سكن ودام , وقال الفراء : إذا أظلم وركد في طوله كما يقال : بحر ساج وليل ساج إذا ركد وأظلم (6) , والشاعر أدرى بما ذهب إليه بدليل تفسيره للمفردة موجزاً , ونعت الليل بالصفو , والصفو من صفات الماء فـ " الصفو والصفاء , ممدود : نقيض الكدر صفا الشيء والشراب يصفو صفاء وصفوا... وصفوة كل شيء : خالصه من صفوة المال وصفوة الإخاء ... وصفا الجو : لم تكن فيه لطخة غيم , ويوم صاف وصفوان إذا كان صافي الشمس لا غيم فيه ولا كدر .." (7) , فإذن الشاعر كما يبدو لي هو الذي أراد لنفسه الصفاء من كدر القيل والقال , والركون إلى الخلوة والسكون في أمد غاية البعد , والانطواء في ذات الله , حتى سمح لخياله الخصب الملهم في تصوير بالغ الروعة بتشبيه الليل البهيم كراهبة متأملة في معبد الخلود السرمدي , ثم يواصل مسيرته الصوفية المشبعة بالتشبيهات والاستعارات ما بين إلهام وصعود وتدفق , وإزاحة حجب , وإزالة عقد ...إلى أين يريد بنفسه الساعدي , قد قارب قاب قوسين أو أدنى من اللطف الخفي ...!! لم يكتف بهذا العشق الصوفي حتى يذوب امتزاجاً حلولياً بالمطلق الأزلي , فشاعرنا هو الآخر قد تأثر بفكرة حلول الحلاج الحسين بن منصور( قتل 309 هـ / 922م) إذ يقول :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ***نحن روحان حللنا بدنا
أدنيتني منك حتى *** ظننتُ أنّكً أنّي
ولكن لماذا هذا كلـّه ؟! , يجيبك البيت الأخير من المقطوعة المستقطعة :
لا الأمس تذكرُ منهُ مـــــا يُكدّرهـــــــا **** ولا ترى حكمــة ً في حمْل ِ هَمِّ غـدٍ
وهكذا أراه الآن قد استلهم روح المعري في بيته من قصيدته الخالدة عند رثاء صديق عمره أبي حمزة الفقيه :
تعبٌ كلـّها الحياة فما أعْـــــجب إلاّ من راغب ٍفي ازديادِ
أمّا بقية ما اخترنا من أبيات القصيدة , فلا تقل روعتها الإبداعية مما سبق , إليك الأصل , ومن بعده الفصل :
ومشــهد ٍ للمراعي راح َ يوقظـــــهــا ***مِنْ غفْوة ِ الظهْر ِ لحْنُ الصادحِ الغَرِد ِ
والشمسُ تبعــث ُ مِنْ انوارهــا لُججـا ً **** زحّـافة ً في امتــداد ٍ غيْر ِ ذي أَوَدِ
والأرضُ مُخْضلّــة ٌ خضراءُ طافحـة ٌ *** بالطِيْـب ِ ترفـــل ُ في أبرادها الجُـــدِد ِ
والنهــــرُ يبعـــثُ أنغـــاما ً مُحبّبــة ً***تسهــو بها النفسُ مِـــنْ هـمٍّ ومِن كَمَــــد ِ
قـد أورد َ النفس َ دنيا ً غير َ عالمِها ***فتّـــــانة َ السحْر ِ لـَــمْ تُولـَـــدْ ولـَــمْ تَلِـد ِ
حتّـى إذا امتدَّ ظلٌّ واعتلى شفــــــقٌ *** *وغيّب َالشمس َ مجرى ثـمَّ لـَمْ تـَعُــــــد ِ
ولاح َ في الأفْق ِ نجْــم ٌ جـِـدُّ مؤتلق ٍ *** ** وأوشك َ الدرب ُ أنْ يظلم َّ أوْ فـَقـَــد ِ
وراح َ راعي غنيمـات ٍ يجدُّ خُطـى **** سعْيـــا ً إلــى حيث ُ يلقى راحــة َالجَـسَد ِ
تغيّــرتْ صـورُ الأشياء ِ والتحفت ْ *****بُرْدا ً جـــديدا ً بما في الكون مِــن بُـــرُد ِ
وانســاب َ نورُ فوانيس ٍ مُعلّقـــــة ٍ *** * يُفاخرُ الشـُهْــب َ في الإشراق ِ عـَـنْ بُعُـد ِ
لوحة فنية لك أنْ تتمعن فيها هنيهة , قد تحسبها لليوناردو دافنشي أو فان كوخ أو بابلو بيكاسو سوى أنـّها ناطقة ...! شرع شاعرنا بالمراعي الغافية , والطيور الصادحة , فذكرني بأمير الشعراء وقوله :
صدّاح يا ملك الكنــــــــــار ويا أميرَ البلبل ِ
قد فزتُ منك بمعبدٍ ورزقت قرب الموصلي
وأتيحَ لي داودَ مــــزماراً وحســـــــن ترتل
وفي البيتين الثالث والرابع قفزالساعدي ليتخيل الأرض الغناء غانية هيفاء , معطـّرة بالأطياب , تتماهى بالأزياء , كعروس نجلاء , ووقف النهر متربصاً بها ليشدو لها أعذب الألحان , والنفس الشاعرة الساهية في عجز البيت الرابع لم تكن سوى مراقبة لمشهد الطبيعة الفتان , كأنها سائحة في شوارع باريس وبرلين واليونان ..!! فبذور الرومانسية كامنة في نفس الشاعر من قبل , وسبقى من بعد.
والحق ربما أول شاعر عربي لفت الانتباه للعلاقة بين تبرج الطبيعة وتبرج الأنثى العبقري البغدادي ابن الرومي , اقرأ ما يلي :
ورياض ٍتخايلَ الأرض فيها *** خيلاءَ الفتاةِ في الأبرادِ
تبرّجت بعد حياءٍ وخفرْ *** تبرج الأنثى تصدّتْ للذكرْ
لمنْ تستجدُّ الأرضُ بعدك زينة ً*** فتصبحُ في أثوابها تتبرّجُ ؟
إذا كان الساعدي قد لجأ للتشبيه الضمني , والآستعارة المكنية في بيتيه , فابن الرومي ذهب للتشبيه مؤكداً بحذف أداتي التشبيه في بيتيه الأول والثاني , وإلى الاستعارة المكنية في بيته الثالث , المهم تلاقت الرؤى والصور التخيلية لرسم اللوحات الشعرية الفنية .
أطلنا المقام - يا سادتي يا كرام - فنرجع إلى المرام , فهل هذا الشعر الساعدي العربي الأصيل بأوزانه وقوافيه , وتأملاته النفسية , وصوره الإيحائية التخيّلية , ومراميه الصوفية الحلولية القناعية , وتسلسل أفكاره كوحدة عضوية , وتراقص أنغامه الموسيقية , إثم ما بعده إثم , , أم فنّ ٌ لا يضاهيه فن ؟ ! أين الإثم في الأصالة الحاضنة أم المغايرة التائهة ؟ ! نترك الأمر لمستقبل أهل الشأن , ولنا حاضرُ شأن ...!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (مجلة العربي) : العدد 242 ص 23 - الكويت .
(2) ( الشعر بين الرؤيا والتشكيل ) : الدكتور عبد العزيز مقالح - ص 12 - دار طلاس - دمشق .
(3) (نظرات في الأدب والنقد ) : عبد الرزاق البصير ص 96 - نقلاً من كتاب (من البيت إلى القصيد ) للدكتور عبد العزيز مقالح .
(4) ( الشعر بين الرؤيا والتشكيل) : ص 79 م. س .
(5) موقع (النور) : جميل حسين الساعدي (اقرعي الطبول) بتاريخ 31 / 01 / 2012 م .
http://www.alnoor.se/article.asp?id=140761
(6 ) (لسان العرب ) : ابن منظور - ج 14 - الصفحة 371 - موقع مكتبة الشيعة .
لسان العرب) : ابن منظور - ج 8 - ص 257 - 2003 م - دار صادر. ) ( 7 )
#كريم_مرزة_الاسدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟