|
السوسيولوجيا الكلاسيكية و المسألة الحضرية [3]
يونس بنمورو
الحوار المتمدن-العدد: 3991 - 2013 / 2 / 2 - 15:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
التحليل الحضري عند « ماكس فيبر »
ما من شك في أن إسهامات « ماكس فيبر » في النظرية السوسيولوجية لعلم الإجتماع ، تعتبر من الإسهامات المميزة التي لا تزال تجد لها قبولا علميا و أكاديميا واسع النطاق ، و السبب يرجع بالطبع إلى كتابات « فيبر» في النظرية السوسيولوجية ، و ربطها بإطار منهجي و علمي محدد . إذ بلور كثير من هذه الكتابات ، بمجموعة من الدراسات الميدانية ( الأمبريقية ) ، التي صقل بها تصوراته الفكرية و النظرية ؛ و التي ظهرت على سبيل المثال ، فيما يعرف بالنماذج المثالية التي طرحها « فيبر » في معظم كتاباته و تحليلاته النظرية ؛ و تعد من الإسهامات النظرية السوسيولوجية التي حدد « فيبر » أهدافها منذ البداية ، لتكون بمثابة تصورات عقلية ، يهتم بها الباحثين لإختبار الواقع الإجتماعي المتغير ، الذي يعيشون فيه ؛ و في حقيقة الأمر ، نجد أن « فيبر » كرائد من رواد البنائية الوظيفية الكلاسيكية ، إهتم بوضع الخطوط العامة لنظرية التغير الإجتماعي Social Change Teory ، التي تعتبر من أهم النظريات السوسيولوجية المعاصرة [ عبد الله محمد عبد الرحمن ] ؛ فمع « ماكس فيبر » ستنحوا السوسيولوجيا الكلاسيكية منحى أخر ؛ فلقد وضع أسسا جديدة ، و دعائم جديدة لعلم الإجتماع ، كانت و ما تزال ، تولد الكثير من الأفكار داخل علم الإجتماع [ أحمد زايد ] ؛ و المتميزة بغناها بالمضمون التاريخي ، إلى جانب الإهتمام بفهم المعنى الذاتي لأفعال الأفراد ، كمنهج أساسي للعلوم الإجتماعية ؛ فعلم الإجتماع ، هو العلم الذي يحاول أن يدرس الفهم التأولي للفعل الإجتماعي ، من أجل الوصول إلى تفسير علمي لمجراه و أثاره ، و يشتمل الفعل الإجتماعي ، على كل مظاهر السلوك الإنساني طالما يضفي عليها الأفراد معنى ذاتيا Marx Weber ؛ هذا التميز ، سيظهر أيضا إنطلاقا من إهتمامه العلمي بالمجال الحضري ، و بالظاهرة الحضرية خصوصا ، و ما يعتمل في نطاقها ، إذ تمكن من تحديد مختلف مكوناتها و أيضا خصائصها ، بل و إعطاء تعريف سوسيولوجي لها ؛ و محاولا بإسهاماته الإبستمولوجية ، تجاوز الطرح الماركسي ، الذي أعطى للمدينة بعدا تقزيبيا تقزيميا ، حاصرا إياها في تفسير أحادي ، لنشوئها و كذلك تطورها ؛ إذ إنتاب« فيبر » شعور بأن « ماركس » بالغ في التأكيد على أهمية الجماعات الطبقية ؛ فرغم إعترافه ـ فيبر ـ بأن الطبقات ذات أهمية ؛ إلا أنه رأى ، بأن الأحزاب السياسية و جماعات المكانة ( الجماعات الإجتماعية ، و جماعات الصداقة ) قوى مهمة و مؤثرة في المجتمع ، و ليس من الضروري أن تعتمد هذه على الطبقة كما إدعى « ماركس » ؛ و قد أكد « فيبر » كذلك ، على قوة التنظيمات الكبيرة ، أو التنظيمات البيروقراطية في التأثير على الحياة [ مصطفى خلف عبد الجواد ]؛ لكن ما ندين لــ « فيبر » به ، بالإضافة لما سبق ، هي تلك الأداة التصورية الأساسية ، و المتمثلة في النمط المثالي ، و هي عبارة عن نموذج تركيبي ، يستخدم كقياس ، يمكن تقييم الحالات الواقعية بناءا عليه Gerth & Mills ؛ بمعنى أخر ، أن « فيبر » سعى بأن يحدد المناهج المثالية Ideal Types ، التي تعتبر ركنا أساسيا ، من أركان إسهاماته المنهجية ، و التي يعتبرها محاولة لتحديد أهمية البناءات التصورية و الفكرية ( النظرية المحددة ) ، و التي تساعد على دراسة و إختبار الواقع الفعلي ؛ فالنماذج المثالية ، ما هي إلا تصورات عقلية خالصة ، يطرحها الباحث ، لتكون بمثابة مرشد له ، و للباحثين الإجتماعيين عموما ، الذين يسعون لفهم الواقع ، و معرفة العلاقات السببية ، التي تؤدي إلى حدوث الظواهر و تكرارها ؛ كما أن النماذج المثالية ، ما هي إلا محاولات تفسيرية ، تستخدم كأداة تحليلية و منهجية في نفس الوقت ، و يسعى الباحث لإختبارها ، لأنها بمثابة أيضا تشييد عقلي Mental Construction ؛ يؤدي في النهاية للتوصل لمجموعة من القوانين العامة ، التي تعتمد على الواقع الفعلي ؛ و إن كان « فيبر » أكد على أنه ليس بالضرورة أن تكون هذه الأنماط المثالية ، التي يشيدها الباحث لإختبار فروضه و تساؤلاته و نظريته عموما ، مطابقة للواقع الفعلي ، فقد تتشابه مع الواقع الفعلي ، أو تختلف عنه أيضا [ عبد الله محمد عبد الرحمن ] ؛ فوفق هذا النموذج المثال إذن ، سيحاول « فيبر » أن يبني تصوره السوسيولوجي للمدينة ، إنطلاقا من منظور تاريخي مقارن أولا ، و من نموذج مثال كمقياس ثانيا ، إذ بدأ ، من خلال تصوره التاريخي ، من مدن مصر و ما قبل الميلاد ، إلى المدينة الرومانية ، و الإسلامية و الآسيوية ، و الأوربية القرسطوية و الروسية ؛ أما من خلال تصوره للنموذج المثالي للمدينة ، فهو يعتبر ، بأن لا وجود له على الإطلاق في التاريخ ، إلا في المركز الرأسمالي ، أي أوربا الغربية . لأن المدينة الأوربية ، هي قمة ما بلغته البشرية ، من ترشيد و عقلنة ؛ و أرقى ما وصلت إليه العقلنة الحضرية ، من سلطة و بيروقراطية و ديمقراطية و مجالس سلطوية ، و قضائية و مالية و قوانين و دساتير ... ؛ إذ يمكننا تعريف المدينة بطرائق متعددة ، وكل التعاريف ، تشترك في نقطة واحدة ، و هي أن المدينة لا تكمن في سكن واحد ، أو سكنات متعددة منتشرة بشكل مبعثر ، إنها تتشكل على كل حال من السكن المتجمع ( ولو نسبيا ) ، و في المدن تبنى الدور بالقرب من بعضها البعض ، و القاعدة العامة ، هي أن تبنى حائطا لحائط . إن التصور الشائع في الوقت الحاضر يربط المدينة بخصائص كمية محضة Max Weber ؛ ففي معالجته للمدينة ، إنتهج منهجا مغايرا عن سابقيه ، فحاول أن يوضح الظروف التي تجعل دور المدينة إيجابيا ، أو إبتكارا في الحياة العامة للإنسان ، مستعينا بذلك بدراسته لمدن الماضي أو المدن القديمة ، و معتمدا في نفس الوقت على تصور خاص في تعريفه للمدينة [ عبد المالك عاشور ] ؛ فهو يرجع نمو المدينة و تطورها إلى وظيفة السوق ، التي تتولاها المدينة ، بحيث تعتبر المدينة مركزا تسويقيا لمنتجات القرى المجاورة ، و يتسع هذا المركز ، ليصبح مركزا تجاريا لقيامه بوظيفة جديدة ، إضافة إلى التسويق ، و هي تصنيع المنتجات الزراعية ، و بتطور النشاط الاقتصادي للمدينة تزداد أهميتها ، و يظهر لها تنظيم إداري خاص بها ، و تصبح لها مكانة سياسية ؛ وعلى ذلك ، فالنظرية تقوم على أساس تقسيم العمل ، بين القرية و المدينة ؛ بحيث تختص الأولى في الإنتاج الزراعي ، بينما تختص الأخيرة ، بعملية تسويق هذا الإنتاج و تصنيعه ؛ نحن نتكلم عن المدينة بالمعنى الإقتصادي ، حيث يقيم السكان و يقضون الجزء الأهم من حاجاتهم ، الإقتصادية الضرورية في السوق المحلي ، خاصة ، من خلال تلك السلع التي صنعها السكان المحليون ، أو القريبون منهم ، أو تلك السلع التي حصلوا عليها و دخلوا بها السوق Max Weber ؛ إلا أن ذات التصور للمدينة ، لا يقتصر فقط على شقها الإقتصادي كما فعل « كارل ماركس » ، بل إن المدينة هي أيضا ، و حدة سياسية مهمة ، لتسهيل الظروف الإقتصادية ، هذا الدور يتمثل في تنظيم التبادل و الإنتاج ؛ كما أكد « ماكس فيبر » أيضا ، على الإستقلالية الإدارية للمدينة ، التي تبقى مرتبطة بتطور بعض النظم المحددة بدقة ؛ هذه المدن « الفيبرية » لم تكن موجودة في كل مكان ، إنكما إرتكزت تاريخيا ، كوحدة سياسية في العصور القديمة ، و كوحدة سياسية إقتصادية في القرون الوسطى ؛ فإستنادا لهذا ، لم يكن للمدينة الشرقية الخصوصيات أو العناصر المحددة للبناء الحضري ، فالتجمعات الحضرية بالمعنى الصحيح ، لم تظهر كظاهر تتميز بإتساعها إلا في الغرب ، إذ لا يمكن تكوين البلديات إلا بشرط ، أن تكون تلك التجمعات تمتاز بالطابع الصناعي و التجاري ، المهيمن نسبيا [ حمرا كروا حميد ] ؛ هذا من ناحية ، أما من ناحية أخرى ، فإنه يشترط زيادة على المكونات السابقة ، ضرورة توفر الخصائص التالية ، حتى نتمكن من إسقاط كلمة المدينة على مجال معين : (1) القلاع (2) السوق الخاص (3) المحكمة (4) الإستقلالية و لو جزئية (5) أماكن العبادة (6) و إستقلالية إدارية ، تشرف عليها سلطات عمومية مشكلة من المواطنين Max Weber ؛ فمع هذا السوسيولوجي ؛ و إنطلاقا مما سبق ، سيتأكد فعلا بأن المدينة ، أخذت منحى آخر ، و بعدا تفسيريا مغايرا ، لا يقتصر على النسق المادي الإنتاجي ، أو تقسيم العمل فقط ؛ كما فعل كل من « كارل ماركس » و « إميل دوركايم » ، بل إن لأول مرة ، سيقدم عالم اجتماع على نشر كتاب يحمل عنوان « المدينة » « Die Stadt » ؛ و بذلك ستتحول المدينة ، من موضوع و تيمة ثانوية في المتن السوسيولوجي الكلاسيكي ، إلى موضوع مركزي و محوري ، يحضى بمؤلف كامل ؛ إذ في ثناياه يحاول « ماكس فيبر » تفسير ظاهرة التحضر الإنساني ، إنطلاقا من النموذج المثالي للمدينة الغربية ، خصوصا العاصمة الألمانية برلين Berlin، إذ ، إهتم ببعض الجوانب السوسيولوجية فيها ، و التي تميز الظاهرة الحضرية خصوصا ؛ فإرتكزت أفكاره حول ما يطبع المدينة ، و ذلك في إطار نظريته الاجتماعية ، التي تجمع بين العقلنة و الشرعنة ؛ باعتبارهما يشكلان خلاصة الحضارة و العلم ، التي و صل إليها تطور الجنس البشري ، خصوصا في بلدان أوروبا ؛ فالعقلنة ، تتجسد في مختلف التنظيمات و التدابير ، التي تجمع العلاقات بين الناس ؛ والتي تسمى سلطة ، و كل سلطة ، و لا بد لها أن تتوفر على مشروعية [ زهير قاسيمي ]؛ فما يميز البادية عن المدينة حسب « ماكس فيبر » ، هو أن هذه الأخيرة ، بالإضافة لكونها مجالا لتجمع مختلف المكونات و الخصائص العقلانية ؛ فإن المدينة تعرف أيضا ، إنتشار كثافة سكانية مرتفعة في مجال ترابي ضيق ، كما أن سكان المدينة لا يعرفون بعضهم البعض معرفة شخصية متبادلة ، غير أن حجم السكان وحده لا يعطي صورة دقيقة لمفهوم المدينة حسب « ماكس فيبر » ، لذلك وجب الأخذ بعين الاعتبار كذلك دينامية العلاقات الاجتماعية ، و الشروط و الأوضاع الثقافية ؛ أي أن هذا الأخير ـ ماكس فيبر ـ حاول البحث عن الظروف التي تجعل دور المدينة إيجابيا و إبتكاريا ، في الحياة العامة للإنسان ؛ إذ إنه لمن الممكن أن نطلق على منطقة للإقامة البشرية ، أنها كوسموبوليتانية أي عالمية ، إذا ظهرت فيها أساليب متنوعة للحياة جنبا إلى جنب ، مع ظهور أفراد ذوي إتجاهات مختلفة Max Weber ؛ فالمدينة حسب رأيه إذن ، تعد مجالا مفتوحا على مختلف الثقافات و الاتجاهات ، و لذلك فهي توصف بأنها كوسموبوليتانية أو عالمية [ رحمانية سعيدة ] ؛ فــ « فيبر » لم يكتفي بالتعاريف السوسيولوجية النموذجية للمدينة فقط ، بل أعطى مجموعة من التصنيفات النظرية ، و أيضا النماذج المثالية الأخرى حول المدينة ، و ذلك انطلاقا من هاجس العقلنة و الشرعنة ، و بذلك ، فقد حدد المدينة من خلال مجموعة من الأبعاد المترابطة ، و هي كالأتي : (1) المدينة ككيان اقتصادي : نظرا لكون الطبيعة الاقتصادية للمدينة ، تجعل منها تجمعا سكانيا تجاريا ، و سوقا دائما ، لأن وظيفتها الأولى هي بالأساس وظيفة اقتصادية ؛ (2) المدينة ككيان سياسي : على إعتبار ، أن الأنشطة الاقتصادية و الإدارية في المدينة ، لا يمكن ضبطها وتسييرها على نحو جيد ، إلا إذا توفر نمط معين من التنظيم الإداري والقانوني ؛ (3) المدينة ككيان إداري – قانوني : نظرا لكون المدينة ، هي بالأساس كذلك مركزا إداريا ، و تجمعا لمجوعة من الوظائف و الأنشطة ، و المؤسسات السياسية للحكم المركز ؛ كما أن المدن و فق التصور « الفيبري » هي مكان للتنافس و الصراع ، على السلطة في إطار مشروع جماعي ، تلك السلط مرت عبر تاريخ الإنسانية بأسره ، إلى أن وصلت للمدينة الحديثة ، و تتوزع مختلف السلط بين : (1) السلطة التقليدية ، أو كما سماها « فيبر » سلطة الأمس الأزلي : وهي السلطة التي تستمد من مختلف العادات و التقاليد ، التي يتبناها مجتمع معين ، و تكون بيد شخص معين ، وهذا النمط من العيش ، يعطي الأهمية للشخص أو الشيخ الأكبر ، أكثر من ارتباطه بنوع العمل الذي يؤديه الفرد داخل مجتمعه [ زهير قاسيمي ] ؛ هناك أولا ، نفوذ الأمس الأزلي ، أي نفوذ سلطة العادات و التقاليد ، التي تكرسها صلاحياتها العتيقة ، وعادة احترامها في الإنسان ؛ و تلك هي السلطة التقليدية ، التي كان الأب الأكبر أو الشيخ يمارسها في الماضي Max Weber ؛ فهذه السيطرة التقليدية تستند على الإيمان بالطابع المقدس للتقاليد ، و للذين يسيطرون بإسم التقاليد ، و يعتبر القرار شرعيا ، لأنه يفترض به أن يكون متوافقا مع ما سبق قوله و فعله ( في كل الأزمان ) ؛ إن تقنية سلطة الزعيم التقليدي ( ملك أو إمبراطور ) تقضي بالإقتناع ، بأن التنقاليد محترمة بذاتها و بإظهارها ، كأنها تصدر دوما عن إبتكار عبقري ؛ سلطان ( سلطة ) الثراث ، يستند إلى نفوذ (سلطة ) تقليدي . إن النزعة ( التراثية ) تصدر عن سلطة ( نفوذ ) تقليدية ، و تستند إلى نمط من السيطرة ، تكون فيه الإدارة الحكومية شديدة الشبه بإطار عائلي ، في ظل سلطة أبوية لحاكم لا يميز أملاكه الخاصة عن أملاك الدولة التي يجسدها ؛ إذ ليس الموظفون و الجنود ، إلا عبيد عند هذا الخادم ، أما الدولة الحديثة ، فقد قوضت هذه النزعة التراثية بتقعيد القوانين Laurent Fleury ؛ (2) السلطة الكاريزمية : و هي ، السلطة القائمة على المزايا الشخصية الفائقة لشخص ما ؛ بمعنى أخر ، شخص يستطيع تقمص روح الأمة فيتفانى الرعايا في تنفيذ الأوامر ، التي يدعو إليها هذا الإنسان المتميز أو الخارق ، لأنه يتميز ببطولات خارقة و نادرة تجعل منه رمزا ، وزعيما متميزا [ زهير قاسيمي ] ؛ هذه السيطرة الكاريزمية يصنعها ، من موقع مواجهة التقاليد ، زعماء شديدو الشبه بالرواد و الأنبياء (...) ؛ و تعود هذه السلطة إلى الشعور بالتعلق بشخصية تتمتع بمزايا إستثنائية (...) هذه السيطرة الكاريزمية ، تقوم على الإيمان بأن للفرد ميزة خاصة ، قدرة إستثنائية ، جاذبية غريبة ، هبة ، كفاءة ، تمنح القائد من النفوذ ما يملي طاعته و يفسر الإلتحاق به (...) فهم ـ الكاريزميون ـ ناجحون في إثارة الإعجاب ، و الحماسة و الإخلاص العاطفي ، النزيه في غالب الأحيان ، إن إبداع الزعماء الكاريزميين ، يكمن في الحقيقة في قدرتهم على إقناع الآخرين بأنهم يقطعون و يدعون إلى القطيعة مع التقاليد Laurent Fleury ؛ (3) السلطة البيروقراطية : و يعد « ماكس فيبر » أول من نحت هذا المفهوم ، فقد شهد ما وصلت إليه الدول الغربية من تقدم اقتصادي و اجتماعي ، و يرمي هذا المفهوم في معناه الاشتقاقي إلى حكم المكاتب ، أما عند السوسيولوجيين ، فتعني العقلنة ، الغائية لجميع المجالات الاجتماعية ، و التي تبحث عن أنسب الوسائل لبلوغ أنسب الأهداف [ زهير قاسيمي ]؛ فهي القائمة على أساس الطاعة ، التي تؤدي الواجبات و الالتزامات ، لقوانين النظام القائم ؛ و هذه السلطة كان يمارسها خادم الدولة الحديثة ، و كل الذين يمسكون بزمام السلطة Max Weber ؛ هذه السيطرة العقلانية ، تقوم على الإيمان بشرعية الأنظمة و القوانين ، و الأشخاص الذين يطبقونها ؛ هنا تنحوا الشرعية لتكون مطابقة للمشروعية ، نظرا لأن النظام هنا ، يصدر عن قانون ؛ فالإيمان بقانونية النظام و شرعيته ، يحيل إلى قوة القانون ، كقاعدة شاملة مجردة ، لا شخصية ؛ إن الإدارة الحديثة ، تمثل صيغة النموذج ـ المثال للسيطرة العقلانية المشروعة ـ و هي الشكل الذي تتجلى فيه العقلنة ، أي النفوذ المتنامي لعقلانية شكلية ، مبنية على التطبيق المنهجي للأنظمة و الإجراءات ، و مفسحة في المجال لكي تكون الأشياء محسوبة ، و قابلة للإستشراف . هكذا تبدوا البيروقراطية بمثابة شكل رمزي من أشكال العقلانية الغربية ، نظرا لأن « ماكس فيبر » يشدد على أولية الشرعية القانونية القائمة في المجتمعات المحظية بدولة حديثة Laurent Fleury ؛ و هذه السلطة البيروقراطية العقلانية ، هي ما يميز الدول و المدن الحديثة ، و التي تقوم بشكل كبير على العقلنة و القانون و الترشيد . فعلاوة على ما سبق ، حاول « فيبر » أيضا أن يبرز ظهور المدينة في ضوء السياق الإجتماعي ، أي في ضوء الأشكال المختلفة للتنظيم الإجتماعي ، من خلال ، وضع تصورات للمدينة مثل التصور الإقتصادي ، و علاقة التصور الإداري و السياسي ، و تصور المدينة كحصن أو قلعة ، أو التصور القانوني و العسكري للمدينة و غيرها Reymound Ledrut ؛ طارحا مجموعة من المفاهيم الأساسية التي لها صلة بالمجتمع المحلي ، و بفهمها نستطيع أن نمهد لتصوره للمجتمع الحضري ، و هي كالأتي : (1) الأفعال الإجتماعية : و هي الوحدات النهائية ، أو المطلقة للتحليل السوسيولوجي ، إنها عبارة عن تصرفات إنسانية متداخلة و متبادلة ، ذات مغزى أو معنى معين للأطراف المشتركين فيها (2) العلاقات الإجتماعية : و يشير هذا المفهوم إلى ترتيب و أو تنظيم ثابت للعناصر التي تظهر في الفعل الإجتماعي ، فهي توجد بمعزل عن الأفعال الإجتماعية ، بل هي ترتيبات متخيلة للفعل يمكن تصورها على نحو مجرد كأنماط الفعل الإجتماعي الظاهر (3) النظم الإجتماعية : و ينطوي مفهوم النظام على نفس العلاقة القائمة بين الفعل و العلاقة الإجتماعية ، و لكن على مستوى أكثر تجريدا ، فالنظام الإجتماعي يعرض دائما أنماطا أكثر ثباتا للسلوك ، فدراسة النظم تمهد الطريق لدراسة الوحدات الكبرى المنظمة للحياة الإنسانية المتداخلة (4) المجتمع المحلي : هو وحدة كلية منظمة للحياة الإجتماعية لا يتميز بنظام واحد بعينه ، بل بمجموعة منسقة ومتداخلة من النظم [ عبد المالك عاشوري ] ؛ إنه لا مجال للشك أن المدينة بمعناها الكامل ، تعرف بخصائص محددة بدقة ، فإذا كانت المؤسسات التي تحصيها لا توجد بالمدينة ، فمن المستحيل أن نتكلم عن مدينة ، و كذلك النموذج المثالي للمدينة يجب أن يحتوي على العناصر التالية : السوق ، مكان القوة ، محكمة خاصة ، و قوانين مستقلة على الأقل جزئيا ، و تشكل رابطة خاصة ، و إدارة نسبيا مستقلة بسلطات الإنتخاب ، يشارك فيها سكان المدينة Max Weber ؛ هذا المعنى للمدينة محدود جدا ، حيث إستثنى أغلبية مدن المجتمعات الشرقية ، و تعرض فقط لنموذج التجمع الخاص بالغرب ، و الذي لا يمثل أيضا حال جميع المدن الغربية ، فالعواصم الكبرى الحديثة ، كونها مركز الحكومة الوطنية و فقدانها إستقلالها الذاتي ، فهي ليست مدن ؛ و سنقف عند عناصر هذا التعريف ، بقليل من التفصيل و الشرح كما يلي [ هالة منصور ] ؛ (1) المجتمع الحضري الكامل ، يجب أن يقوم على علاقات تجارية ، فالمدينة كما يعترف « ماكس فيبر » هي بيئة فيزيقية ، و لكنها تنظيم منذ البداية حول نمط يزيد من التبادل الإقتصادي ، إذ أنه من المستحيل على سكان المدينة أن يحققوا إكتفاءا ذاتيا ، فالإقامة في المدن تتطلب الإعتماد الإقتصادي المتبادل بينهم ، بنفس المعنى الذي أشار إليه « إميل دوركايم » عند إستخدامه لمصطلح التضامن العضوي ، فالجوانب الإقتصادية لحياة المدينة تبلغ أهميتها إلى درجة تحتم تطوير ميكانيزم متميز ، لتسهيل هذا التبادل الإقتصادي ، ألا و هو السوق (2) ينبغي أن يتحقق المجتمع الحضري الكامل صفة الإستقلال الذاتي ، الذي يتمثل في وجود محكمة و قانون خاص به ، و إستقلال ذاتي من الناحية السياسية ، و إكتفاء ذاتي من الناحية العسكرية ، يتضمن أنساق خاصة للتحصينات و الجيوش للدفاع ، فشرط الإستقلال الذاتي ، حسب « ماكس فيبر » مطلب ضروري ، إذا أراد سكان المدينة أن يوحدوا ما بين المدينة و ذواتهم ، و كذلك ضرورة الولاء للمكان (3) يعتبر تطوير الشكل الملائم للروابط الإجتماعية ، بين سكان المجتمع الحضري من شروط وجوده ، و هذا يعني حسب « فيبر » أن المعيشة في المدن تقتضي تطوير علاقات و تنظيمات إجتماعية ، يستطيع سكانها المشاركة الهادفة في حياة مدينتهم ؛ من هذا المنطلق ، يعتبر « ماكس فيبر » المجتمع الحضري كاملا ، إذا توافرت فيه الشروط التي ضمها تعريفه ، لهذا النموذج المثالي للمجتمع الحضري الكامل ، و كان دليله في ذلك أن ذروة الثقافة الحضرية قد تحققت من قبل ، في فترات تاريخية سابقة [ عبد المالك عاشوري ] ؛ فعلى ضوء ما سبق ، يمكن القول بمعنى إستنتاجي ، بأن العنصر المشترك في التعريفات للمدينة حسب « فيبر » هو أنها تتكون من مجموعة أو أكثر ، من المساكن المتفرقة ، لكنها نسبيا تعد مكان إقامة مغلق ، إذ تبنى المنازل في المدن ـ عادة ـ قريبة بعضها من بعض ، فيكون الحائط لصيق الحائط ، كما هو الحال في المدينة الحديثة الآن ؛ أي أن المدينة منطقة محلية مستقرة ، و مكان يتميز بالمساكن الكثيفة ، مكونة نوعا من المستوطنة شديدة الإزدحام ، إلى الدرجة التي يفتقر فيها التعرف المتبادل بين السكان ؛ و على هذا يري « ماكس فيبر » أن المدينة الحديثة ، هي نسق أو محل إقامة مغلق نسبيا ، لتجاور المنازل بشكل كبير ، و من شروطها الضرورية ، توفر السوق ، و وضوح وظيفتها الإقتصادية ؛ بمعنى مغاير ، يستحيل الحديث عن المدينة حسب « ماكس فيبر » دائما ، دون ذكر ، إلزامية و ضرورة سيطرة العلاقات التجارية ، و توافر العديد من الشروط الأساسية كالعقلنة و الشرعنة ، التي يشكل تفاعلها مجالا يسمى بالمدينة ، و تلك الخصائص تتمثل أساسا ، في وجود الحصن و السوق ، و المحكمة ، و كذلك الإستقلال الذاتي ؛ كل هذه العناصر ، تشكل النموذج المثالي للمدينة ، المبني على الترشيد و العقلنة ، و المخالف لذاك النموذج التقليدي للريف و البادية .
يتبــــع ...
#يونس_بنمورو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السوسيولوجيا الكلاسيكية و المسألة الحضرية [2]
-
السوسيولوجيا الكلاسيكية و المسألة الحضرية [1]
-
ترجمة [8] كيف تصبح أبا
-
ترجمة [7] كيف تصبح أبا
-
ثقافة المقاولة : مكوناتها و خصائصها
-
ترجمة [6] كيف تصبح أبا
-
جاك بيرك : شيخ المستشرقين المنحاز لقضايا العرب و المسلمين
-
حسن المجاهيد : سوسيولوجيا العالم العربي لدى جاك بيرك
-
ضيف و حوار : الدكتورة عائشة التاج
-
ترجمة [5] كيف تصبح أبا
-
ترجمة [4] كيف تصبح أبا
-
ترجمة [3] كيف تصبح أبا
-
ماكسيميليان فيبر: مسار عالم
-
ترجمة [2] كيف تصبح أبا
-
ترجمة [1] كيف تصبح أبا
-
أوغست كونت : عندما تكون الإنهيارات الداخلية وراء الخلق و الإ
...
-
بيير بورديو : مفكر الخلخلة و الإزعاج
-
برقية سابعة من صديق على عتبة الإلحاد
-
برقية سادسة من صديق على عتبة الإلحاد
-
برقية خامسة من صديق على عتبة الإلحاد
المزيد.....
-
رنا رئيس تكشف عن أغنية زفافها الخاصة.. و-بنت أبويا- أصبحت تق
...
-
لقطات منسوبة لإسقاط مقاتلات رافال هندية خلال التوتر مع باكست
...
-
إسرائيل: رصد صاروخ باليستي أطلق من اليمن وسقط خارج البلاد
-
مستشار ألمانيا يعلن عن استعداد بلاده لتقديم ضمانات أمنية لأو
...
-
اكتشاف آلية غير متوقعة وراء تلف القلب بعد النوبات
-
-تل المخروط-.. -هرم- غامض في غابات الأمازون يحير العلماء!
-
مصر.. مراهق من جنسية عربية يهتك عرض كلب في الشارع (صورة)
-
ميدفيتشوك: صفقة زيلينسكي مع واشنطن حوّلت أوكرانيا رسميا إلى
...
-
-شعرنا بالفزع-.. أكثر من 70 مشاركا سابقا يطالبون باستبعاد إس
...
-
فانس: روسيا مهتمة بحل النزاع وواشنطن تسعى لخلق حوار ثنائي مب
...
المزيد.....
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
المزيد.....
|