أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - عمّار العربي الزمزمي - الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة في تونس بين الطموحات و مقتضيات الواقع















المزيد.....


الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة في تونس بين الطموحات و مقتضيات الواقع


عمّار العربي الزمزمي

الحوار المتمدن-العدد: 3985 - 2013 / 1 / 27 - 19:52
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    




حتى وقت قريب كانت سهام نقد الائتلاف الحاكم موجهة إلى نداء تونس أكثر من سواه من فصائل المعارضة لكن منذ حصول أحداث سليانة (1) و الهجوم على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل و قرار الإضراب العام الذي تلاه(2) تركز الهجوم على الجبهة الشعبية و من ورائها أقصى اليسار. و لعل ذلك يعود إلى الاعتقاد بأنها تقف وراء رفع بعض الشعارات خلال التحركات التي شاركت فيها, و أبرزها و أخطرها على الإطلاق "الشعب يريد إسقاط النظام" و "الشعب يريد ثورة ثانية".
إن الجبهة الشعبية لا تذكر طبعا مساندتها للاحتجاجات الشعبية التي تراها مشروعة و لا تخفي أيضا دعوتها لإجراء تغيير عميق في السلطة المؤقتة أمام فشل الحكومة الحالية في إدارة المرحلة الانتقالية لكنها لم تتبن شعار إسقاط النظام و لم تدع صراحة إلى ثورة ثانية. لكن لا باس من الوقوف عند نشأة الجبهة الشعبية و الأهداف التي رسمتها لنفسها و مدى قدرة وسائل النضال المعتمدة على تحقيق طموحاتها.
الجبهة الشعبية من خلال وثائقها:
لقد تم تأسيس الجبهة يوم 7-10-2012 و تضمن بلاغها الإعلامي الأول النقاط الأربع التالية:
-إصدار نداء «موجه إلى عموم القوى الوطنية و الثورية و إلى عموم الكفاءات و الطاقات النضالية المتشبثة بتحقيق أهداف الثورة [...] من اجل المشاركة في تأسيس الجبهة الشعبية و بنائها».
-صياغة «مشروع أرضية سياسية و نظام داخلي و لائحة للمهام المباشرة».
-«عقد ندوات جهوية و محلية و قطاعية لتوحيد المواقف و الممارسات بين مختلف مكونات الجبهة و تركيز هياكلها الجهوية و المحلية و القطاعية».
-«عقد مؤتمر وطني تأسيسي للجبهة يصادق على الوثائق النهائية للجبهة و يفرز هياكلها القارة».
و قد خطت الجبهة خطوات هامة على طريق إنجاز ما أعلنت عنه إذ صدر النداء و صيغ مشروع الأرضية السياسية و النظام الداخلي و حصل تقدم في تركيز الهياكل و عقد الندوات المزمع عقدها و الأهم من هذا أن الجبهة تحولت إلى طرف له حضور لافت في الحياة السياسية و أثارت بتحركاتها ردود أفعال متباينة. فمن مرحب بقطب جديد يلم شتات اليسار و جزء من القوميين إلى ناعت لها بالتطرف و ربما بالكفر و الالحاد إلى مشكك في قدرتها على تشكيل قطب ثالث يجعل البلاد تتجاوز حالة الاستقطاب الثنائي نهضة/نداء تونس.
فإلى أي حد يستجيب قيام الجبهة لمتطلبات المرحلة الحالية التي تمر بها البلاد؟ و ما مدى قدرة ما تطرحه من مهام على الاستجابة لهذه المتطلبات؟
تبدو الجبهة الشعبية لأول وهلة مجرد بعث لجبهة ولدت شبه ميتة و هي جبهة 14 جانفي (3) لكنها في الواقع تختلف عنها بفتح أبوابها واسعة للمستقلين الذين منحهم مشروع قانونها الداخلي تمثيلية بنسبة الثلث في هيئاتها التسييرية بمختلف مستوياتها (الوطنية و الجهوية و المحلية و القطاعية). و قد أنضم إليها كثير من المثقفين و الفنانين و الاعلامين و الحقوقيين و نشطاء المجتمع المدني الذين لا يرغبون في النشاط داخل الأحزاب.
و يبدو من خلال الوثائقق المشار إليها سابقا(4) ان الجبهة تطرح على نفسها تحقيق أهداف الثورة التي لم تتحقق لحد الآن. فهي تسعى إلى «تجميع القوى الوطنية و الثورية و توحيد صفوفها» و نداؤها «موجه إلى عموم القوى الوطنية و الثورية و عموم الكفاءات و الطاقات النضالية المتشبثة بتحقيق أهداف الثورة». و لئن أقرت الجبهة من خلال مشروع الأرضية السياسية بان الشعب التونسي حقق بعد اعتصامي القصبة الأول و الثاني (5) عديد المكاسب و أبرزها فرض هامش من الحريات العامة و حل التجمع الدستوري قانونيا و حل مجلس النواب و المجلس الدستوري الصوريين و إلغاء القوانين الديمقراطية (قانون الأحزاب, قانون الجمعيات,مجلة الصحافة...) و تعليق العمل بدستور 1959 و الاستجابة لمطلب المجلس التأسيسي لسن دستور جديد, فإن الجزء الأكبر من أهداف الثورة و خاصة في المستوى الاقتصادي و الاجتماعي و الوطني لم يتحقق في ظل الحكومات المتعاقبة بما في ذلك الحكومة الحالية التي انتجتها انتخابات 23 أكتوبر 2011».
و بناء على هذا رأت الجبهة «أن الهدف الرئيسي للجبهة هو استكمال المسار الثوري و إرساء سلطة الشعب عبر كل أشكال النضال الممكنة بما في ذلك الانتخابات».
بكثير من التبسيط يمكن القول بأن الجبهة حددت:
-أولا: الهدف الرئيسي لها و هو «استكمال المسار الثوري و إرساء سلطة الشعب».
-ثانيا: القوى المناط بعهدتها تحقيق هذا الهدف و هي «القوى الوطنية و الثورية».
-ثالثا: الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف و هي « كل إشكال النضال المملكة بما في ذلك الانتخابات».
فما مدى و جاهة هذا التحديد؟

في الحاجة إلى تدقيق المفاهيم:
عند الحديث عن الشعب و عن القوى الوطنية و الثورية لا بد من تدقيق المفاهيم إذ ثمة فرق بين المواطنة التي هي مفهوم محايد و الانتماء إلى الشعب و القوى الوطنية و الثورية التي هي مقولات سياسية متغيرة حسب الظروف التاريخية. وهذا ما يجعل التساؤل مشروعا عن المقاييس التي يجب أن تعتمد في تحديد الذين ينتمون إلى صفوف الشعب وإلى القوى الوطنية و الثورية. فكثيرا ما تم التساؤل عن الأهداف التي قامت من أجلها الثورة و كانت الإجابة أنها قامت من أجل تحقيق الحرية و الكرامة و التنمية العادلة التي تضمن حق الشغل للجميع و هذا يفترض اتباع نموذج جديد للتنمية مختلف عما عرفته البلاد منذ الاستقلال لكن لا يتم عادة التساؤل عن الذين قامت من أجلهم الثورة. قد يقال بأنها قامت من أجل الجهات و الفئات المحرومة المهمشة و الشباب المعطل عن العمل لكن ذلك غير دقيق فقد قامت أيضا من اجل تحرير فئات ميسورة كانت ضحية ابتزاز مافيا اقتصادية تفرض عليها شراكات مشبوهة و تعطل مشاريعها إذا لم تنصع لرغباتها و ابتزازها و حتى إذا لم تشارك هذه الفئات الميسورة بشكل نشيط في الإطاحة ببن علي فإنها رحبت برحليه و لم تدافع عنه.
و إذا نظرنا إلى الواقع السياسي اليوم فأين يمكن وضع مئات الآلاف من أبناء الفئات الشعبية الذين قامت من اجلهم الثورة بل شاركوا فيها بشكل نشيط لكنهم اختاروا في انتخابات 23 أكتوبر 2011 قوى سياسية تعتبر نفسها اليوم المدافع عن الثورة رغم أنها لم تشارك فيها و لم تفعل ولن تفعل شيئا لتحقيق أهدافها لأنها ببساطة لا تملك بديلا ثوريا يقطع مع النموذج السابق للتمنية و مع علاقات التبعية للخارج و يفكك منظومة الاستبداد و يحقق العدالة الانتقالية. فهل كفت هذه الجموع التي تعتبر السلطة الحالية ممثلا للثورة عن أن تكون جزءا من الشعب أي هل يجوز وضعها في صفوف أعدائه؟
لا بد هنا من التذكير بحقيقة بسيطة كثيرا ما يتم إغفالها و هي أن الجموع قد تختار في فترة الأزمات من لا يمثل فعلا مصالحها و الأمثلة كثيرة في التاريخ. ألم ينتخب الألمان هتلر و الايطاليون موسوليني؟ لقد بدا كل منهما الرجل القوي الباعث لأمجاد الماضي و بدا نظامه الضامن للخروج من الأزمة لكن تلك الجموع نفسها اكتشفت من خلال تجربتها التي امتددت سنوات خطأ اختيارها. ألم يعدم المقاومون الايطاليون موسوليني شنقا في الخلاء؟.
إن الثورة التونسية التي لم تكون لها قيادة مركزية معترف بها تعيش أزمة قيادة مما جعل جزءا منها يرى البديل في حركة النهضة التي كانت منظمة مهيكلة أكثر من غيرها و تعرضت في المرحلة الأخيرة إلى اضطهاد أكبر من بقية القوى السياسية.
و ما يكمن الانتهاء إليه أن جزءا من الشعب الذي انتفض في مجمله ضد النظام السابق مازال لحد الآن يثق بالسلطة الحاكمة و خصوصا النهضة رغم تراجع شعبيتها إلى حد بعيد و لا ينتظر في المدى القريب أن ينخرط هذا الجزء من الشعب في عمل يرمي إلى تحقيق ما بقي من أهداف الثورة فشعاره الذي يردده باستمرار هو "خلوا الحكومة تخدم" (8) .
و أين نضع الذين يسيرون وراء من ينعتون بالسالفين و الجهاديين؟ أنخرجهم من صفوف الشعب و نعتبرهم رجعيين؟!
أشكال النضال و إشكالية الشرعية :
إذا انتقلنا إلى الوسائل الكفيلة بإرساء سلطة الشعب نجد مشروع الأرضية السياسية للجبهة الشعبية يتحدث عن «كل أشكال النضال الممكنة بما في ذلك الانتخابات». فما هي أشكال النضال الممكنة؟ و هل يدرك من صاغوا النص أن هذه الصيغة تعني لغويا أن الانتخابات هي آخر شكل أو الشكل الأقصى الذي يمكن الالتجاء إليه؟ و في هذه الحالة ما هي بقية الأشكال التي يجب تسبيقها على الانتخابات ؟!
إن الحديث عن ضرورة مواصلة النضال لتحقيق أهداف الثورة كاملة يثير أكثر من إشكال. فهل يجوز مثلا الحديث اليوم عن شرعية ثورية و وسائل عمل ثورية أم يجب الإقرار بأن الشرعية الثورية انتهت و أن البلاد دخلت مسارا انتقاليا يتم فيه الاحتكام إلى المؤسسات و احترام قواعد اللعبة السياسية التي منها القبول بما تفرزه صناديق الاقتراع؟ ألم ترفض عديد القوى و منها الجبهة الشعبية نفسها مبدئيا حديث ما يعرف برابطات حماية الثورة عن شرعيتها الثورية؟ ألم يقل لها المعترضون على وجودها المطالبون بحلها بأنه لا يجوز الحديث عن شرعية ثورية بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 و قيام مؤسسات شرعية منتخبة؟
أخشى أن يكون البعض مسكونا بالحنين إلى نموذج الثورة الروسية في 1917 حيث تم إسقاط سلطة القيصر الأوتوقراطية المستبدة في فيفري 1917 و تشكيل حكومة كيرنسكي الليبرالية و بقي البلاشفة المسيطرون على السوفياتات خارجها و مارسوا سياسة المساندة النقدية لها لكن لينين الذي عاد من المنفى سرعان ما اصدر ما يعرف بأطروحات أفريل التي دعت إلى التخلي عن هذه السياسة و رفعت شعار "كل السلطة للسوفياتات". و فعلا تزعم البلاشفة ثورة ثانية في أكتوبر كانت أداتها التنظيمية السوفياتات. و قد رأى يومها البعض –بما في ذلك قوى يسارية- أن ما أقدم عليه البلاشفة هو خروج عن الشرعية لكن هؤلاء برروا ما حصل بالشرعية الثورية.
ربما كان هذا النموذج مغريا قبل انتخابات 23 أكتوبر حين كانت لجان حماية الثورة أو مجالس حماية الثورة (9) إطارا للتعبئة الثورية و نواتات لسلطة ثورية بديلة عن السلطة التي انهارت. و حتى في هذه الحالة فإن أوضاع تونس مختلفة أشد الاختلاف عن ظروف روسيا القيصرية. ففي روسيا كان للبلاشفة -كحزب منظم- دور مهم في جعل المجندين يفرون من الجبهة بأسلحتهم و هذا ما سهل عليهم فيما بعد تسليح الثوار الذين تسلموا السلطة ثم خاضوا حرب أهلية دامت سنوات ضد القوى المعادية للثورة في الداخل و ضد تدخل القوى الخارجية المساندة لها. بينما الثورة التونسية كانت سلمية في مختلف مراحلها و لم تكن لها قيادة مركزية لذلك تشكلت على أنقاض المجلس الوطني لحماية الثورة التي كرست شعار انتخاب مجلس تأسيسي الذي رفع أثناء الثورة و خصوصا في اعتصامي القصبة الأول و الثاني و بذلك دخلت البلاد مسارا انتقاليا يرمي إلى تكوين مؤسسات شرعية.
على الجبهة الشعبية أن تختار إذن بوضوح لا يدع مجالا للشك –لا في مستوى قياداتها فحسب و إنما في مستوى قواعدها أيضا و بالخصوص- بين الشرعية الثورية و شرعية المؤسسات. فإما أن تتمسك بالنهج الثوري و تتخلى عن الانخراط في المسار الانتقالي و ما أفرزه من مؤسسات و إما أن تنخرط في هذا المسار و تتخلى عن النهج الثوري في التغيير(10).
جبهة ثورية أو جبهة ديمقراطية:
ما يلفت الانتباه أكثر في مشروع الأرضية السياسية للجبهة الشعبية هو الحديث عن التفاف التحالف الحاكم على الثورة. «فقد بدا واضحا أنه يسير بخطى حثيثة نحو الالتفاف على ثورة شعبنا و التمهيد لإعادة إنتاج نظام التبعية و الاستبداد و الفساد بغلاف ديني "أكثر من ذلك" إن وحدة الشعب مهددة بالصراعات العقائدية المفتعلة [...] كما وقع التفاف على الإصلاحات الديمقراطية [...] و إن حركة النهضة التي تقود الائتلاف الحاكم و توجهه تسعى إلى [...] إرساء دكتاتورية جديدة تصفي مكاسب الثورة كما تصفي المكاسب التاريخية و الحضارية للشعب التونسي في مختلف المجالات الاجتماعية و الثقافية و التربوية و خاصة المكاسب التي حققتها المرأة» و جاء بنداء الجبهة «إن المخاطر و الأزمات التي ولدتها سياسات هذا الائتلاف تتجاوز حدود الالتفاف على أهداف الثورة إلى تهديد غير مسبوق للنسيج الاجتماعي و السيادة الوطنية و قيم الجمهورية ».
البلاد إذن حسب الجبهة الشعبية لا تواجه تقصيرا في تحقيق أهداف الثورة و إنما هي تواجه خطر الرجوع إلى الوراء خطر عودة الدكتاتورية. ألا يعي المتحدثون عن خطر انتصاب نظام دكتاتوري في لبوس جديد أن المطروح يصبح منطقيا لا تحقيق أهداف الثورة كاملة و إرساء سلطة الشعب و إنما درء هذا الخطر الداهم و هذا يعني أن القوى المعنية بالنضال ليست القوى الثورية وحدها بل يجب أن تنضم إليها كل القوى الديمقراطية المناهضة للدكتاتورية.
و في هذه الحالة كيف يمكن النظر إلى القوى الماسكة بزمام السلطة اليوم؟ أهي منافس أم خصم أم عدو؟ و إذا كانت الدكتاتورية الناشئة عدوا –و هذا ما يجب الانتهاء إليه منطقيا- فكيف تستقيم الدعوة إلى إقامة حوار معها؟! الم تقبل الجبهة الشعبية مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل التي دعت إلى حوار وطني تشارك فيه مختلف الأطراف دون استثناء سواء كانت في السلطة أو في المعارضة؟
و إذا تم النظر إلى النهضة التي تقود الائتلاف الحاكم على أنها قوة تحمل مشروعا مجتمعيا يهدد بنسف مكاسب الشعب التونسي التاريخية و الحضارية فكيف يمكن النظر إلى القوى التي على يمينها و التي تنعت عادة بالسلفية و الجهادية؟ أيقع اعتبارها أشد خطورة أم توضع في كيس واحد مع النهضة دون تمييز بدعوى أن الطرفين يتقاسمان الأدوار؟ و هل من المعقول عدم التمييز بين من يعلن انخراطه في مسار انتقالي يرمي إلى إرساء دولة مدنية و يقبل بقواعد اللعبة السياسية من جهة و من لا يعترف بهذا المسار و يصر على إقامة دولة دينية خارج المؤسسات السياسية القائمة من جهة أخرى؟
و ما موقف الجبهة الشعبية من قوى سياسية تنادي بالديمقراطية و تستشعر مثلها خطر تغيير نمط المجتمع؟ من هذه القوى الحزب الجمهوري و المسار الديمقراطي على سبيل المثال.
و هل يعقل قيام جبهة لا تضم فصائل قومية مهمة؟ تاريخيا كان القوميون في مجملهم حليفا طبيعيا لليسار في تونس منذ الستينات. و حتى خلال الثورة الأخيرة كان اليساريون و القوميون التيارين الرئيسيين الفاعلين في الأحداث و المؤطرين لها في الاتحادات المحلية و الجهوية التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل و كان لهما دور مهم في تشكيل لجان حماية الثورة ثم مجالس حماية الثورة. و حتى في التحركات الشعبية التي تحصل اليوم في الجهات فإننا تشهد تحالفا قاعديا عفويا بين هذين التيارين.
لقد دخلت الجبهة الشعبية في الفترة الأخيرة باحتشام في عمل تنسيقي يرمي إلى مقاومة العنف في العمل السياسي(11) و اعتبرت ذلك مجرد تنسيق مواقف أو تفاهمات حول مهام محددة لا ترتقي إلى مستوى التحالف الجبهوي. إلا يعكس ذلك في النهاية الشعور بالحاجة إلى توسيع الجبهة؟
جبهة للحكم أم قوة معارضة؟
تطرح الجبهة الشعبية نفسها كجبهة للحكم أي كطرف قادر على استلام السلطة في الموعد الانتخابي القادم(12) فهل هي جادة فيما تقول؟ و جاء على لسان أحد قادتها بأن برنامجها السياسي يمثل حدا أدنى يمكن أن يلتف حوله 90 % من الشعب التونسي (13). أولا نحن مازالنا نتظر الإعلان عن البرنامج المفصل الذي يتجاوز التوجهات و الشعارات العامة إلى الحلول العملية للمشاكل القائمة و ثانيا ما المقصود بالحد الأدنى؟ جاء بمشروع الأرضية السياسية «يتأسيس هذا البديل على أرضية سياسية تشكل الحد الأدنى السياسي و الوطني لكل القوى و الأطراف الوطنية و الشعبية المتمسكة بالنضال من أجل تحقيق أهداف الثورة». إن الحديث عن تحقيق أهداف الثورة كاملة لا يمثل حدا أدنى بل هى حد أقصى في مرحلة تاريخية كاملة يمكن نعتها حسب المفاهيم المعروفة في الفكر الماركسي اللينيني بمرحلة الثورة الديمقراطية الوطنية.
و لنفترض أن البرنامج المقترح يخدم مصلحة 90 % من التونسيين فهل المحدد في التفاف الجموع حوله هو فقط صحة ما يتضمنه؟ فلو قمنا بعملية مسح سريع للساحة السياسية فسنجد أن نسبة لا يستهان بها من التونسيين مازالت تثق بالنهضة مهما أظهرت من قصور في التسيير و عجز عن إدارة المرحلة الانتقالية و عدم إيفاء بالوعود التي قطعتها على نفسها في حملتها الانتخابية. فهم انتخبوها لأنها تضم في اعتقادهم أناسا يخافون الله. و قد ورد على لسان أحدهم ما يلخص عقليتهم. قال ما معناه: « لن أصدق بأن أحدا من قادتها يمكن أن يلحق ضررا بالبلاد و لو رايته يسكب البنزين و يضرم فيه النار»!.
و نسبة أخرى من التونسيين يستقطبها نداء تونس الذي مازال لم يعلن بعد عن برنامجه السياسي و لكنه يرفض أداء الائتلاف الحاكم و يحذر من خطر التراجع في مكتسبات الشعب التونسي. و ثقة هؤلاء التونسيين في الباجي قائد السبسي كزعيم أكبر من ثقتهم في حزبه في حد ذاته. فهم لا يعنيهم أن يكون على رأس الدولة شيخ بعد قيام ثورة تنعت بأنها ثورة شباب و لا يقيمون كبير وزن لكونه من رموز البورقيبية بل يرى بعضهم بأن ذلك مما يزيد الثقة به !
أنهم يشعرون بالحاجة إلى زعامة إلى منقذ و لا يجب أن نستهيين بمنطق الجموع في فترات الأزمات. ألم يشعر السوفيات –إبان الحرب العالمية الثانية في مواجهة الغزو النازي- بالحاجة الى وسائل تعبئة ظنوا أنهم تجاوزوها في ظل الدولة الاشتراكية؟ ألم يوقظوا في الجموع الشعور الوطني و يردوا الاعتبار للكنيسة التي سبق أن حاصروها؟ الم يقع نفض الغبار في السينما التي قامت بدور تعبوي عن شخصيات تاريخية تعود إلى العهود الإقطاعية مثل ايفان الرهيب و الأمير نيفسكي و غيرهما؟
ثم إن جزءا آخر من التونسيين موزع على بقية القوى و الأحزاب فماذا يبقى للجبهة الشعبية و الحال هذه؟ أين نحن من الــ90 % المتحدث عنها؟ أ تريد الجبهة الشعبية أن تتسلم فعلا السلطة أو أن تشارك فيها على الأقل مع غيرها أم تريد أن تبقى قوة معارضة؟
جاء بمشروع الأرضية السياسية أن الجبهة الشعبية «تشكل بديل حكم حقيقي و تتجاوز الاستقطاب الثنائي المغشوش الذي يقابل بين "قطبين" و الحال أنهما يلتقيان في الحفاظ على نفس التوجهات الاقتصادية الليبرالية المرتهنة للدوائر الأجنبية و إن تغلف أحدهما بغلاف ديني و الآخر بغلاف "حداثوي" ».
انه "النضال على جبهتين" و هذا يذكر بمقولة طالما رددها الشيوعيون قبل الانخراط في جبهات شعبية في الثلاثينات من القرن العشرين و هي اعتبار الاشتراكين من جهة و النازيين و الفاشيين من جهة أخرى "أخوين توأمين!".
و مما يؤكد أن النضال على جبهتين اختيار سياسي بالنسبة للجبهة الشعبية رفع أنصارها في بعض تظاهراتها للشعار التالي "جبهة شعبي لا تجمع لا خوانجية". فإلى أي حد يصح اعتبار نداء تونس مجرد صيغة جديدة للتجمع الدستوري مثلما يعتقد كثيرون و في مقتمدتهم الائتلاف الحاكم و لو انه انتهى إلى الحديث عن "تجمعيين جدد"؟ من الصعب إعادة الحياة للتجمع االدستوري المنحل بمواصفاته المعروفة و لو بقيت الرغبة لدى البعض. صحيح أن جزءا من منخرطيه التحقوا بنداء تونس لكن ألم يلتحق غيرهم بأحزاب أخرى بما في ذلك الأحزاب المكونة للائتلاف الحاكم؟ صحيح أيضا أن جزءا من قاعدة نداء تونس الحزبية ينتمي إلى الفئات الميسورة ذات التوجه الليبرالي التي يطمئنها شخص الباجي قائد السبسي و حزبه على مصالحها في عالم الأعمال لكن هذا الحزب يضم أيضا كثيرا ممن ينتمون إلى فئات شعبية و يبحثون عن الأمن و الاستقرار و إعادة هيبة الدولة في ظل التسيب و الانفلات الأمني و يرون بأن الباجي قائد السبسي قادر على تحقيق ما يريدون.
إن النضال على جبهتين من شانه أن يقلص حظوظ الجبهة الشعبية في الوصول إلى السلطة كما تريد و يجعلها مرشحة للبقاء في المعارضة و يقوي حظوظ النهضة في البقاء على رأس ائتلاف حاكم جديد مع ما في ذلك من خطر السير خطوات أكبر في تنفيذ مشروعها المجتمعي الذي تخشاه الجبهة الشعبية!
مقتضيات الواقع:
إن الثورة التونسية –بحكم أفتقادها لقيادة مركزية حاملة لمشروع مجتمعي تستطيع تنفيذه بما لها من شرعية ثورية حقيقة- ستتواصل بين مد و جزر لسنوات قادمة.
و قد أثبتت التجربة خلال السنتين المنقضتين من عمر الثورة أنه لا وجود لقوة سياسية قادرة بمفردها أو على رأس ائتلاف غير واسع على حكم البلاد و ضمان الأمن و الاستقرار الذين هما شرط أساسي لانطلاق التمنية و توفير الشغل و هما من المطالب المهمة التي قامت من أجلها الثورة. لذلك من مصلحة البلاد و العباد أن يحصل حوار وطني تشارك فيه كل القوى الساسية بدون إقصاء إضافة إلى فاعليات المجتمع المدني بغية حصول توافق أوسع ما يكون على إنهاء المرحلة الانتقالية. و لن ينفع في هذه المرحلة سعي الائتلاف الحاكم الى مجرد الانفتاح على قوى قريبة منه و تمسك النهضة بوزارات السيادة في حكومة جديدة مرممة. من مصلحة البلاد أيضا قيام تكتل أتوسع ما يكون للقوى الديمقراطية حتى لا تتمكن النهضة من فرض مشروعها المجتمعي الخاص على الأغلبية . و حتى إذا ما قدر لهدا التكتل أن يفوز بالأغلبية في الانتخابات القادمة فليس في مصلحة البلاد إقصاء النهضة لأن ذلك سيجعلها تتقارب مع المتشددين فلا يحصل الاستقرار المرجو و ربما قد يجعل ذلك البلاد تنجر نحو حرب أهلية مدمرة. فمن المفروض أن تحتل النهضة مكانها بحجمها الحقيقي في الحياة السياسية و أن تتدرب هي و غيرها على الالتزام بالديمقراطية و التداول السلمي على السلطة.
الحامة, الأسبوع الأول من جانفي 2013
الهوامش و الإحالات :
(1) تحركات شعبية تحولت إلى انتفاضة مطالبة برحيل الوالي و تحقيق التنمية بالجهة و قد واجهتها السلطة بشدة تجلت في استعمال سلاح جديد هو الرش المستعمل عادة في صيد الحيوانات البرية.
(2) قرر الاتحاد العام التونسي للشغل الدخول في إضراب عام يوم 13 ديسمبر 2012 للاحتجاج على تعرض مقره المركزي بساحة محمد علي بالعاصمة إلى هجوم من قبل ما يعرف برابطات حماية الثورة التي طالب بحلها .
(3) جبهة 14 جانفي تشكلت بعد قيام الثورة من مجموعة من الأحزاب لكنها لم تعمر طويلا .
(4) للتذكير المقصود هو: بلاغ أعلامي- نداء الجبهة الشعبية- مشروع الأرضية السياسية.
(5) إعتصامان شعبيان في ساحة الحكومة بالقصبة طالبا بسقوط حكومة محمد الغنوشي و قد تحقق هذا المطلب .
(6) أول يوم التحق فيه أنصار النهضة بالجملة بالتحركات الشعبية كان يوم 17 جانفي 2011 أي ثلاثة أيام بعد رحيل بن علي مما يدل على أنهم تلقوا تعليمات بهذا الشأن من قيادتهم التي حسمت موقفها من الأحداث الجارية بالبلاد.
(7) الحديث عن ثورة عفوية تماما غير دقيق. لقد كان للثورة قيادات محلية و ربما جهوية أطرت التحركات و حددت الشعارات داخل مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل لكن الصحيح انه لم يكن لها قيادة مركزية.
(8) بالنسبة لغير التونسيين هذا الكلام يعني "دعوا الحكومة تعمل" .
(9) يجب التمييز بين لجان حماية الثورة و مجالس حماية الثورة التي تكونت في البداية و ضمت فعاليات مختلفة من جهة و رابطات حماية الثورة التي تكونت لاحقا و ضمت ألوانا سياسية بعينها و تحديدا القوى المتواجدة داخل الئتلاف الحاكمم و خصوصا النهضة.
(10) مواقف قادة الجبهة واضحة لكن يجب أن يحصل تناغم تام بين القيادات و القواعد.
(11) من ذلك اللقاء بين الجبهة الشعبية و الحزب الجمهوري.
(12) ورد هذا على لسان الناطق باسمها حمة الهمامي في إحدى المقابلات التلفزيونية .
(13) ورد هذا على لسان شكري بلعيد في إحدى المقابلات التلفزيونية.



#عمّار_العربي_الزمزمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما الذي يحدث في تونس؟ اضطرابات مفتعلة أم بوادر ثورة ثانية أم ...
- اعادة تشكيل الخارطة السياسية التونسية :المخاض العسير وخطر ال ...
- احتضان تونس لاشغال المنتدى الاجتماعي العالمي : الابعاد و الر ...


المزيد.....




- -حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو ...
- الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن ...
- مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال ...
- مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م ...
- مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
- هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
- مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
- بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل ...
- -التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات ...
- القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو) ...


المزيد.....

- قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند / زهير الخويلدي
- مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م ... / دلير زنكنة
- عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب ... / اسحق قومي
- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - عمّار العربي الزمزمي - الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة في تونس بين الطموحات و مقتضيات الواقع