|
تأملات في فلسفة الزواج
نورس كرزم
باحث وموسيقي متخصص في علم الدماغ والأعصاب
(Dr. Nawras Kurzom)
الحوار المتمدن-العدد: 3980 - 2013 / 1 / 22 - 23:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لعله من الجلي أننا نحيا كفلسطينيين في مجتمع رجعي لا يزال يرزح تحت وطأة الموروث الديني-التقاليدي. ولسنا نغالي عندما نصور الفرد الفلسطيني المعاصر بالأسير المُثقل بالسلاسل التي تكبّل كل جزء من جسده، لا بل وتعيقه عن أي نزعة تقدمية مستقبلية، أو حتى مجرد نقد بناء للماضي. لكن الأنكى من هذا كله، هو أننا لا نلمس لدى الأغلبية من أفراد مجتمعنا أية بادرة لتحطيم تلك القيود البالية، والانطلاق إلى ساحة الحياة بحرية كما ولدتهم أمهاتهم.
إلا أننا لا نبدي غالباً تعجباً مفرطاً حيال هذه الظاهرة، فبعض التمحيص الأولي يُطلعنا على دواعٍ أعمق أدّت إلى مثل هذه الحالة. فلو تناولنا الموضوع من وجهة نظر مادية-ديالاكتيكية، لأدركنا على الفور، ومن خلال اطّلاعنا على التفاعلات الديناميكية داخل مجتمعنا، أن مثل هذه الظواهر تمثل انعكاساً لبنية اجتماعية أكثر عمقاً. فالبنية الفوقية (نمط تفكير المجتمع وقيمه) ما هي في الواقع إلا انعكاس للبنية التحتية (الاقتصادية والسياسية)، ولسنا بحاجة إلى توضيح مظاهر الاتكالية والتبعية والعجز الحاضرة بقوة على مستوى البنية التحتية.
وإني لا أكاد أتطرّق إلى هذا الموضوع، إلا وتقفز إلى ذهني قضية هامة: الزواج. فمما يدعو إلى الدهشة هو طريقة تعاطي شباب وشابات مجتمعنا مع هذه المسألة، إذ يذهب بهم الأمر إلى تحويلها (أي قضية الزواج) إلى غاية تمثل أحد مقاصد الحياة الكبرى، فهم إنما لا يُذاكرون ويعملون ليل نهار إلا لزيادة سماكة الأغلال التي تحيط بهم من كل حدب وصوب، ظناً منهم بأن هذه العلاقة المؤسساتية تضمن نوعاً من الاستقرار، بل إن بعضهم يذهب واهماً إلى أبعد من ذلك، فيُصوّر الزواج على أنه السعادة والراحة النفسية القصوى!.
ربما لا يجد البعض في ما طرحته حتى الآن ما هو غريب أو مدعاة للانتقاد، إلا أن ما اختمر في ذهني من أفكار حول الموضوع سيوضح فيما يأتي لماذا اعترض على الزواج كمفهوم عام جملة وتفصيلاً.
دعنا بداية نطرُق باب نفسية الإنسان، ونرى ما نخرج به فيما يتعلق بالمسألة. أضحى من المعلوم بين الباحثين النفسيين والاجتماعيين أن الإنسان كائن متعدّد الميول، بما أنه لا يستقر (نفسياً) على شريك يلازمه طوال العمر. فكيف يحق لنا أن نُلزم الإنسان بشريك أحادي يقضي معه بقية حياته، دون أن نسمح له بممارسة رغبته الطبيعية في التنويع وتغيير الشريك بين الفينة والأخرى؟. وهذا هو مأخذي الأول على بنية الزواج بمفهومه العام، وهذا ينقلنا إلى النقطة الثانية مباشرة، وهي: هل الزواج منظومة طبيعية؟ أو بكلمات أخرى هل تتماشى منظومة الزواج البشرية مع مجرى الطبيعة؟. استنادا على ما ذهبنا إليه في النقطة الأولىـ يمكننا الإيجاب بالنفي، بعد أن أتينا على ذكر تعددية الميول (الجنسية) لدى الإنسان واستحالة ارتباطه الأحادي دون افتعال المشاكل. وإلا بماذا نفسر مشاكل الزواج، الطلاق والخيانة المتفشية في مجتمعنا؟.
ومن ناحية أخرى، فإن الزواج يقضي على أية حرية شخصية لدى الفرد. وهنا يشاطرني المفكر والفيلسوف الهندي (أوشو) الرأي، إذ أن منظومة الزواج الحالية هي ليست بأكثر من زنزانة يقضي فيها المرء على آخر طموحاته الريادية تدريجياً، أو هي في أحسن أحوالها سجن محدود المساحة مهما بدا فسيحاً.
أما أحد العيوب الفاضحة للزواج هي طبيعته المؤسساتية والتي لا تختلف كثيراً عما هو حاصل في عالم التجارة والأعمال. ألا نكون محقّين حين نشبّه توقيع “عقد” الزواج بين شاب وفتاة بتوقيع صك عمل أو شراء سيارة مثلاً؟. وهنا يأتي الانتقاد الاجتماعي، إذ أن معاملة المرأة كسلعة هو انحطاط قيمي خطير (المرأة في هذه الحالة هي بالضبط سلعة، فهنالك عقد يتم توقيعه، وبعضهم يطلب “مهراً” ليزيد الطين بلّة!). وبما أن الزواج في مجتمعنا لا ينفصل البتّة عن المضون الديني، فوجب أيضاً ان ننتقل إلى النقطة التالية حول عدم المساواة الجنسية في الموروث الديني المعمول به. ففي المسيحية التقليدية يُنظر إلى المرأة فعلياً على أنها جارية للرجل، وما يدلل على ذلك قول بولس : “الرجل سلطان المرأة”. وبالطبع ليس الأمر بأحسن حال في اليهودية. أما في الإسلام، فالرجل يتزوج أكثر من مرة معاً، بينما المرأة لا تحظى بمثل هذا الامتياز.
وهنالك نقطة أخرى أراها لا تقل أهمية عما سبق، وهي علاقة الزواج بالتنظيم البرجوازي المبرمج سلفاً للمجتمع. فمن مصالح الدولة بالتأكيد إلهاء أفراد الشعب عن التفكير بمصالحهم الخاصة قدر الإمكان، وبالتالي فإن اقناع العامة وتشجيعهم على الارتباط الأحادي، يضمن للرؤوس الحاكمة نوعاً الطمأنينية، بسبب انشغال الأفراد بالزواج وإفرازاته التي لا تنتهي، وبالتالي ضمان عدم تطوّر أية طموحات شخصية “خطيرة” قدر الإمكان.
لا ريب بأن وابل الانتقادات السابقة قد تم التلميح إليه صراحة في تراث الحضارة الإنسانية، وحتى داخل المنظومات الفكرية التي نعتبرها محافظة أو راديكالية. فالمعلم الهندي بوذا قدم لنا مثالاً مفيداً عندما قرر أن يهجر زوجته التي فرضت عليه كأمير، ولا يتعرّف إليها بعد ذلك. وكذلك وصلنا أن المسيح رفض الزواج بشكل عام (بحسب القصة التقليدية الدارجة). ولا يخلو تاريخ البشرية من أشخاص آثروا “العزوبية” رفضاً منهم لبؤس هذه المنظومة، ومنهم عل سبيل المثال لا الحصر: صاحب السيمفونية الرابعة الخالدة: بيتهوفن، صاحب كتاب النبي: جبران خليل جبران، واضع النظريات الفيزيائية الميكانيكية: نيوتن، صاحبة رواية ذهب مع الريح: جين أويسن، مبدع قصيدة إرادة الحياة: أبو القاسم الشابي، والفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور. وإذا أردنا تعداد المزيد ممن رفضوا الزواج من أصحاب البصمة التاريخية، لما انتهينا في مجلدات عظام، وإنما ذكرنا في عرضنا المقتضب هذا شخصيات مختارة، لعل الجميع يعرفها أو سمع بها من قبل على الأقل.
عندما أرى كماً لا يُحصى من الشخصيات المؤثرة وهي تنبذ الزواج بعنف، أجد نفسي مدفوعاً إلى التفكير جدياً بالقضية، والخروج عن الأطر النمطية المألوفة التي ما فتأ المجتمع يخلقها لنا يوماً بعد يوم.
ولعلّي أرى أنه من الواجب أن أضيف نقطة أخرى تصبّ في تيار انتقاد الزواج، وهي المشكلة الاقتصادية والعبء الأخلاقي. إذ أننا نمرّ بظروف اقتصادية لا تكف عن الاهتراء يوماً وراء يوم، وهذا يضعنا أمام تحد عسير، أو بعبارة أخرى نجد أنفسنا أمام مسؤولية ثقيلة جديدة تتمثل في توفير المناخ الملائم لنمو الأطفال في حال تكوين أسرة. فأنا شخصياً لا أضمن لنفسي بحبوحة مادية دائمة، مما قد يكون له أبعد الأثر على الأطفال في حال كانت لدي أسرة. فالعبء الاخلاقي الجديد الذي تفرضه الأسرة يتطلب تنشأة الأطفال بصورة مثالية، وهو ما أخشاه في حالتي.
وعلى الرغم من جميع الأمور التي عرضناها، يقفز بعض المتحمسين للزواج ليقول: حسناً، فلنفترض جدلاً أن منظومة الزواج سيئة ومُعيبة، لكن كيف سينتظم المجتمع بعدها وأين سيذهب الأطفال عندها؟.
بابتسامة لطيفة أجيب على هذا التساؤل وأقول: إلغاء منظومة الزواج يتطلب بعض التغييرات في بنية المجتمع وهو ما يشرع الغرب جدياً في عمله.
وهنا نستعين بالفيلسوف الهندي أوشو مرة أخرى، إذ أنه يشير إلى ضرورة إحالة الأطفال إلى جمعيات خاصة، أي يرعاهم المجتمع بدلاً من نظام الأسرة. وهنا يتوفر للأطفال مناخ تعددي، يطّلعون فيه على ثقافات عدة، ومن المتوقع أن تتبلور لديهم شخصيات حرة، وأقل اتكالية وسلبية مثلما هو الحال في الأسرة.
وبما أننا لسنا بصدد تدعيم آرائنا بالدراسات العلمية والاحصاءات الدقيقة، نكتفي بما ذكرناه هنا بإيجاز مفرط، ونُنهي بخلاصة بسيطة: إن التمسك بالزواج كمنظومة اجتماعية لهو أمر مرضي وغير طبيعية البتة، إذ أنه يستحيل على المرء مهما كان أن يُلزم نفسه على شريك طوال حياته التي تتسم بالتبدل والتغير المستمران، أضف إلى ذلك أن المنتفع الأول من بقاء منظومة الزواج هم الرؤوس الحاكمة والمستبدة، وبالتالي فإن الآثار السلبية للزواج تطالُ مجالات متنوعة ربما لم نفكّر بها من قبل: سياسية، اجتماعية، اقتصادية، جنسية، دينية، فكرية، ابداعية، ثقافية…إلخ. وليس من عجبٍ أن يتخذ مبدعو التاريخ مواقفاً عدائية ضد منظومة الزواج. ولربما بلورتُ من هذا الموضوع مستقبلاً بحثاً وافياً وشاملاً، ألقي به ضوءاً ينير تلك المناطق الداكنة في عقول أفراد مجتمعنا، والتي يبدو أن الموروثات المجتمعية قد كوّنت فيها أعشاشاً هي هشة في مضمونها على الرغم من قدمها.
#نورس_كرزم (هاشتاغ)
Dr._Nawras_Kurzom#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ورطة غرامية: ما بين العشق والاحتلال
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|