انتفاضة جنوى جزء من حالة الصراع العام بين تيار العولمة والتيار المناهض لها. وبالتالي فإن ما حدث في جنوى هو امتداد لتطور سابق حدث في سياتل ودافوس وبانكوك وغيرها من المدن التي كانت محطة للقاءات الدول والشخصيات التي تعتبر مؤيدة وممثلة لتيار العولمة.
وقد تباينت أسباب المحتجين ضد العولمة لتكون دواعي بعضهم ايديولوجية، وبعضهم الآخر أصولية عنصرية، فيما كانت دواعي البعض الثالث مرتبطة بالاسباب المتعلقة بإفساد البيئة، او لدواعي ازدراء سياسة المعايير المزدوجة التي تمارسها الدول المتقدمة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية.
والمحصلة التي أريد ان أصل إليها من الاستطراد السابق، هي ان المحتجين على العولمة لا يمثلون تيارا فكريا او سياسيا واحدا، ولا يمثلون مواقف محددة متشابهة او متقاربة، ولكن ما يجمعهم هو مناهضة العولمة وما يميزهم هو ان غالبيتهم ينتمون لفئة الشبيبة. ومن هنا اصل الى بداية الخيط الذي اعتقد انه يوصلنا الى جوهر الحقيقة، هي ان انتفاضة جنوى وما سبقها من انتفاضات احتجاجية ضد العولمة هي في عمقها تدل الى طبيعة الصراع السياسي لثورة عالمية تخوضها الشبيبة في العالم كله.
قد يبدو لأول وهلة هذا الكلام يتضمن قسطا من المبالغة، ومحاولة مقصودة لتضخيم الامور وإعطائها أبعادا اكثر مما هي عليه. ولكن النظرة المتعمقة للعالم من حولنا يمكن ان توضح الالتباس، كما ان الاستعانة بخبرة التاريخ يمكن ان توفر المرتكزات لفهم حقيقة ما جرى وسيجري في العالم.
فخبرة التاريخ تقول ان لكل قرن سماته الخاصة.. كما ان لكل قرن فئة تقوده، وتصنع احداثه الكبرى وتشكل منعطفاته الاساسية، وتتبوأ مكان الصدارة في أحداثه وتحولاته.. ومن اجل ذلك ذهبت الآراء، قبل ان يحل علينا القرن الجديد بتوقعات يشي بعضها بأنه سيكون قرن المرأة، وذهب بعضها الى انه سيكون قرن الجنس الاصفر الذي سيسيطر على مصائر البشر في القرن الحادي والعشرين. وراح آخرون الى اعتبار القرن الحالي قرن التقنية المفرطة وثورة المعلومات بكل تداعياتها وتجلياتها.. وبالطبع نحن لسنا بصدد مناقشة هذه الآراء والتصورات. ولكننا نعتقد ان المعرفة والمعلومات ستشكل المنعطف الاساسي في تاريخ البشرية لاحداث الثورة الجديدة او ثورة القرن الحادي والعشرين، وهذه الثورة ليس المقصود بها ثورة التطور العلمي المذهل وإنتاجه التقني الهائل، وإنما نعني بها الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ستحدث في العقود المقبلة والتي ستكون مثل ثورة القرن الثامن عشر التي انتجت الجمهورية، ومثل ثورة القرن العشرين التي أنجبت الاشتراكية والرأسمالية النفاثة.
نعم ان الثورة القادمة ستحدث بفعل العلم.. فالعلم سخر اسباب الرفاهية والنعيم ولكنه ايضا خلق اسباب البؤس والشقاء والضياع للغالبية العظمى من الانسانية.. ومن هذه الاسباب والظروف المحيطة بها ستندلع الثورة القادمة.
هكذا هي مسيرة التاريخ. وقوانين التاريخ تؤكد ان لكل حقبة ثورتها، ولكل ثورة أداتها.. والثورات التاريخية هي حركة جماعية مدركة.. ولكن قوانين التاريخ ايضا تؤكد ان اداة الثورة هي دائما الجماعة المضطهدة والواعية بظلمها.. وهنا يبرز احد قوانين التاريخ ألا وهو ان الثورة عمل جماعة تعي شروط وجودها وتمتلك ارادة تغيير هذا الوجود.
هذه هي خبرة التاريخ.. وهذه الخبرة ستجد حيزها في المستقبل. ومسيرة البشرية غزيرة بالدلالات المعبّرة عن هذه الخبرة. فقد كانت القرون الوسطى قرون سيطرة الكنيسة ورجال الدين ولأن التناقض الرئيسي في هذه المرحلة كان بين الكنيسة والاقطاع، ولأن الإقطاعيين كانوا يعون الظلم الواقع عليهم، على عكس العامة من الأقنان (عبيد الارض) الذين صاروا شأنهم شأن قطعان الاغنام والخيول لا يملكون ارادة التغيير ولا يملكون شروط وجودهم، فإن الثورة على الكنيسة في هذه المرحلة قادها الاقطاع. وهكذا أصبح السيد الاقطاعي حتى القرن الثامن عشر هو الفاعل الاساسي في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. ولأن مسيرة التطور الانساني والعلم افرزت نمطا من الحياة انجب فئة من الصناعيين وأرباب العمل ورجال الاعمال والمال التي كانت آنذاك مضطهدة مظلومة من قبل الاقطاعيين، ولأن هذه الفئة امتلكت الوعي والتنظيم والارادة بالتغيير، فهي التي قادت الثورات البرجوازية، فدخلنا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عصر البرجوازية... ولأن لكل عصر تناقضاته، فقد انتج عصر البرجوازية فئات الكادحين من عمال وفلاحين وحرفيين ومثقفين.. فإن هذه الفئات الكادحة التي كانت محط الظلم والاضطهاد هي التي اضحت اداة ثورة القرن العشرين. ولأن القرن العشرين شكل بكل اكتشافاته وإنجازاته وابتكاراته الخلافة قفزة نوعية في مسيرة التاريخ، فإن الفئات التي تحكمت وهيمنت على السلطة فيه، تمتعت بذكاء كبير فأحسنت صناعة الدولة وأسرفت في تزيينها بالمؤسسات والقوانين وتصميم ادوات السيطرة المختلفة. فظهرت المجالس والجمعيات والنقابات والاحزاب والصحافة والاعلام والفنون والآداب وكل المظاهر والرموز التي اكدت استقرار الدولة وضمان السيطرة على كل مؤسساتها.. فاتسعت الشمولية بأشكالها البائسة والراقية.. وتم ضبط ((الرعاع)) في الغرب من خلال خلق الانسان ذي البعد الواحد، وتم الدمج والصهر والاحتواء لكل فئات المجتمع في اطار الرفاهية المزيفة من خلال المتع الظرفية والموسيقى المجنونة وتعاطي المخدرات والجنس الفاحش والهيام في الشوارع على غير هدى وبدون احلام للغد الغامض.
أما في العالمين الثاني والثالث فإن الاحلام الوردية التي غفت عليها المجتمعات على أمل تحقيق العدالة والرفاهية سرعان ما خبت لتفيق الشعوب على ما هو واقع عليها من قهر... فاندلعت التوترات والحروب والصراعات وسقطت الدكتاتوريات بدءا من شاه إيران ومرورا بتشاوشيسكو وانتهاءً بسوهارتو.
وفي كل هذه العوالم الثلاثة بدا واضحا ان الجموع التي تتعرض للاضطهاد الشديد هي بلا جدال فئة الشبيبة... فحروب القرن العشرين وقواعد الصراع والسلطة ومعطيات التقدم التكنولوجي كلها ساهمت بطحن هذه الفئة بدون رحمة وسحقها من دون عطف.
وبدلا من ان يعمل التقدم العلمي على تعويض فئة الشبيبة بجعلها اكثر استمتاعا بمزايا العصر ورفاهيته، فإنه على العكس من ذلك ذهب بما تبقى من احلامها وقذف بها بعيدا على قارعة الطريق حيث البؤس والاحباط والضياع.
وجاءت هيمنة الرأسمالية النفاثة لتلحق أفدح الخسائر بالشبيبة بوضعها على لائحة البطالة.. وفي ظل النظام العالمي الداعي الى سيادة اقتصاد السوق فليس أمام مشكلة البطالة الا ان تزداد تفاقما... كما ان القرن الحالي بكل تطوراته يتوقع ان يرفع رقم العاطلين الى مليار نسمة ومعظمهم من الشباب. وهذا ما يجعل البطالة في وسط الشباب وحدها كافية لإنتاج ثورة الشبيبة في القرن الآتي، لكن الاحساس بالظلم والتهميش الاجتماعي والسياسي كلها تزيد آلام الشباب وتمهد لثورتهم الآتية ولا ريب... ومقدمات الثورة ظاهرة للعيان وبرزت بأكثر من شكل. ابتداءً من فورتهم الاولى في شوارع باريس عام 1968، ومرورا بانتقالهم نحو ظواهر الهيبز والبانكرز وظواهر العنف في المدارس والجامعات في اميركا ومظاهر الاحتجاج بمختلف صورها، وانتهاءً بربيع بكين عام 1989 وصيف طهران عام 1999...
وإذا كان العالم الغربي قد بدأ يلمح بوادر هذه الثورة، فسارع لمحاولات احباطها من خلال إفساح المجال للشبيبة في الاندفاع نحو مراكز السلطة، حتى إن مجلة التايم الاميركية قالت في احد اعدادها ان العالم مقبل على عصر الوسامة والشباب السياسي، مؤكدة ان المعيار الاكثر حسما في كل الانتخابات التي تتم في العالم الغربي هو الشباب والوسامة والأناقة... حتى إن التايم ردت فوز فيليب غونزاليس في الانتخابات الاسبانية في الثمانينات الى شكله الوسيم وطلعته الانيقة.. وان فوز شيفنسكس في انتخابات بولندا كان لأنه سيد الاناقة والجمال. بل إن إنجازات وخبرات العجوز جورج بوش السياسي المخضرم وما حققه من تفتيت للاتحاد السوفياتي وهيمنة اميركية على النظام العالمي الجديد لم تشفع له أمام شباب ووسامة كلينتون ومن خلفه الحسناء هيلاري.. وهي ذات الاسباب التي جاءت بتوني بلير لحكم بريطانيا وأطاحت بالسياسي جون ميجر، وهكذا انتهى كول موحد ألمانيا وباني اقتصادها العملاق امام شرودر الاكثر وسامة وشبابا...
ومع ذلك فإن ذلك لم يلبّ مطامح الشباب وآمالهم او يساهم في تأجيل ثورة الشبيبة..