جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3967 - 2013 / 1 / 9 - 21:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
منذ اللحظة الأولى لولادتي كانت النتيجة معروفة للجميع وليس فيها تسجيل أي نقطة تعادل لصالح أحد الفريقين فالموت في النهاية سينتصرُ علينا جميعنا والمستقبل المشرق والواعد- الذي تتكلم عنه الحكومة في أيام الانتخابات فقط لا غير- ليس من حظي وليس من نصيبي لأن أبي كان مشغولا بأعماله التجارية مع الله فنسي أن يخطط لمستقبلي,كان يضع أربعة أحجارٍ من الصوان تحت السرير الذي ينام عليه ليستيقظ في أي لحظة وقد تحولت الحجارة الصوانية إلى كومةٍ من الذهب الخالص, لم يستثمر أبي في موهبتي كشاعرٍ مغمور لأنه أصلا لم يعش طويلا ليروي الحكاية فهذا الدور لعبت فيه الأيام وحولتني من مهني ناجح في حياته المهنية إلى كاتبٍ فاشلٍ تكرهه أغلبية الناس وإلى ملكٍ ضليل يحاول استعادة مجده وإلى ملكٍ مشغول البال طوال الليل والنهار يبحث عن مليكته.
كنتُ أعرفُ بأن الدرب طويلٌ جدا والنفق مظلمٌ جدا ولن استطيع عبور الطريق وحدي حين يشتدُ بي الألمُ والإصرارُ والخوف من المجهول معا, كانت الناس تحفرُ في طريقي كثيرا من الحفر وكانت الحقيقة تحاول إخفاء وجهها عني ولكني أمسكتُ فيها عدة مراتٍ متلبسة بوضع مشبوه مع قُدسية القوانين وهما عاريان من الثياب تماما, والقانون القدسي يزني بالحقيقة والحقيقة تزني بالماضي الذي اكتشفته وحدي دون أن يدلني عليه أحد,الكل يعيش في الضياع لأن الجميع لم يكتشفوا الحقيقة بعد, إلا أنا اكتشفتها وتسببت لي بكثيرٍ من المشاكل التي لا يمكن أن تعد أو أن تُحصى ,تباكيت على الأطلال القديمة والجديدة وحفرت من دموعي بئرا من الحرمان وكل الذين عرفتهم تاجروا بأقلامهم إلا أنا بقي قلمي نظيفا وحبره أنصع من البياض الناصع وصفحتي بيضاء وجيبي أبيض ليس فيه أي فلسٍ أحمر لأنني عودتُ نفسي على أن أكسب قلوب الناس وليس نقودهم ,ومن عرق جبيني ودموعي ارتويت عدة مرات,ناطحتُ الحائط بقرونٍ مصنوعةٍ من الطين وناطحت السحاب وقاتلت الأوهام ولم تزل على ثيابي آثارا من تعب السنين...وكنتُ أعرف بأن أشعة الشمس لن ترحمني وبرودة الطقس لن ترحمني لكني آمنتُ أخيرا بأن إله الشمس سينصرني على الشمس نفسها وبأن إله الريح سينصرني على الرياح العاتية رغم أن الفائدة المرجوة من الشمس أفضل من الفائدة المرجوة من إله الشمس,إنه أفضل عذاب لهو عذاب المحبين الذين نحبهم ونغمض أعيننا عن زلات لسانهم,تحملتُ كثيرا من الكلام الذي قيل بحقي فأنا أومن بعد عمرٍ طويل بأن تظهر الحقيقة ليكتشف الناس بأنني كنت محقا في كل كلمة قلتها ...تحملت من العذاب ما تحملتُ وما زلتُ أحملُ الهموم في قلبي وداهمني المرض وأنا ما زلتُ في عز الشباب فأصبتُ باليأس مرة وبالاكتئاب وبالقلق عدة مرات وكنتُ في كل مرة أنتصر على الخوف الذي بداخلي وعلى القلق الذي بداخلي وعلى الاكتئاب الذي كاد أن يعشش في رأسي...كنت أحلم كثيرا وكثيرا جدا ما كنتُ أستيقظ على الصوت الذي بداخلي ليقول لي :كف عن الأحلام وتوقف عن الهذيان,ولكن ما المانع بأن أحلم مثلي مثل أي إنسان؟ وما المانع بأن أتخيل نفسي بأنني السلطان؟ وما المانع بأن أحلم وأنا أمشي في الشوارع قبل أن يداهمني النوم بساعاتٍ طويلةٍ؟...كنت أسترجع الذكريات التي حفرت في داخلي كالفأس في التربة؟ كنت أدق الأزاميل في قلبي وفي نعشي وكنتُ أتصورُ نفسي بأنني سأقضي على الأحزان وعلى الأوهام قبل أن تقضي هي عليّ...كنت رجلا مجنونا بأفكاري وبأطروحاتي وكنت رجلا متشوقا لرؤية الحب والرومانسية وكنتُ أعود من آخر كل قصة حب والدموعُ تملئ وجهي فلم أجد امرأة تستحقُ دموعي ولم أجد امرأة تستحق قلبي الذي ذبحته بيدي ولكن هكذا كانت إرادة الحياة أن نتعذب من أجل من لا يستحق أن نتعذب من أجله وبأن نموت من أجل من لا يستحقون أن نموت من أجلهم,إنها طبيعة هذا الكون وطبيعة هذه الحياة المليئة بالأخطاء الشائعة ومن المضحك جدا أن نعتبر حماقة الطبيعة حكمة إلهية.
منذ لحظة ولادتي أيقنتُ بأنني أنا أحد أكبر أخطاء الطبيعة...كنتُ دائما مؤمنٌ بالتضحية لمجرد أنني مخلوق من أجلها ومن السهل على الإنسان بأن يضحي ولكن من الصعوبة أن يجد الإنسان من يضحي من أجله ومع ذلك ضحيت كثيرا ليس من أجل من لا يستحق التضحية ولكن لأن الرب خلقني هكذا ضحية للغير ومطية للغير وسلما يتسلقُ عليه المتسلقون ..حتى هواة التزلق والتزحلق على الجليد تزحلقوا وتزلقوا على جسدي..ويدي الكريمة كانت تأخذ لتعطي لغيرها وعيني كانت تبصر للذي لا يستطيع أن يبصر...أنا دمائي مشتعلة وعيوني متوهجة...ورحلة العذاب مستمرة جدا والطريق تبين لي بأنه أطول مما توقعت وأكبرُ مما خططتُ له وأعظمُ مما ظننت...كانت البداية صعبة جدا والنهاية مجهولة وحتى الآن لم أعرفُ من أين أتيت ولا إلى أين سأذهب وهل بالإمكان العودة إلى الحياة مرة أخرى؟...وكنتُ واثقا من نفسي بأنني سأتعدى هذه الخطوة وستخلص روحي قبل أن أرى هدفي أمامي يتحقق...كنتُ سجين الغربة طوال عمري والجندي المجهول وكنت أعرفُ أنني أحرثُ في البحر وأزرعُ في الرمل وقلتُ وأنا غاضبٌ جدا أعظم مقولةٍ ندمتُ عليها طوال حياتي واتخذت أخطر قرارٍ جعلني طوال حياتي ميتاً وأنا أتنفسُ الهواء,وما أصعبه من شعور حين تشعرُ بنفسك بأنك مدفونٌ تحت التراب وأنت ما زلت على قيد الحياة.. وكنت مدركٌ جدا بأن الماء الذي أمامي ما هو إلا سرابٌ تراءى لتائهٍ في صحراء الربع الخالي وقد قتله العطش..وكنت مدرك تمام الإدراك بأنني بكامل قواي العقلية حينما اخترت هذا الدرب ولكن تنبهتُ في النهاية بأنني قد وقعتُ في الحفرة التي حفرتها لنفسي...كنت على مدى الأيام والسنين أحسُ بالدقائق بأنها ساعات وبالساعات بأنها أيام وبالأيام أسابيع وبالأسابيع شهور...كنت في كل يوم أفكر بالرجوع ولكن طريق العودة أيضا محفوفٌ بالمخاطر...جُعت طوال كل تلك الأيام وأكلتُ أصابعي ندما وعطشتُ طوال السنين وشربت من الحنظل وتعريت تماما ولبستُ من خيالي أثوابا زاهية اللون...وحرقتُ دمي وأعصابي وفجرتُ ينابيعي ودمائي تنزفُ من حولي..
وحين فكرتُ بالسخرية لم أجد إلا شكلي أسخر منه وحين أردتُ أن أضحك لم أجد إلا نفسي أضحك عليها من شدة غبائي,وحين فكرتُ بالانتقام لم أجد إلا نفسي لأنتقم منها وحين فكرتُ بالهروب لم أجد إلا نفسي أهربُ منها وحين فكرتُ بالرحيل لم أجد إلا نفسي أرحل عنها ,وها أنا هاربُ من نفسي ومنتقمٌ من نفسي ومستاءٌ من كل شيءٍ يمشي حولي,كنتُ أنا نقطة العودة ونقطة البداية وكنتُ أنا الراوي للحكاية وأنا البطل وأنا الممثل الوحيد فيها,عشتُ تعيسا في حياتي ولم أذق يوما شفاه امرأةٍ تعيد لي الحياة مرة أخرى,هربتُ من نفسي وعذبتُ نفسي وناضلتُ في سبيل التخلص من أوهامي ومن غثياني,كنتُ أستشعرُ عن بعد حجم الأخطار التي من المحتمل أن تصيبني وقد أصابتني في ظهري وطعنتُ من الخلف أكثر من مائة مرة ومره وما زلتُ أكابرُ على نفسي وما زلتُ أحتمل الطعنات وما زال في نفسي بقية من الأنفاس التي احتبستها في داخلي من شدة الخوف ومن شدة الرعب...تعبتُ كثيرا وحاولت إخفاء تنهداتي عن الناس ولعقتُ بلساني جروحي وتحسستُ طعمها كعصير الليمون...نفذ صبري مني آلاف المرات ووقعت على الأرض آلاف المرات وكثرت حولي السكاكين التي أرادت أن تخلصني من الحياة وبرغم الطريق الطويل والمصير المجهول بقيتُ مصرا على الحياة أكثر لأنال منها مزيدا من الجروح ومن الخيانات...وتعبتُ أنفاسي وخرجتْ أعصابي عن السيطرة وكدتُ أن أودي بنفسي في جحيمٍ من الأسئلة الغارقة في القِدمْ التي كانت وما زالت تبحثُ عني: من أنا؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين سأذهب؟ وهل بالإمكان أن أعود إلى العذابِ مرةً أخرى؟..من العذاب خلقت وإلى العذاب سأذهب,والناس خلقوا من التراب وإلى التراب سيعودون مجدداً إلا أنا من الألم خلقت وإلى الألم سأعود.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟