|
شظايا مذكرات غير مكتملة
سميح مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 3950 - 2012 / 12 / 23 - 12:45
المحور:
الادب والفن
بدأت مذكراتها بمقدمة موجزة مفادها : " إنني أبلغ من العمر خمسين عاما ً … أدخل فترة حرجة اتخطى فيها مرحلة الشباب ، وأبدأ مرحلة منتصف العمر … أنظر خلفي ، أجد نفسي في ظل أحداث كثيرة عشتها تراكمت عبر الأيام مسجلة في شريط حياتي … أفكار كثيرة عنها تدور في رأسي …تتزاحم ، لا أريدها أن تبقى مختزنة في داخلي ، أريد أن أسجلها على أوراقي ، وأنشرها ليعرفها الناس ، لن أخفي منها شيئا ً ، أريدها أن تندفع كمياه الأنهار ، أن تجري بحرية كاملة في كل مكان … "
بينَت في أول صفحة بعد المقدمة عن معاني حزينة كثيرة تتداخل بصور الطفولة حول مولدها وبداية لحظاتها الأولى على أعتاب الحياة ، مع أول صرخة لها وهي تتمطى على يد القابلة :
" وقف والدي في ساحة البيت ينتظرلحظة قدوم مولوده الجديد ، كان قلقا ً مشتت الخاطر ، خشي أن يرزق ببنت تضاف الى ست بنات ولدت له من قبل … بلغ به الحزن مبلغا ًكبيرا عندما بُلغ بقدوم ابنته السابعة التي هي أنا ، انتشر الخبر من دار إلى دار ، لم يباركه أحد بقدومي من الأهل والجيران … لم توزع الحلوى … وزعها والدي فقط بعد عام عندما أنجبت له أمي أخي الوحيد بعد سبع بنات .
سمعتُ هذه الحكاية طيلة عمري ، كُررت على مسمعي ألاف المرات ، برزت تداعياتها مع تراكم السنين ، كانت تشتد وطأتها في حياة أسرتي ... أخ يخيم حب الوالدين عليه … يعامل معاملة خاصة ، وسبع بنات يعشن في ظروف نفسية صعبة .
هكذا عشت أيام طفولتي وشبابي تحت ضغط نفسي مُريع … يلازمني القلق حتى الأن ، لا ينفصل عني ، بات جزءا ًمني ، من المتعذر عليّ التخلص منه … أريد أن أسجل ذكريات زمني الذي انقضى … ذكريات أحمل صورها في ذاكرتي طيلة عمري ، أريد أن أعطيها في سطوري شيئا ً من الفحوى … ها أدير بصري في خبايا أيامي ، انفض عنها غبار السنين ، وأستل منها إ ضاءات ذكرياتي من صور وأحداث واقوال ، أسجلها بعاطفة صادقة ، وبدون إدخال أية كلمات زائفة فيها . "
سَلمتني مسودة مذكراتها قبل اكتمالها ، صفحات كثيرة خطتها بلغة جميلة ...لاحظت من مذكراتها أن الحياة اتسعت لها ، فتحت ذراعيها ، وتمكنت من تحقيق إنجازات علمية مهمة في مجا ل طب الأطفال …إنجازات يشار لها بالبنان ، برَزت فيها وتميزت على زملائها من الجنسين ، واصبحت مرجعاً مهماً في مجال عملها ، بحوثها ودراساتها التي قدمتها في المؤتمرات الدولية ، أهلتها للإصطفاف مع المميزين عالميا .
إستهوتني مذكراتها ، قرأت ما كتبته ُ فيها بعناية صفحة تلو صفحة عدة مرات ...في كل مرة كنت أكتشف قدرة جديدة لها على الكتابة والتعبير بحروف نقية بريئة ، وبطريقة تختلف عن طرق تعبير الاخرين عن الأمواج المتلاطمة في دواخلهم الذاتية .
وجدتها تكتب بلغة الشعراء الذين يبحثون دوماً عن إزالة الحواجز التي تقيدهم لرؤية العالم من جديد ، تريد فهم العالم بطريقتها ، كما يحلو لها ، تسعى إلى خلق قواعد خاصة بها للتعايش مع الاخرين ، لكنها للأسف تجد نفسها وحيدة بعيدة عن كل الناس ، لا تعي حقيقة ما يحيط بها … يطاردها نور الشمس ، يظلل عينيها ، ولا تحاول مصافحة وجه الشمس ، تعيش في جزيرة جميلة داخل نهر سان لوران ، وتظن أن مياه النهر تحجب عنها ما فيه من لمعان وبريق … حتى وتظن أن أغصان الأشجار تخفي عنها حفيف أوراقها ، وتظن أن المرايا تخفي عنها وجهها الملائكي الجميل .
لاحظت من بداية مذكراتها أن تكرار ألأحداث النمطية في حياتها قد أرهقها ، فقدت فيها بريق إنجازاتها البحثية ، وحصولها على أعلى الدرجات العلمية … شعرت مبكراً أنها تعيش في دهليز مظلم ، تائهة في عالم غريب عنها تنظر الى كل ما فيه بذهول … تتابع فيه رحلة هروب متواصلة لا ترى فيها غير السراب .
رغم إنجازاتها العلمية الباهرة فشلت في التعايش مع الناس ، حتى ولم تنل اعتراف أسرتها ومجتمعها بها ، العادات التقليدية القديمة والافكار السائدة لها موقف أخر من المرأة... أثر هذا على طبيعتها النفسية والإجتماعية ، وحتى المهنية كطبيبة متخصصة في مجال عملها .
فتشت عن وسيلة للخلاص من مشاكلها … وجدَتها في الهجرة إلى عالم أخر غير عالمها ، هجرت عالمها القديم ، وجاءت للعيش خلف المحيطات ، إتخذت من مدينة مونتريال الكندية محطة جديدة لها .
للأسف لم تتمكن التغييرات الجغرافية من تحقيق أي تغيير في حياتها ،أخذت مصاعبها تزداد اتساعا ًيوما ًبعد يوم في عالمهاالجديد ... زادت تلك المصاعب عندما علمت أنها لا تستطيع ممارسة العمل كطبيبة متخصصة بدون إجتيازامتحان المعادلة الكندية لشهادتها العلمية … وزادت مصاعبها أيضاًعندما علمت صعوبة اجتيازذلك الامتحان ، خاصة لمثلها من الأطباء الذين ابتعدوا عن مقاعد الدراسة لفترات طويلة ، مارسوا فيها مهنة الطب في بلادهم بمراكز وظيفية عالية .
أخذت أيامها تدور في محيط عالمها الجديد بدون هدف او غاية محددة … واصلت أيامها مرتبكة النفس والذهن بدون وعي حقيقي لما يدور حولها ، لا تجد في العلم عزاء ، ولا في النجاح المهني عزاء .
تتحدث في سياق مذكراتها بحرية كاملة ، وبأفكار ناضجة عميقة الفهم ، بعيدة كل البعد عن الأفكار الضيقة المحدودة … رغم مشاكلها وجدتها فيما تكتبه حاضرة الذهن عميقة التفكير في شتى الألوان والاتجاهات ، تتحرك بين سطور مذكراتها بحيوية بالغة … تُحيل القارئ الى معين مليء بصور كثيرة عنها وعن الحياة والناس . إستوقفتني عبارات كثيرة لها ، ألزمتني بالتأمل لإدراك ما تعكس من أبعاد فكرية ... سجَلت فيها رأيها بهيمنة المجتمع الذكوري العربي ، بحثت في أجواء مشحونة بالإثارة حول مكانة المرأة العربية ، بينت في أوراقها أنها كانت منذ سنواتها الباكرة شديدة الإحساس بفداحة الظلم الذي يصيب بنات جنسها ... عدم منح المرأة فرصاً متكافأة مع الرجل ، كل رجل يعد نفسه قواما ً على النساء جميعا ً .
كتبت بتوسع عن شعورها حول أشكال كثيرة من التمييز ضد المرأة في مجال حقوق الإنسان والحريات الأساسية ، وأسهبت في تحليل جوانب كثيرة منها تعدد الزوجات والقوامة والإرث والشهادة أمام المحاكم ، كما كتبت حتى عن التمييز ضد المرأة في اللغة العربية … تهميش المرأة لغويا ً، لأن النحاة من الرجال والنحو والصرف من بنات أفكارهم ... وضعت خطوطاً حمراءً كثيرة تحت القاعدة النحوية التي إختلقوها وأقروا فيها " أن جماعة الإناث تخاطب بلفظ الجمع المؤنث ، وإذا لحق بجمع المؤنث ذكر- حتى لوكان طفلاً صغيرا - يتحول جمع المؤنث الى جمع المذكر ."
قرأت مذكراتها عدة مرات ، وفي كل مرة كنت أكتشف قدرتها على الكتابة والتعبير بحروف نقية بريئة ، وبقدرة فائقة على نقد " الأنا " الذات بواقعية زائدة ، وأكتشف أيضا ًجوانبا ً كثيرة مهمة مضيئة في حياتها ، يمكن أن تكون من مصادر سعادتها الدائمة، يمكن بها تبديل واقعها إلى واقع حياة أخرى ، تعيش فيها لحظات استثنائية ، لوأمسكت بخيط الأمل السحري بنفسية متفتحة لتغيير كل شئ حولها نحو الجميل الأفضل ، لإبصار الحياة بصور جميلة زاهية غيرغائمة ، وفتح ذراعيها بسعادة لكل يوم جديد .
قلت لها أثناء لقاء لي معها أن أهم ما يمكنها فعله ، هو التقاط الجوانب الإيجابية المضيئة في حياتها مهما كانت ضئيلة ، يمكنها بها الوصول الى درجة من الإستقرار النفسي ، ومواجهة الصدمات التي تتعرض لها والتصدي لكل مسببات الإضطراب والضيق ، وبالتالي متابعة الحياة بعيدًاً عن سطوة العادات والتقاليد ، وبما ينسجم مع أفكارها العصرية . . بينت لها أنها خاضت غمار تجارب إيجابية كثيرة في حياتها سجلتها في مذكراتها ، يتبدى منها قدرتها على التصدي للاحكام والمسلمات الاجتماعية التقليدية الساائدة في بلدها ... قالت " لا " ضخمة كبيرة لزوج مستبد ظالم فرُض عليها فرضاً ، لم تفتح له مغاليق قلبها ، لم توافق على تبديد حياتها معه بلا جدوى ولا معنى ، وهذا عكس ملايين النساء العربيات اللواتي يعشن في خنوع مع أزواج لايستحقون الحياة ، وفي مقابل تلك اللا الرافضة للخنوع للزوج قالت " نعم " ضخمة للعلم والبحث العلمي ، وبدل أن تذبل روحها وتموت نفسها من نكد حياة زوجية بائسة ، انغمست في العلم والصعود الوظيفي المتواصل إلى أعلى .
حققت مكانة علمية متميزة ووقفت في المؤتمرات مع المشاهير والعلماء ، في وقت تعيش به الكثيرات من بنات جنسها في الثرثرة وتبادل كلمات المجاملة الفارغة ، وفي الجلوس في الصالونات والمقاهي والتباهي بامور عبثية زائفة وسطحية تجذب أنظار الناس .
لو تعرف عليها فرويد لقال لها بدون مجاملة : لماذا تظلمين نفسك وتجلدينها بسياط قاسية ، وأنت إضافة رائعة للوجود البشري ، كل لحظة من حياتك لها قدرها ، عملك المهني لا حدود له في معالجة الصغار ، تعيشين معهم لحظة بلحظة مع متابعة تداعيات الداء والدواء، كم من طفل اصبحت حياته لها معنى ودلالة بفضل عنايتك الطبية له ، عاطفتك نحو المرضى من الاطفال تجعلهم يشعرون بمتع الحياة.
قلت لها بصراحة متناهية أنها تقف بمفترق طريقين : طريق تفضي الى عقبات ومتاعب كثيرة مريرة تحيل الحياة في المهجرإلى تعاسة أبدية واضطراب وضيق لصعوبة معادلة شهادتها حسب القوانين الكندية المرعية ، وطريق خالية من التشاؤم والاسى تعود فيها للوطن من جديد.
شجعتها على الدخول في غمار الطريق الثانية بلا تردد ، أن تعود الى وطنها ، وأن لا تكتفي بسعادة الرضا الداخلية بانجازاتها كطبيبة متميزة ، بل عليها المساهمة بدون تهاون في تحقيق مكانة لائقة للمرأة العربية بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضدها المبني على اختلاف الجنس ، وتغييركل شئ حولها نحو الأفضل والأجمل .
بهذا نعطي للحياة معانى جديدة من القيم العصرية .
#سميح_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جزيرة في نهر سان لوران.
-
البحث عن الجذور
-
عيسى بُلاطه : ناقداً وأديبا ً
-
تراجيديا الهنود الحمر
-
التوثيق في الأعمال الإبداعية
-
امرأة منسية
-
فتاة الترومبون
-
ناجي علوش شاعراً ومفكراً
-
في ذكرى ناجي العلي ثانية
-
في ذكرى ناجي العلي
-
العرب لا يقرأون
-
كتاب - الإسلام وأصول الحكم - للشيخ علي عبد الرازق
-
رواية - الحاسة صفر - لأحمد أبو سليم
-
رواية فريدة للروائي نعيم قطان
-
حول ابداعات القاص عدي مدانات
-
حول التقشف والانضباط المالي في أوروبا
-
التنمية العربية في ظل الربيع العربي
-
عن فنِّ التصوير عند العرب ويحيى بن محمود الواسطي
-
هذه الارض لنا ...أنا وانت
-
رواية أيام قرية المُحسنة
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|