|
قصة قصيرة : الأرواح المرئية
بديع الالوسي
الحوار المتمدن-العدد: 3949 - 2012 / 12 / 22 - 22:24
المحور:
الادب والفن
على الضفة الأخرى للنهر ، وعلى ذلك التل الأجرد ، تقع قرية شورش الكردية ، التي يقيم فيها (مام ديلمان) الذي عرف بعدم تخليه عن قريته المفجوعة بالفقر والجنون ، والتي دمرت وبعثت عشرات المرات . الطريق طويل ، في هذا النهار الخريفي الجميل ، لم يكن أمام مام ديلمان سوى ان يسلك ذلك الدرب الترابي المنحدر بهبوط مخيف نحو بستان ( الأرواح ) .حث السير وكلابه الثلاثة معه ، وبعد نصف ساعة وصل إلى تلك البقعة الخضراء بشجيراتها التسع . رمى الصرة التي أجهدته ، وجلس على الصخرة منتظرا ً. تأخر الدرويش جعله يظن أنه قد نسى الموعد ، لذلك لم يكف عن مراقبة الشارع المحاذي للبستان . قال له الدرويش يوما ً : ـ رغم كل مجاهداتي لم أر الموتى إلا في الأحلام . ـ أدري ، ماذا تريد أن تعرف ؟ ـ هل حقا ً ترى الموتى ؟ ـ إن ذلك ممكنا ً . ـ لكني لا أراهم . ـ سيظهرون لك إذا آمنت إنهم لم يموتوا. في وسط البستان تذكر مام ديليمان ابنه شيرفان الذي انتحر قبل أسبوعين ، لم يكن يتصور أبدا ً إنه سيأخذ المسدس ذو الستة طلقات ويحشوه بطلقة واحدة ومن ثم يقوم بتدوير الأسطوانة . في هذا الصباح قال لأبنته نارين التي تخجل من سذاجتها : ـ آه ، أمامي اليوم مهمة وحيدة هي غرس الشجيرة التي ستسكنها روح شيرفان . هنا سألته متنهدة ً : ـ وهل سيعود ؟. قال بصوت واهن : ـ يجب أن لا نتخلى عنه . أعادت عليه السؤال متوقعة ً أن يبادر بجواب جديد : ـ ولكن ما تبغي من وراء ذلك ؟ صمت مطولا ً لكنه أخيرا ً قال لها تلك العبارة التي امتزجت بدموعه : ـ حين ننجز ذلك نعيد التوازن إلى أرواحنا ، حينها فقط نحس إننا بحال أفضل . في تلك البقعة الخضراء والمسكونة بتسعة أرواح والمحفوفة بصخور تشبه الديناصورات الجاثمة ، كانت الكلاب تلهو وتتهارش ، وبتلك المجرفة المكسورة حاول جاهدا ً شق تلك الحفرة التي لا تشبه سوى قبر ، تذكر كيف ان أبنه تحدى الجميع غير آبه بالموت ، فوجه المسدس إلى رأسه وسحب الزناد ، حينها كان ملاك الموت له بالمرصاد . الحفرة تكبر وتكبر ، فجأة ً ، رفع رأسه حين تعالى نباح الكلاب التي انطلقت نحو الشارع ، نهض بقامته وصرخ بغضب : ـ أيتها الكلاب اللعينة دعي الغريب وحاله . صار الرجل يداعب الكلاب وكأنه يعرفها وتعرفه ايضا ً ، تنحى عن الشارع ليتجه ويخترق البستان ، فجأة ً صرخ مام ديلمان ذو السبعة والسبعين عاما ً : ـ مًن شيرفان !؟ عيناه لم تصدق ما يرى ولا عقله ، مع ذلك فتح له ذراعيه ، فركض ابنه ذو الخمسة والثلاثين عاما ً وطوقه معانقا ً . يا له من عناق ، فكر الأب مستغربا ً، فهو يعرف جيدا ً أن شيرفان وطيلة حياته لم يعانق أحدا ًسوى هيفين . بدا الابن متعبا ً ، وأحس الأب حين احتضنه أن ملابسه قد بللها مطر خفيف رغم الأجواء المشمسة طيلة النهار . فرت المفردات من ذهن مام ديلمان ، حتى انه حينها لا يدرِي لماذا لم يتمكن من أن يقول له : إن يومه يحمل أكثر من معنى ، وإن مهمته تسهم في ترميم الوشائج . تجاهل كل ذلك وابتسم ، محاولا ً أن يشكو له صلابة الأرض الجبلية وما يعانيه بسبب الحفرة التي استنزفت قواه . حتى سأله شيرفان : ـ ستستضيف روح مَن هذه الشجرة؟ حينها تشجع واعترف له وهو يبكي ويضحك : ـ هي لك ، والله لك. ابتسم الابن ساخرا ً وهو يراقب مشهد الغيوم التي بدأت تتكور وتساءل: ـ نحن متيقنون من أن دود المقبرة سيتدبر أمرنا ، ولكن لماذا تتعجل بمنيتي ؟. ـ كل شيء جائز ، ولكن صدقني ، حضورك الآن لا يستوعبه الآخرون . بينما مام ديلمان ينظر بدهشة إلى ابنه ، محدقا ً بعينيه ، استغرب كون لونهما يشبه لون الفستق ، فشعر بالحيرة ، لأنه يعرف جيدا ً أن عينيه تشبهان لون السماء . ترك الأب التفاصيل والاختلافات الطفيفة ، وافترشت شفتيه ابتسامة تنم عن الرضا ، فرك عينيه ، ليجد نفسه بغتة ينزلق و يغوص بتلك الزوبعة التي أحالت حياتهم الى جحيم .... يعرف الجميع وحتى أطفال شورش المجانين أن شيرفان هام وجُن بهيفين وأن أهلها لم يباركوا ذلك الحب ، وكانوا يتمنون قتله لاعتقادهم أنه سلب عقل أبنتهم بدهائه الشيطاني . بعدها زادت المتاعب شيئا ً فشيئا ً ، نصحه الدرويش واعظا ً : ـ قبل أن تموت يا شيرفان، عليك بترك هذه القرية ، فالعالم اكبر مما تتوقع . كان مام ديلمان يستمع الى الصوت المتقطع لولده ، أراد أن يسأله : لماذا زرعت في أحشاء هيفين جنينا ً ما دمت قد عزمت ان تواجه مصيرك كمجنون . صمت شيرفان المتعطش للحياة ، وبدت على ملامحه علامات القنوط والوحشة كأنه قد أتى من عالم دبق ورطب ليقول كما قالت أخته نارين يوما ً : ـ لماذا أورثتنا الفقر والجنون يا أبي ؟ كان الأب مُطأطئاً الرأس ينظر إلى الصرة التي حشيت بأسمال وحذاء شيرفان والتي قرر أن يدفنها ويقيم عليها تلك الشجرة ، لم يكن يعرف بماذا يجيب ، حاول كل جهده ان يستحضر ردا ً يُبري ساحته ، لكنه جثا على ركبتيه ، مرددا ً : ـ كان الأجدر بي أن لا أتزوج ، كي لا تتحملوا كل ذلك . لكن شيرفان كان أكثر صبرا ً وعطفا ً ، حاول مواساة أبيه بكلمات جعلته يستعيد ابتسامته : ـ لا تبالي يا أبي ، أتينا إلى هذا العالم وانتهى الأمر . نعم ، مام ديلمان حاول ان ينتشله من تلك الحماقة ، جاهد في السنة الأخيرة عشرات المرات كي يمنعه أو يحيده عن ذلك المصير ، لكن وكما قال الدرويش : إن الشيطان لم يترك له سوى ذلك القرار . في الأشهر الأخيرة كان الأب يستيقظ كل صباح ويبتسم وبمحبة يقول له : هل أنت بحال أفضل . دائما ً، و بعينين غارقتين بالدهشة يجيب شيرفان : أسأل نارين ، أنها تعرف إني فقدت الأمل . في ذلك المساء ، رأى الأب أبنته تبكي بعد أن قرأت آخر فنجان قهوة شربه شيرفان ، نعم ، رأت صورا ً معتمة و قدرا ً مشؤوما ً ، ربما لذلك لطمت صدرها وهي تصرخ : ـ سترك يا رب . عندما زارهم الدرويش كانت حالة شيرفان تزداد سوءا ً ، اشتد به الأرق لثلاث ليال ٍ ، أحس إن حالته تتطلب قرارا ً جريئا ً ، انحنى على الدرويش ، قائلا ً : ـ اعرف إنك تحبني وستمشي في جنازتي ، لا تنسى أن تدس المسدس في كفني . نهض الأب متشبثا ً بالأمل ، وهو يرى الكلاب قد هدأت ، وصارت تصغي لهم ، متوقعا ً أن كل ما حدث لشيرفان لم يعد سوى كابوس قد تغلغل الى أعماق عقله الواهن . هذه اللحظات زادته إيمانا ً ، صار قلبه كقنديل يتوهج ، شعوره بالغبطة دفعه أن يقول لابنه الذي حضر لنجدته : ـ ما دمنا على قيد الحياة فكل شيء يهون ... صمت ثم أردف ـ لكن والله اذكر جيدا ً أن الدرويش ساعدني بحمل التابوت ووضع على قبرك صخرة بيضاء . أسترق الأب نظرة ً حوله ، عسى أن يحضر الدرويش ويقاسمهم هذه اللحظات التي ربما تنتهي دون أن نفهم لماذا بدأت ، أقتنع أخيرا ً، حتى لو لم يحضر يجب عليه أن يحافظ على تفاؤله ، بدأ يحس إن ذاكرته قد أهيجت ، وراح يثرثر عن الأمل واليأس في آن واحد ، شيرفان ذو العينين الفستقيتين وجد بكل هذه التفاصيل ما هو مسلي ، وكأنه يسمعها لأول مرة . جلس قرب تلك الحفرة متأملا ً وجه أبيه الذي صار يتصبب عرقا ً دون ان ينبس بأي كلمة ، متذكرا ًشقائق النعمان وبطولة أبيه حين اصطاد أرنبين بريين وثلاث قبجات ، في ذلك اليوم أتت هيفين وكانت المصادفة ، ومن فرط فرحها رقصت معه بخفة حول النار حتى احمر وجهها . قال الأب : رؤيتك الآن تربكني ، هل تفهم ذلك ؟ ـ آه .. ماذا افعل كي اثبت لك ان الموت لم يطلنيِ . خفض مام ديليمان رأسه ، محاولا ً ان يعيد ترتيب ما حدث . ـ كيف ، كيف ، قبر مَن اذن ، أنا و نارين والدرويش قد حفرنا . ـ يا أبي ، حين نطعن في السن تختلط الحقائق في أذهاننا . تكدر وجهه وجحظت عيناه ، كمن ينتبه إلى نفسه وقال بصوت خرج من اعماق روحه : ـ تعني إني مصاب بالخرف !. شعر شيرفان بصعوبة كبيرة قبل أن يقول : ـ ربما . واكتفى بأن طلب من أبيه أن لا يحملق به بنظرات الشك . لكن عيناه ذرفت الدمع وارتجفت عضلات وجهه بالغيظ حين قال له أبوه وهو مقطب الجبين : ـ نعم ، قتلوا هيفين ورموها هي والجنين الذي ملأ بطنها في ذلك الشق السحيق . تداعى شيرفان ، وتمتم وبدت على ملامح وجهه سورات الغضب والانتقام : ـ سفلة ، فعلوا كل ذلك في غيابي ؟ ارتبكت روح الأب وهو ينظر الى ابنه وكأنه استلم النبأ لأول مرة ، ولم يتحمل الكارثة ، فهرب مهرولا ً صارخا ً كالمسعور: ـ اذا كان ما تقوله صحيحا ً، اللعنة عليهم جميعا ً. هذا المساء ، الشمس لونت الغيوم المتناثرة بالحمرة ، ولم يبق للأب من أمل سوى العويل : عليك أن تخاف الله يا شيرفان . أرجأ غرس الشجرة وأمرها حتى يتحقق مما يجري، عاد كي يخبر ابنته بالنوايا التي ستثقل كاهلهم . وهو في طريق العودة مر من أمام شجرة اللوز المعمرة ، تأمل مطولا أغصانها اليابسة ، رأى غرابا ً يفر منها ، رغم التعب النفسي توقف وحدق لثلاث دقائق بالشمس التي صارت تشبه برتقالة هائلة بتوهجها . وهو يحث الخطى لاهثا ً ، توقف واستراح على صخرة بيضاء ، فرحه وعثوره على أبنه ولو لساعات أعاد الراحة الى نفسه والصفاء الى ذهنه . على امتداد سنوات عمره الماضية ، وما حملته من كمد وفرح ، لم ينس كومة القش وزوجته التي تحولت روحها قبل ستة أعوام إلى شجرة ، كانت جالسة قرب البئر وهي تنظر إلى السماء وتخاطب نارين بمودة ، حينها كان يسمع كلماتها ويضحك : ـ يا حبيبتي ، الله لا يحب العوانس ، إذا جاءك النصيب لا تترددي . غير إن نارين قالت بجزع : ـ آه يا أمي ، من أين يأتي هذا النصيب وجميع الرجال حمقى . حينها ، اكتفى بهز رأسه وهو يردد : ـ أن البشر رغم حماقتهم طيبون . ما أن وصل الى القرية حتى خيم الليل ، سمع الأطفال يرددون اسم شيرفان ، دفع باب كوخه ، وانطلق يسرد بفرح لنارين ما حدث في بستان الأرواح ، بتوتر قال : ـ نعم ، انه ذهب ليأخذ بثأر هيفين . لكن ابنته لم تبال بكل ذلك وبصوت خجول وهادىء قالت : ـ هل أعد لك قدحا ًمن النعناع قبل أن تنام يا أبي . أراد الأب العجوز أن يبكي ، رفع جبينه وركز عينيه بها : ــ لا تصدقين ؟ ـ أصدق ماذا ؟ قال بمرارة : ـ إذا لم تصدقيني ، اسألي الكلاب إنها رأت وسمعت . ـ يا أبتي ، قرية شورش تصدق خرافات كثيرة ، لكن عقلي على الرغم من سذاجته لا يتصور ذلك ، هيهات ان يعود من دفناهم . حينها أعلن عن غضبه وصرخ بوجهها : ـ إذن أنت أيضا ً تعتقدين أني رجل خرف . فقالت نارين بشفقة : ـ ، ارحم حالك يا والدي، بالله عليك أكتم الحكاية ولا تقلها حتى للدرويش . هنا غطى جسده النحيل بمعطفه الفضفاض الكامد اللون ، وهز َ رأسه قائلا ً كمن يكلم نفسه : ـ أنت على حق ، لكني رأيت شيرفان كما أراك الآن . بعد أن نامت نارين بفستان العرس ، أطفأ مام ديلمان الفانوس ، ولم يغلق الباب بالمزلاج تلك الليلة ، شعر بالسلوى لأن الأرواح المرئية كانت تطوف حوله ، أما أهالي القرية المصابون بالفقر والجنون فقد واصلوا تناسلهم في عتمة الظلام .
#بديع_الالوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة : في صحبة ابن مالك
-
ألمنحوته المنحوسة
المزيد.....
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
-
مسيرة طبعتها المخدرات والفن... وفاة الممثلة والمغنية البريطا
...
-
مصر.. ماذا كتب بجواز سفر أم كلثوم؟ ومقتنيات قد لا تعلمها لـ-
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|