|
العقل والحضارة والتكنلوجية والإنسان
كامل كاظم العضاض
الحوار المتمدن-العدد: 3949 - 2012 / 12 / 22 - 17:45
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
إبتداءا لابد من القول بأن مفردات عنوان هذه المقالة الموجزة هي ضخمة من حيث مضامينها وتشعباتها، حيث تمتد جذورها الى علوم تخصصية عديدة. وعليه، فهي تتطلب، لسبر أغوارها، اولا، ثقافة عريضة تشمل العلوم التي تعالجها، وثانيا، حيزا واسعا لا مقالة موجزة. ومن هنا تتضح محدودية هذه المقالة، فهي لا تطمح الى أكثر من مداعبة بعض الأفكار العامة التي تطرق باب الفكر، عادةً، كلما تشاء الظروف لنا معاودة زياراتنا وإقاماتنا المؤقتة في بلاد الغرب، وبالذات أوربا، وخصوصا منها، حاليا جمهورية ألمانية الإتحادية و عاصمتها برلين، حيث حضرنا مؤتمرا نظمّتة منظمة اليورو- المتوسطية للتنمية والتعاون. ولاشك بأنه لابد من الإبتداء ببعض التعاريف العامة للمفردات الأربعة أعلاه. وبطبيعة الحال، ستكون التعاريف المقتضبة غير كافية ولا شافية، ولربما تُعتبر جزئية عند تعريضها للتمحيص العميق. فما العمل؟ العمل هنا هو لمجرد تقديم أفكار أولية، وليس تقديم أطروحات نظرية، نقدية، او مُجددة او غير ذلك. فلا بأس من إثارة أفكار قد تثير التفكير وتقود الى الإستزادة في الفضول الفكري، فتنتعش الحركة الفكرية، فالبحوث الجادة كثيرا ما تفتتحها وتمهد لها أسئلة عامة، حتى لو بدت، أول الأمر، ساذجة لبعض الناس. قد لا نجانب الحقيقة، لو قلنا بأن العقل هو النشاط الفكري المتمعن للإنسان الواعي، عموما، وأنه قد يكون مبدعا وأصيلا، كلما إستند، للتأمل المعمّد بالتجربة، الى الإستنارة والذكاء. عندها سيكون النشاط العقلي هو ليس مجرد تفكير، بل نشاط ممنهج، أي مستند الى منهجية علمية للتفكير، تقوم على قواعد المنطق وأدوات الإستقراء وأساليب البرهنة والإثبات، وما يتعلق منها بمفهوم السببية، ولا ينساق لمفاهيم السحر والشعوذة والإحالات الروحية والغيبية، ما لم يثبتها دليل مادي محسوس وقابل للقياس، سواء في مسبباته أو في آثاره، كما لا يكتفي بمجرد التمييز بين المنفعة والضرر. وليس هنا مجال للإستفاضة في بحث مفهوم العقل، فمجاله علم الفلسفة، فلنكتفي، إذاً، بهذا التعريف العام، وللآخرين أن يرفضوه أو يعدّلوه أو يقبلوه. أما الحضارة، فهي، عموما، تتمثل بالثقافات الفكرية والروحية واللغوية، الى جانب الإنجازات التنظيمية والمادية والتشريعية والإجتماعية والسياسية، مقترنة بتطبيقات تكنلوجية متوائمة. وكثيرا ما تفرز الحضارات المختلفة قيمها وعادات أهلها وتقاليدهم وأساليبهم للتواصل الإجتماعي؛ وحتى ما يتعلق منها بالسلوك الفردي في المجتمع. وبهذا تنطبع هذه الحضارة أو تلك بطابعها الخاص. ولكن، لجميع الحضارات البشرية مشتركات إنسانية عديدة، وإن تراكمها الكلي يُعبّر عنه، بصورة تعميمية، بالحضارة الإنسانية أو البشرية، وذلك على الرغم من تفاوت إنجازاتها الحضارية والعلمية، المعاصرة منها او عبر العصور. وتُعرّف التكنلوجية، عموما، بانها تمثل الأساليب والطرائق والأدوات والتنظيمات التقنية التي تهدف الى زيادة إتقان الإنتاج أو زيادته، كما ونوعا، فضلا، عن رفع كفاءة إنتاجية العاملين والمستخدمين، كما المستهلكين، لإختزال الزمن المطلوب لإنجاز النشاطات، الإنتاجية والإستثمارية والإستهلاكية، أو أي نشاط آخر، يُمارس، كهواية أوكعمل طوعي، او لإغراض الترفيه. و يتحقق الإرتقاء التكنلوجي بزيادة أو تكثيف إستخدام رأس المال، أو بتحسين إساليب الأداء الإنتاجي للقوة العاملة، او الإثنين معاً. بقي أن نحاول التعريف بالإنسان، وهذا هو الأمر الأصعب. فمن هو الإنسان؟ نحن لا نعني بهذا السؤال الإنسان بصفته البشرية وطباعه الأولية الهادفة الى إيجاد الطعام والمأوى والإنتفاع من موارد الطبيعة، إنما نقصد به، بصورة تعميمية، بأنه هو المُنتج النهائي لكل من العقل والحضارة والتكنلوجية، بكافة مستوياتها. وهو المنتفع النهائي، عموما، من ثمارها و عوائدها، وربما، المتضرر أيضا من بعض آثارها، مثل آثار التدمير التي تخلفها معدات الحروب، او تخريب البيئة. في ضؤ هذه التعميمات الأولية للعقل والحضارة والتكنلوجية، نلاحظ ان المُنتج والمستهلك لها جميعا هو الإنسان، بإعتباره الكائن البشري المفكر الذي يعيش ضمن مجتمعات إنسانية. لكنها مجتمعات متفاوتة، في العصر الراهن، في مقدار ونوعية إنجازاتها العقلية والحضارية والتكنلوجية، وذلك، أساسا، بسبب التفاوت في مقدار نوعية ومستوى التطور العقلي والفكري والروحي للإنسان في تلك المجتمعات. ولكن المجتمعات الأقل إنجازا قد تستطيع الإنتفاع من الإنجازات الأرقى في مجتمعات بشرية أخرى، أكثر تطورا ورقيا. إلا أن ذلك لا يتم بدون ثمن تدفعه المجتمعات الأقل رقيا. ألا ان واقع التأثير والتأثر في هذا المجال مابين الدول الأرقى والأقل رقيا، لايسري هكذا بسلاسة أو بيسر، ذلك لأن العلاقات التبادلية، تجارية كانت أم حضارية أم سياسية، كلها تمر عبر صراعات، قد تكون عنيفة في حالات كثيرة يشهدها التأريخ، وتناقضات مصالح، سواء كانت مصالح مؤسسات أو حكومات أو منظمات أو أفراد. وإن هذا الصراع لا ينحصر فقط بين دول المجتمعات المتفاوتة في مستوياتها الحضارية وفي ثرواتها المتاحة، إنما تجده أيضا بين الطبقات والشرائح والفئات الإجتماعية ضمن مجتمع كل دولة على حدة. ان إستلاب وتبعية الدول الأقل رقيا في مجال الإنجازات العقلية والحضارية والتكنلوجية يعود الى ثمة عجز أو فشل أساسي بالعناية في الإنسان، بإعتباره المُنتج والمستهلك والمبدع النهائي لكل الإنجازات العقلية أو الفكرية ولكل الإضافات الحضارية والتكنلوجية. فالقمع والتهميش وعدم إتاحة الفرص المتكافئة للحصول على المعرفة وعلى التمتع بالجسم الصحي السليم، فضلا عن محاربة العقول المفكرة والطامحة الى الإستنارة والخروج من قيود التخلف والأساطير، كل هذه العوامل تخرّب نوعية الأنسان، وبالتالي ستبقى هذه المجتمعات المُخرّبة للإنسان مستلبة ومستباحة وتابعة ومتواكلة على ما تحصل عليه من فتات إنتاج الحضارات الأكثر رقيا. وهكذا تُستدام الفجوة الكبرى بين الدول الراقية والمهيمنة وبين الدول الأقل رقيا وإنجازا. فالمفتاح هنا يكمن في نوعية الإنسان في الدول الأقل إنجازا، بغض النظر عن ماضيها الحضاري المجيد، إن وجد هذا الماضي، لاسيما حينما لا يستلهم هذا الماضي همم أجياله الحاضرة لإعمال العقل الحضاري والثقافي ولإستيعاب المعرفة والتقنية، بهدف الإرتقاء في الإنجاز الحضاري وما ينطوي عليه من نمو وإزدهار إقتصادي وإجتماعي وسياسي. ولعل من أهم شروط النضوج الفكري والمعرفي هو توفر نظام ديمقراطي وليس قمعي أو فئوي أو مذهبي أو طائفي، فالمجتمعات المنقسمة لا تربي الإنسان ولا تزيح من أمامه قيود الإبداع والمعرفة ولا توفر له مناخا مناسبا من الحرية الكاملة والمقترنة بالمسؤولية الإجتماعية والسياسية. وفي التحليل النهائي، سيبقى الإنسان هو اللغز والمفتاح الحقيقي للبناء والنمو الحضاري. إن العناية بالإجيال القادمة لا تؤدي وظيفتها بدون توفير الأطر الإجتماعية والسياسية القائمة على الحرية والمساواة، بمعنى تكافؤ الفرص، وهذه شروط لا توفرها إلا النظم الديمقراطية الحقيقية، القائمة على إعتبار الناس، بغض النظر عن أجناسهم وأديانهم وأثنياتهم ومنابتهم الإجتماعية والطبقية، هم مواطنوان متساوون، ضمن الدولة الواحدة، في الحقوق والواجبات، وفي فرص الحياة كافة، بدون تمييز.
#كامل_كاظم_العضاض (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول إلغاء البطاقة التموينية؟
-
السياسات النفطية التي يجب أن يطالب بها التيار الديمقراطي في
...
-
الحق معرفة, بدونها يتلطى الباطل
-
هل في قلب السواهي دواهي؟
-
أصبح الفساد، مقرونا بالفشل، طاغيا في العراق
-
عراقيون، هذا هو خيارنا- سوف لن نخدع لمرة رابعة
-
حسابات المصالح في محاولات إزاحة المالكي من منصبه
-
الديمقراطية -التوافقية- في الميزان
-
أجوبة على أسئلة الملف الخاص بتطور تركيب الطبقة العاملة
-
بلا عنوان
-
;كيف يمكن أن تُنتزع وتُنتهك مضامين النظام الديمقراطي؟
-
المرأة نصفنا الآخر
-
هل من سبيل لإصلاح العملية السياسية في العراق؟
-
هل هناك تحوّل في الرأي العام العراقي؟
-
كيف نفسر الأحداث المحبطة الجارية الآن في العراق؟
-
قطوفٌ من الحياة
-
كلام عن الديمقراطية بين التهجم والحوار
-
متى وكيف يكون النظام في العراق ديموقراطيا؟
-
دور القوى اليسارية والتقدمية في ما يسمى بثورات الربيع العربي
...
-
لماذا نعبد العنوان ولا ندرك الجوهر؟
المزيد.....
-
لحظة لقاء أطول وأقصر سيدتين في العالم لأول مرة.. شاهد الفرق
...
-
بوتين يحذر من استهداف الدول التي تُستخدم أسلحتها ضد روسيا وي
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جندي في معارك شمال قطاع غزة
-
هيّا نحتفل مع العالم بيوم التلفزيون، كيف تطوّرت -أم الشاشات-
...
-
نجاح غير مسبوق في التحول الرقمي.. بومي تُكرّم 5 شركاء مبدعين
...
-
أبرز ردود الفعل الدولية على مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالا
...
-
الفصل الخامس والسبعون - أمين
-
السفير الروسي في لندن: روسيا ستقيم رئاسة ترامب من خلال أفعال
...
-
رصد صواريخ -حزب الله- تحلق في أجواء نهاريا
-
مصر تعلن تمويل سد في الكونغو الديمقراطية وتتفق معها على مبدأ
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|