رحمن خضير عباس
الحوار المتمدن-العدد: 3946 - 2012 / 12 / 19 - 08:45
المحور:
الادب والفن
أوراق من يوميات حوذي
رحمن خضير عباس
كمرآة مهشمة , تشظت تصوراتي . تناثرت على الأرض , بعد أن كانت حافلة بالأخيلة . هذا الذي يقف في بؤرة الصورة , منتصبا , رافعا عنقه بشموخ , واذناه تخترقان الهواء , بينما تنساب خصلات شعره على امتداد عنقه الجميل . يدكُّ الأرض بسنابكه حالما ينطلق راكضا , فيرتج جسده وتتموج عضلاته . أخاله – احيانا – وكأنه يرقص في الهواء .
لا . ليس ذالك الجواد الذي تخيلته . فهذه الصورة تبخرت كحلم عابر حالما رأيت تلك السيارة الأمريكية الصنع , من نوع بيوكً , تآكلت حواشيها من الصدأ , رغم محاولات الصيانة والترقيع . ينبعث منها دخان رصاصي مشوب بالسواد يوحي بأنّ محركها قد أكل الدهر عليه وشرب .
- على بركة الله ..
قالها شريكي , وهو يسلمني سيارته , وكأنه يقذفني الى المجهول . فهو يعمل فيها نهارا , ويسلمني اياها ليلا , لأبقى ساهرا معها حتى الصباح الثاني . وهكذا وجدت نفسي وراء مقود سيارة , تخيلتها جوادا . وانا اتهادى في ليل اوتاوة الملثم بالثلج والغموض . فانا حوذي ابتداءا من هذه الليلة , بل من اللحظة التي وضعت على سقفها اشارة ( تاكسي ) وليس عليّ سوى سوى الأمتثال لأوامر الزبائن . ونقلهم اينما يشاءون . وعليّ من هذه الليلة . أن أنسى كل شيء , وان اركّز على العمل بهمة وشطارة . فلأتخلص من يبوسة الحلق , ومن بقايا الخوف والتردد . ولأنطلق مسرعا في شوارع مدينة غريبة . اخترق نسيج الضوء والظلمة اللذين يتشكلان عبر اعمدة الكاشفات الضوئية . ومع انني من المفترض ان ابحث عن زبون في زحام الطريق . ولكنني كنت اخشى لقائي بأول زبون . كنت ارى سيارات التاكسي تتلوى في الشوارع كأسماك القرش التي تبحث عن طعامها .اما انا فكنت متسربلا بخوف شرقي تلبسني منذ الطفولة ورافقني حتى كهولتي ... فجأة ارتفعت يد في الهواء : تاكسييييي ..كدت من ارتباكي ان اصطدم بباص قادم الأتجاه الآخر . ولكنني افلتُّ من ورطة مؤكدة , و توقفت بشكل يوحي بحداثة تجربتي . دخلت امرأة وهي تذكر عنوان وجهتها . وحينما حاولت الأستفسار , اظهرت تبرمها واشارت الي ان اتبع توجيهاتها . – قف هنا . منحتني الأجرة وهي تغادر السيارة , عندذاك التقطت نفَسا عميقا , وكأنني احملها على ظهري . هل شعرت بإرتباكي ؟ هل ادركت مرارة اللحظة التي ارتشتفها ببطء وعلى مهل اثناء الطريق ؟ .. لكنني – مع ذالك - فقد شعرت بخيط من الرضا , لأنني لامست الخطوة الأولى لطريق قد يطول طويلا .
كنت أغذي في نفسي روح المثابرة والأصرار . مشيئة الحياة تحتم عليّ ان اتنازل عن طبيعتي , مشاعري . أنْ أتحول الى شخص آخر . استنجدت بالذاكرة : بلدتي الصغيرة والبعيدة , التي تغفو في النسيان . كانت انذاك تختبيء بين بساتين النخل والصفصاف . كان هناك خان كبير فيه خيول متعبة وبعض المكارية الذين ينقلون الركاب من الحساوية والفلاحين الى قراهم . هؤلاء المكارية جعلوا من هذا الخان مجالا لشجونهم وعراكهم واصواتهم المبحوحة تحت شمس لافحة , لاترحم .. انتشلت نفسي من هذا الأحساس .
( انا لست مكاريا .. لا لآ .. انا حوذي في مدينة لاتبعد عن القطب الثلجي الا بضع سنتمرات صغيرة في خارطة العالم .. وما ذا تريد ان تفعل في هذه المدينة التي تتلالأ كالكرستال .. ؟ اتريد ان تصبح مديرا او وزيرا ! وانت الذي اتيت بخفي حنين من الموانيء العربية وتخوم مدنها , والتي بخلت عليك حتى بسقف يحمي زمهرير الخوف الذي يجري في دماءك الملوثة بالحزن ..)
انتشلت نفسي من هذه الأفكار وانا اسير في شوارع خاوية . عيناي تترصد الذين يبحثون عن تاكسي . وكأني قط ينشب اظفاره في جدران المدينة , كي يبدد بعض العتمة المحيطة بها . كنت ابوح لنفسي بكلمات لارابط بينها . ولكن كلماتي تدور حول وأد الأجنة الشرقية التي ترافقني . وفتح كوة صغيرة على عالم آخر : يجب ان تكون ادرى من اهل هذا الوادي بشعابه .. ان تفتح عينيك لتعرف كل شيء . الشوارع بأسماءها وارقام بيوتها , المكاتب الحكومية والمكاتب الخاصة , الوزارات والمستشفيات والتجمعات التجارية ,المقاهي والمطاعم والكازينوهات . الكنائس والمساجد والمكتبات , المواخيروالفنادق والمومسات, محطات القطار والباصات ومواعيد الحافلات وتقلبات الجو ونشرات الأخبار ...اشياء كثيرة يجب ان تعرفها . ليس لديك عذر فانت وقاع الشارع توءمان, وما عليك سوى الأنسجام بعالمك الجديد .
لم تكن البدايات هيّنة كما كنت اعتقد . تتعرض للحظات عسيرة , تتشنج من الأرتباك , وكأن عطشا معتقا يترسب في شفاهك التي تشققت كأرض قاحلة , جفّ ماؤها . والسنوات تركض لاهثة , وتتكوم على براعم العمر . يصاحبه النأي عن وجوه غادرتها ذات يوم , وجعلتها مكبلة بانتظار ابدي . هل حقا مضت كل هذه الأعوام وكأنها رشاش من الضوء يخترق ظلمة العمر .
ولكنني كنت اشعر احيانا , انني احمّل الأمور اكثر من طاقتها . العمل في هذه الأصقاع هو الذي يشكل شخصية الأنسان وكيانه . والزبائن بشر مثلنا . قد يكونون في خلق رفيع . ولهم همومهم واحباطاتهم ولهم نجاحاتهم ايضا . استطيع ان اعزف على الوتر الدقيق في شخصيتهم .ان نفتح موضوعا عن احوال الطقس اليومية مثلا .. ولا اكترث لركاكة اللغة فلا احد يتوقع ان نغرد اللغة كأبنائها .اما اذا كان الزبون مستعجلا فما عليك سوى ان تلهب جياد العربة بسياط السرعة لأرضاء الزبون والحصول على غيره .
هذه المهنة التي اتبرم منها الآن , لم احصل عليها بسهولة . هناك امتحان تسبقه دورة في الألمام بقانون التعامل مع المجتمع , وتحاشي التمييز بين الناس على اساس اللون والجنس والعمر والقابلية الجسدية والذهنية . كما درسنا جغرافية المدينة , وتلافي الطرق الطويلة وعدم ازعاج الناس وبناء روحية الأندماج . ولكن ما ان تحصل على الأجازة حتى تجد نفسك في سوق لاينتمي الى المحيط الكندي . فانت في وسط السوق السوداء والسلوك الأسود من ابناء جلدتك العرب والأفارقة والآسيويين . لهم منطق السوق في الشراء والبيع لسوق العمل . تلمس استغلالا بشعا من اخوتك المهاجرين امثالك ! والذين يحتالون على القيم الرائعة للقوانين الكندية . مالعمل ؟ وانت الذي ليس لديك سوى الخيارات المحدودة . انت الواهم في الرفاهية والأستقرار في هذه السهوب النائية . ماذا تفعل , حينما تجد ان فرص العمل موصدة امامك نتيجة لضحالة تجربتك وندرة مهاراتك ؟ ستلملم بقايا الروح , وتحاول انْ تروضها على ماهو ممكن .
كان ابي يحب الخيول . اقتنى - مرة - مهرا صغيرا. اسودا كالليل . من فرس اصيلة . وسماه ( الحولي ) . شيئا فشيئا يكبر الحولي , وفي فترة وجيزة تحول من مهر صغير الى جواد مهيب . تنزلق خصلات شعره على عنقه السامق. كم كان مفتونا بجواده , متفاخرا في قوته . يأخذه كل يوم الى النهر , فينغمر معه في المياه المتدفقة . كنت ارمقهما من الضفاف بلهفة . نعود الى دارنا مساءا . يسارع ابي في اطعام الحولي ويربطه في جذع النخلة . مرة عاتبته امي على اهتمامه المتزايد بجواده . قال لها وهو يداعب فروة رأسه : اتريدين الحق . انه بمثابة ابني وصاحبي وكل شيء في هذه الدنيا . كانت سطوة ابي علينا تجعلنا غير قادرين على مناقشته . كان يحلو لأبي ان يسافر مع جواده . يضع على صهوته السرج المرصع بالصدف الفضيّة .بينما تتدلى منه الأحزمة الملونة . ثم يرتدي ابي افخر ملابسه . العقال الأسود والياشماغ , ثم العباءة البنية التي تشفّ عن صايته الأنيقة وحزامه السميك . وهكذا يظهران في تناسق مهيب من الأناقة , وحالما يخرج من زقاقنا , حتى تدك سنابكه الجادة الأسفلتية المتربة وهويمشي بوقار , فيثير زوبعة من غبار أليف ينزلق برفق على رموش عيوننا .
ذات صباح معطر بالرطوبة . استيقظ ابي كعادته للصلاة . وحالما اكمل آخر ادعيته . ذهب ليطمئنّ على الجواد . سمعنا صرخة ابي الملتاعة . قفزنا من افرشة النوم , وبقايا نعاس يسيل من وجوهنا , لنجد جوادنا ينازع النفس الأخير. بينما ابي يعانقه . لأول مرة ارى دموعا تتدفق من عينيه وتسيل على لحيته البيضاء كحبيبات من الندى . عند ذاك بكيت طويلا شاركتني امي وبقية اخوتي . قال جيراننا الذين تجمعوا : ربما لدغته عقرب . وقال آخرون : انها افعى سامة انشبت اسنانها فيه .بعضهم اعتقد انه اصيب بمرض غامض . اما ابي فقد رفض كل هذه الفرضيات قائلا : انها عين الحسود التي قتلته غدرا .
اما انا فلا اعتقد ان احدا يحسد سيارتي هذه , التي كانت تشق طريقها في ذالك الثلج المنهمر , والذي كان يلفّ زجاجها الأمامي . ثلج بامتداد الأفق ينهمر بكثافة تحجب الرؤية , حتى ان الماسحات عجزن عن تنظيف الزجاجة الأمامية .تضببت الرؤية وكأنّ البرد قد جمّد أوصال الحديد , والثلج مفروش على امتداد الأفق , يغلّف اشجار الصنوبروالأسطح القرميدية المخروطية الشكل . انه شتاء قطبي حيث يتجمد كل شيء , حتى الأنهر والبحيرات . لكن اوتاوة تتحدى البرد وتفرح بالثلج فتصنع منه مهرجاناللترويح عن النفس والمتعة. فتقام النصب الجليدية التي تبدو في الساحات . فنانون من كل بقاع الأرض يظهرون مهاراتهم باجمل اللوحات , فيحولون الثلج الأصم الى كريستال ينبض بالحياة . تتحول ( ريدو كنال ) الى مسرح للتزحلق على الجليد والى فضاء عريض للرقص والمتعة والرياضة , بينما اشجار السرو تتبرج بالأضواء الملونة .
كنت معتكفا على نفسي وانا انتظر في سيارتي زبونا عابرا . رغم البهرج اللوني والألعاب النارية التي تنعكس على نهر اوتاوة . وحيث شاتو لورييه . قصر تأريخي يمتد الى اسلوب البناء القوطي الذي جلبه المهاجرون الأوربيون , وهم يؤسسون اللبنات الأولى لحضارتهم في صقيع هذه الأرض الجديدة .. كنت اتمنى ان ينتهي هذا المهرجان . حتى اعود الى بيتي كخفاش يخشى ضوء الفجر . رايت رجلا وامراة يؤشران لي .. في الطريق كانت انغام الموسيقى تتغلغل بين حبيبات الثلج . وكان الطريق حافلا بمخاوف الأصطدام او الأنحراف او التزحلق .. لكني اوصلت الزبونين بسلامة . وحينما عدت الى مركز المدينة من جديد فكرت ان اسلك الطريق السريع . بينما الألعاب الناريّة مازالت تخترق ظلمة السماء , لتكوّن نافورات من الأضواء والألوان .. في تلك اللحظة تذكرت اضواءا نارية تقتحم ليل بغداد , ولكنها تحمل الموت والدمار .اخبار قصف بغداد تنبعث من جهاز الراديو . مشهدان يبرزان امام عيني في لحظة واحدة . اوتاوة وهي تغرق في اضواء من الفرح . وبغداد التي تغرق ايضا في اضواء الموت.. ضغطت على دوّاسة السرعة وكأنني اهرب من اللحظة . ففقدت السيطرة واصبحت سيارتي تتزحلق وتترنح في اتجاهات خطرة . احسست برهبة الموت وانا ارى شاحنة ضخمةتأتي باتجاهي . اغمضت عيني لكي لا ارى فداحة نهايتي . ولكن معجزة غير منطقية جعلت سيارتي تقف على مسافة قدم عن مسار الشاحنة ! فتحت النافذة لأتحسس جسدي بينما كنت اذوب في حالة من الذهول . كان رذاذ الثلج يعانق حبات العرق المتفصد من جبهتي .
#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟