نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1135 - 2005 / 3 / 12 - 11:25
المحور:
الادب والفن
صدرت مؤخراً رواية "غرفة ترى النيل" للكاتب و الصحافي المصري عزت القمحاوي. كانت الرواية مفاجأة لقراء القمحاوي, فتسيس الرواية عال بالمقارنة بسائر أعماله, كما أن الرواية اشتملت على نبرة حزن و ألم قوية, تختلف بشدة عن آخر أعماله "كتاب الأيك" الذي امتاز ببهجته و احتفائه بالحياة و تحديداً بالجانب الحسي فيها. غير أن من يتابعون القمحاوي جيداً يعلمون أن هذا الحزن متأصل في كتابته, و تجلى أشد ما تجلى في مجموعته القصصية "مواقيت البهجة" (لاحظوا المفارقة في الاسم!!). و من يتابعونه اكثر يعرفون انه حتى هذا الألم الدافق إنما هو لعبة كتابية في النهاية, إذ الكتابة لا تعني له سوى اللعب. بهذا الحس يخلق شخصيات إشكالية في روايته الجديدة, لا يحرص فيها على التمييز الشديد فيها بين النقي و الملوث, فكل شيء يتداخل في هذه الرواية, و بالأخص الأحكام القيمية. هو يعجب حتى بأبطاله الذين يختلف معهم أخلاقياً. عن هذه المواضيع تم إجراء الحوار مع عزت القمحاوي. بدأ الحوار من اللعب بتوقعات القارئ في الرواية صعوداً و هبوطاً على الدوام, إذ نرى منذ البداية موت بطل الرواية, عيسى, ثم نراه مازال يعالج في المستشفى, و بينما يكون أمل القارئ قد تحطم في أنه سيعيش, بسبب المشهد الابتدائي المنبئ عن موته, يخبرنا الطبيب بأن مرضه ليس ميئوساً منه تماماً, و هو ما يثير دهشة حتى عيسى, ثم نعرف, في فقرة صغيرة من الرواية, أن بث الأمل نفسه هذا هو جزء من مشروع استثماري لدر مزيد من الربح على المستشفى.
يقول القمحاوي مؤكداً: هذا ما يحدث في جميع المستشفيات. هناك مبالغة في طلب التحاليل من أناس فقراء جداً. تجد تناقضاً شديداً بين مظهر الشخص البسيط و بين المكان المعقم الذي يعالج فيه. لم يعد هناك الآن علاج في مصر إلا هكذا. و هذا قد يحدث لأي شخص في مصر توجد جهة تعالجه. فجهة العلاج جهة قاهرة ليس فيها أي رحمة التي يمكن بل و يجب توقعها من مكان كهذا. بالنسبة للإعلان من البداية عن موت البطل ثم إيهامنا بأنه قد يعيش فأنا أعتقد أن رهانك في الكتابة يجب أن يكون على احتفاظك في يدك باللعبة مع القارئ و الذي ترسم معه هذه الحالة, فاللعب أن تحتفظ بشريكك في اللعبة حتى النهاية, بشرط وحيد هو أن يكون اللعب ممتعاً. و اللعبة هنا تتداخل فيها الأحلام, فمشهدا موته في البداية هما حلم حيث استطاعت الأحلام تفتيت الزمن و تفتيت التوقعات و أعطتني حرية. الحلم في حد ذاته هو لحظات من الحرية التي ينطلق فيها اللا وعي. هو أيضاً في الرواية نوع من حرية الكاتب في اللعب. اللعب هنا بين ما حدث و بين ما لم يحدث, فهي ليست رواية الحدث إنما رواية تفاصيل و رواية هواجس. رواية تجري في السرير. هذه البقعة الضيقة جمعت تفاصيل صغيرة جدا أما الحدث فكان آخر شواغل الكتابة.
الأيك و غرفة ترى النيل
جزء كبير من الحوار كان عن المقارنة بين رواية "غرفة ترى النيل" و بين عمل القمحاوي البارز "كتاب الأيك في المباهج و الأحزان" إذ يمكن ملاحظة فارق هام بين العملين, حيث في الأيك تلتقط الحواس المفارقة و يفسرها العقل بشكل ذهني, بينما في الرواية الأخيرة الحواس هي التي تعمل بشكل مطلق و لا يبدو ما وراءها, أنا أرى كذا و لكن الرواية لا تقول معنى ما أراه.
- لا, هي تقول. هنا المفارقة تدركها الحواس و العقل معاً. فمثلاً الطيور يفترض انها اكثر الكائنات انطلاقا و حرية غير أن عين الراوي رأت طائرين يتهارشان بكسل زوجين قديمين, حتى شجرة التين بدت كأنها شيء حزين تقف عليه غربان و هذا له دلالة, اوراق الذرة كانت كأعلام منكسة. فقط يحتاج هذا إلى أن يقرأ القارئ حركة الموجودات.
تشبّه سير الناس بمسيرات احتجاج بلا إعلان.
- نعم, الزحام في أوقات الذروة, بل و حتى في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تجد الشوارع مسدودة. إنه نوع من المسيرات الصامتة حيث ليست هناك متعة في السير. إنها حالة من حالات الضياع و الرغبة في عدم الوصول لأي مكان.. الرواية تلم متناثرات كتلك.. خوف عيسى من الكتابة هو خوفي.. الفرق الوحيد أنني في النهاية أضعف و أسلم الرواية للنشر.. هذا الخوف الذي انكسر و التراجع الذي في النهاية أنجز هذه الكتابة, هو الذي سيظل قابضاً علي حتى آخر العمر.
هناك مجاز في هذه الرواية أحالني على الفور إلى الأيك, يقول رئيس التحرير أن كل قامة أطول من قامته يجب عليه أن يقصها بالمقص حتى تصبح في طول قامته, و من لا ينحني أمام المقص فستطير رأسه, في الأيك أشرت إلى جسد الشخص الفاسد البارز إلى الأمام بتبجح و جسد الإنسان المقهور المنحني إلى الخلف بانكسار, و قلت أنهما يشكلان واحداً صحيحاً مع بعضهما, هذه التشريح للفساد عبر الصورة في العملين استثنارني جداً.
- نعم, أنا استطيع ان أشم الفساد. يعني ممكن الفاسد يصطنع علامة الصلاة على جبهته بالمكواة لكن اللحم الفاسد لا تخطئه عيني. جسد الفساد في مصر يتلخص في كونه قالباً يدخل فيه اثنان و يخرجان شخصية مماثلة, كل الملامح متشابهة. نفس الشيء ألاحظه في الصور. لو أتيت بشخص ينتمي لمؤسسة الدولة و صنعت مسلسل صور له و لاحظت كرشه سوف يمكنك إدراك كيف كان يبدو لدى دخوله إلى أن يملأ القالب تماماً و تصعب معرفته.
في هذه الرواية ثم نوع من العبث يقال بشكل مطلق كالحكمة (الحياة طفل يطرح عليك اسئلة) مثلاً, بينما في الأيك نجد العكس, نجد الحكمة العميقة تقال بشكل عابث تماماً (عندما تقارن بين حضارات الشرق القديم و الحضارة الأمريكية تقارن بينهما من ناحية تفصيلة ساخرة كوجبة الإفطار).
- الأيك لا يقارن بهذه الكتابة. ف"غرفة ترى النيل" نوع روائي أما "الأيك" فعمل نثري. بالنسبة للعمل الروائي أنا لا أؤمن أبدا بالحدوتة الفارغة إذ لابد أن تكون الكتابة مشحونة بهم سياسي عام و مضمر يرتبط بالإنسان في أي مكان. يجب أن تكون هناك وجهة نظر, و لكن محكومة, إذ ينبغي أن يظل الصوت خافتاً و يصبح هناك خوف شديد من الاستعراضية. أما في الأيك فأنا أستطيع ان أكون استعراضياً دون خوف, أن أكون شخصاً يطرح ذاته على الدوام. فإذا اراد أحد الكهان محاكمتي أهرب إلى النصف الآخر, يعني لو أراد كهنة الصحافة محاكمتي أهرب إلى الأدب و العكس, أما في هذه الرواية فلا مهرب.. نعم, هناك تفكير ولكن صوته خافت في الرواية و في الكتابة عموماً. كتبت من قبل إن جمال الألحان لا يصلنا من ضربات الطبول و إنما من الوتريات و من هذا التباين بين الطبول و الوتريات.
الأبطال
لا يمكنك في الرواية التعاطف مع بطل بالمطلق أو كراهيته بالمطلق. إذ ليس هناك شخص شريف في الرواية, فحتى الأكثر شرفاً هم مدانون بالسكوت. مثلما أن الأكثر فساداً قد نشفق عليهم في بعض الأحيان. يقول القمحاوي: الرواية تحتمل وجهات النظر. رئيس التحرير يقول انا استحق ذلك بالركلات اللي أخذتها, عيسى لم يُضرب و كان يعرف اننا نلفق القضايا لشيوعيين و سكت و لم يثر علينا, إذن فهو مدان مثلي. و لذلك لا تستطيع ان تفصل بين الأسود و الأبيض في الرواية. إنها الحياة. و إذا كان على الأدب أن يشابه الحياة في الكثير فهو يجب أن يشابهها في هذا. لا يجب ان يكون الروائي متحاملاً ضد شخصية. يعني ليس هناك شخصية سوداء بالمطلق.
و شخصية روز؟
- هل احسست أني متحامل عليها؟
لم أتعاطف معها و لكنني أيضاً لم أكرهها.
- هي ليست عاهرة.. و إنما تتلقى إهانة من شخص في لحظة يتصدق عليها لأجل الزواج.
لاحظت شيئاً. روز تتبادل المتعة مع الطلاب... تعطيهم المتعة و تأخذ منهم الإعجاب. (يقاطعني معجباً ببطلته: آه هي استعراضية!) و تبادل المنفعة هذا تحول للحظة تواطؤ فهي تتحمل عيسى المصاب بالسرطان و شبه العنين معها بينما هو يتحمل امرأة بثدي واحد.
- لا, هما مريضان. هو شخصية مضحية تزوجها في حركة تضحية حيث قال لها أخوها لابد أن تتزوجي فتزوجها. أما هي فهي طبعاً شخصية مختلقة تماماً. ليس هناك أحد هكذا. في النهاية عندما تخلق شخصية ينبغي أن تخلق نمطاً مقنعاً فنياً, يعني قد يكون غير واقعي و إنما مقنع فنياً, اكتب عن رجل تنبت له اجنحة و يطير من برج لكن افعل هذا بشكل مقنع. يعني قد تكون هناك مجموعة سلوكيات منسجمة لدى شخص معين و حتى لو تذبذب هذا الشخص يجب أن يبدو هذا التذبذب نوعاً من الانسجام. أما عن كونها معجبة بجمال جسمها و تحب أن ترى دهشة الآخرين أمامها فهنا هي تنسجم مع الآخر المناقض تماماً و الذي تزوجها في لحظة تضحية.
هل تعمدت تشويهها ببتر احد ثدييها؟
- تحديدا هذا الجمال سينتهي بالتهدم هو الاخر. لا شيء يبقى. كل الأشياء تتداعى في الرواية.
و اسم عيسى هل أردته لعباً صوتياً على عزت؟
- (يفكر قليلاً) ربما رفعت أقرب لهذا.
عزت لو نطقت نطق عربي ستكون عِزة, و هي مشابهة تماما لعيسى.
- لا, لو كان هناك تعمد في اختيار الاسم فهو في الربط بينه و بين عيسى المسيح, إذ أردت خلق شخصية مسالمة و مضحية مثله. و لكن لم يكن في ذهني أن تتقارب هذه الشخصية معي.
رواية مصرية
الطبيبة تشبك عيسى في النهاية, أي كأنها تزف عريسها الذي يحتضر. هل ترى في هذا استيحاء للتراث المصري القديم حينما تحيي إيزيس زوجها من الموت, خاصة ان موت عيسى في نهاية الرواية صورته كأنه عملية معراج و ارتقاء في السماء, يعني هو شبه زفاف؟
- نعم كان هناك خيط يشده إلى السماء أثناء موته. قد يكون كل هذا قد حدث في لاوعيي, مضافاً إليه الجملة الافتتاحية في الرواية "انهض انك لست بميت" هذا طقس كان يقال للميت في الديانات المصرية القديمة لدى دخوله العالم الآخر, فهي فعلا مقولة جبارة (مشيراً إلى تقديم الناقد الكبير صبحي حديدي للرواية على غلافها الخارجي). هو أمر بالحياة, فالرواية فيها تغريدة أخيرة للحياة, أعتقد أن رواية من هذا النوع هاجس الحياة فيها أعلى من هاجس الموت. لا أحد يعود ليقول لنا ما يحدث بعد الموت. عندما اقول لك انهض إنك لست بميت فهذا يعني أن تطرح الموت جانباًُ. أنا أطرح هذه التعويذة على مصر لكي تنهض غير أنني أيضاً منحاز لها كلغة مشحونة بالطاقة الروحية. هناك أيضاً السعادات الصغيرة التي يحسها عيسى و التي تؤكد أنه ليس بميت. هذه السعادات التي تتمثل أحيناً في مجرد الضرط فالغازات عندما تحتبس داخل البطن تخدر المخ و تصبح الضرطة حلماً. و بالتالي يكون استخدام مفردة "عظمة" التي يقولها عيسى لدى كل ضرطة.
الكتابة كنوع من اللعب
يرى القمحاوي أن الكتابة يجب أن تكون نوعاً من اللعب, و أنها فور أن تتحول إلى عمل أو واجب فعلى الكاتب ان يهجر كتابته فوراً. و لكن هل ينطبق هذا الوصف على رواية كتلك؟
- نعم, نفس الشيء. هذه الرواية كتبتها بسرعة جداً. كتبتها بدمي في فترات. لا اريد أن أقول كلاماً رخواً, و لكن في هذه الرواية ألم شديد جداً. فيها لعبة مع الألم. إذا كان الأيك لعبة مع البهجة فهذه لعبة مع الألم و محاولة الانتصار عليه. فحتى مع الموت كنت أنبه على أن من لازال متبقياً له يومان من الحياة (يضحك) فليعشهما. لا أستطيع أن أحدد ما ستحققه روايتي و لكني سأتحدث عن رواية شديدة القتامة احببتها هي "صحراء التتار" لدينو بوتزاتي. كتبت عنها يوماً أنها يجب أن تقرأ في سن مبكرة فالحزن فيها غير محتمل بالنسبة لمن أوشكت حياتهم على الانتهاء. في رواية كتلك يجعلنا الحزن مقبلين على الحياة. فأنت تستطيع طبعاً ان تحقق اهدافك من الكتابة على الطرق المستقيمة غير انها لن تكون طرق الفن. الفن يحتاج إلى الحارة و ليس الأوتوستراد. الأوتوستراد لايصلح إلا للهندسة والعلم و مقالات الصحافة.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟