|
أيتها الوَحْدَة ، ما اسمك ؟
إبراهيم إستنبولي
الحوار المتمدن-العدد: 1134 - 2005 / 3 / 11 - 10:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يمكن أن يشعر المرء بالوحدة حتى و لو كان وسط حشد أو في العمل ، في العائلة بل حتى و هو بمفرده !. فكيف يمكن التخلص من الوِحدة ؟ " الشيء في ذاته " : لا يتعلق الشعور بالوحدة لا بالمحيط و لا بعدد الأصدقاء أو الأعداء ، بل يتعلق قبل كل شيء بـ " تركيبة " الشخصية بحدِّ ذاتها . من الأسهل تقديم درجات مختلفة للوحدة من خلال الأمثلة التوضيحية لما يسمى *Introvert و Extravert من نماذج الشخصية . من حيث المبدأ يمكن القول ما يلي : Introvert – هو الشيء في ذاته ، إنه موجه إلى داخل الشخصية الخاصة ، بينما Extravert فهو يسعى دائماً للظهور أمام الناس . بالنسبة لهؤلاء ، كما يقال ، حتى الموت يبدو رائعاً على أعين الناس . إذن ، إن الوحدة وسط الحشد ممكنة فقط عند Introvert . أما Extravert فإنه ينسجم بسرعة مع كل فرد ، و هو ، و هذا الأهم ، يرضى تماماً بالتعارف السطحي جداً . Extravert بالتحديد هو الذي يتجاذب أطراف الحديث مع أناس لا يعرفهم في وسائل النقل العام ، يتعارف مع الآخرين في الشارع – لأنه لا يتطلع إلى التعاطي العميق و الطويل بالمطلق . المهم بالنسبة له هو تبدّل الانطباعات ، و طالما أن الناس موجودون حوله فهو لن يشعر بالوحدة . اكثر من ذلك ، هو لا يشعر بحاجة كبيرة لأن يدخل في حوار مباشر - يكفيه أن يكون على مرأى من هكذا عدد كبير من الناس في حين أن Introvert مهم جداً أن يكون لديه واحد – اثنان من " الأصدقاء المخلصين " ، حبذا من نفس الطباع كما هو . إن عملية التعاطي عند مثل هؤلاء " الأصدقاء " تجري بشكل غريب بعض الشيء : يجلسون مع بعضهم في غرفة واحدة .. صامتين ! هكذا هم " يتعاطون " . و هذا الشكل من العلاقة يعتبر كافياً و مُرضياً بالنسبة لهم – المهم لهم ليس الحديث بحد ذاته بل مجرد الإحساس بوجود صديق إلى جانبهم . بالضبط لذلك ، إن الشعور بالوحدة يظهر عند Introvert عندما يفقدون لسبب من الأسباب الصديق – إذ من الصعب بمكان عليهم أن يبدءوا تعارفاً جديداً و حميمياً ، و في بعض الأحيان يعجزون عن تحقيق ذلك بشكل عام . و لكن من المعروف انه لا يوجد Extravert و Introvert خالصين . نحن جميعنا " مختلطون " إلى هذه الدرجة أو تلك . لذلك إن جميع الناس لا بد خبروا في هذه الظروف أو تلك الإحساس بالوحدة و لو لمرة واحدة . تناذر المدينة الكبيرة : من الملفت أن الغالبية العظمى من الأشخاص الوحيدين توجد في المدن الكبرى . إذ أن الحياة في أماكن التجمعات الضخمة Megalopolis تفرِّق بين الناس أكثر مما تجمع بينهم . حسب الإحصائيات ، إن نسبة بسيطة جداً من القاطنين في المدينة الكبيرة هم من السكان الأصليين لهذه المدينة : الجيل الثالث – الرابع . بينما جميع الباقين – مهاجرون ، أي أولئك الذين هاجروا يوماً ما إلى المدينة من أماكن أخرى . إذ مهما عاشوا في المدينة المعينة ، و حتى لو أن أطفالهم أحفادهم صاروا من أبناء المدينة الأصليين - على الرغم من ذلك إن العائلات تحافظ على تقاليدها و طقوسها ، التي تشربتها مع حليب الأمهات على " أرض الأجداد " . و ينقلون تلك التقاليد إلى أبنائهم .... أي أن الأجيال اللاحقة تتربى في أجواء روحية لتلك الأماكن ، التي جاء منها الآباء و الأجداد . و لكن لكل قرية ، لكل بلدة أو مدينة هناك أعرافها المتفق عليها بخصوص السلوك ، لكل منها لهجته ، لغته من الأفعال و المواقف و الإشارات ، التي يفهمها أهاليها فقط . لذلك إن ابن المدينة يعاني صعوبة أثناء التعاطي و تنشأ لديه مشاكل عند البحث عن شريك مناسب . لهذا السبب تشغل المدن الكبرى رقماً قياسياً من حيث عدد الأشخاص الوحيدين . و يكمن خطر الوحدة في أن نارها تبقى غير ملموسة بشكل صريح من قبل صاحبها إلى أن يختلي الإنسان لنفسه ليلاً في منزل غير مأهول . بالضبط كما يحدث عندما ننسى ، مثلاً ، ألم ضرسنا أثناء انشغالنا خلال النهار . و في الليل ، عندما لا يشغلنا أي شيء ، فإننا نشعر بألم متواصل في الضرس ليحرمنا الراحة ... تماما هكذا لا يشعر الناس بالوحدة إلى أن ينتهي يوم العمل . إذ بعد أن تصبح الشوارع خالية ، و يتفرق الأصحاب و المعارف إلى بيوتهم ، و يصمت الهاتف – عندئذ سوف يشعر المرء بتعاسته و باضطراب وضعه الخاص بغض النظر عن رغبته . لهذا بالتحديد ظهرت النوادي الليلية في المدن ، حيث يمكن الاستمرار في التعاطي و الاحتكاك مع الآخرين بعد انتهاء يوم العمل ، لكي ينسى الشخص وحدته القاتلة و لو لفترة مؤقتة . هناك أيضا ظاهرة مدينيه نوعية – ما يسمى " الاتصال المسائي " . إن أبناء المدينة يشكلون " زحمة " على خطوط الهاتف في المساء . و على العموم ، إن الهاتف في المدينة الكبيرة – ليس مجرد وسيلة اتصال بقدر ما هو وسيلة تعاطي . إن واحداً من اكثر السبل الناجعة للوقاية من الاكتئاب و محاولات الانتحار عند سكان " الغابات الحجرية " - هو توفر وسيلة اتصال في كل منزل . ما هو الحل ؟ : تجب الإشارة إلى أن الوحدة ليست شراً مطلقاً بصورة دائمة . هناك حالات عندما يكون الناس بحاجة – نادراً لدى البعض ، أكثر عند البعض الآخر – لأن يتواجدوا على انفراد مع أنفسهم .أما الحديث عن وجود مشكلة الوحدة المرضية فإنه يكون ممكناً فقط عندما تطول هذه الحالة ضد إرادة الشخص – بكلمة أخرى ، حين تصبح الوحدة مصدراً لمعاناته . يوجد في علم النفس مصطلح " الجوع العاطفي – المعلوماتي " . إذا كان الإنسان محروماً من الكمية الضرورية له من التعاطي و الاحتكاك ، من الانطباعات الحياتية اللازمة ، فقد تنشأ لديه مشاكل عصبية ، نفسية و جسدية . كل ذلك لأنه يعاني من فاقة حقيقية للتعاطي الاجتماعي ، للمعلومات . أي أن الشعور بالوحدة ليس سوى تعبير عن هذا " الجوع " . ببساطة يمكن القول : إنه النقص في هذا النوع أو ذاك من المعلومات أو الانطباعات . بغض النظر عن ماهيتها – بصرية ، كلامية أو حتى حسّية . ما العمل ؟ قبل كل شيء يجب تحديد نوعية المعلومات ، طبيعة الانطباعات التي يفتقدها المرء ن و من ثم القيام بتعويضها أو بملأ هذا الفراغ الناتج . لذلك لن يفيد الشخص الذي يعاني من الوحدة أن ننصحه بالذهاب إلى نادٍ معين أو باكتشاف صديق أو صديقة جديدة . من الأفضل و المهم تحديد ما يلزم و من ثم نقوم بإرضاء تلك الحاجة ، التي تسبب اضطراب المزاج . يحدث أن الشخص قد لا يكون قادراً بشكل عام على تحديد ما ينقصه في حياته . إليكم أكثر الحالات شيوعاً : الشعور بالوحدة بسبب فقدان الشريك الحميمي . كما لو أن إرضاء المرأة يتوقف على تلبية رغباتها الفيزيولوجية . لكن إذا ما تعمقنا اكثر ، فإننا سنكتشف أن البحثَ عن الشريكِ ناتجٌ عن قلّة الملامسات الجسدية ، و عن الحاجة للإحساس بالطمأنينة ، و عن الخوف من أن تنام المرأة لوحدها ، و كذلك بسبب التعطش للعواطف الغرامية الملتهبة – و ليس عن غياب العلاقة الجنسية بالتحديد . على العموم ، عندما يبحث الإنسان ما لا ينقصه ، فإنه يحاول ملأ الفراغ غير اللازم في حياته – و لذلك لن يكون غريباً أن لا يحقق بحثه النتيجة المرجوة . على أثر ذلك يصبح الإحساس بالوحدة اكثر شدة . بينما الواجب – السير في طريق صحيح من أجل إيجاد سبل ملائمة لحل " مشكلة الوحدة " . فإذا كان لديك ، مثلاً ، جوع حسي – من المفيد اللجوء إلى دورة في الرقص أو الخضوع لسلسلة من جلسات التدليك الخ. أما الإحساس بالأمان فيمكن الحصول عليه عن طريق توفير علاقات عائلية أو اجتماعية داعمة ( الأفضل أن لا تكون متشعبة و متنافرة كثيراً .. إذ أن ذلك النوع من العلاقات المليئة بالاختلاف تسبب الإجهاد على المرء ) . و ربما إن اقتناء كلب من شأنه أن يخفف من وطأة الشعور بالقلق و عدم الأمان . فقد أثبتت التجربة أن وجود حيوان أليف في البيت يترك أثراً إيجابيا في التخفيف من ثقل الوحدة بل و له دور علاجي .. كما تبين أن الأشخاص الذين يمارسون هواية محببة أو يقومون بعمل اجتماعي مفيد يسبب لهم الرضا عن الذات ، هم أقل ما يكونون فريسة الإحساس بالوحدة و بالقلق . في جميع الأحوال يجب التعامل مع كل حالة بمفردها . و الأفضل بمساعدة اختصاصي . إذ من الصعب على المرء أن يحدد شكل الوحدة ، التي يعاني منها .
#إبراهيم_إستنبولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا 8 آذار – هو عيد المرأة العالمي ؟
-
من الأصوات الشعرية الروسية المعاصرة : اناتولي فيتروف
-
تداعيات و خواطر .. ع البال
-
امتنان و فكرة .. و سؤال
-
تمنيات مواطن سوري في العام الجديد
-
تطورات الروح - من تعاليم التصوف
-
متى ستزور - لحظة الحقيقة .. - اتحاد الكتاب العرب ؟
-
كلمات رائعة .. - باقة - لنهاية العام 2004
-
سوريا تتسع للجميع - حول إغلاق حانة في دمشق
-
أشعار حزينة من روسيا - للشاعر ايفان غولوبنيتشي
-
الصحافة الإلكترونية .. و الأخلاق الحوار المتمدن مثالاً يُحتذ
...
-
لماذا أخفقت حركة المجتمع المدني في سوريا ؟ وجهة نظر على خلفي
...
-
على نفسها جَنَتْ براقش .. هزيمة جديدة لروسيا .. في عقر دارها
...
-
كل عـام و العالـم مع .. جنون أكثر - خبطة آخر أيام العيد
-
عــام عــلى رحيــل رسول حمزاتوف
-
تعليق على تعليق سناء موصلي ...
-
مارينا تسفيتاييفا - شاعرة الحب و المعاناة
-
الفيتو الأمريكي : صفعة للجميع - معارضة و موالاة
-
حجب الحوار المتمدن في السعودية - شهادة له لا عليه : أليسوا ض
...
-
حول - نظرية المؤامرة - - قصص المؤيدين
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|