جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3898 - 2012 / 11 / 1 - 17:02
المحور:
كتابات ساخرة
الحياة في داخل أوطاننا العربية عقوبة نستحقها بجداره.
أيام زمان كانت معظم الدول العربية تعاقب المثقف والسياسي بطرده خارج الوطن إلى المنفى البعيد مثلما فعل الكثير من الملوك والرؤساء مع كثيرٍ من كِبار المثقفين إيمانا منهم بأن المثقف المغضوب عليه داخليا سيموت قهرا في بلاد الغربة وسيعيش المثقف أو السياسي حياة تعيسة جدا ولن ينام وهو مطمئن على نفسه وروحه وسيبقى الوطن والحلم بالعودة إليه هو هاجسه الوحيد وسيبقى هذا الهاجس يعذبه ما دام يحلم بوطنه كما حدث مع الشاعر(محمود سامي البارودي) حين أمرت السلطات نفي كل أعضاء قادة الثورة العرابية في مصر وكان نصيب البارودي سبعة عشر عاما في جزيرة(سرنديب)سنة1882م,وكما حدث مع الشاعر الساخر(أحمد مطر) وصديقه ناجي العلي,حيثُ نُفي أحمد مطر أول الأمر إلى الكويت ومن ثم من الكويت إلى لندن فعاش حياته منفيا من منفى إلى منفى وكل البلدان التي نُفي إليها أحمد مطر كانت أجمل بكثير من بلده الأم, ولكن أثبتت هذه التجربة أن المغضوب عليهم في وطنهم ونفيهم إلى بلاد الغربه يعيشون أفضل من تلك الحياة اليائسة والبائسة التي كانوا يحيونها في داخل أوطانهم وجاءت تلك السياسة بنتائج عكسية على صحة المثقف والسياسي حيث وجد المنفيون أنفسهم في الغربة ووجدوا احتراما وتقديرا لهم وحياة أفضل في كل شيء وبكل المقاييس ,واليوم الحكومات العربية تعلمت هذا الدرس وصارت تعاقب المثقف والسياسي ليس من خلال إبعاده عن الوطن وإنما من خلال منعه من السفر وإعاقة خروجه من الوطن إلى وطنٍ آخر إيمانا منهم بأن كل البلدان الغربية أفضل منهم في كل شيء ذلك أن الحكومات اليوم تعلم ما هو حجم الفساد الكبير في داخل الوطن وصعوبة الحياة بداخله وبأن كل بلدان العالم الغربي أفضل منهم في كل شيء وخصوصا في تعاملهم مع المثقفين والمبدعين,وأيام زمان كان المثقف إذا لم يجد ملكا ينفيه إلى خارج الوطن نجده هو من يبدأ بهذه المبادرة فيعاقب نفسه بحزم كل أمتعته للسفر ولنفي نفسه إلى خارج الوطن اعتقادا منه بأن بلاد الغربة أفضل من بلاده,ومع مرور الأيام والسنين تكونت لدى كل المثقفين فكرة طيبة ولا بأس بها عن بلاد الغربة وبأنها أرحم بكثير من الحياة داخل الوطن الأم الوطن الجحيم الذي لا يعيش به إلا من كان لصا أو جاهلا حيث يثري الجهلاء ويشبعون في الوقت الذي يموتُ فيه المثقفون والعقلاء من شدة الجوع والحرمان من الحياة الكريمة, واليوم الصورة مختلفة جدا إذ أن المثقف تعاقبه بلده من خلال مكوثه في داخل الوطن وليس في خارجه إيمانا منهم بأن الوطن سجن كبير, وأيام زمان كانت الحكومات العربية تَسجن المثقف كعقابِ له على مخالفته لمعايير المجتمع الذي يعيش به سواء أكانت تلك المعايير تتعلق بالدين أو بالجنس أو بالسياسة,أما اليوم فإن الوطن العربي الكبير كله من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه عبارة عن سجن كبير يعيش في داخله المثقف,ويجد المثقف نفسه في داخل وطنه وكأنه يعيش في جزيرة شبه معزولة عن العالم,واليوم كل الناس سواء أكانوا مثقفين أم غير مثقفين يسعون ليل نهار للخروج من أوطانهم وأغلب الذين خرجوا من أوطانهم ماتوا في بلاد الغربة دون أن يفكروا بالعودة إلى أوطانهم ذلك أنهم وجدوا في الغربة كرامة أفضل من تلك الكرامة التي كانوا يحلمون بالوصول إليها في بلدانهم.
وأيام زمان كان المغتربون من شتى الدول يأتون إلينا للعمل في مزارعنا وبيوتنا يجبلون لنا الإسمنت بالرمال وبالماء حتى يصير الرمل مع الإسمنت طينا من خلال الهدرجة حين خلطه بالماء.. وفي محلاتنا التجارية ومؤسساتنا الحكومية وخصوصا في مجالات التعليم على مبدأ التبادل الثقافي,وكان المغتربون يتوددون إلينا بكلمات تثير الشفقة عليهم تحثنا على احترامهم مثل ) احنا غلابه ومحتاجين وكلنا عرب وكلنا إخوان وما فيش فرق بين الدول العربية وكل رؤساء وملوك الدول العربية عبارة عن إخوان متحابون في الله) أما اليوم فإن الصورة منقلبة جدا,إذ أن الغرباء والأجانب صاروا هم أصحاب البيت وصاروا هم أصحاب العمل وصرنا نعمل عندهم بالأجور اليومية ونتودد لهم بكثيرٍ من العبارات التي تجعلهم يشعرون بآدميتنا وبأننا بشر مثلنا مثلهم ونتصرف أمامهم بتصرفات تثير كثيرا من الشفقة على حالنا وأحوالنا حين نشكوا أمامهم عن البطالة وبأننا لا نجد عملا,وبعضنا ترك وطنه وتغرب إلى البلدان البعيدة بحثا عن العمل وعن الكرامة التي يفتقدها في داخل وطنه.
وأيام زمان كان المثقف يناضل ويكافح من أجل تحقيق الديمقراطية والحرية السياسية من خلال مجلس برلمان منتخب من قبل الشعب,وكان المواطن يتمنى أن يطلع عليه النهار وهو منتسب إلى حزب سياسي أو نقابة أو مؤسسة ثقافية تعني بأمور الإبداع الفكري وصناعة المستقبل,وكان الحديث يطول عن المستقبل وكانت قد ظهرت دراسات وأبحاث علمية تبحث عن مستقبل العلاقات الدولية وحقوق الإنسان ومستقبل النهضة الفكرية,أما اليوم فالصورة مختلفة جدا عن أيام زمان إذ أن المثقف اليوم ليس لديه رغبة بالمشاركة السياسية وليس للمواطن العادي رغبة بالوصول إلى صناديق الاقتراع للناخبين وليس للمواطن رغبة بالحديث عن المستقبل لأن المواطن بدأ يشعر بالمستقبل على أساس أنه مثل الذهب الفالصو وعملية حلمه بالسعادة الأبدية في المستقبل صار هذا الحلم مثله مثل حلم إبليس بالجنة,وأيام زمان كان الكل يحن للوصول إلى المستقبل أما اليوم فالكل يحلم ويحن بالرجوع إلى الماضي لأن الأيام التي تمضي أجمل بكثير من الأيام التي ستأتي علينا.
وأيام زمان كنا ندخل الدكاكين ولا نجد إلا نوعا واحدا للأرز وللسكر وللمعلبات ولكل أنواع المواد الغذائية وكانت الناس شبعانه وكان الفقراء يعدون على أصابع اليد,أما اليوم فإننا ندخل الدكاكين ونشاهد أكثر من عشرة أنواع للسكر وللأرز ولكافة المواد التموينية ومع ذلك أغلبية الناس يتضورون جوعا,وعدد الفقراء والمحرومين أكثر من عدد ما بالرأس من شعُرْ.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟