|
أحزن أم
أمل نعيم
الحوار المتمدن-العدد: 3897 - 2012 / 10 / 31 - 21:44
المحور:
الادب والفن
في ركن الفقراء من المقبرة، و بين القبور التي تناثرت عليها أوراق الأشجار، و خلفت الأمطار و الرياح عليها آثارها، كانت ثمة امرأة في ثوب من قماش رخيص، و على رأسها شال أسود، وقد جلست عند أحد القبور تحت ظلال الفروع القليلة لشجرتين من شجر "التامول" مجردتين من الأوراق تقريبا. و كانت تنسدل على إحد خديها الذابلين خصلة من شعر أشيب، بينما بدت شفتاها الرقيقتان مزمومتين، و قد انثنى ركنا فمها إلى أسفل، تحيط بهما تجعدات تنم عن الحزن.. كذلك كانت جفونها مقرحة تشي بالإفراط في البكاء، و طول السهد الهم! و ظلت المرأة جالسة لا يحير حراكا بينما كنت أقف على كثب أرقبها.. و لم تتحرك عندما ازددت اقترابا منها، بل كان كل ما فعلته هو أن رفعت نحوي عينين واسعتين، خاليتين من أي بريق، ثم تركتهما تنخفضان ثانية، دون أن تبدي أي مظهر للفضول، أو الحرج، أو ما ينم عن أن اقترابي منها أثار أي شعور في نفسها! و ألقيت عليها تحية موجزة، و سـألتها عمن دفن في القبر؟ فأجابت في غير اكتراث و رصانة: - ابني - أكان شابا كبيرا؟ - كان عمره اثني عشر عاما - و متى مات؟ - منذ أربعة أعوام.
و أرسلت زفرة عميقة، و دست الخصلة النافرة إلى موضعها تحت الشال. و كان اليوم حارا، و الشمس تصب شواظها دونما رحمة على مدينة الموتى تلك.. حتى لقد استحال لون العشب القليل، النابت على القبور بنيا أسمر، لفرط الحرارة و التراب بينما سكنت أوراق الشجيرات المغبرة الخشنة، التي كانت تقوم كئيبة بين الصلبان، و كأنها هي الأخرى هي الأخرى ميتة! وعدت أسأل المرأة و أنا أشير برأسي نحو قبر الصبي: - و كيف كان موته؟ فأجابت في إقتضاب، و هي تمد يدا مغضنة لتربت القبر: - لقد ديس بسنابك الخيل حتى مات‼ - و كيف كان ذلك؟ وكنت أعلم أني أجافي الذوق و المجاملة، و لكن إعراض المرأة و هدوءها أثاراني و حرضاني، حتى لقد وسوست لي نزوة لم أدر لها مبررا، بالرغبة في أن أرى الدموع في عينيها.. كان ثمة شيء غير طبيعي في سكونها و إن لم يفتني –في الوقت ذاته- أن أتبين أنه لم يكن مصطنعا .. و حملها سؤالي على أن ترفع عينيها مرة أخرى نحوي، فلما تأملتني متصفحة من رأسي إلى قدمي – في صمت- أرسلت زفرة قصيرة، و بدأت تروي قصتها في صوت وقور، هادئ، مفعم بالشجن: - إليك ما جرى .. كان أبوه في السجن جراء الاختلاس، وقد قضى عاما و نصف العام. و كنا في تلك الفترة قد أتينا على كل ما كان مدخرا لدينا من مال.. و ما كان هذا المال المدخر بالكثير. و ما إن خرج زوجي من السجن حتى كنا قد بلغنا من الدقع درجة اضطررت معها إلى أن اتخذ من ثمار اللفت الليفي وقودا للتدفئة. فلقد أعطاني بستاني – كنت أعرفه – ملء عربة من ثمار اللفت الليفي التالفة، فجففتها و أخذت أستعملها مع الروث المجفف كوقود، فكانت ترسل دخانا فظيعا، و تفسد مذاق الطعام.
و استطرت المرأة قائلة: وكان "كولوشا" – ابني- يذهب إلى المدرسة. و كان صبيا خفيف الحركة، حاضر البديهة، جد مدبر و مقتصد حتى إنه كان يحضر معه إلى البيت دائما كل ما يصادفه من قطع الخشب و الوقود التي يعثر عليها أثناء عودته من المدرسة. و كنا إذ ذات في فصل الربيع، و قد أخذ الجليد في الذوبان، و لم يكن لدى "كولوشا" ما ينتعله سوى حذاءين من اللباد. و كان إذا ما خلعهما بدت قدماه شديدتي الأحمرار. و في تلك الأثناء، أطلقوا سراح أبيه، فأخرجوه من السجن، و نقلوه إلى البيت في عربة، إذ كان قد أصيب بالشلل. و ظل راقدا في البيت، يرمقني و على شفتيه ابتسامة خبيثة، فكنت أرمقه و أنا أقول له في نفسي: - إنك أنت الذي جلبت علي كل هذا.. و الآن، هل تراني سأطعمك؟ إنك لجدير بأن تلقى في مستنقع قذر، و هذا ما أتمنى ان أفعله بك! و لكن "كولوشا" بكى حين رآه، و شحب وجهه حتى صار في بياض غطاء الفراش، و تدافعت الدموع غزيرة، كبيرة على خديه، و سألني: - ماذا جرى يا أمي؟ فقلت له: - لقد أخذ حظه من الحياة! و منذ ذلم اليوم أخذت الأمور تسير من سيء إلى أسوأ. و رحت أعمل حتى أصبحت جلدا على عظم، و لكنني كنت مهما أضني نفسي لا أحصل على أكثر من عشرين كوبيكا .. ولا يحدث هذا إلا في الأيام التي يواليني فيها الحظ! كانت حياة أسوأ من الموت، حتى إنني كثيرا ما فكرت في أن أقضي على نفسي بيدي. و لقد فطن "كولوشا" إلى حالي هذه، فساءت حالته النفسية. و عندما خيل لي مرة أنني لم أعد أحتمل، هتفت في أسى: - يالهذه الحياة اللعينة التي أحياها ألا ليتني أموت.. أو ليت أحد كما يموت‼ و كنت أوجه الخطاب إلى "كولوشا" و أبيه. و اكتفى الأب بأن هز رأسه، وكأنه يقول: - لسوف أرحل عما قريب، فلا تتململي، و لكن اصبري أما "كولوشا"، فقد رمقني بنظرة طويلة، ثم أشاح عني، و غادر البيت. و ما إن خرج حتى شعرت بالندم للكلمات التي قلتها، و لكن وقت الندم كان قد فات .. ولم تعد ثمة فرصة لتداركه. فلم تنقض ساعة حتى أقبل شرطي في مركبة، و قال: - أأنت "جوسبوشا شيشينيا". و غاص قلبي بين ضلوعي بينما عاد الشرطي يقول: - إنك مدعوة إلى المستشفى، فإن جياد التاجر "أنوخين" قد داست ابنك.. وركبت لتوي إلى المستشفى، و كأنما كان ثمة من نشر على مقعد العربة جمرا من نار متقدة. وظللت طيلة الطريق أقول لنفسي: - ما الذي فعلته أيتها المرأة التعسة. ووصلنا أخيرا، فإذا "كولوشا" راقد في سرير، و جسمه ملتف كله في الضمادات، و ابتسم لي، و انحدرت الدموع على خديه.. وقال هامسا: - اغفري لي يا أماه.. لقد أخد الشرطي النقود. فقلت: - عن أية نقود تتكلم يا "كولوشا"؟ فقال: - النقود التي أعطانيها المارة في الطريق، و "أنوخين" أيضا قلت: - و لأي شيء أعطوك النقود؟ فقال: - لهذا. ثم أرسل أنينا خافتا قصيرا.. و اتسعت عيناه، فقلت: - كيف لم تر الجياد و هي مقبلة عليك يا "كولوشا"؟ و إذ ذاك قال في بساطة و جلاء: - بل رأيتها يا أماه، و لكنني لم أشأ أن أحول عن طريقها، إذ خطر لي أن الناس سيمنحونني نقودا، إذ هي داستني.. و قد منحوني فعلا‼ تلك كانت عين كلماته بالنص.
وتابعت المرأة قتها قائلة: - إذ ذاك تبينت كل شيء، و أدركت ما فعله ملاكي بنفسه، و لكن الأوان كان قد فات. إذ مات في الصباح التالي. و قد ظل محتفظا بصفاء ذهنه حتى اللحظة الأخيرة، و لم ينفك عن القول: - اشترى لأبي هذا.. و استشري له ذاك.. و ابتاعي شيئا لنفسك أنت الأخرى، و كأنما كانت هناك أموال طائلة. و كانت هناك في الواقع سبعة و أربعون روبلا.. فذهبت إلى التاجر "أنوخين" ، ولكنه لم يمنحني أكثر من خمسة روبلات، وهو يزمجر و يعترض و يقول: - لقد ألقى الصبي بنفسه تحت الجياد، وقد رآه الكثيرون. فلأي شيء جئت تستجدينني مالا؟ و لم أذهب إليه بعد ذلك قط .. و هذا كل ما حدث أيها الشاب. و كفت عن الكلام، ثم استعادت ما كانت عليه من برود و جمود.. و كانت المقبرة هادئة، خالية من الناس. و كانت الصلبان، و الأشجار الذابلة، و كثبان التراب التي كانت القبور تتألف منها، وهذه المرأة الجامدة الواجمة التي جلست على القبر في ذلك الوضع الحزين.. الآلام التي يعانيها البشر‼ و لكن السماء كانت خالية من السحب، و قد أخذت تسكب على الأرض قيضا حارقا.. فتناولت بعض قطع النقود من جيبي و قدمتها للمرأة التي كانت باقية على قيد الحياة، رغم أن النكد و سوء الحظ و التعاسة كانت كفيلة بقتلها.. و لكنها هزت رأسها و قالت في تؤدة غريبة: - لا تزعج نفسك أيها الشاب، فقد نلت كفايتي اليوم، و لم أعد أرغب في المزيد. إنني وحيدة في الحياة.. وحيدة تماما. و أرسلت زفرة حرى، و عادت تزم شفتيها إلى الدرجة التي كان فمها ينثني عندها بذلك الشكل الحزين الذي رأيتها عليه في البداية.
_انتهى_
تأليف: مكسيم جورجي رقن: أمل نعيم.
#أمل_نعيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر.. قرار عاجل من النيابة ضد نجل فنان شهير تسبب بمقتل شخص و
...
-
إنطلاق مهرجان فجر السينمائي بنسخته الـ43 + فيديو
-
مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي
...
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|