عماد عبد اللطيف سالم
كاتب وباحث
(Imad A.salim)
الحوار المتمدن-العدد: 3896 - 2012 / 10 / 30 - 19:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
النفط ُ والدين .. وما أكل َ السبع ُ منه
في استطلاع لرأي مجموعة من الشباب العراقيين المقيمين في الأردن ( قام به خبراء بهدف كتابة تقرير وطني عن اوضاع شباب العراق وقضاياهم الرئيسة ) تم طرح السؤال الآتي :
- ماهي الأشياء التي تتمنون لو أنها لم تكن موجودة في العراق الآن ؟ . وبصيغة أخرى لذات السؤال : ماهي العوامل التي تعتقدون انها السبب في كون الأوضاع في العراق حاليا ًتتصّف ُ بالسوء والتراجع في المجالات كافة ؟ . وبمعنى آخر : ماهي العوامل التي بزوالها سيكون العراق بوضع ٍ أفضل , ويصبح وطنا ً صالحا ً للسكن , بحيث يمكنكم العودة اليه , والعيش فيه ؟؟
وتضمنت الأجابات جملة من العوامل المختلفة كان من أهمها ما يأتي :
1 – النفط
2- الدين
3- " النطيحةُ والمترديّةُ.. وما أكل َ السبع ُ منه " .
تتراوح أعمار الشباب الذين تم استطلاع اراؤهم بين 18 الى 26 عاما ً . ومع ذلك فقد كانوا مدركين ان وجود النفط بهذه الوفرة في بلدهم , كان مصدر نقمة عليه وعليهم , وهو السبب الرئيس في محن العراق المختلفة , ولعناته المستدامة . وبطبيعة الحال فان اسباب ذلك كثيرة , ومعروفة على نطاق واسع , ولا مجال لأعادة سردها الآن .
وأدراكهم الثاني لعدم ملائمة وطنهم لهم حاليا ً , يتجسد في خوفهم من الأسلام السياسي , ومن تحول الدين إلى قوّة مدججّة بالسلاح والعقائد والسلوكيات المقدسّة , التي تكفّر ُ كل ّ ما عداها , وتسحق ُ أي ّ شيء ٍ يقف ُ في طريقها , أو يقف ُ بالضد من مصالحها , ومن اتساع نطاق نفوذها , وتغلغلها , في مجالات العمل , وانماط الحياة كافة .
ولا يقتصر هذا الأدراك على طائفة ٍ دون أخرى , فكل تيارات الأسلام السياسي , على أختلاف راياتها , وتوجهاتها المعلنة , منخرطة في صراع ٍ شرس على السلطة والثروة , مما حوّل المجتمع في العراق الى مجتمع ٍ هو الأكثر تطرفا ً وأنغلاقا ً, منذ عقود .
أما " النطيحة ُ والمترديّة .. وما أكل السبع ُ منه " فهي كناية ٌ ( منّي ) عن شرائح في المجتمع العراقي , وجدت نفسها في غفلة ٍ من الزمن , وهي تتحكم ُ بكل شيء , وتفرض ُ انساق َ أدارتها , وطبيعة قيمها , وخصائصها السلوكية , على الجميع .
ولم يتوان الشباب عن تسمية الأشياء بأسماءها ( دون تورية ٍ .. كما أفعل ُ الآن ) , وأستطردوا في ذكر المناصب والرموز ومراكز القوى , وأعتبروها اللعنة الثالثة في تسلسل اللعنات التي حطّت على الكيان العراقي الحديث , منذ خمسينيات القرن الماضي , وطبعت العراق بطابعها الخاص في السنين التسع الأخيرة .
وكلنا يتذكرُ جيدا ً " ثالوث اللعنات المقدس " الذي كان يؤطّر ُ هزائمنا المريرة ( كأمّة ٍ وأوطان ) , منذ ما يربو على النصف قرن . كان الكثير ُمن الكتّاب العرب مولعين بثلاثية الدين والجنس والصراع الطبقي . هذه " التابوات " التي كانت السلطات الحاكمة آنذاك , ترفض ُ تداولها أو الأقتراب منها , إلاّ أذا تمرغت كرامتها " الوطنية " , في وحل الهزائم " القومية " , من كل صنف ٍ ولون , وأنكسر نتيجة لذلك حاجز خوف " رعاياها " منها .
وها هم الشباب الآن يطرحون مقاربة ً جديدة ً لــ " تنمية التخلف " , في هذا الحيّز المكاني الملعون , الذي وجدوا أنفسهم غارقين في أتونه .
فلا يوجد الآن " صراع ٌ طبقي ّ " . ذلك ان " تحالف النفط والدين " ( وأحدهما ثروة , والآخر سلطة ) قد نجح في " تفريخ " ( بدلا من " تبلور" ) طبقته الأجتماعية الخاصة به , ووضعها فوق جميع الطبقات " القديمة " , وحوّلها إلى " أقليّة حاكمة " , تقبع ُ تحتها جميع شرائح المجتمع العراقي الأخرى , بأعتبارها " أغلبيّة محكومة " .
ولا يوجد الآن " حراك أجتماعي " (حقيقي ) بالمعنى المتعارف عليه في العلوم الأجتماعية . كما لم تعد هناك " طبقة وسطى " ( تقليدية ) خارج الأشتراطات التي يحددها " تحالف الدين والريع"
في العراق الذي كان يفترض ُ به أن يكون " جديدا ً " , وليس نسخة ً مشوّهة ً عن العراق الذي سبقه , وليتحول بذلك إلى البلد الأكثر هشاشة ً وفسادا ً وتفككا ً وسوء حُكم , مقارنة بجميع تلك الفظائع والنكبات التي حلّت به من قبل .
إن الريع " النفطي , وغير النفطي " لا يفكك آليات الأستبداد لمجرد أنتقاله من يد ٍ لأخرى , ومن " متصرف ٍ" معين ٍ به ِ إلى " متصرف ٍ" آخر . ولن يغيّر هذا الريع وظيفته لمجرد تغيير شكل النظام السياسي . إن الريع يغذي نزعات الأستبداد , ويمنحها شرعيتها المعروفة في الأدب السياسي بــ " شرعية الأنجاز " . وهو بهذه الكيفية لا يخدم المستبدين وحدهم , بل " يُرضِع ُ" معهم جميع الكائنات الأنتهازية الملتصقة بهم . وسرعان ماتنتفخ ُ هذه الكائنات الممسوخة ُ , وتتمدد , فارضة سطوتها على كل من يقع ُ " خارجها " , دون أن يغير أدراكها , وأدراك الآخرين لها , على أنها " نطيحة ً ومترديّة " من واقع الحال شيئا ً .
ان هذه " الطبقة الأجتماعية الجديدة " باتت تجترّنا على عجل , وتجتّر ُ معنا آمالنا المشروعة , وأحلامنا المستحيلة . وتسحق ُ, في طريقها لأحكام قبضتها على كل شيء , حاضرَ أبنائنا , ومستقبل أجيالنا القادمة .
وحين طـُـرح َعلى الشباب سؤال ٌ آخر , حول مايتمنون وجوده في العراق , مما هو غير موجود ٍ الآن , أجابوا : بأنهم يحلمون بالعودة ِ إلى " عراق السبعينيات " من القرن الماضي .
ان ذاك " العراق " , الذي يحلم ُ شباب ُ اليوم بالعودة اليه , هو ذاته ُ عراق الريع النفطي ّ . ولكن الفرق كما يبدو يتلخص ُ في ان الشرائح " المترديّة والنطيحة " في المجتمع العراقي آنذاك , كانت اقل شأناً ونفوذا ً وتأثيرا ًمما هي عليه الآن . لقد كان هناك " سبع ٌ " واحد يترك لها " رمم " الريع , ويحدد حصتها منه , ويجبرها بحد السيف على تمرير أجزاء مهمة منه الى الرعايا الآخرين . أما الآن , فأن " السباع " كثيرةٌ جدا , ولم تعد " المغانم ُ " كما " المظالم ُ " موزعة بعدالة ( وان كانت نسبية ) بين الجميع .
إن ذلك العراق , الذي يحلم بالعيش في كنفه شباب اليوم , هو عراقٌ متخيّل . فهم لم يعيشوا فيه أبدا ً. ولم يخوضوا غمار اي حرب ٍ من حروبه السابقة واللاحقة . ولم يختبروا أيا ً من فظاعاته .
وولدوا بعده بعشرين عاما ً ( على الأقل ) . ومع ذلك فأنهم يعتقدون انه ُ " العراق ُ " الوحيد الجدير بالعيش والصالح للسكن , مقارنة ً بـ " زريبة الضباع المتناطحة " المعروضة عليهم الآن , والمسماة ُ " وطنا ً " .
وبهذا فأن الشباب ( في حاضرهم .. الآن ) يرسمون لأنفسهم " مستقبلا ً " هو جزء ٌ من " الماضي الملتبس " لآباءهم . ويحدث ُ هذا , لا لشيء , إلا لكون تلك المرحلة من الماضي هي الأكثرُ حرية ً وأنفتاحا ً ورفاهية ً بالنسبة لهم . وهذا يعني ان الشباب لا يعنيهم كثيرا ً شكل ُ السلطة الحاكمة , أو طبيعة النظام السياسي والأقتصادي في بلدهم . إن أولوياتهم تتشكل ُ على وفق " السرديّات " التي ينقلها اليهم آباؤهم . وهي سرديّات ٌ لا تنقصها المصداقية ُ على أية حال , ولدرجة بات الشباب معها يحسدون آبائهم ,علانية ً, على عيشهم لتلك السنوات " السعيدة " المعدودات , مقارنة ً بالسنين الطوال " العجاف " التي يعيشونها همُ الآن .
ان تلك السلطة " البائدة " المذمومة الآن .. هي الأقرب ُ الى تحقيق تطلعاتهم من السلطة الجديدة التي كان يفترض أن تكون سلطتهم " هُم " , وعلى وفق انماط تفكيرهم , وسلوكياتهم , وتطلعاتهم , وليس على وفق اشتراطات السلطة التي يتربع فوقها " الآخرون " ويملون على الشباب من خلالها شروطهم وقيمهم , وانماط عيشهم , ولو إلى حين .
وأخيرا فان الشباب في العراق لم يفجرّوا ثورة ً سرقها الآخرون منهم ( على غرار ما حدث في الكثير مما يسمى بثورات الربيع العربي ) . وبالتالي فأن حصتّهم في التغيير الذي حدث في العراق بعد العام 2003 ( كحصّة غيرهم ) لا زالت قليلة . وبأمكانهم تنظيم أنفسهم من خلال المؤسسات والتسهيلات التي يتيحها النظام الجديد ( وهي بالقطع لم تكن موجودة , ولم يكن ليسمح بها أبدا ً في النظام القديم ) . وهذه المرة عليهم بناء " سردياتهم " الخاصة بهم , وبعصرهم , وعدم الأتكاء على حنين ماضوي يرتبط بـ " سرديات " آبائهم واجدادهم , وذلك من أجل ان تكون لهم حصة أكبر في تقرير طبيعة الحاضر وشكل المستقبل , لعراقٍ آخر , غير العراق القائم الآن .
#عماد_عبد_اللطيف_سالم (هاشتاغ)
Imad_A.salim#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟