أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد صلاح هاشم - معجم حسين مردان وآليات الغرابة والتمرد















المزيد.....



معجم حسين مردان وآليات الغرابة والتمرد


أحمد صلاح هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 3888 - 2012 / 10 / 22 - 17:52
المحور: الادب والفن
    


الشعر ابن بيئته، والشاعر الفذ هو انعكاس لبيئته في مرآة الطبيعة، يتداخل في هذه المرآة المستوى الشخصي أو البصمة الخاصة للشاعر مع مظاهر الكون الفسيح.. وبالتالي، فإن النص ابن البيئة هو الآخر، لذا فإنه من الطبيعي أن يُعرّف الشعر المعاصر بأنه «محاولة لاستيعاب الثقافة الإنسانية بعامة، وبلورتها وتحديد موقف الإنسان المعاصر منها» .
وحسين مردان، رغم تمرده وثورته على النمط التقليدي في الشعر، فإنه يتقاطع مع شعراء آخرين في معجمه الشعري الخاص، الذي استقاه من بيئته من جهة ومن ثقافته الشخصية وما لاقاه في العراق وخارجه من جهة أخرى، وبذلك يمتزج الأثر البيئي مع ثقافته الخاصة مشكلين نصا شعريا متفردا.
لقد عانى الشاعر الأمرّين في حياته؛ من سجن وتشريد، كما أنهى تعليمه مبكرا ولم يحصل على فرصته كاملة، فهو لم ير من العراق غير الوجه المظلم، فكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على أبيات قصائده، فالحزن عنده ليس استسلاما للواقع بقدر ما هو حزن المتشائم الذي يرفض الواقع، ويحاول الثورة عليه.. من هنا تتبلور فكرة الثورة عنده. فهو ثائر على كل شيء، حتى على القيم والمبادئ الأصيلة في الروح العربية بل على القدر نفسه، وهو يغرد وحده منفردا عن قافلة الشعراء والأدباء.. يقول في مقدمة ديوانه:
«لم أحب شيئا مثلما أحببت نفسي
فإلى المارد الجبار الملتف بثياب الضباب
إلى الشاعر الثائر والمفكر الحر
إلى حسين مردان»
بهذا الخروج وهذه الثورة، التي يرفض فيها أن يُهدى النص إلى من يقرءون ديوانه، يخرج ذلك الشاعر من رحم كتابته سابحا ضد تيار الأدب بمعناه المعروف.
فمن غير المستغرب إذن أن يكون معجمه الشعري مختلفا متفردا، وأن تكون ألفاظ الحب والحزن والطبيعة والموت مختلفة عنده، ولا تتقاطع مع شعراء آخرين إلا بقدر ما يشتركون في معجم لغوي واحد هو كلام العرب، ولكن فيما عدا هذا التقاطع نلحظ شخصية متفردة مختلفة تماما، وشاعرا لا تحتاج قصيدة لأن تُمهَر باسمه.
فالحب عند مردان (مثلا) حبّ صريح ناتج عن حذفه لكل الكماليات التي يحتاجها البشر للتواصل، فالحب عنده يساوي جنسا، والمحب المتيم هو الذي يستطيع إطفاء شهوته متى احتاج لذلك وأينما احتاج لها. والمحبوبة هي المرأة التي تستطيع أن تطفئ رغباته؛ سواء أكانت امرأة بالغة أم طفلة شهوانية متوحشة .
يصرح بأن مدعية الطهارة والبراءة هي خائنة لميثاق الطبيعة الذي فرض عليها أن تحتاج لآخر وأن يحتاج هو لها، وأن الفضيلة لعنة، كما أن التردد كذلك لعنة:
فضحكت مكتئبا وزمجر غاضبا
إبليس.. يلعن طهرها وترددي
حتى في حزنه، يختلف معجمه الشعري كثيرا؛ فهو حزن مختلف، فيه تم تغيير الـ«أنا» الخاصة بالـ«نحن» العامة.. فتارة هو يكره نفس ويمل معاشرة الناس:
كرهت نفسي الوجود وملت
عشرة الأرض في ظلال الفجور
وتارة يرى قبر أبيه فلا يعيره اهتماما، غير مكترث حتى للأعظم التي ضمها ذلك المقام..
رأيت قبر أبي بالأمس منهدما
تحنو عليه شجيرات من التين
فهل أقول لكم إني بصقت على
ترابه باحتقار لاعنا طيني؟؟
فاستهتاره هذا ناتج عن نظرته المجافية للكون والناس، واحتقاره لقبر أبيه جزء من احتقاره للطينة البشرية كلها.. وهذه الأدلة وغيرها تتعاضد لإثبات مغايرة حسين مردان لظروف عصره، وتفرده بمعجم شعري لا يشابه معجما آخر.
حتى الموت عنده شكل مختلف، فهو نهاية كل حي، وهو ذاهب إليه لا محالة، بل إنه (الموت) عنده، الحقيقة المطلقة الوحيدة، لكنه لا يؤمن بأنه سيذهب إليه راضيا مختارا بل سيذهب ساخطا ناقما، يقول:
لعنة جئت للحياة وأمضي
مثلما جئت لعنة للقبور
فكان من الطبيعي أن تنعكس هذه التيارات في قصائد دواوينه وفي نظرته إلى الحياة وإلى ما حوله.
وسنحاول في المباحث التالية أن نتلمس خطى الشاعر حسين مردان في اتجاهاته الأدبية ومعجمه اللفظي الذي يعكس شيئا من شخصيته.

أولا: الحب وألفاظه وآليات الغرابة والتمرد

يستخدم الشاعر الحب معادلا موضوعيا للجنس، فالحب عنده هو حب الوسيلة وليس الغاية، وهو ليس البحث عن القيم الفاضلة أو الصفات الحسنة في المحبوب بقدر ما هو بحث عن معاني الجسد وصفات الإثارة فيه، فهذا هو الحب الذي يؤمن به.
فمن المعروف أنه (لم يخلط العرب بين الحب والجنس، أو بين المحبة الاشتهاء، ظل الحب عاطفة تقوم على الميل القلبي، المقرون بالإيثار) .
(وهو عند العرب منازل ومراتب متعددة، وأول مراتبه الهوى، وهو الميل إلى المحبوب، ويليه الشوق وهو نزوع المحب إلى لقائه، ثم الحنين، وهو شوق ممزوج برقة، ويليه الحب وهو أول الألفة، ثم الشغف...) ، أما مردان، فهو يحب الحب الحسي الذي (يفتن فيه الرجل بالمرأة من حيث هي أنثى تحقق له المتعة، واللهو وإرضاء الحواس) . يقول حسين مردان:
ما بال وجهك كالحجارة جامدا
وعلام ثغرك عابس لا يبسم
آمنت بالحب الذي في خافقي
وكفرت بالحسن الذي لا يرحم
فإيمانه الوحيد هو بالمرأة التي تشاركه رغباته لا المرأة الجامدة التي تحبه حبا هادئا.. يقول في مكان آخر:
أهواك نهدا ثائرا لو دغدغت
شفتاي برعمه.. لظى يتفجر
بذلك يعلن حسين مردان دستوره في الحب، فهو ذلك الحب الشهواني المرضي له، وليس حب الوله والأحلام.
وهو في ذلك لا يرى أن المحبوبة التي تسلم له نفسها ملعونة، ولا يحب المتمنعة المتدللة، ويرفض أن يكون شأنه شأن الشعراء الذين أحبوا المرأة مطلوبة لا طالبة..
فاستهتري يا بنت آدم كلنا
في الأصل للطين المدنس ننتمي
والشاعر هنا ينتهج أسلوبا قائما على الإقناع، فهو يحاول أن يقنع المرأة التي يرغبها بأنه طالما كان الأصل حقيرا، من الطين الذي يراه مدنسا، فعلام نحاول أن نتشبث بالفضيلة.. وحتى تكتمل الصورة البرهانية عنده، فإنه لا يرى أن المرأة التي تفرط في نفسها عاهرة، بل هي كالملاك، أو هي ملاك فعلا:
سموك عاهرة ولو عقلوا لما
نادوك إلا بالملاك المجهد
وهو في ذلك لا يخرج عن النهج الذي اختطه لنفسه، ولا عن المنهج الذي ارتضاه، فقد اختار التحرر من كل شيء وأن يكون عبدا لهواه وعواطفه.
سأظل عبد عواطفي ولذائذي
ما دمت في كنف الشباب الزاهر
ولما كان من الطبيعي أن تدور تأملات الشاعر وأفكاره في مدار ألفاظه وتعبيراته.. فعلى امتداد دواوينه نرى ألفاظا مثل:
(ارقصي، وأتشهى، والشبق المحموم، تعرت، عاهرة، اللثم، ارتعاشة نهدها، محمومة، تعاصصت، شهوة تتلظى، ارتعاشات صدرها، العفة الكاذبة، قبلتني، تمص، عنقك، عاري، ريقه، الملذات، السرير، المحب الداعر، ظمأى، أغتصب، اللذائذ، العهر اللعين.. إلخ) كألفاظ دالة على الولع المرداني، والحب عنده..
كما يحوي ديوان الشاعر ما يصح أن نطلق عليه (معجم ألفاظ الجسد)، وهو ما يتعلق بجسد المرأة، مثل:
(صدرها، ثدييها، فخذاها، جسمك، لماك، شفاه، صدري، شلو، الأعطاف، عصارة، ساقيك، حشاشة.. إلخ)، وهي الألفاظ التي تعبر عن نظرته للمرأة وتشرح معنى الحب الذي يريده.
وحين يعبر الشاعر عن لوعته بجسد المحبوبة أو حبه للقائهما معا، يستخدم ألفاظا أقرب إلى ألفاظ العذاب منها إلى ألفاظ الحب والهوى العذري، الذي يميل إلى السباحة في سموات الخيال والاتكاء على الأشواق والفكر والسهد والأرق، بل يستخدم ألفاظ الجحيم والعذاب ليعبر عما يخالجه من الأسى والألم:
بيضاء يا دفق الشعاع ترفقا
بفتى على جمر الغضا يتقلب
بيضاء يا أنشودة قد رددت
ألحانها شفة الضرام المحرق
يكثف طاقات الألم وحرارة الجمر، ليعكس لنا نظرته إلى الجنس وإلى لقائه محبوبته.
فالجحيم عنده هو القبلة، واللظى والسعير والزقوم يشتد حرارتها مع لقائه محبوبته.
ما كنت أؤمن بالجحيم وحرها
لو لم أضع شفتي على شفتيك
وهو يستخدم ألفاظا مثل: (الضرام المحرق، جمر الغضا، اللظى، فلتشعلي، نار تؤجج، تحرقني، القبل الكاوية، الزقوم، الجحيم، نارها.. إلخ) تعبيرا عن مدى الشوق الذي ينازعه لحبيبته، ومدى الألم الذي يقاسيه من الاقتراب.
ولكن الشاعر (على ما به من ميل نحو مضارب الغزل الحسي الجارف) لا ينسى أن الحب العذري موجود، وإن كان يعتبره توطئة للجنس، وطريقا مؤديا إليه، وهو لا يتوقف في قصائده عند هذا الطريق إلا بقدر ما ينظر السائر وراءه ليدري كم سار وماذا بقي له، ثم يتبع السير خلف غرضه الأساس.
فعلى حين يبدأ قصيدة «ثدي أمي» قائلا:
آن للحب أن يموت ويفنى
حلمي العذب في بريق السراب
يفتح الشاعر بابا مختلفا؛ يتحدث عن موت الحب الطاهر في مسارب الوهم، وجنبات السراب، متحدثا عن حقيقة يعايشها كل عاشق، ونهاية يعلمها كل محبوب، ثم ينتفض الشاعر فجأة قائلا:
أنت مَن أنت شهوة تتلظى
وجحيم أحرقت فيه شبابي
يعود الشاعر في البيت إلى الخلف مرة أخرى، ويؤسس لحقيقة يؤمن بها، وهي أن المحبوب ما هو إلا شهوة تأجج وتتطاير منها الشرر، وجحيم أفنى فيه عمره.
وعلى حين يبدأ قصيدته (راقصة) قائلا:
غرد الأرغن العميق بلطف
يرقص الصمت في النفوس الحزينة
يبدأ الشاعر قصيدته بصوت وحركة، فبينما آلة الأرغن تصدر صوتها الشجي من أعماقها يتراقص السكون على نغماتها، وتسعد النفوس الحزينة.. إلى هنا يبدو أن الشاعر اختار مولج الموسيقى الهادئة والجو الشاعري الحنون ليبدأ بهما قصيدته، ولكن النغمة الهادئة تستحيل درجة أقوى، وتتزايد بحيث نسمعها واضحة في البيت الثاني.. يقول الشاعر:
وانبرت فجأة كحلم بهي
تنزى في رقصة مجنونة
بدأ الصمت يتحرك، ويتغير من صوت هادئ إلى رقصة مجنونة، فتتزايد حدة النص، ويبدأ في الانعطاف نحو مسرب آخر من مسارب الحب، حتى يصل الشاعر إلى البيت الرابع:
كلما حركت فخذها الشهي تمشي
في عروق الرجال نار وجمر
فها هو الشاعر يعود أدراجه مرة أخرى، يتحدث عن جسد المحبوبة، الذي إذا حركته أثار راغبي المتعة وطالبي الشهوة الصريحة.. وهو بذلك يخرج عن الجو الذي هيأه للمتلقي في الأبيات السابقة، أو على الأقل يتخذ من الكلام السابق (الغزل العذري أو المقدمة الغزلية) مدخلا لأغراضه الحسية.
وهو بذلك يحيا في اللحظة الآنية ويرفض النظر إلى المستقبل أو مصير هذا الحب (الماتع).
غير أن النظرة المتأنية تكشف لنا أن الشاعر لم يكن يريد بالجنس أحيانا المعنى البدهي للجنس والصورة السطحية له؛ فهو أحيانا يتخذ الجنس رمزا لغاية أكبر؛ ففي قصيدة الطابوحة على سبيل المثال، يقول الشاعر:
غمامة تنزل فوق نهدك الوليد
ولم نزل في منتهى السرور
نرقب كيف يبزغ الصباح
من ساقك المتين
الغرض هنا (كما هو واضح) يخرج عن مجرد الافتتان بمحبوبة، أو تعديد صفاتها الحسية. يبدو أن الشاعر هنا يغازل شيئا أكبر من مجرد المحبوبة، لربما هو وطنه (العراق)؛ فهو ينتظر نزول غمامة الليل الحزينة فوق تراب وطنه، فيزداد سعادة انتظارا لصباح جديد يبزغ من أرض الوطن، فيخرج يوم جديد لا كسابقه، يشع فيه الأمل والتفاؤل، ويدفن الشاعر في أمسه أخاديد حزنه، وعبر عن الأرض بنهد المحبوبة، وعن السماء بساق المحبوبة.
وفي قصيدة «الزمن يقف في بغداد»، بعد أبيات يصف فيها الشاعر اليوم في بغاد وماء الفرات وقصور الأشوريين والليل الحزين، يقول:
كنا هنا صدور
من لحمها تستخرج العطور
لتغسل الخدود والنحور
لسهرات الليل بالفجور
المتأمل بالأبيات، يظن أنها جريا على عادة الشاعر لوحة شعرية تصف أحد فتوحاته الغزلية، ولكنه في الحقيقة يتغزل في بغداد الجميلة، يتصور أن أرضها (التي كنى عنها بلحمها) هي طينة تصلح لأن يستخرج منها العطر الفواح، فيغسل به الوجوه الشاحبة التي طالها اليأس، وتمسح ماء الليل الآسن وسهرات المساء المنحلة، فهو كـ(ماء البركة) الذي يُطلب من أجل إزالة الأوساخ ومن أجل التطهر.
وفي قصيدة «صباح 1955»
يقول الشاعر:
في كل ثغر أهيف النغم
يحرك الصنم
ويغرس السلاء في اللحم
فيزحف الوجد على مهل
ليبعد الخجل
الشاعر هنا يتحدث عن الصباح ودوره في إحياء القلوب، فكأنه موسيقى على فم كل إنسان، تقوم سعيدة وتتحرك فتحرك معها هذا الإنسان الصنم الذي كان هامدا طول الليل، فتثير فيه نبضات الحياة والحركة التي كان فاقدها.
بذا يتبين أن حسين المرداني كان يستخدم الجنس والصور الحسية معادلا موضوعيا لكل شيء حوله، كما كان الجنس له مطية سهلة يبلغ بها أغراضه التي قد تتوافق أو تتعارض مع فكرة الجنس ذاته، فهو في النهاية يبحث عن السلام الداخلي، والتعبير بالجنس عن حالة الحب مع الوطن، أو الكراهية لمظاهر الفساد في المجتمع.
(حقا إن الإنسان يحن إلى «الحب الخالص» وينزع نحو السلام العميق الذي لا تشوبه شائبة من صراع أو حرب، ومن هنا فقد كان تصور الإنسان لله باعتباره «المحبة» المطلقة، و«السلام» الحقيقي الذي يفوق كل عقل) .
وربما أحد المظاهر التي تؤكد أن الجنس أداة طيعة في يد الشاعر وأنه الأقرب إليه إذا تعددت المسالك إلى الهدف، ديوان «نشيد الإنشاد»، الذي عالج فيه بالجنس أفكارا موضوعية، وكأنه يحاول أن يكتب الأنجيل بيديه.
فمن المعروف عن نشيد الإنشاد أنه سِفر تعرض لمفاتن النساء وبعض الأفكار الجنسية، ويقول الرهبان والقساوسة إن المقصود ليس الجنس في ذاته وإنما أفكار يشير إليها ورموز تحمل مضامينها دلالات كثيفة مثل السعي إلى المثل العليا والخير والجمال ومناجاة الطبيعة، ويشرحون أن هناك ثلاثة طرق لفهم نشيد الإنشاد؛ التفسير الحرفي والرمزي والنبوي، ويبدو أن ذلك أثار الشاعر، فحاول أن يعيد كتابة نشيد الإنشاد متكئا على الجنس (أداته الطيعة)، محاولا أن يرمي بسهمه في البئر، وكان له ما أراد.. وسيكون لنا وقفة مع «نشيد الإنشاد» فيما يأتي من الكلام عن تأثره بالتراث.
إن توظيف الشاعر لهذه الصور الحسية من أجل غاية يراها أعظم من امرأة فانية، تعكس حرفية الشاعر في استخدام الرمز، ومهارته في التحكم بالآلة الشعرية وتوجيهها نحو الفضاء الفسيح، مما مكّن له أن يستخدمها في آفاق أخرى، فصار الجنس معادلا لأشياء أكثر رحابة وأوسع أفقا أو أضيق.

ثانيا اللون وألفاظه وآليات الغرابة والتمرد:

إن عناصر الصورة الكلية تشمل اللون والحركة والصوت، ومن مقومات الشاعر الفحل أن يستخدم الألوان بشكل يضمن للقصيدة ألا تصطبغ بلون على حساب لون، (إن الدلالة التي يكتسبها اللون... تأتي غير معزولة عن سياق القصيدة العام، الذي يتلقف مجموعة من النصوص الغابرة، ويثقل كثيرا من الإشارات التاريخية التي تثقل كاهله) ... فالشاعر شبيه بالرسام في عملية مزج الألوان في الصورة، والمشترك بينهما أن كلاهما (الشاعر والرسام) يحاول إيصال فكرته عبر عناصر مرتبطة بالصورة.
(يعد اللون بنية أساسية في تشكيل القصيدة العربية، ومرتكزا هاما تستند عليه الصورة الشعرية شكلا ومضمونا بما يحمل من عناصر جمالية)
لـ(قد اكتسبت الألوان وألفاظها، بمرور الوقت، إلى جانب دلالاتها الحقيقية، دلالات اجتماعية ونفسية جديدة نتيجة ترسبات طويلة، أو ارتباطات بظواهر كونية، أو أحداث مادية، أو نتيجة لما يملكه اللون ذاته من قدرات تأثيرية، وما يحمله من إيحاءات معينة تؤثر على انفعالات الإنسان وعواطفه)
وحسين مردان يستخدم الألوان الأساسية جميعها، محاولا رسم صورة كاملة تمتزج فيها الألوان على نحو متماثل:
1- الأصفر: ربما يذكرنا اللون الأصفر أحيانا بالنشاط والحركة والتركيز، (لصلته بالبياض وضوء النهار وارتبط بالتحفز والتهيؤ للنشاط) وربما أيضا يذكرنا بالجدب والصحراء، وربما المرض والعجف والفقر والشقاء.. يقول د. أحمد مختار عمر، (الأصفر المخضر من أكثر الألوان كراهية، وهو بدرجاته المتعددة يرتبط بالمرض والسقم والجبن، والغدر والبذاءة والخيانة والغيرة) ويذكرنا بقول ابن الرومي في رثاء ابنه محمد:
ألح عليه النزف حتى أحاله
إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
والشاعر يستخدم اللون الأصفر في قصائده بهذا المعنى الذي يدور حول الضعف والمرض والهزال.
صفراء تصطرع الثأرات في دمها
من كل عرق بسم الإثم محتقن
هنا يصف الشاعر المحبوبة الجميلة حين تدهمها شهوة الجنس، فتتحول إلى ضعيفة مهزولة تترنح يمينا ويسارا، وتتصارع الحمى في دمها، وتتشاجر العروق. فدل اللون الأصفر على الضعف كما دل عليه في المعاني القديمة.
2- الأبيض: يدل هذا اللون عادة على النقاء والصفاء والطهر والتبتل، (رمز الطهارة والنقاء والصدق) ، وهو عند الشاعر يحمل هذه الدلالة قاصرا الطهارة والنقاء والصدق على المظهر الخارجي للمحبوبة، وعلى بياض بشرتها، وجمال منظرها.. يقول الشاعر:
مرت كأحلام الصباح رقيقة
بيضاء تخطر في رداء أسودِ
هنا يصف الشاعر المحبوبة الجميلة البيضاء (وهي صفة لا تزال حتى الآن تلعب دورا في تقييم جمال المرأة ودلالها في بعض المناطق)، التي تتمايع (تخطر) تمشي الهوينى، في رداء أسود اللون، والمفارقة بين الأبيض والأسود في هذا البيت تبرز اللون الأبيض، وتجعله واضحا مرئيا للعين، فاللون الأبيض (يمثل نعم في مقابل لا الموجود في الأسود. إنه الصفحة البيضاء التي ستُكتب عليها القصة) ، ولا تزال حتى هذه اللحظة المرأة البيضاء تلبس العباءات السوداء ليظهر بياضها:
فبضدها تتمايز الأشياء
وهذا البيت يذكرنا ببيت الشاعر الذي يقول:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلتِ بناسك متعبد
(ولمعرفته بأن التضاد الموحي بالتناقض يقفز بالنص مسافات بعيدة من جذب المتلقي وإثارة اهتمامه، فإنه يوظف هذه التقنية من خلال تفعيل الدلالات التي تحملها الألوان...) ، والشاعر يحب الضغط على اللون الأبيض مع الأسود ليشعر المتلقي بالفارق المهول بينهما، يقول في موضع آخر:
بيضاء يا ضحك السواقي للربا
وتراقص الأضواء فوق الجدول
ما أنت إلا مثل أمك نطفة
سوداء تنمو بالدم المتوحل
فبينما المرأة جميلة بيضاء الشكل ذات ضحكة بشوشة وحركة موسيقية، فإنها - مثل أمها - عديمة الأصل تحيا على الرذيلة والمساوئ، وبذا يتضح الفارق المخيف بين اللون الأبيض الخارجي الشكلي، والأصل الأسود المخزي، فيظهر اللون الأبيض بقوة على حساب الأسود الذي يظهر هو الآخر بقوة في مقابل الأبيض في نفس الموضع.
3- الأزرق: يذكرنا اللون الأزرق بشدة اللهب، وبقوة النار ومدى اشتعالها، و(القاتم منه لارتباطه بالظلام والليل يدل على الخمول والكسل، والهدوء والراحة) يقول الشاعر:
وشفاه زرق عليها بقايا
حلم النار والهوى المجنون
يستخدم اللون الأزرق مرادفا لقوة النيران التي تعتمل في شفاه المحبوبة، إثر تقبيلها، والتي تتفاعل مع رغباته وأفكاره الحسية، ففكرته هنا تعتمد على اللون الأزرق من أجل البرهنة على شدة الشوق وقوة الحب.
ويقول في مكان آخر:
والوسائد الزرق دنيا
من خيالات عالم مخمور
يشعر بالوسائد ملتهبة متأججة ترفض أن ينساق في تيار النوم، وتأبى أن يزوره النعاس، وعلى الرغم من ذلك فإنه يتفاعل مع عالم الأحلام الذي يشعر فيه وكأنه سكران، وهنا يظهر جليا وجه التناقض بين الوسائد الزرقاء الملتهبة والعالم المخملي الناعم الذي يراه في منامه.
غير أن الشاعر ربما رجع مرة أو مرتين إلى الدلالة الأصلية للون الأزرق، وهو مجرد الإحساس بطبيعة اللون نفسه، بصرف النظر عما يثيره في النفس، وهو هنا لا يريد إلا المعنى السطحي للون؛ فيقول:
وبدت حلمة ثدي ناضح
تحت ثوب من حرير أزرق
إنه يريد بالحرير الأزرق المتصف بهذا اللون ليس إلا، ولا يريد به إلا الصورة الذهنية التي تقفز إلى عقول وأذهان المتلققين.
4- الأحمر: وهو محور مهم في استخدام الشاعر للألوان، فالأحمر هو لون الدم، وهو لون الثورة، (يثير النظام الفيزيقي نحو الهجوم، وهو في التراث مرتبط دائما بالمزاج القوي وبالشجاعة والثأر... وكثيرا ما يرمز إلى العاطفة والنشاط الجنسي وكل أنواع الشهوة) وقد استخدم المعسكر الشيوعي اللون الأحمر للتدليل على الثورة الدائمة، وقد استخدمه الشاعر مرادفا للثورة والهياج، وكذلك استخدمة كلون الفجور والسهرات الفاضحة وليالي السهر، وحتى في اللغة الدارجة نقول (ليلة حمراء) لنعبر بها عن ليلة تكتنفها الآثام، ويشيع فيها الجنس. يقول الشاعر:
والورود الحمراء في الكأس ترنو
نحونا في تهتك وفجور
(إن الفنان الحقيقي الذي ينظر إلى انسجام الألوان لا يقف عند ظاهرها المادي، وإنما ينظر إليها متلبِّسةً في روح خفي وراءها، فهو ليس كالإنسان العادي الذي ينظر إلى الشيء الملون نظرة خارجية؛ يحكمها قانون المحاكاة؛ فيعزل الشكل عن الروح) .
(جوهر اللون إذن يتأسس من خلال خبرة نفسية قائمة على أساس فسيولوجي) .
فهو يرى أن الأحمر في الورود لون يدل على التهتك والعهر والفجور، فاللون الأحمر فاقع وفاضح ومثير، وهو كذلك يكشف عما يحويه ويشي بما فيه.
واللون الأحمر كذلك هو لون الثورة والتمرد والخروج:
كأنني جذوة حمراء من سقر
لا تطفئ النار في أعماقها النارُ
وفي مواضع قليلة يحتاج الشاعر للون الأحمر ليس رمزا على الثورية ولا دلالة على التمرد، بل يحتاج الشاعر للون الأحمر على حقيقته، ويريد به المعنى الشكلي دون أن ينفذ إلى المعنى العميق أو الدلالة البعيدة.. يقول:
وذات يوم أحمر العيون
تحرك القدر
وهو هنا يحتاج إلى صورة الرجل الغاضب الذي تكاد الدماء تخرج من عينه من شدة عصبيته، ووصوله إلى أقصى الغضب، لذا احتاج اللون الأحمر ليس لشيء إلا لتلوين عين الرجل (اليوم) في هذا المشهد.
5- اللون الأخضر:
للون الأخضر دلالات متعددة؛ فهو يشير إلى التفاؤل من ناحية، وإلى الخصوبة والنماء، فهو الأرض، وهو مريح للعين كذلك، وبالتالي يأتي اللون الأخضر معبرا عن التربة أو الأصل الكريم للإنسان الذي لا بد أن يدور حول معطيات الأرض الطيبة، (إنه يمثل التجدد والنمو، والأيام الحافلة للشبان الأغرار. إنه لون الطبيعة الخصبة، رغم إنه نادرا ما يكون اللون المسيطر في الجو)
يقول الشاعر:
وحيث تغني الربى
وحيث النسيم يرش الشذى
فتغفو القرى
على شفق أخضر مزدهى...
فالشاعر يتذكر مأساة مدينة لاسا (عاصمة التبت) وكفاح شعبها ضد الاستعمار، وفي هذا المشهد يخرج أهل القرية مستبشرين فرحين بانتصارهم، وتتناغم الأرض مع السماء.. وتنام القرية على اللون الأخضر الزاهي، وهو يقصد اللون الأخضر خصوصا هنا، لأنه أشهر الألوان في القرى، فهو لون النبات والأرض، وربما البيوت والناس كذلك، ومن الطبيعي أن تصحو القرية عليه، وأن تنام كذلك.
ويقول في موضع آخر:
وجهك في صدري وفي ظلمتي
ينير لي وحشتي
واليوم يا طفلتي
يا لوني الأخضر.. يا فرحتي
...
أبحث عن صوتك في وحدتي
هنا دلل على الأصل الطيب والخصوبة والتفاؤل في آن معا، بنسبه اللون إلى نفسه وإضافة الظل الأخضر خلفه.. مما يشعر بأن كلمة فرحتي الثانية موازية للكلمة الأولى ومساوية لها من جهة المعنى، وكأنه يقول:
يا فرحتي
يا فرحتي

ثالثا: الطبيعة وألفاظها وآليات الغربة والتمرد:

الطبيعة في شعر حسين مردان تسير على مستويين متقابلين وغير متقاطعين؛ أحدهما عام يتقاطع فيه حسين مردان مع كل الشعراء، وهو مظاهر الطبيعة بأشكالها المختلفة؛ من ماء وهواء وقمر وجبال وتلال وبلابل وما إلى ذلك، وهذا نلمحه متقدا حاملا لصبغة الشاعر نفسه، وثانيهما الطبيعة الخاصة بالشاعر، وهي التي ألفها في العراق ولا تتعداه إلى غيره.
وفي هذا الجانب وفي هذا المبحث، يشبه حسين مردان نفسه بـ(الإنسان وقد تحررت غرائزه من لسلاطان الطبيعة، واضطر إلى أن يخضع لسلطان العقل فسيحا وجديدا من مجالات حياته الفردية والجماعية، ألا وهو مجال علاقاته مع البيئة، وقد فعل ذلك على غرار ما وجب عليه أن يفعله أوبالأحرىماحاولأنيفعله، إزاءحياته الوجدانيةوالجنسيةالتيكتبعليهاهيالأخرىأنتخضعلتنظيمإرادي) .
ومن النوع الأول جاءت ألفاظ كـ(الجدران، السياط، البركان، تراب،
السماء، النهر، البدر، الأنجم، أغصان، الغابات، الوديان، الجدول، السواقي، الربى... إلخ)..
ومن النوع الثاني جاءت صور ممتدة في قصائده، كما قال في قصيدة «قبضة الصلب»:
فانظر فبغداد غرقى في مباهجها
في كل نافذة ضحك وأزهار
الشاعر في هذا البيت يصف طبيعة من نوع آخر أحادية النظرة تتحدث عن العراق فقط، وعن بغداد خصوصا، تنتشر فيها صورة الضحك والمباهج المنتشرة في بغداد، والأزهار التي تتمايل وتصفق للربيع. فهو شاعر حزين حين يتحدث عن أي شيء، متفائل واثق في وطنه حين يتحدث عن العراق.. وبين التناقضين تتضح صورة حسين مردان الحقيقية.
يقول في قصيدة «الزمن يقف في بغداد»:
فأي أرض هذه محال
أهذه العراق؟!
يشرق في بيوتها النهار
فيفرح الصغار
ويصبغون الأفق بالنشيد
ها هو ذا حين يتحول الكلام عن العراق يتذكر ماضيه الذي قضاه في مدينته، حين تشرق الشمس في البيوت، فيبتسم الأطفال، لأن ذلك موضع اللعب والسرور والخروج. ويبدءون التغريد والغناء بأغاني الأطفال.
ويقول في موضع آخر:
ولسوف تنطلق الهلاهل في العراق
ها هي مظاهر الكون تتألق في ذاكرته حين يذكر العراق.. فيتذكر الهلاهل التي سوف تنطلق في سماء العراق من جديد.


رابعا: الحزن وألفاظه وآليات الغرابة والتمرد:


لطالما كانت (صلة علم النفس بالأدب والنّقد صلةٌ ممتدة الجذور في التّراث الإنساني، وخصوصاً تلك التي تربط الأدب بصاحبه. وهذا التراث واسع) ، والمتأمل لحياة حسين مردان يجد ظلالا من البؤس غطت ماضيه، وضبابية تغطي مستقبله، وهو بين الاثنين حائرا لا يعلم كيف تكون نهايته، ولا كيف عبر ماضيه، ولما كان الشعر انعكاسا لأحاسيس الشاعر وشكلا من أشكال دواخله، كان من الطبيعي أن ينعكس ذلك الحزن في ألفاظه وأن يظهر على كلماته. وهو في حزنه ناقم على الحياة.
يقول الشاعر:
وجفتني التي عشقت فماتت
جذوة الخير والمنى في الضمير
يرى الشاعر أن المرأة التي أحب، عندما ماتت ماتت معها كل بذور الخير، وكل آثار الإحسان في نفسه، وفي كلامه شيء من لوم القدر ومن الإحساس بأنه مسؤول عما يقاسيه من الآلام والحزن، وهي صورة يمكن أن نحكم على حياته البأساء من خلالها.
(لقد كانت «الصورة» دائما موضع الاعتبار في الحكم على الشاعر، حتى وإن لم ينص عليها في الدراسات النقدية العربية) .
لذا فهو يرى كل شيء باطلا، وأنه لا حقيقة إلا القبر (الحفير) في نهاية الأمر، والموت والثوى:
يا ليالي باطل كل شيء
فادفعيني إلى الظلام الحفير
إن ألفاظ الحزن في معجمه الشعري تشمل: (الحزن، الظلام، الشقاء، الدموع، الأسى، الألم، الضباب، الهم، اليأس، الجراح، الكآبة، السدى)..
ولأن الحب عنده مرتبط بالحزن الذي يقاسيه ويشعر به، نجد من حين لآخر أن الحب يمتزج بالحزن في دلالة على ما يعانيه في حياته:
آن للحب أن يموت ويفنى
حلمي العذب في بريق السراب
فكما ماتت عنده الفضيلة يرى أن الحب لا شك سوف يموت، بل إنه يرى أن موعد موته قد حان، ولا بد أن يعايش آلامه وأحزانه وحيدا في دنيا الوهم.
قد رضعت الفجور من ثدي أمي
وترعرعت في ظلام الرذيلة
فتعلمت كل شيء ولكن
لم أزل جاهلا معاني الفضيلة
فدعيني أعيش وحدي غريبا
بين أحلام قلبي المستحيلة
هذه الصورة إن جازت التسمية (بروفايل) لحياة الشاعر التي يختلط فيها الحزن بالحب والرذيلة (العناصر الثلاثة التي شكلت شخصيته)؛ فقد رضع الفجور والتهتك ضمن ما رضع من ثدي أمه وهو صغير، وبذا نشأ في جو من الفجور والرذيلة التي يراها ظلاما (على حد قوله)، مما يشي بأنه (الشاعر) في أغوار نفسه، يرى أن الرذيلة ليست البديل للحياة النقية، وإن كان قد اختارها لتوافرها أمامه، لذا فإنه عرف أغوار الناس، وخبر الحياة وتعلم كل شيء، إلا أن الفضيلة موجودة، فصار جاهلا بها، وهو يرجوها (المحبوبة المتوهمة) بأن تتركه وحيدا بين رغباته وتطلعاته الصعبة.

خامسا الموت وألفاظه وآليات الغرابة والتمرد:

كل حقيقة آيلة للزوال عنده، لا يؤمن إلا بما يراه، يكفر بكل شيء، إلا أن منتهاه يتقاطع مع منتهى البشر، وأنه لا بد له من نهاية، ومن موت يهزم لذائذه، ويفني حياته، يقول:
ضقت بالأرض والسماء فصبي
جرعة الموت في دمي المسعور
لعنة جئت للحياة وأمضي
مثلما جئت لعنة للقبور
فالشاعر يرى أنه قد مل الحياة فيطلب من الأرض والسماء أن تصب الموت في دمائه ثورة، ليموت كما جاء الدنيا ثائرا ملعونا، مضطهدا في مشارق الأرض ومغاربها.
كل ما في الوجود شيء قبيح
وقبيح حبي لهذا الوجود
فهو يهرب من وجه هذا الوجود إلى الموت، لأنه لم ير من الحياة ما يسعده، فينتظر الموت عل الموت يكون فيه ما يعوض ما رآه في الدنيا.
غير أننا نظلم الشاعر حين ننظر إلى ألفاظ الموت على حقيقتها المجردة ودلالتها الظاهرة، فهو في ذكره للموت أحيانا يحيل إلى رمز، فيعبر بكلمات الموت، يقول:
تمتص من شفتي الروح في نهم
وتزرع الموت أسنانا على بدني
هنا يكني عن الجنس بألفاظ الموت، وهي صورة تحتاج إلى تدقيق، فامتصاص الشفاه عنده انتزاع الروح، و(العض) الذي ينشأ عن الشهوة الجنسية أصبح مرادفا لعض الموت له.
يقول في موضع آخر:
دم ونار وأشلاء ممزقة
وأضلع صاخبات تشتكي التعبا
وهنا يسير على نفس الفكرة، يكون الجنس فيها هو المقصود بينما الظلال والألفاظ هي للموت دون الجنس، فبعد أن صور الدم والنار وبقايا الحياة الممزقة في جسده وأضلعه الباكية يقول:
هذا هو الحب.. جرح غائر
ويد خبيرة وصراع يعلك العصبا
فيفاجئنا أن الحب والموت عنده وجهان للعملة نفسها، وأن مظاهرهما واحدة، بل ربما نهايتهما واحدة أيضا، وهي الضياع.
فبرغم كل شيء ما زال لدى حسين مردان إيمان دفين بأنه سوف ينتهي وأن موته سوف يحين، دون شفك، فنحن (حينما نتجه في محاولة لتعقب تاريخ اكتشاف الإنسان للموت، إلى المخزون الهائل من المعلومات الذي كدسه علماء الأنثروبولوجيا حول فكرة الموت، ومواقف الثقافات البدائية منه، فإننا لا نجد في أقدم مراحل التطور الإنساني إنكارا لنهائية الموت) .
فالموت (الموت شيء طبيعي، الموت هو موتنا نحن ومع ذلك لا نفكر فيه إلا بوصفه موت الآخرين، المهم أن نستمر في الإبحار) .



#أحمد_صلاح_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميوعة التاريخ وتحيز المؤرخين
- البحث عن الواقع التونسي عبر المشاهد والظلال.. دراسة في المجم ...
- مظفر النواب: مكاشفة شعرية تظهر آيديولوجياته


المزيد.....




- Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق ...
- الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف ...
- نقط تحت الصفر
- غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
- يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
- انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
- مدينة حلب تنفض ركام الحرب عن تراثها العريق
- الأكاديمي والشاعر المغربي حسن الأمراني: أنا ولوع بالبحث في ا ...
- -الحريفة 2: الريمونتادا-.. فيلم يعبر عن الجيل -زد- ولا عزاء ...
- لماذا يعد -رامايانا- أكثر أفلام بوليود انتظارا؟


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد صلاح هاشم - معجم حسين مردان وآليات الغرابة والتمرد