نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1129 - 2005 / 3 / 6 - 11:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما إن تقع عيناك اللتان تورمتا من متابعة مآثر العربان ,وبطولاتهم, ومهازلهم, المضحكة والمبكية في آن على الشاشات,وصفحات الويب العنكبوتية,أو تفتح صفحة محجوبة ترعب الطغاة في صحاري الجدب والإغلاق,وتقرأ عن هذا الوباء الذي يجتاح الصحافة ,والجرائد والأنترنت ,والإعلام حتي ترى وتقرأ فصولا ,ومعلقات طوال,وسرد وحكايات مسهبة عن مآثر المخابرات وصولاتها وجولاتها ضد الفقراء والرعايا المعزولين في مدن الصفيح الخرساء وأكواخ التوتياء, تملأ هذه المنشورات ,وكأنك في سباق إعلاني محموم لتقديم خصائلها وفضائلها وفجورها على الأدباء, والعباد وكأن هذه الشعوب مجموعة من القطعان التائهة والمجرمين الضالين,والخونة المتآمرين بالجملة ,والمتعاملين مع الأعداء,والذين فقدوا كرامتهم ومواطنيتهم, ولا شغل لهم إلا حبك المؤمرات على القديسين الطهراء, الذين لا يأتيهم الباطل لا من خلفهم ولا من أمامهم ولا من البيت الأبيض الحلال .ولذلك هم بحاجة دائمة لرعايتها السامية والكريمة وتأديبهم وإعادتهم لجادة الصواب بالعصي والهراوات.وحين تقرأ عن بعض الحالات المؤسفة تشعر بالخزي والعار والألم الممزوج بالسخط وكل مشاعر القهر والإحباط, بأنه مايزال هناك أناس بهذه الهمجية والوحشية وهذا الإجرام ؟وهل هو فعلا في النهاية لمصلحة البلاد؟ولقد كانت مهمة الأمن والتحريات,والبوليس السري في كل دول العالم, وعلى الدوام بشكل عام,هي العدو الخارجي والجرائم الغامضة ,وأمن الدولة العليا الذي يقتضي وجود هذا الجهازالهام ,لكن هنا وفي هذه الحالات, فقد أخذ الوضع منحى خطيرا جدا ,وعرض حياة البلاد للخطر,والضعف, والقهقرى بدل أن يكون عامل قوة واستقرار.
كتاب موقوفون,وأدباء مسجونون,وأعضاء في أحزاب مغيبون ,وتجارب داخل السجون لفئات عريضة وغير محددة من الناس,وشعراء سكنوا الزنازين لمجرد قصيدة,اعتبرت تهديدا للنظام,ومناهضة أهداف الثورات,التهمة الجاهزة لدى محاكم أمن الدولة العليا.كل ذلك تصادفه يوميا في أكثر من دراسة ومقال,والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا اختصر العقل البشري ,واختزل إلى هذه الدرجة من السوداوية ؟ وأين كانت تُسجن كل هذه المجموعات ,وكم هي كبيرة تلك السجون,والمعتقلات حتى تستوعب أولئك الناس؟وكل شيء يكتب اليوم,أو يحكى و يقال, لا بد من الإشارة لهذه الظاهرة الفريدة والغريبة في تاريخ الشعوب على الإطلاق.ولا ينكر أن كثيرا من الشعوب عانت من التسلط في يوم ما,ولكن هل من الضروري إعادة نفس السيناريو الفاشل في هذه البلاد؟ وإذا كان هناك في الأدب العالمي مدارس واتجاهات فنية وأدبية وشعرية ونقدية ظهرت وواكبت كل مراحل التطور الإنساني المتصاعد,تسجله, وتحلله, وتؤرخه, وتقيمه ,فإننا وبحق نفخر بأننا أنتجنا ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية وتيار أدبي وفكري متميز هو أدب المخابرات,الذي لم يسبقنا أحد إليه في كل العصور حتى الآن. والذي سيُستمر بالكتابة عنه لعشرات السنوات القادمة ,نظرا لما كان له من تاثير واضح على حياة الناس وطريقة تفكيرهم,ومصيرهم ,وخلق حالة من الفوبيا والرهاب والشلل العام تركت بصماتها على شتى مناحي الإبداع .فقد نشهد في المستقبل القريب جدا من يتقدم لنيل شهادة الدكتوراه في أدب المخابرات ,ويصبح اسمه الدكتور الفلاني المختص بالمخابرات.
ولقد أصبح هناك تيار عام في كل كتابات الأدباء ,فلا تكاد تخلو مقالة واحدة,أو دراسة من الإشارة إلى هذه الظاهرة التي تسرطنت وتورمت وشلت الحياة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ,حيث يحتاج إقامة عرس أو حضوره تسلط هؤلاء القوم على الأفراح وإفساد فرحة العمر بمراجعة مكوكية لفروع الأمن لكي يكمل الإنسان إنسانيته, ونصف دينه على ما يقال.باستثناء مقالات "الفونولوجيين الكبار"الذين نموا وترعرعوا وشبوا ونهلوا من عطايا الأجهزة وبركاتها.ولقد تحولت البلاد إلى حالة مزرية وكئيبة من الشلل العام الذي لا تحسد عليه وتحصد نتائج هذه السياسات الطائشة بقسوة مؤلمة وجارحة هذه الأيام,وأصبحت القوة الحاكمة والسلطة المطلقة والمافيا التي تتحكم بكل المسارات وتفرض كل القرارات,ولا يوجد مواطن إلا وعانى يوما من سطوتها, وتعرض لابتزازها بشكل ما,جعل مفهوم المواطنة فارغا من أي محتوى ومضمون فعال.ويمكن ومن الآن وبكل أسف أن يسمى الأدب ,والفن ,والشعر ,والانتاج الفكري بتراث وأدب الأمن والمخابرات.ولقد بدا أن المجتمع انقسم إلى قسمين رئيسيين لا ثالث لهما الجماهير العريضة والواسعة في صف,والأجهزة الأمنية المتسلطة في صف آخرتنلذذ بسادية كبيرة ,وسلطات مطلقة في إيلام المواطن وتعذيبه وتجريده من أي حس وطني ومهما كان ضئيلا,وأصبحت دولة ضمن الدولة ,وهذا مايستدعي التدخل الفوري ,ومن أعلى المراكز للتصدي لهذه المهزلة الوطنية, والكارثة الحقيقية, التي عطلت وشلت الحياة.
فلقد كان الأدب دائما هو المرآة التي تعكس الحس العام ,ومايفكر ويعاني منه الناس والمجتمع,ويعكس دائما الظواهر الاجتماعية الكبرى التي تكتسح المجتمعات.فمثلا وفي مراحل معينة ,كان هناك أدب المقاومة, والمهجر,والغزل ,والحب,وقبل الاسلام كان أدب الفروسية والحب والغزل والغزوات التي كانت قائمة في تلك المجتمعات ,وفي قمة ازدهار الدولة العربية الاسلامية ظهر أدب الفخر والفتوحات وازدهار الحياة ,وفي عصر الثورة الصناعية مثلا كتب تشارلز ديكنز روائع عن هذه التحولات ومارافقها بنفس الوقت من بؤس وشقاء. وكان هناك في فترة قريبة قصص الخيال العلمي التي مهدت لما نراه من معجزات علمية تتحقق كل يوم .وفي الألفية الثالثة قدمنا نحن للبشرية روائعنا الخالدة الرخيصة والمخجلة المتمثلة بأدب المخبرين ,والمتلصصين على العباد والمخابرات,ونقارع به بيل غيتس فارس الانترنت والمعلومات. ففي هذه الحقب الشمولية السوداء العمياء نضج بشكل واضح مايمكن تسميته بـ"أدب المخابرات".فهل يرى أحد مثلا الآن قصيدة عن الحب والغزل والعصافير والأشجار؟أو لوحة فيها خصوبة وورد وشجر وماء؟أو مقال يتحدث عن اختراع علمي وتجربة شعرية رائدة ؟أو مدرسة فكرية يتجادل الأدباء والمفكرين والشعراء في تحليلها ,ودراستها ,وتحليل ظروف ارتقائها في هذه الأيام العصيبات؟
ولقد حفلت كل الأدبيات بالصورة المرعبة ,وأصبحت كلمات مثل سجان,وسجون ,وطغاة ,واعتقال ,وتعذيب,وخوازيق,وعصي ,وفلقات ,وكابل كهربائي,وعصي وهراوات,وزنزانة,والأقبية ,والتحقيق والمحققين,وتوقيف,,وجلادين,وضباط ورقباء وعرفاء,وتعصيب العيون,وفسحة الهواء,وجروح وآلام......الخ كانمل تنتشر بين سطور ولغة المقالات,وحلت محل اللغة البشرية الأخرى التي تتحدث وتفعّل وتتغنى دائما بلغة الجمال, التي يجب أن يحفل بها الأدب بشكل عام.ولا بد للأخصائي الدارس لأدب المخابرات من استعمالها وبكثرة حين الدفاع عن أطروحته في القادم من الأيام. ألا يمكن أن يكون العنوان مشروعا لأطروحة دكتوراه في المستقبل تحلل وتدرس هذه الظاهرة البارزة؟فكروا بالموضوع.
والمر ,والأمرّ في الموضوع كله, أن كل إجراءات الأمن تلك, والقصص الخرافية والأهوال الأخرى المصاحبة, لم تجلب الأمن والأمان لأحد في النهاية على الإطلاق, وأصبح الجميع مهددا في حياته الشخصية وأمنه وأمن مجتمعه وأطفاله وأسرته,والكل يعيش حالة الحصار والرعب والإغلاق ,وكل يوم تتردى وتسوء الأحوال.وأصبحت متيقنا أكثر من أي وقت مضى بأنه لن يكون لنا أي دور في الحضارة والمدنية التي تتنافس البشرية لبنائها وإعلاء صرحها, وليس لدينا مايرفع الرأس ,ونقدمه سوى تراث وأدب القمع وتراث المخابرات الذي يصوره ويكتب عنه الآن المفكرين والمبدعين الأدباء.ولذلك كانت العملية كلها عبثية ,وتلكؤ وتقصير عن مواكبة الحضارة التي تسير نحو الأمام باطراد.أنهم العربان الأبرع في الرذائل ,والمخازي والدونيات.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟