|
السينما وستالين
نوار جلاحج
الحوار المتمدن-العدد: 1129 - 2005 / 3 / 6 - 10:43
المحور:
الادب والفن
على الرغم من أن تاريخ السينما مليء بالشواهد على المعاناة التي تكبدها السينمائيون في هذا البلد أو ذاك من جراء تعسف أنظمة الحكم أو الأجهزة الرقابية في داخله ، والنتائج المأساوية التي وصمت مسيرة حياتهم وطبيعة ومصائر أفلامهم نتيجة ذلك . غير أن يوسف فيساريونوفيتش ستالين يحتل في هذا الجزء المظلم من تاريخ السينما مكانة خاصة ، لا يمكن اختزالها بالصيغة التقليدية للتعسف ، بل أنه وعلاقته بالسينما يشكل ظاهرة شديدة الخصوصية . فستالين كان يعشق السينما إلى حد الهوس ، ولم تستطع يوماً لا مسؤولياته الكبيرة كزعيم للاتحاد السوفيتي في مرحلة التغيرات الجذرية للبنى التحتية في البلاد ، ولا معاركه المستمرة مع خصومه ، ولا حتى الحرب القاسية التي ذهب ضحيتها أكثر من عشرين مليون إنسان ، أن تمنع ستالين من متابعة جميع الأفلام السوفيتية الجديدة ، ووضع ملاحظاته عليها . ومن المعروف أن السينمائيين كانوا أصحاب حظوة لدى ستالين ، ميزتهم عن جميع المثقفين العاملين في مجالات إبداعية أخرى ، إذ كانوا يمنحون الأوسمة التقديرية والهدايا النفيسة بسخاء ، عدا عن أجورهم العالية ، بل أن الأسماء البارزة في الاستوديوهات الرئيسة امتلكوا شققاً منفصلة ، وبعضهم حظي بفيلات حول موسكو ولينينغراد (سان بيتربورغ حالياً) ، في الوقت الذي كان لا يزال معظم سكان الاتحاد السوفيتي يعيشون في شقق مشتركة . وفي عام 1941 ظهرت إلى الوجود جائزة ستالين ، التي كانت تبلغ قيمتها المالية 100 ألف روبل للفيلم الأول و 50 ألفاً للفيلم الثاني ، لتمنح في العام نفسه لعدد كبير من أفلام الثلاثينات ، ولا يقلل من حجم وقيمة هذه الجائزة حتى تقاسم عدة أفلام لها كما كان يحدث في معظم الأحيان .
ولا شك أنه من المتعذر أن نحيط بمقالة واحدة بهذه الظاهرة الفريدة من نوعها في تاريخ السينما ، التي أفرد لها النقاد والباحثون السينمائيون الروس في التسعينات وحدها من القرن المنصرم العديد من الكتب ومئات المقالات ، مما يدلل على حجمها وأهميتها وأبعادها . ولكن عسى أن نسلط الضوء هنا على بعض الملامح الرئيسية التي تكتنف ظاهرة ستالين والسينما .
الرقيب الأول
في مكان غير بعيد عن الكرملين كان يقع مبنى لجنة السينما في الاتحاد السوفيتي ، حيث بدأت لأول مرة تقاليد الفرجة «الحكومية» على الأفلام . في هذا المكان كان ستالين برفقة أعضاء المكتب السياسي يقومون بمشاهدة جميع الأفلام السوفيتية الجديدة ومناقشتها . ولعله لم يحظ «ناقد» في تاريخ السينما بمثل تلك القدرة الكلية على تغيير مصائر الأفلام وفقاً لرؤيته الخاصة كما حظي ستالين بذلك .
هذه الجلسات كان ينتظرها ويخافها السينمائيون جميعاً ، إذ عليها يتوقف مصير أفلامهم . فإما أن يوافق على الفيلم ليعرض في صالات السينما ، وإما أن يطلب من المخرج وكاتب السيناريو تعديل الفيلم بإضافة مشاهد عليه أو حذف أخرى منه ، أو ما هو أبسط من ذلك كله ، وضع الفيلم على الرفوف ، أما أسوء ما كان ينتظر فيلماً غير مرغوب فيه فهو إتلافه بصورة كاملة .
في البداية كان ستالين يدعو مخرجي الأفلام لحضور هذه الجلسات ، مما يضعهم في مناخ من التوتر العصبي والقلق النفسي الذي لا يحتمل . فستالين كان يستطيع أن ينهض بكل بساطة ويغادر الصالة قبل انتهاء الفيلم فيما لو شعر بالضجر أو الانزعاج . ويعد هذا التصرف بحد ذاته شكلاً من أشكال التقييم النقدي للفيلم ، الذي لابد أن يترك أثره المباشر على مصيره ، وفي بعض الأحيان على مصير مبدعي الفيلم أنفسهم . ويقال أنه بعد حادثة شهيرة كادت أن تودي بحياة المخرج الكبير غريغوري كوزينتسوف أوقف ستالين هذه الدعوات . فما أن انتهى أعضاء المكتب السياسي من مشاهدة فيلمه «شباب مكسيم» 1934 ـ الذي سيصبح أحد أشهر أفلام هذه المرحلة ، وأحد كلاسيكيات السينما السوفيتية ـ وأضيئت الصالة ، حتى توجه ستالين نحوهم متسائلاً عن رأيهم في الفيلم ، لينهض كالينين (رئيس اللجنة التنفيذية المركزية لعموم روسيا حينذاك) مدلياً بوجهة نظره قائلاً «نحن عندما صنعنا الثورة لم نكن نعزف على القيثارة» في إشارة إلى أحد مشاهد الفيلم . عندها تلبد وجه كوزينتسوف ، وتجمعت قطرات من العرق فوق جبينه ، ليغرق في كرسيه فاقداً وعيه … بعد ذلك لم يعد ستالين يدعو المخرجين إلى هذه الجلسات على الإطلاق .
فيما بعد تغير مكان الفرجة ، وأنتقل إلى الطابق الثاني في الكرملين ، لينسجم مع هوس ستالين وعشقه للسينما ، وليصبح في مقدوره ودون أي عناء مشاهدة الأفلام وقتما يشاء ، حيث زودت الصالة بأحدث المعدات وآلات العرض ، وانتصبت في داخلها الكنبات المريحة والطاولات المفروشة بالنبيذ الجورجي ومختلف أنواع المقبلات .
إلى هذه الصالة السينمائية الفاخرة كان وزير السينما طيلة 15 عاماً إيفان غريغوريفيتش بولشاكوف يقوم شخصياً بإحضار الأفلام وعرضها على ستالين ، وعن طريقه كذلك كانت تصل توصيات وتوجيهات وتعليقات الأخير إلى السينمائيين . ويرجع البعض الكثير من الفضل إلى بولشاكوف في حماية عشرات الأفلام من طغمة ستالين . إذ كان يحاول مسبقاً معرفة مزاج القائد ، من خلال كلامه ، حركاته أو حتى عن طريق حراسه الشخصيين . فإن لم يكن ستالين بمزاج طيب ، كان يمكن لأي فيلم مهما بدا «بريئاً» أن يسبب الإزعاج له ويرمى على الرفوف . مما كان يدفع بالوزير في مثل هذه الحالة إلى تأجيل العرض ـ بالطبع إن لم يكن مثل هذا الفيلم مطلوباً للمشاهدة دون غيره من قبل ستالين ـ لتنتقل الأفلام بين مكتب لجنة السينما والكرملين عدة أسابيع في بعض الأحيان حتى يصبح مزاج القائد مناسباً لعرضها . وكبديل عنها كان بولشاكوف يعرض أفلاماً أجنبية له ، خاصة وأن عددها أصبح كبيراً بعد الحرب عندما جلب الجيش الأحمر من ألمانيا أكثر من ألفي فيلم أجنبي ، أو يعرض له أحد أفلامه المحببة التي لم يكن يمل مشاهدتها مثل «فولغا فولغا» و«تشابايف» و«أضواء المدينة» و«لينين في أكتوبر» و«الفالس الكبير» .
اتجاهات فنية حسب الطلب في نهاية العشرينات حدث انعطاف جوهري في السينما السوفيتية . إذ انعقد في عام 1928 الاجتماع الحزبي لعموم الاتحاد السوفيتي ليناقش لأول مرة قضايا السينما وآفاق تطورها . كان أبرز ما خرج به هذا الاجتماع قراراً ـ مناقضاً تماماً للتوجه الاشتراكي الذي يفترض أنه يدافع عنه ـ ينص على تشجيع ودفع السينما التجارية إلى الأمام . وقد جاء في مجلة «رابوتشي إ تياتر» حينذاك : «الاجتماع استنكر وضع الإيديولوجيا في مواجهة ما هو تجاري ، مقراً بعدم انفصالهما ، وضرورة تواجد هذه وتلك من أجل التطور الناجح للسينما السوفيتية» .
ويرى النقاد أن هذا القرار شكل تحولاً جذرياً في السينما السوفيتية ، وانقطاعاً عن تقاليدها التجريبية والفكرية التي رسختها في العشرينات ، وتمهيداً لاتجاه جديد ما لبث أن عبر عن نفسه بعد عام واحد من هذا الاجتماع ، عندما ظهر فيلمان يعكسان التناقض القائم ، والصراع بين الاتجاهين . الأول فيلم المخرجين ليونيد تراوبرغ وكوزينتسوف «بابل الجديدة» ، الذي تم إخراجه تحت التأثير الواضح لمقالة آيزنشتاين «البعد الرابع في السينما» ، حيث تابع المخرجان تقاليد السينما السوفيتية الثورية ، ليس من ناحية مضامينها فحسب ، بل وقبل كل شيء بأساليبها ووسائلها التعبيرية الجديدة ، التي شكلت فتوحات سينمائية ـ فنية حقيقية للعالم بأكمله ، لتأخذ بالتراجع في هذه المرحلة ، وهو ما يفسر الحملة الواسعة من النقد والاستنكار التي وجهت للفيلم . أما على الجهة المقابلة فقد بدا الوضوح والطابع القصصي للسرد والمضمون البوليسي وبساطة الشخصيات أهم ما تميز به فيلم المخرج سفيتوزاروف «تانكا ـ صاحبة الحانة» .
من المؤكد أنه لا يمكن النظر إلى تحولات هذه المرحلة بصورة منفصلة عن الإفرازات الإيديولوجية لثورة أكتوبر ، التي وضعت منذ البداية نصب عينيها خلق «إنسان جديد» منسجم في وعيه وسلوكياته مع المجتمع الاشتراكي ومنظومته الأخلاقية الجديدة . هذا التوجه وإن وجد انعكاساته في سينما العشرينات ، غير أنه بدأ ينحى مع نهاية هذا العقد نحو تفكيك الولاءات الأسرية التقليدية لصالح الولاء إلى المجتمع ، ومن ثم الدولة ، فالحزب وأخيراً إلى قائده ستالين .
فقد أصبح مألوفاً في أفلام الثلاثينات التضحية بالعشيق كما في فيلم «الوحيدة» 1931 للمخرجين كوزينتسوف وتراوبرغ و«البطاقة الحزبية» 1936 لإيفان بيريف ، أو بالزوجة في «لقاءان» 1932 لياكوف أورينوف ، أو بالزوج في «الفلاحون» 1934 لفريدرخ إرملير، ، أو بالابن في «الوطن» 1939 لنيقولاي شينغيلايا . ولم يعد أمراً مستهجناً أن يقوم الشخص بالتخلي عن روابطه التقليدية ، والتضحية بها في سبيل الروابط الجديدة ، طالما أن أي شخص قد يكون مصدر خطر على العائلة السوفيتية . ويظهر فيلم دزيغا فيرتوف التسجيلي « أغنية مهد» 1936 (وهو أحد الأفلام التسجيلية القليلة عن ستالين) كنموذج صارخ للمفهوم الجديد لهذه العائلة .
الفيلم عن مشاركة ستالين في المؤتمر النسائي لعموم الاتحاد السوفيتي ، والطريف أنه الرجل الوحيد فيه (باستثناء لقطة متواضعة لفوراشيلوف في زاوية الكادر) ، أما من تبقى فجميعاً من النساء . اللواتي يظهرن وهن يمارسن مختلف أنواع النشاطات : الغناء ، الهبوط بالمظلات ، السير في المهرجانات الرياضية ، قيادة الجرارات . بالتدريج يضيق الفضاء الفيلمي ، وتظهر أم تقدم لابنتها كتاباَ وتوصيها أن تمضي إلى حيث يأخذها هذا الكتاب ، إلى المدينة حيث يعيش «أكثر الناس حكمة ، وأكثرهم عدالة» ، مشيرة لابنتها إلى الطريق ، فتظهر موسكو ، الكرملين ، قصر المؤتمرات وستالين على المنصة . فيبدو وكأنه الأب الأوحد وسط هذا الحشد من النساء . بعد ذلك تتكرر مشاهد ستالين والنساء من حوله ، وتتداخل مونتاجياً مع مشاهد الأطفال لتتبلور بالتدريج الصورة الرمزية لأبوية ستالين ، حتى تكاد تخلق وهماً بواقعيتها .
في نهاية الثلاثينات لم يعد من الصعب أن يتقبل المشاهدون الأفلام التي تتحدث عن الخيانة في صفوف الحزب ، والتي ترى الناقدة ناتاليا نوسينوفا أنها كانت «ضرورية بالنسبة للسلطات من أجل تهيئة الوعي الشعبي لتبرير عمليات التطهير والاضطهاد في صفوف الحزب» . في هذا السياق اكتسب فيلم «المواطن العظيم » لفريدريخ إرملير في جزئيه 1938 ـ 1939 أهمية خاصة بالنسبة لستالين ، إذ سلط الضوء على العقد الأخير من حياة القائد السياسي الشهير كيروف (أتخذ في الفيلم أسم شاخوف) ، عن صراعه مع القوى المعادية ، وصعوده في الحزب ، وأخيراً مقتله على يد أعداء الثورة . لكن كيروف القائد الشعبي والمنافس القوي لستالين لم يقتل على يد «أعداء الثورة» في واقع الأمر ، ومن المعروف أن المتهم الأول بقتله هو ستالين نفسه ، الذي بدأ في هذه الفترة عمليات واسعة من القمع والاضطهاد في البلاد .
بالتوازي مع هذا التيار في السينما السوفيتية ، وكنتيجة لقرارات الاجتماع الحزبي لقضايا السينما أنف الذكر ، ظهرت إلى الوجود موجة الأفلام الكوميدية والاستعراضية في هذه السنوات . فبعد عودة المخرج غريغوري الكسندروف من الخارج عام 1932 ، والذي كان يعمل حتى ذلك الحين كمخرج مساعد لآيزينشتاين ، سأله ستالين فيما لو كان يرغب في الاستجابة لمتطلبات الشعب الذي «يحب الفن الخفيف والمرح» حسب تعبيره . وفي خريف العام ذاته أقيم اجتماع حضره كتاب السيناريو والمخرجون السينمائيون ، أشار إليه الكسندروف في مذكراته كاتباً : «قيل لنا أن المشاهدين يطالبون في رسائلهم بالكوميديات الناطقة ، الغائبة تقريباً عن شاشاتنا . جرى الحديث عن الأفلام الموسيقية التي يجب أن تزيح الكوميديات الترفيهية القديمة وتحل مكان كوميديا الفارس فارغة المضمون … كان ذلك طلب اجتماعي جديد».
بناء على ذلك الطلب ظهرت عام 1934 أول كوميديا موسيقية «هارمونيكا» بتوقيع المخرج إيغور سافتشينكو ، وأول أفلام المخرج الكسندروف «فتيان مرحون» ، الذي ما أن شاهده ستالين حتى أعجب به على الفور قائلاً «أشعر وكأنني قضيت شهراً في إجازة» . ويعد المخرجان غريغوري الكسندروف وإيفان بيريف أعظم ممثلين لهذا التيار رغم تباين أسلوبيهما . إذ بدا واضحاً تأثر أفلام الكسندروف :«السيرك» 1936 ، «فولغا فولغا» 1938 ، «الطريق المشرق» 1940 برحلته إلى هوليوود ، وتشابه بنيتها الفنية إلى حد كبير بأفلام الميوزكال الأمريكية ، بل وتمثل بطلتها الممثلة الشهيرة لوبوف أرلوفا (زوجة المخرج) النموذج الكلاسيكي لنجمات هوليوود . بالمقابل اعتمدت أفلام بيريف :«العروس الغنية» 1938 ، «سائقو الجرارات» 1939 ، «مربية الخنازير والراعي» 1941 الموضوعات الفلكلورية ، التي كانت تنتهي دوماً بزواج البطل والبطلة ، بعد أن يكتسبا إعجاب بعضهما البعض عن طريق تفان كل منهما في العمل .
إن السعي إلى الجمهور العريض ، والتوجه نحو البساطة والوضوح في الطرح ـ الذي أكد عليه المخرج سيرغي فاسيليف (بالإضافة إلى آخرين) في اجتماع للسينمائيين عام 1935 قائلاً : «أنا أعتقد أنه إذا كنا نتكلم بلغة غير مفهومة لنا نحن أنفسنا ، فنحن لا نملك الحق في التكلم بذات اللغة مع الجمهور . لهذا السبب تبدو قضية البساطة إحدى القضايا الأساسية» ـ أدى إلى ازدهار الميلودراما وتغلغل عناصرها في شتى الأجناس الفيلمية في هذه المرحلة ، بما فيها الأفلام التاريخية ـ الثورية ، أو أفلام السيرة الذاتية عن أبطال الحرب الأهلية أمثال تشابايف و شورس وسفيردلوف وبارخومينكو الذين لم يعد لهم وجود بطبيعة الحال . وتشير الناقدة السينمائية نينا ديمشيتس إلى أنه «استخدمت حينذاك جوانبها الوعظية على وجه الخصوص ـ الوضوح والاستنتاجات ذات المعنى الواحد … انتصار الخير وإذلال الشر » . هذا الشر الذين كان يجسده كقاعدة عامة في الأفلام أعداء الثورة والوطن ، والذين يمكن أن يظهروا في أحيان كثيرة «كأعداء» ، لمجرد أن ستالين يراهم بهذه الصورة ، كما ظهر بوخارين ـ أحد منظري وقادة الثورة ـ والذي أعدم عام 1938 في فيلم ميخائيل روم «لينين في عام 1918» كشخص ضالع في محاولة اغتيال لينين .
غير أن الميلودراما تجلت بالشكل الأمثل في تلك الموجة من الأفلام الغنائية الكوميدية التي أخرج أهمها الكسندروف وبيريف بحرفية تقنية وجمالية عالية ، واستطاعت الوصول بسهولة إلى قلوب ملايين المشاهدين . لتعبر بدقة عن شعار المرحلة الذي أطلقه ستالين :«الحياة أصبحت أفضل ، الحياة أصبحت أكثر مرحاً» ، إذ بدت الحياة فيها كما أراد الناس لها أن تكون وليست كما هي في واقع الحال ، ولا يمكن اختزال دورها في الجانب الدعائي ولا التوقف عند مغزاها الإيديولوجي فحسب ، إذ أن أفلام هذا التيار استطاعت حقاً أن تجعل حياة الشعب السوفيتي ـ الذي لم يقل عشقه للسينما عن ستالين ـ أسهل وأجمل بمنحه الأمل والإحساس بالحرية ، فقد استطاعت هذه السينما أن تخلق لهم عالماً متكاملاً من الأوهام ، مختلفاً عن الواقع وموازياً له ، ولا أحد يستطيع أن يجزم كم من الزمن عاش "السوفييت" في إطار ازدواجية السينما ـ الواقع ، ومتى خرجوا منها .
تغيير الأفلام
بالطبع عرف تاريخ السينما عدداً غير قليل من التنازلات التي كان يضطر السينمائيون إلى تقديمها تحت ضغط الرقابة ، والقيام بالعديد من التغيرات في أفلامهم كي تنفذ إلى صالات العرض ، بما في ذلك السينما الأمريكية نفسها ، التي رزحت لأكثر من ثلاثة عقود تحت نظام هايز الرقابي ، ودخل في موسوعاتها السينمائية مصطلح «عشرة هوليوود» ، الذين كانوا أول من أوقفوا أثناء حملة ماكارثي الموجهة ضد السينمائيين الشيوعيين واليساريين . ولكن أن تتعرض أفلام لا تخرج في طرحها عن السياق الفكري والإيديولوجي للدولة إلى التغيير ، وفقاً لرؤية قائد هذه الدولة بالذات ، فهذا أمر لم يتكرر كثيراً في تاريخ السينما ، وكان أحد أعلامه بامتياز يوسف ستالين وضحيته السينما السوفيتية .
ومن الجدير بالذكر أن هذه التغييرات لم تكن تحدث في السيناريوهات ، وخلال المراحل التحضيرية للأفلام فحسب ، بل كثيراً ما كانت تتم حتى بعد الانتهاء من تصوير الفيلم وإنجازه بالكامل ، كما هو الحال مع فيلم «الحرس الفتي» للمخرج سيرغي غيراسيموف ، الذي ما أن انتهى منه محتفلاً مع أصدقائه بهذه المناسبة ، حتى استدعاه ستالين في اليوم الثاني بعد مشاهدته له ، ليدلي بملاحظاته «القيمة» حوله ، الأمر الذي انعكس لاحقاً في مقالة لا تهاجم الفيلم فحسب ، بل والرواية المقتبس عنها كذلك ، والتي نال عنها الكاتب ألكسندر فادييف جائزة ستالين !!
ويمكن القول أنه في كثير من الأحيان كانت المقالات النقدية السينمائية ، التي تنشر في صحيفة البرافدا الناطقة الرسمية بلسان حال اللجنة المركزية للحزب ، تعكس بهذا القدر أو ذاك مزاج ستالين وانطباعاته عن الفيلم الذي تتعرض له . وهكذا قام غيراسيموف بناء على «الملاحظات النقدية» لستالين بإعادة كتابة السيناريو ، وخلال ستة أشهر كاملة قام فريق العمل بإعادة التصوير والمونتاج ليعرض الفيلم أخيراً على الجمهور .
مثال أخر . في عام 1937 أخرج ميخائيل روم فيلمه «لينين في أكتوبر» بمناسبة مرور عشرين عاماً على ثورة أكتوبر ، وعرض لأول مرة على مسرح البولشوي بحضور ستالين وأعضاء المكتب السياسي الذين أبدوا إعجابهم الكبير فيه على الرغم من الظروف التقنية السيئة جداً التي عرض فيها ، والتي تحدث عنها روم مطولاً في كتابه «قصص شفهية» ، إذ أنهم ستالين وأعضاء المكتب السياسي كانوا قد شاهدوه كالعادة مسبقاً في صالة الكرملين . في اليوم الثاني بدأ العرض الجماهيري للفيلم في صالات البلاد ، لكن ما أن عاد روم إلى منزله بعد انتهاء المسيرة المخصصة ليوم الثورة ، واستلقى نائماً بضع ساعات حتى أيقظته زوجته ، بطلب من مدير الإدارة المركزية للسينما بوريس شومياتسكي (أعدم عام 1938 ) الذي أرسل سيارة لإحضاره على وجه السرعة . هناك ـ يروي روم في كتابه المذكور ـ تقدم شومياتسكي منه قائلاً «لقد شاهد اليوم يوسف فيساريونوفيتش الفيلم مرة أخرى بعد المسيرة ، وطلب أن أنقل إليك ، أنه دون اعتقال الحكومة المؤقتة واقتحام القصر الشتوي لن يكون واضحاً سقوط الحكومة البرجوازية في روسيا ، يجب تصوير اقتحام القصر الشتوي واعتقال الحكومة المؤقتة » . فتعجب روم متسائلاً كيف ومتى ، فالفيلم أصبح على شاشات العرض . فأجابه شومياتسكي «الفيلم لم يعد على الشاشات ، أبرقنا لهم وتمت إزالته من جميع الصالات منذ ساعة » … «ولكنها فضيحة» استنكر روم ، عندها طمأنه شومياتسكي قائلاً: «لا توجد أية فضيحة . سوف ينشر بلاغ خاص عن تاس (وكالة الأنباء) في الصحف ـ إنه الآن قيد التحضير ـ عن إنتاج فيلم لامع بسيناريو رائع وإخراج رائع وأداء تمثيلي رائع ، ولكن عليه أن يكون أفضل بعد ... يجب تصوير القصر الشتوي . وأنت ستقوم بتصويره … » .
وهكذا بناء على رغبة ستالين الشخصية تم من جديد جمع طاقم الممثلين والفنيين بأكمله ، بالإضافة إلى الحشود البشرية الكبيرة اللازمة من الكومبارس ، والعمل من جديد على الفيلم .
أفلام لا تجد طريقها إلى الشاشة
في عام 1996 ظهر في روسيا كتاب بعنوان «السينما المصادرة (1924 ـ 1953) » ، وقبله بثلاثة أعوام كتاب أخر بعنوان «الأفلام الممنوعة» ، والاثنان يبحثان بصورة خاصة في مصائر الأفلام التي أنتجت خلال حقبة ستالين . الأمر الذي يشير إلى العدد الكبير من الأفلام التي تضررت وانزوت طويلاً على رفوف الرقابة ولم تجد طريقها إلى شاشات السينما ، وإن حالف الحظ بعضها وبقيت لتعرض في أزمنة أخرى ، فقد جانب الحظ بعضها الآخر ، ولم يعد لها وجود على الإطلاق . رغم ذلك فثمة سؤال كبير يطرح نفسه في هذا السياق : ما الذي تجرأت ونطقت به هذه الأفلام كي تمنع أو تتلف بالكامل ، في زمن كانت تكفي مجرد الشبهة في عدم الولاء للدولة ـ علماً أن هذه الشبهة قد تنشأ عن اختلاف في الرؤية ، أو للوقوع في أسر النازيين ، أو بسبب تقرير صغير ـ كي يقبع الشخص سنوات في المعتقل ، أو يرمى بالرصاص .
وتبدو الإجابة الكاملة والشافية عن هذا السؤال صعبة ومعقدة للغاية ، إذ لم يستطع الباحثون والمؤرخون السينمائيون الروس حتى اليوم معرفة الأسباب المعلنة التي أدت إلى منع الكثير من الأفلام لعدم توفر أية وثائق أو تقارير تشير إليها . في مثل هذه الحالة كل ما يستطيعه المرء هو مجرد التكهن بالأسباب ، كما هو الحال مع فيلم «قانون الحياة» 1940 للمخرج الكسندر ستولبر ، الذي سحب من صالات السينما بعد عشرة أيام من بدء عرضه إثر مقالة نشرت في صحيفة البرافدا بعنوان «الفيلم المزيف» . ويعتقد سبب المنع في أن ستالين وجد في بطل الفيلم إشارة واضحة إلى الأمين العام للجنة المركزية للكومسمول (اتحاد الشباب) الكسندر كوساريف الذي أعدمه عام 1939 . أما الجزء الثاني من فيلم المخرج لوكوف «الحياة الكبيرة» 1946 فيرى البعض أنه تم منعه لواقعيته الصارمة ، والاهتمام الكبير الذي أظهره الفيلم بالجانب الفردي في الشخصيات !!
عدا عن ذلك لا أحد يستطيع الجزم في أن الأسباب الحقيقية للمنع هي ذاتها المدونة في الوثائق المتوفرة . لكن عموماً لم تكن هذه الأفلام متناقضة في توجهاتها عن سياسة الدولة العامة وإيديولوجيتها ، وكل ما في الأمر أنها لم تستجب بصورة شبه حرفية لمتطلباتها وحلولها المفترضة للموضوعات المعالجة ، وذلك غالباً ما كان يحدث دون قصد ، وإنما لعدم قدرة السينمائيين دائماً على التكهن أو المعرفة الدقيقة بهذه المتطلبات والحلول . دون أن يعني ذلك أنه لم تكن ثمة أفلام قدمت رؤية مختلفة في طرح موضوعات تقليدية ، كما في فيلم المغامرات للمخرج نيقولاي شبيكوفسكي «وجه مألوف» 1929 ، الذي تجري أحداثه في زمن الحرب الأهلية ، وكان من بين الأسباب التي أدت إلى منعه من العرض هو أن «الحرب الأهلية تعالج في الفيلم من خلال جوانبها الكريهة والمظلمة : السرقة ، القذارة ، بلاهة الجيش الأحمر والسلطة السوفيتية المحلية… ) بحسب ما جاء في كتاب لجنة التفتيش . رغم أن هذا الطرح قد يكون مرتبطاً بالجنس الفيلمي للفيلم ـ حيث تخلق الحرب الأهلية بكل إفرازاتها بيئة مناسبة لأفلام المغامرات ـ وتركيبة البطل كإنسان ساذج ينظر إلى الأحداث من خلال رؤيته البسيطة والمحدودة ، أكثر من ارتباطه بغايات ذات صبغة سياسية .
لقد وصلت حملات المنع إلى ذروتها في أيلول عام 1940 مع موجة الاستنكار التي أثارها فيلم «قانون الحياة» ، إذ أغلق العمل بمجموعة كبيرة من الأفلام في جميع استوديوهات البلاد . ليعلن بعد نصف عام أندريه ألكسندروفيتش جدانوف أمين سر اللجنة المركزية لشؤون الإيديولوجيا عن رغبته في الاجتماع بالسينمائيين قائلاً :«نحن هنا نتعذب لأجل كل فيلم ، نتألم ، نناقش كل فيلم ، لكن كيف يصحح ما لا يمكن تصحيحه … المخرجون منقطعون تماماً عن حياتنا وعن الشعب … أنا أرى أنه يجب دعوة السينمائيين إلى اللجنة المركزية … علينا أن نستوضح كيف تلقن التربية السياسية في أوساطهم ؟ من يقوم هناك بتربيتهم ؟ من يوجههم ؟» .
هذه الكلمات التي من الصعب تقبلها اليوم ألا كطرفة سمجة ، لا أحد يعلم كيف كانت ستؤثر على التطور اللاحق للسينما السوفيتية لولا الحرب . ولكنها بالتأكيد تعطينا فكرة جيدة عن المناخ السياسي العام الذي ترتب على السينمائيين العيش والإبداع فيه .
لم يكن المنع يستثني أحداً مهما بلغت مكانته الفنية ، وعدد من أبرز المخرجين السوفييت والمعروفين في العالم أجمع تعرضت أفلامهم للمنع ، نذكر منها : «أناس بسطاء» 1945 للثنائي الشهير كوزينتسوف وتراوبرغ ، «الأنصار الصغار» 1942 للمخرج إيغور سافتشينكو ، «الدفاع عن تساريتسينا ج2» 1942 للأخوة فاسيليف ، «وطني» 1933 و «أضواء باكو» 1950 للمخرجان ألكسندر زارخي ويوسف خيفيتس ، «القتلة يخرجون إلى الطريق» 1942 لفيسفولد بودوفكين ، «الأنوار فوق روسيا» 1950 لسيرغي يوتكيفيتش .
حتى المخرج الكبير سيرغي آيزينشتاين لم ينج من الرقيب الأكبر . يكتب الموسيقار الشهير شوستاكوفيتش في مذكراته :«قرار ستالين كان قانوناً ، إذا أعطى أمراً بتصوير فيلم صوروا الفيلم ، إذا أمر بتوقيف التصوير أوقفوه … ، وإذا أمر بإتلاف فيلم صنع للتو أتلفوه … وهكذا بأمر من ستالين تم إتلاف فيلم آيزينشتاين «مرج بيجين» 1937 » . ولم يبق من هذا الفيلم اليوم سوى كادرات مقتطعة من مشاهده ، احتفظ بها حينذاك المونتير توباك بطلب من المخرج نفسه ، ليتم جمعها في عام 1968 وتحويلها إلى فوتو فيلم .
أما فيلمه ذاع الصيت «إيفان الرهيب» 1944 الذي حاز جزؤه الأول على جائزة ستالين من الدرجة الأولى عام 1946 ، فقد تم رفض جزئه الثاني في أب من العام نفسه ، ولم يعرض إلا في عام 1958 . بالطبع المفارقة تبدو كبيرة ، فما الذي أعجب ستالين به في الجزء الأول لدرجة منحه جائزته ، وأزعجه في الجزء الثاني لدرجة منعه من العرض .
حتى اليوم يرى البعض أن الجزء الأول كان نوعاً من التملق الرخيص لستالين ، وتبريراً صريحاً للجرائم التي تم ارتكابها من قبله : فكما قام إيفان الرابع بقطع رقاب الإقطاعيين الكبار بحجة الدفاع عن روسيا العظيمة ، كذلك قام ستالين بتصفية «أعداء الوطن» دفاعاً عن الثورة والدولة الاشتراكية . لكن نقاداً آخرين ينظرون إلى الأمر من زاوية مخالفة . فالفيلم قسم إلى ثلاثة أجزاء لأسباب تقنية بحتة مرتبطة بحجم السيناريو والزمن الفيلمي الطويل اللازم لإنجازه . وقد قام آيزنشتاين أثناء تحضيره للسيناريو بدراسات تاريخية معمقة عن العديد من الطغاة في العالم لفهم شخصية إيفان الرهيب ، وغاية هذا الفيلم كما يرى هؤلاء النقاد تشريح شخصية الطاغية ، والآلية التي تقوم من خلالها تدريجياً ـ حتى في أفضل نماذجها الإيجابية ـ بتدمير ذاتها والبلاد التي تحكمها معها ، مما شكل في نهاية المطاف إدانة واضحة لنظام ستالين نفسه . الأمر الذي لم يكن من الصعب على الأخير إدراكه ، ومنعه للجزء الثاني من الفيلم إلى أن يقوم آيزنشتاين بالتعديلات اللازمة التي أوجزها ستالين في لقائه معه قائلاً : «إيفان الرهيب كان شخصاً قاسياً جداً . لا بأس في إظهار أنه كان قاسياً ، ولكن يجب عرض الأسباب التي اقتضته لأن يكون قاسياً» . لقد كان ستالين من خلال تبريره لجرائم إيفان الرهيب ، يريد في الوقت ذاته إيجاد مبرر لجرائمه هو . لكن آيزينشتاين مات دون أن ينفذ توصيات ستالين ، ومات ستالين من بعده بخمسة أعوام ، وبقي «إيفان الرهيب» علامة بارزة في السينما السوفيتية والعالمية .
ستالين في السينما :
تعد شخصية ستالين إحدى الشخصيات التاريخية الأكثر حضوراً في السينما على مستوى العالم . ووفقاً لإحدى الإحصائيات يحتل ستالين المرتبة الخامسة بين الشخصيات التاريخية من حيث الحضور في الأفلام بـ 38 فيلماً بعد نابليون (194) والمسيح (147) ولينين (86) وهتلر (74) .
ومعظم هذه الأفلام صورت خلال حياته في الفترة الممتدة من عام 1937 حتى عام 1953 . علماً أن عدداً لا بأس به من هذه الأفلام صنعها كبار المخرجين السوفييت في تلك المرحلة ، نذكر منها «لينين في أكتوبر» 1937 و «لينين عام 1918» 1938 لميخائيل روم ، و«الرجل ذو بندقية» 1938 و«ياكوف سفيردلوف» 1940 لسيرغي يوتكيفيتش ، «ناحية فيبورغ» 1938 لكوزينتسيف وتراوبرغ ، «السيبيريون» 1940 لليف كوليشوف ، «فاليري تشكالوف» 1941 لميخائيل كالاتوزوف ، «يدعى سوخا ـ باتور» 1942 لزارخي وخيفيتس ، «الدفاع عن تساريتسينا ج1» 1942 للأخوة فاسيليف ، «الضربة الثالثة» 1948 لإيغور سافتشينكو ، «معركة ستالينغراد» 1949 لفلاديمير بيتروف .
ومن الجدير بالذكر أن معظم هؤلاء المخرجين قاموا بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عام 1956 ، بقص الكثير من المشاهد التي احتوت شخصية ستالين في أفلامهم ، وخاصة تلك المتزلفة بطريقة مبتذلة . مما أساء في بعض الأحيان إلى مونتاج الفيلم ، وأضاع الكثير من الكادرات الهامة من وجهة نظر الأرشيف . بل إن بعضهم فعل ذلك قبل المؤتمر بسنوات . إذ روى المخرج غينريخ غاباي للمشاركين في سيمبوزيوم «السينما الستالينية» الذي أقيم في مدينة تولوز الفرنسية قبل ثلاثة أعوام ، كيف دخل ذات أمسية من عام 1953 إلى غرفة المخرج روم في المعهد ، بعد أن لاحظها مضاءة في ساعة متأخرة ، فشاهده منهمكاً بالعمل فوق شريط سينمائي ، فسأله : «ميخائيل إيليتش ما الذي تفعله … ؟» فأجابه روم على الفور : «ما الذي أفعله ؟ إنني أقص ستالين » .
ويعد المخرج المعروف ميخائيل تشياوريلي ـ صاحب الفيلم الناطق الأول في السينما الجورجية ـ أبرز من مجد شخصية ستالين في الأفلام الأربعة التي صنعها عنه ، وبمراقبة مباشرة منه . فمن عام 1938 وحتى عام 1951 أخرج تشياوريلي فيلماً واحداً من غير ستالين ، وحاز خلال اثني عشرة سنة على خمس جوائز ستالين من الدرجة الأولى ، ثلاثة منها لأفلامه «الستالينية» وهي «الشعلة العظيمة» 1941 ، «القسم» 1947 ، «سقوط برلين» 1950 . ويرى بعض النقاد أنه مع فيلمه «الشعلة العظيمة» بدأت تتغير صورة لينين في السينما تماماً ، إذ أخذ يظهر كشخص عاجز عن الفعل من دون ستالين ـ ذراعه الأيمن ومستشاره ، المدافع عنه وحاميه الأول ، ليحتل بالتدريج مكانه نهائياً . ومن الجدير بالذكر أن الناقد الفرنسي أندريه بازان توقف في مقالة شهيرة له بعنوان «أسطورة ستالين في السينما السوفيتية» عند تلك الصورة الميثيالوجية لستالين التي رسمها تشياورلي في أفلامه . أول ممثل أدى دور ستالين في السينما السوفيتية والعالمية كان ممثلاً مسرحياً يدعى سيميون غولدشتاب في فيلم «لينين في أكتوبر» . ولم يكن غولدشتاب نجماً معروفاً ، ولم يصبح كذلك بعد أدائه هذا الدور . وتشير الناقدة ماريا كوستيوكوفيتش إلى أنه في مرحلة لاحقة أخذوا يتجنبون ذكر اسمه في المقالات ، وتم حذفه من الوثائق السينمائية . وحتى اليوم لن نجد اسماً وتعريفاً بهذا الممثل في معظم الموسوعات العامة والسينمائية ، بل وحتى في أرشيف الدولة السينمائي . وفي الموسوعتين اللتين ظهر اسمه فيهما (دون أي تعريف) ظهرت أربعة أفلام له لا غير ، إذ أدى غولدشتاب دور ستالين بعد ذلك في فيلم المخرج يفيم دزيغان «فرقة الخيالة الأولى» 1941 وفيلم المخرج ليونيد لوكوف «ألكسندر بارخومينكو» 1942 . وإذا كان من الواضح أن المشاهدين اليوم لن يروا هذا الممثل في فيلم «لينين في أكتوبر» بعد أن حذف روم مشاهد ستالين منه ، فلم يكن مصير الفيلمين الآخرين اللذين ظهر فيهما غولدشتاب بأفضل . ففيلم «فرقة الخيالة الأولى» لم يتم إنجازه ، وآخر فيلم ظهر فيه غولدشتاب بحسب الموسوعتين السينمائيتين «المفقود» 1943 للمخرج فلاديمير براون منع من العرض … أما الممثل الذي ارتبط اسمه بأداء شخصية ستالين بصورة وثيقة فهو ميخائيل غيلوفاني (1893 ـ 1956) ، الذي كان أحد أشهر ممثلي مسرح روستافيلي في مدينة تبيليسي ، ولعب حتى عام 1938 عشرات الأدوار في السينما الجورجية ، وأخرج عدة أفلام لها . لكن مسيرته الفنية تغيرت تماماً بعد أن وجد المخرج تشياوريلي ملامح من الشبه بينه وبين ستالين ، داعياً إياه لتأدية شخصيته في فيلم «الشعلة العظيمة» . ومنذ ذلك الحين جسد غيلوفاني شخصية ستالين في اثني عشر فيلماً ، هي الأبرز من بين الأفلام التي ظهرت فيها ، كان أخرها فيلم المخرج ميخائيل كالاتوزوف «الأعاصير المعادية» عام 1953 والذي انتهت معه حياة غيلوفاني في السينما ، بعد أن حصد جائزة ستالين أربع مرات لأدائه دوره . أحد أخر وأبرز من أدى دور ستالين في تلك المرحلة كان المخرج والممثل المسرحي الكبير ألكسي ديكي (1989 ـ 1955) ، إذ أنه بعد النجاح الكبير الذي حققه في أدائه لدور القائد التاريخي كوتوزوف في فيلم بذات العنوان عام 1943 ، ودور ناخيموف قائد الأسطول البحري الروسي في حرب القرم في فيلم «الأدميرال ناخيموف» 1946 ، تقرر أن يؤدي دور ستالين على الرغم من عدم وجود أي أوجه للشبه بينهما ، وعلماً انه كان قد قضى أربع سنوات في المعتقل (1937 ـ 1941) ، ليلعب دور ستالين في فيلمين فازا بجائزة ستالين لسنتين متتاليتين هما «الضربة الثالثة» و«معركة ستالينغراد» ، دون أن يؤدي بعد ذلك أي دور في السينما حتى نهاية حياته . رغم هذا الظهور اللافت لستالين في السينما التمثيلية ، غير أنه بالمقابل لم توجد سوى قلة من الأفلام التسجيلية التي صورت عنه . وقد طرح النقاد عدة فرضيات في سجالهم حول السبب وراء عدم رغبة ستالين في الظهور أمام الكاميرا التسجيلية ، رغم أنها جميعاً تصل بهذا الشكل أو ذاك إلى ذات النتيجة . فترى الباحثة السينمائية مايا توروفسكا أن ستالين لم يكن بحاجة إلى هذه السينما بهدف الدعاية ، على النقيض من هتلر الذي لم يكن يفوت فرصة للظهور أمام الكاميرا ، فهذه الدعاية حسب رأيها ضرورية بالنسبة لديكتاتور يريد الوصول إلى السلطة في مجتمع ديمقراطي ، بعكس ما هو واقع الحال في الاتحاد السوفيتي ، حيث الديكتاتور يفرض على الشعب ولا حاجة به للدعاية . وتحمل وجهة النظر هذه الكثير من الصواب حقاً ، فالديكتاتور في مثل هذه المجتمعات بحاجة إلى العبادة أكثر من حاجته إلى الدعاية ، الأمر الذي كانت تضمنه الصورة المثالية التي تقدمها السينما التمثيلية عنه . وهو ما تؤكده الناقدة ماريا كوستوكيفيتش في سياق توضيحها للأسباب التي دفعت ستالين للابتعاد عن السينما التسجيلية إذ تشير إلى أن «التقارب غير المتكلف من الشعب البسيط كان سينزع عنه هالة المجد والصورة السامية التي تكاد تقترب من التأليه» . البعض الآخر لا ينفي حاجة ستالين إلى الدعاية ، وانطلاقاً من ذلك يرجع الأسباب إلى خشيته في أن تلعب صورته الحقيقة على الشاشة (مظهره ، لكنته الجورجية …) دوراً سلبياً في الدعاية له ، وخاصة أنه ـ كما يؤكد آخرون ـ لم يعجب على الإطلاق بصورته في الأفلام التسجيلية القليلة التي ظهر فيها . رغم النجاحات التي حققتها بعض الأفلام في زمن ستالين ، لكن هذه المرحلة شكلت بكل تأكيد انتكاسة كبيرة للسينما السوفيتية التي استطاعت سابقاً أن تترك بصمتها المؤثرة على مجمل تاريخ السينما ، وقدمت في العشرينات تحفاً فنية تعد من كنوز السينما العالمية حتى اليوم . وإن خضعت الأفلام في زمن ستالين إلى التغيير والمنع والإتلاف ، لكن المأساة لم تتوقف عند هذا الحد ، إذ أنها امتدت لتطال السينمائيين أنفسهم ، ليجلس بعضهم سنوات في المعتقلات ، وليطلق الرصاص على بعضهم الآخر . نعم ثمة أفلام صمدت في وجه هذا الزمن ، وظهرت أفلام فيما بعد تتحدث عن هذا الزمن ، لكن من يستطيع أن يعيد كل تلك السنوات الضائعة من حياة سينمائيين لم يعد لهم وجود ، فمن يعيد أفكارهم وأحلامهم وطموحاتهم ومشاريعهم التي لم ولن تتحقق ، من يستطيع أن يحدس بما كانوا قادرين على تقديمه للفن السينمائي ، وأية أفلام كانوا سيبدعون . نعم إن الزمن في سيرورته الدائمة ، يرمي في كل مرة بالطغاة إلى مزبلة التاريخ ، لكن الغريب أن الطغاة لا يتعلمون الدرس أبداً ، معتقدين أنهم يستطيعون إخضاع الفن لجبروتهم ، وقد ينجحون في إخضاعه لبرهة ما ، لكن الزمن لا يأبه بهم ، فهو يعلم أنه باق وهم زائلون ، وإن لم يكن قادراً على الوقوف دوماً إلى جانب الفن في محنه ، فهو ذكر وسيذكر دوماً أن جميع المحن عابرة ، ولا يمكن أن تبقى إلى ما لا نهاية ، ليخرج الفن في كل مرة منتصراً على القيود والرقابات والتابوهات والمعتقلات ، مؤكداً أن طريق الحرية والإبداع لا يمكن أن يوقفه أحد إلا ما شاء ، لكنه يذكرنا في كل مرة ، أنه على هذا الطريق احترقت أرواح ولوحات وأحلام وقصص وأفلام ، يذكرنا بما يجب ألا ننساه للحظة ، لأنه في تلك اللحظة التي سننسى بها ذلك ، سيفقد الفن أعظم معانيه .
#نوار_جلاحج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|