أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة المانع - الخال















المزيد.....

الخال


سميرة المانع

الحوار المتمدن-العدد: 3884 - 2012 / 10 / 18 - 23:16
المحور: الادب والفن
    


الخال

أحكمتْ اغلاق السيارة وهي تغادرها. هرعتْ للباب داخلة الدار . انواع الاكياس النايلونية في الممر توحي بأنه متسوقٌ من مخازن شتى وبكمياتٍ ضخمة. سمعته يناديها:
_ عفاف ؟!
_ نعم خالي .
_ تأخرتِ بنتي .
_ هذا هو الدوام في بريطانيا ، خالي ، من التاسعة صباحا حتى الخامسة مساءً ، بالضبط .
_ تصورتِك تأتين في الثانية ظهراً ، مثل دوامنا بالعراق ، قلقتُ عليكِ.
اقتربت عفاف من الغرفة ،التي كان خالها منسرحاً فيها على اريكة، مبتسمة باستغراب. اسرعتْ يداها ، دون وعي ، باحتضان خصرها :
_ خالـي ، ما معنى هذا ؟! لـي عشرون سنة اعيش فيها وحدي بلندن ، والآن تأتي لبضعة ايام وتريد ان تقلق عليّ ؟! ما هذا الكلام خالـي ، الله يحفظك .
_ والله يا بنتي صحيح . انتِ محقة ، ولكن عقلي لا زال هناك . اعذريني ، انا اعرف انتِ سبعة ولا اقول ابنة سباع !
_ شـكرا ، طيب ، والآن احكي لي ، ماذا رأيتَ ، وماذا اشتريتَ ؟
_ رأيت عجايب وغرايب . مختصر مفيد ، الله يخلق والناس تبتلي . لكن وآسفاه على الشباب ، خالكِ اليوم غير خالكِ بالامس ، والاّ ما كنتُ عائدا للدار ، قسماً ، الا ّ في الساعة الرابعة فجرا .
ضحكتْ بصوتٍ عالٍ. كانتْ تعرفه قبل مجيئها الى لندن، ذا لهو وأنس ، لا يغفل عن ذكر شبابه ، متحديا شيخوخة ، لا يستطيع مقارعتها ،دبتْ اليه منذ مدة ، فعمره يتجاوز السبعين ، ناكراً ان يكون في الثمانين، يهمل هذا كله عندما يوجه اليه كلام في شؤون النساء ومقتضيات الزينة . كان يصبغ شعره اسود حالكاً كالليل منذ زمن طويل، يلبس قمصاناً حريرية جذابة ، ونادراً ما رأته ناسياً منديلًا ملوناً مطلاً من جيب سترته الصغير الاعلى كعرف ديك احمر .
دنتْ عفاف منه في الغرفة :
_ اعذريني بنتي ،رجلاي تعبتا من السير ، هذا شارع " اكسفورد" ما اطوله !
_ هل اكملتَ ما تريد شراءه .
_ نعم ولا ، اشتريتُ فساتين لخالتك لطيفة وبناتها . أوصينني ان اشتري كلَ شيء أراه امامي ، حتى بكرة الخيوط . السوق ، بسبب الحرب ، كما تعرفين ، نار وشرار،الاشياء ، اساساً، غير موجودة في معظم الاحيان .
_ اعرف . هل اشتريتَ لهنّ معاطف ؟
_ معاطف ؟ لا ، اشتري غدا .
_ وهذه الكومة من الاكياس ، أكُلها فساتين لهنّ ؟! اراها كثيرة .
_ بدلتان فيها لخالكِ. لا تنسي ، انا لي حق، ايضاً ، أليس كذلك ؟!
_ بديهي .¬
- من الآن فصاعداً اوظف طاقاتي كلها في الذي تريده خالتك لطيفة، عندي قائمة طويلة عريضة ، كتبتها هي وبناتها ، دائما : لاتنسى هذا ولا تنسى ذاك . عندما انتهي من رغباتهن ساشتري ، انا لها، شيئاً على ذوقي . هدية مناسبة . شيء خصوصي بيني وبينها.
ارادتْ عفاف ان تذهبَ للمطبخ فتلكأتْ ، ودّتْ ان تمازحه عابثة :
_ وهل لا زلتما على العهد ، علاقتكما كما كانت في السابق ؟
_ واكثر !
اصرّ متحديا . الخالة لطيفة ، زوجته، وقع في غرامها في الاربعينات ، اثناء ما كانا يدرسان معا في كلية الحقوق ببغداد. كانت، آنذاك، من النساء الرائدات الاوائل اللاتي دخلن كلية مختلطة الجنسين، رغم أنف مجتمع محافظ حرم نساءه من تعلم القراءة والكتابة وعَزَلَهنَّ عن الرجال عزلة مرضٍ معدٍ .
خلعتْ عفاف حذاءها وتهيأتْ كي تنظم منضدة طعام صغيرة في طرف الغرفة . جيئةً وذهاباً ، وكأنها ترقص باليه، أكملت صف الاواني واخرجت طعاماً من الثلاجة في المطبخ، ثم عادت الى الفرن . كلُ شيءٍ معدٌّ سلفاً، على مايبدو، حتى السلطة .
_ بنتي عفاف ، ارجو الاّ اكون ثقيلا ، انا تغديتُ بالخارج .
_ هيا بنا يا خالي ،انتَ ضيفي العزيز،وكلُ شيءٍ جاهز . تعالَ ، تفضل .
قامَ من استلقاءته بصعوبة . أنَّ بصوتٍ وجيع . ثم قرّب احد الكراسي منه كي يعاونه متوكئاً عليه ، مكملاً بقية وقوفه على الاقدام . سار الى الحمام قبل ان يعود فيجلس على كرسي بجوارها .
_ انتِ تذكرينني بامي . كانتْ وردة قبل ان يتزوج عليها ابي الظالم .
شعرتْ عفاف انه سيبدأ قصة . حمل تاريخه معه ضمناً،منذ ان وصل لندن . يرويه باستمرار، منذ مجيئه اليها قبل بضعة ايام . يزورها على اعتبار انه احد التجار المستوردين العراقيين القلائل ، الذين سمحتْ لهم الحكومة بالسفر ، رغم ظروف الحرب العراقية الايرانية وتقييد حرية السفر لبقية المواطنين . ُسمح له على اعتبار ان تجارته تستوجب الاتصال بالسوق الخارجي والوكلاء. بكل الاحوال، انه يعيش الآن في بحبوحة ببغداد . تكفل له عيشته بيتاً انيقاً وسيارة مرسيدس، معتبراً من الطبقة الثرية التي نمتْ باطراد في السنوات الاخيرة ، نتيجة اقتناص الفرص والحظ والصدفة ، مع دهاء اجتماعي وسياسي ، في مناطق لا يكون النجاح فيها، عادة ،محض جدًّ وكدًّ ّواخلاصٍ وذكاءِ .
_ عندك سيجارة عفاف ، انت لا تدخنين ،أليس كذلك ؟
_ عندي ، لكنها ممنوعة عليكَ، الطبيب قالَ ذلك. لقد أخبرتني .
_ الطبيب ! ومن قالَ ان الطبيب يفهم ؟! انه لا يفهم بقضايا الانسان . يفهم بالمعدة والحنجرة والقلب والكلية وهلمَ جرا .. اما الانسان فهذا موضوع آخر لا يفهم به . انا مشتاق وعندي لوعة ، عفاف ،سيجارة ، بنتي رجاءً .
اثار عطفها بحيلته وتوسله ، يا الهي ، ما زالتْ لدى هذا الشيخ قدرة على استمالة القلوب .
_ طيب ، خذْ واحدة فقط لا اكثر .
اخذها منتعشاً ، ثم قام من مقعده من امام المنضدة وفتح التلفزيون . كانت الأخبار على اشدها : " واصلَ الجانبان حرب المدن في الحرب العراقية / الايرانية ، فقد ذكرتْ طهران انها استخدمت حتى الان 95 صاروخا ضد المدن العراقية ، بينما قالَ الجانب العراقي انه اطلقَ 170 صاروخا حتى يومنا الحالي ، وانه سيستمر باطلاق الصواريخ على المدن الايرانية حتى يرضخ الجانب الايراني لدعوة السلام وبشروط القرار 598 الصادر من مجلس الامن …….."
_ يا ويلي عليكم ، اينَ المفر. ابنتي عفاف ، اغلقي التلفزيون، رجاءً ، اعصابي على شفا انهيار من لا حيلة عنده .
_ كيف ينام هؤلاء المساكين المدنيون ،عجبا.
_ عندما كنتُ هناك ، ننام بعد ان نقول الشهادة للخالق ، وفي ظني انهم ما زالوا يفعلون ذلك. نتهيأ لمواجهة ربنا ، وخالتك لطيفة المسكينة ،لا تهجع ابداً، سواء أكانت هناك موجة صواريخ أم لا ، فالامهات يتحملن كل عذاب ولا العذاب الذي يلاقيه ابناؤهن ، انها قاعدة عامة ، هذا ايضا يذكرني بامي ، جدتك .
_ وكيف كانت جدتي تتعذب، لم يأخذوا اولادها من فراشهم لساحة المعارك . في الاقل ، لم
لم تكن هناك حروب في زمانها.
قالت عفاف، قبل ان تسأله اذا كان محتاجاً ان تجلبَ له كرسياً كي يرفع اقدامه عليه ، فشكرها موافقا على اقتراحها. تأوه ، رافعا اقدامه عن الارض، متكئا على وسادة خلفَ ظهره ، نافثا الدخانَ عاليا ، ثم جمّعَ نفسه :
_ كانت لديها حروب من نوع آخر. معارك وهموم مختلفة . طيب ، اضرب لكِ مثلاً : كنتُ الولد الوحيد عندها ، كما تعرفين. أهزأ بمن يريد كبحي او يحاول الحد من حريني ، كعادة الشباب دوما.كانت والدتي مع اختي الاثنتين هنَّ الحريصات على حمايتي من تهديد ابي ووعيده في حالة عصيانه ومخالفة امره. هنَّ درعٌ لي يمنعنَّ الاذى عني، وفي حالة حرب واستنفار دائميين. لذا استغللتُ هذه الحماية المتطوعة لاتمتع بمقتضيات اللهو والانس كما اشاء ومن دون رأفة . سهراً حتى الصبح بنوادي القمار والسكر في ملاهي البصرة وحاناتها ، وما هي الا مواخير لطلاب الفساد والغواية. الفترة التي اتحدث لكِ عنها،بعد الحرب العالمية الاولى واثناءها،أي سنة 1914. الزمن ما بين عصرين ، العثماني والبريطاني . الانهزام لجيوش الاول والانتصار للثاني. الفترة المشوشة المضطربة ما بين قديم وجديد . ضياع للمقاييس والقيم . تهيؤٌ للدورة الكبرى القادمة من اجل استقرارها . أي قبل الضربة الاخيرة .يأتي حكم ويذهبُ آخر. في تلك السنوات القلقة المنفعلة اصطخبت البصرة، تلك المدينة الوديعة الاليفة ، بعشرات الغانيات والراقصات وبائعات الهوى المستوردات. كنا نسميهن " تياتروا"، اظنها كلمة تركية او فرنسية، لا ادري . وان كنتُ ادري ان تضييق الخناق على اختي الاثنتين ووالدتي صار على اشده - بالمناسبة - كلما اشتد الفساد عند الرجال ازداد التضييق على نسائهم - لا يخرجنَّ من الدار الا مرة واحدة او مرتين في السنة لزيارة اقاربنا في ناحية " ابو الخصيب". مجللات بالحجاب، في عربة يقودها حصانان ُمسدل على جوانبها شراشف للحيطة والحذر . اذكر مرة ، وقد ذهبتْ مع نساء العائلة الى بستاننا في تلك المنطقة الزراعية، وهذه مسألة تتخذ فيها تدابير وقائية وحماية مضاعفة، بالطبع، يخطط لها قبل اسايبع ان لم تكن شهورا . هناك واثناء صلاتهن ، فترة الظهر بالباحة ، وبينما شعرتُ انهنَّ غافلات ، منهمكات بالتكبير والتلاوة ، اخذتُ نعالهن المصفوفات قربهنَّ ، واحداً بعدَ الآخر ، والقيتها في النهر الصغير المجاور. لم يشعرنَّ بفعلتي الا بعد انتهاء صلاتهنَّ وسلامهنَّ على الملائكة في الجانبين . اسرعتُ بالاختفاء وراء نخلة " برحي " قصيرة سمينة الجذع ، اعذاقها متهدلة حولها بموسم الثمر كاثداء عشر نساء مرضعات. اخفتني، لكنها بالتأكيد، لم تستطع اخفاء صوت ضحكاتي المحبوسة في صدري والتي جُنتْ كي تخرج للخارج بقهقهة وراء اخرى متلوية كالعواء ، فضحتْ مكان اختفائي وجرمي اخيراً . يا لتلك النساء المطيعات المولولات العابدات ، اللواتي يحملنَّ كل سنة تقريباً ، اذا ما اراد الرجل ذلك ، ويطلقهنَّ ، ايضا، اذا ما شاء ، ببساطة ، او يتزوج عليهن لمجرد نزوة عابرة . على اية حال ، هؤلاء النسوة ، سرعان ما غفرنَّ لي فعلتي وجرمي ، بعد لحظات قلائل . كنتُ في الحادية عشرة آنذاك ، لا يحاسب المرء كثيرا في تلك السن ، أليس كذلك ؟
سأل عفاف وهو يراقب وجهها،تسكب له شاياً في القدح . اسرع بالافصاح عن رغبته في حلاوته :
_ ملعقة سكر بنتي .
ناولته القدح ، كما طلبه ، مضمرة له سؤالاً ملحاً :
_ وهل حاسبنك بعدئذ ، أي بعد ان كبرتَ .
شرب الخال جرعة حارة ،وأنَّ وونًّ . متأسفاً،كعادته ، على ما فات. وجدها صلبة ، لا يمكن اقناعها .تريد الحقيقة ، دون لفٍ او دوران . تنتظر منه جواباً صادقاً وكأنها فرصتها الوحيدة وهو الشاهد الاخير.
_ آه ، ما حصل، بعدئذ ، اتذكره والعن الشباب . فكما قلتُ لكِ،كنتُ معجباً بنفسي وبطاقتي على الغوص والقنص فيما تضمره تلك الاماكن اللعينة الجديدة، من لهو وعبث وفسق. اعود في الثالثة والرابعة صباحا ، مترنحاً من فرط الخمرة ، حتى لا استطيع تمييز خيالهن من شبكة ثقوب الشبابيك المضيئة ،وان كنتُ واثقا انهنَّ بانتظاري ، كي يفتحنَّ الباب لي قبل ان اقرعه خشية ان يستيقظ والدي المتجهم ، الغامض ، خائفات مما يبيته لي.كانت واحدة منهن ُتسرع ، بمجرد ان يلمحنني ، بعيداً في الشارع، حافية القدمين، سريعة الحركة ، كي تفتح الباب الكبير لي ذا الصرير المتحشرج الأجش ، لكنه بالتأكيد افضل من طرق مطرقته الحديدية الضخمة ذات الاطلاقات الثقيلة الهادرة التي تكاد تتوعد اصحاب الآثام .
_ أولم تؤنبك جدتي يوما ؟! أتركتك راتعاً بالغيّ على حساب راحتها وسهرها وراحة بناتها ؟
_ مرة واحدة . كانت المسكينة دون تجربة او خبرة . لا تعرف القراءة او الكتابة ، منع اهلها عنها ذلك ، وعن بناتها ايضا. هذا زمن ما بعد الحرب العالمية الاولى بقليل .تذكري . قليل من النساء من كان يقرأ او يكتب. اللهّم الا في بعض الاحيان كن يقرأن القرآن. كانت والدتي تراني عالماً بالنسبة لها ، فأنا اقرأ واكتب الرسائل . بقيت تحترمني رغم خصالي الذميمة . وهي ، بدورها ،لا تستطيع ان تتصور ما الذي يجري في الخارج، عندها فكرة عامة مشوشة، ولديها حب كثير لي . انا واثق من ذلك . هي لا تقسو عليّ كنت اعرف.
_ يا لصبرها ، فقط مرة واحدة.
_ نعم ، دخلتْ عليّ في غرفتي ، مرة ، بعد ان اويتُ الى فراشي ، بعد رجوعي من سهري منهكاً ، تعباً ، خدراً. انحنتْ عليّ ، هامسة في اذني، كي لا يسمعنا ابي فيخرسنا،قائلة لي :
" يا ولدي إلآمَ تظل مع عشرة الاشرار والفاسدات. انهم وقود جهنم، هذا شيءٌ مذكورٌ في القرآن " فتحتُ عيناً واحدة عليها، كانت الاخرى نائمة لشدة النعاس . اخبرتها دون تردد : " يا اسفي يا امي على ذلك ، ان تذهب تلك الوجوه البديعة الرائعة وتلقى في النار وتبقى وجوهكنّ ، انتنَّ الكالحات ، البائسات ، يا اسفي يا اماه ".
عبثاً كان نصحها وكلامها معي، وحتى بعد ان تزوج ابي عليها وصرنا اولاده من الدرجة الثانية ، كالمواطنين في بعض الدول، استطعت ان انتهز الفرص في تحقيق رغباتي الجامحة، متحيناً المناسبة للغياب من الدار، مع شلة من رفاقي، ومعظمهم من ابناء الرفه والدعة والتراخي بالبصرة، مجتمعين في بساتبنها الظليلة الوارفة ، وما اكثرها آنذاك ،لا تسمعين فيها الا اغاريد البلابل بين سعف النخيل ودوالي الاعناب. لا تشبه اصوات صواريخ اليوم. على اية حال ، لم نحسن صيانتها، للاسف. هذا الذي يجري بعض من ذاك. اللعنة على كل من فكر بالحروب مخترعاً الآت الدمار. هكذا كنا بلا حسيب او رقيب، مع نخبة ممن نحب من تلكنّ الغواني. اعود الى بيتنا، فيما والدي مشغولٌ بزوجته الجديدة، التي سرعان ما جاءت له بصبي ثم بآخر حتى فقد اهتمامه الشخصي بيّ الى درجة كبيرة، فاسترحتُ منه ومن سؤاله : اين ذهبَ ومتى جاء؟ ولاول مرة بدأتُ انظر لوجه امي نظرة متفحصة. لم يكن من الوجوه الكالحة ،خلاف ماهذرتُ به اثناء نعاسي تلك الليلة . كان صبوحاً دون ضحك .هادئاً دون جمود . بدأتُ انظر الى الأذى الذي اصابها بعد زواج والدي . كان وجهها مرآة سجال، تخفيه عنا بصعوبة بالغة . لا تعرف ما هو حقها او حق غيرها . انها بسيطة ، كما قلتُ لكِ، لا تملك سوى الفطرة والعيش بالغريزة . راح ذلك الألق الصبوح العفوي الذي عرفتها به بالدرجة الاولى ، حين أُفاجئها متحدثة مع ابي بلغة الزوجة الواثقة . اختفتْ هيمنتها واقتدارها في الاحاطة بفن ادارة البيت ، وكان شاغلها الوحيد قبل ذلك. انصب اهتمامها على ان تشغل نفسها بشرب الشاي المرّ الاسود ، جالسة قرب منقلة الفحم ، مدخنة السجائر صامتة طيلة الوقت . صباحاً ، ظهراً ، مساء وهي على هذه الحالة . تسمع من مكانها اصداء ضحك زوجة ابي الجديدة ونغنغتها لطفلها الاول ، ثمّ الثاني ، مجيء ابي من خارج الدار ، انه يقضي واجباً ، بالتأكيد ، حين يمر علينا ، مربتاً على راس اختي الصغيرة ، وهو في احسن حال . يتخطانا ، منتعشاً ، الى غرفة المرأة الجديدة ، كما كان يسميها الجميع ، وبضمنهم امي نفسها . مصحوبة هذه التسمية ، عادة ، بوعد خفي لا تحمله امي محمل الجدّ وهو: " لكل جديد طربه" أي ان اللذة به ستنتهي قريباً . لكن شاءتْ امي ان لا تنتظر . انتهتْ قبلها . اصابها مرض الكآبة الغدار . كانت قد قاربت الخامسة والاربعين ، السن التي تحتاج فيها المراة الى عناية من حولها وحبهم ،لتستعيد الثقة بنفسها ، هذا ما تقوله خالتك لطيفة، انها تفهم في هذه الامور. على اية حال ،بدلا من ذلك ،كانت امي تسمع ،وهي في جلستها، تلك "المراة الجديدة " ، تقرأ على والدي قصصا من كتاب " الف ليلة وليلة " او " سيرة ابي زيد الهلالي " او " عنترة بن شداد" ، فيستأنس ابي ايما استئناس . كانتْ "الجديدة" تعرف القراءة والكتابة ، مثل الرجال تماما ، وهذا مصدر طربٍ لابي ، الذي جاوز الستين ، كانت القراءة ، وحدها ، كافية لاسعاده وبعث الانشراح والبهجة في نفسه . كم الساعة الان عفاف ؟! لقد تأخرنا كثيرا ،على ما يبدو، سهرنا طويلا.
نظرا في ساعتيهما ، معاً، قالتْ الاخيرة :
_ الثانية عشرة والنصف .
_ وراءك عمل غدا . هيا بنا للنوم . آه يا امي ، لماذا توفيتِ بسرعة.
قام الخال من مكانه ببطء ، متأوها : توفيتْ المسكينة بعد ثلاث سنوات من زواجه.اعطيني بطانية اخرى ، عفاف . لم انمْ البارحة ، البرد شديد عندكم في لندن .
تمَّ تحضير فراشه بسرعة . تركته عفاف كي تفتح باب المطبخ المؤدي الى حديقة صغيرة كي تخرج كلبتها المدربة (لولوة).وهذه ظلت صابرة رابضة بجواريهما طيلة الجلسة ،
وسبق ان اطعمتها ، باديء ذي بدء . قضتْ الكلبة حاجتها ، في العراء ، ثم عادتْ الى الداخل.
بعدَ ان انتهتْ عفاف من استحمامها وتنظيف اسنانها تهيؤاً للنوم ، مرتْ على خالها في طريقها الى غرفة نومها . له تنفس بزفير وشهيق واضح ، يعلو ويهبط عميقا هادئا، لا يختلف عن هسيس أي طفل آخر . نظرتْ في وجهه النائم ملياً، كم كان يشبه وجوه كثير من الرجال الرسميين في العراق وما يجاور العراق . وجوه من وزارة الخارجية، مديرية البعثات العامة، البرق والبريد والسفر والجنسية . وجوه تشبه بعضها البعض كوجه خالها اليوم. نفس الخدين الاسمرين، الانف ، الجبهة، السحنة. كثيرة هي النـزوات، الشهوات، الرغبات الخائفة، التي لم تُشبع بعدُ في هذه الوجوه الواحدة. اليوم متعصبة تقاتل من اجل شعارات احزاب، من اجل دين، من اجل قومية. لكم ظلمتْ وانظلمتْ، قستْ وقسي عليها، شوهتْ وضحكتْ لمنصب وكرسي. غطت قدمي خالها جيدا، طاوية اطراف البطانية حول الفراش، تركته كما لو انها تترك العراق كي تستربحَ ، ايضا.*
* فصل من رواية ( حبل السّرة ) التي لم توزع بسبب المنع بالعراق آنذاك.
ا .



#سميرة_المانع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ها....ها...ها
- ألا ابشروا بالاعمال الخلاقة
- ثمة اسرار
- من مفكرة امرأة مغتربة
- أجوبة أسئلة تخطر بالبال
- مَن دفع للمزمرين
- خصائص رواية منفى
- هي بقيت علي ، يعني!
- التوحّش
- احتضان غير مرئي
- الطريق إلى دهوك
- هزّة ارضية
- إفرحْ يا قلبي
- درب الصدّ ما ردّ
- والنتيجة ؟!
- ربحتْ الجائزة
- وزّة في الخليج *
- القارات المنسية
- واخزياه


المزيد.....




- تابع الان مسلسل قيامة عثمان الجزء السادس مترجمة للعربية.. حل ...
- مصر.. ضجة إثر سؤال محير في امتحان اللغة العربية بالثانوية ال ...
- ???????فن الشارع: ماريوبول تتحول إلى لوحة فنية ضخمة
- لوحات تشكيلية عملاقة على جدران الأبنية المرممة في ماريوبول ( ...
- تجليات الوجد واللوعة في فراق مكة المكرمة ووداع المدينة المنو ...
- الا.. أولى حلقات مسلسل صلاح الدين الجزء الثاني مترجمة للعربي ...
- “فتح بورصة الجزء الثاني”.. تابع أولى حلقات مسلسل قيامة عثمان ...
- أغاني ومغامرات مضحكة بين القط والفار..تردد قناة توم وجيري ال ...
- الكاتب الروائى (خميس بوادى) ضيف صالون الثلاثاء الأدبى والثقا ...
- فيديو: أم كلثوم تطرب الجمهور في مهرجان -موازين- بالمغرب


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة المانع - الخال