أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 12















المزيد.....

كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 12


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3882 - 2012 / 10 / 16 - 01:21
المحور: الادب والفن
    


كان مدير البريد يتحدث عن الذُرّيّة . و هو رجل نحيف معوز .. شبه فاشل مثلما يعتقدون . و كان معروفاً بتدينه ؛ و اعتاد أن يقول بمظهر المفكر :" آه ، بماذا يؤمن المرء ؟" و عندما كان طالباً ، كان يحلم كثيراً بالفن ، و القصور ، و الكاتدرائيات ، و فن العمارة . و لكنه لم يستطع الثبات على مهنة ما ، فآل أمره أخيراً إلى إدارة مكتب البريد . و هو يقضي أوقات فراغه الآن بإعداد التصاميم لبيوت الله و البشر . إنه هو الذي صمم المدرسة الإعدادية – بناية الحجر البديعة تلك ذات الأعمدة التي يشاهدها الرائي من الوادي الساحلي البعيد . و لم يتقاض شيئاً لقاء إعداد تصميمها ، عدا كلمات الثناء من القنصل . أما زوجته ، فلم تكن فاشلة البتة ، و لا جميلة أيضاً - كانت روحاً طيبة و بركة في بيتها . و هي أكبر سناً من زوجها ، و لكن ليس بالقدر الذي يمكن تمييزه بينهما . و كانت تلتزم جانب الصمت بحضور الآخرين . و في هذه الأمسية ، واصلت كالمعتاد مشيتها الصامتة ، و لم تفه بشيء إلا عندما كان يحفزها أحد .
"الذُريّة..." قال مدير مكتب البريد .
كانت نظريته تذهب إلى اعتبار الآباء عموماً أقل أهمية من الأطفال قطعاً ؛ كما و ينبغي ربط كل شيء بالأطفال .
" ففي هذا المساء ، جلس الآباء و الأمهات على مصاطب صلدة بين جدران مكشوفة ينالون المتعة و الراحة بفضل أولادهم الصغار . و في حين لم تكن كل الأمهات متأنقات بملابسهن ، فان الأطفال هم الذين بدوا بأبهى حللهم ! و كان هذا ما فكرت فيه : لقد مضى وقت ظهرت فيه أولئك الأمهات بأبهى حللهن عندما كنّ صغيرات السن . حدث هذا قبل ثلاثين عاماً ، حينما كانت النساء يرتدين "تنورات" كاملة فضفاضة . و فكرت : "يا سلام !" و أنا أستذكر تلك السنين الماضية ."
"إنها مرثاة !" قال المحامي فريدركسن – و هو ، بالمناسبة ، أعزب .
"تماماً !" رد الطبيب المحروم من الأطفال . و لما كان الأمر يتعلق بمدير البريد المسالم ، الذي كان رجلاً ماجداً قبل كل شيء آخر ، فقد تفضل بإضافة بضع كلمات عن الموضوع : "الذُريّة .." قال ، "ماذا تريد بها ؟ ألمثل هذا العالم تُجلب الذرية ؟ و كم سنحيا ؟ و لأي غرض نحيا إن لم يكن لأنفسنا ؟ دعنا نحيا زماننا على أفضل وجه ، يا مدير البريد ؛ فالموت يترصدنا ، و سنُعجن قريباً لنصبح لباً . بعضنا وديع و مسالم بالفطرة ، وهو يسلم نفسه للعجن بلا تمتمة واحدة . و البعض الآخر يتلوّى – مثلك أنت يا مدير البريد ؛ إنه ينتفض بعنقه إلى الخلف محاولاً حماية وجهه . آه ، و لكن ما من محيص . فبعد لحظات يُطحن لباً أيضاً . و لا بد أن هذا غريب - إلا انه أمر نُحسّ به جميعاً عاجلاً أو آجلاً . فإن أتانا من ساقينا ، فسنحس به ؛ و سنشعر بمعِدتنا و هي تفلت منا تدريجياً ."
كان حديث الطبيب قد بدأ الآن يجتذب آذان السامعين ، و هكذا فقد واصل - و هو المخادع الأريب - تطريزاته لمزحته ، عازماً على اللعب بمشاعرهم ، و دس الأراجيف في أعمدتهم الفقرية لتقشعر أجسادهم كلها :"أخيراً ، أستطيع الافتراض انه سيبقى فقط أحد أجزاء أصابع القدم ليعطي آخر إختلاجة . و الأمر كله يبدو أحسن من أن يصبح حقيقة ، مع أنه مضبوط تماماً ."
صمت .
"إنه لمن التشاؤم التفكير على هذا النحو ،" قال مدير البريد ؛ " و حتى إذا ما سلّمنا بهذا الافتراض ، فأنه لأمر جيد أن نترك - "
"ذرية ! كي تُطحن لباباً بدورها ! متشائم ؟ لا أعرف . فأنا شخصياً أستطيع الحفاظ على معنوياتي ، و أجد نفسي أحياناً و أنا أُرتب شعري فوق البقع الصلعاء من رأسي محاولاً إصلاح الضرر أحسن ما أستطيع ، و أنا أصَفّر ."
"جيدٌ ، جيدْ ،" قال مدير البريد ، الذي بان واضحاً أن الكلمات المطلوبة كانت تعوزه .
و لكن القنصل جونسون تسلم الهراوة الآن - إذ لم تكن لديه الرغبة بالتأكيد في الاستسلام إلى محاكمات هذا الرجل المتشامخ . "إن الجنس البشري سينقرض من دون الذُريّة ."
"بالضبط ، و هذا ليس أحد شؤوني ."
"غير أن هدفك و غايتك تتمثلان بالحفاظ على الحياة البشرية ، أليس كذلك ؟"
"يا أيها القنصل ، يا أيها القنصل الأول جونسون ، أتقدم المنطق للمحصورين بين قطبي الرحى ؟" قال الطبيب ساخراً و هو يشعر بالضيق قليلاً . "و أين هو المنطق في الحياة ، منطق المبدأ الكوني ؟"
فأجابه القنصل : " إنني فقط أقول أيها الطبيب بأنك تفضل انقراض الجنس البشري ، في حين أن مهنتك و رزقك يكمنان بالضبط في منع هذا الانقراض ."
كان الطبيب يؤثر تماماً عدم تسجيل النقاط ضد رجل نصف مثقف ، غير أن رد القنصل كان أكبر من مقاسه ، مما يقتضي الرد المناسب :" من المؤكد أن نقاشنا هذا يتجاوز الأعمال التجارية ، أليس كذلك ؟ و المسألة هي وجهة نظر شخصية في الحياة . و عندما ينحني الطبيب على أحد أسرّة المرضى ، فإنني افترض أن دافعة إلى ذلك هو بالأساس العطف على الإنسانية المعذبة ."
"آه ، نعم ."
"تستطيع أن تتحسر ، و لكنه في الأقل لا يقوم بالمضاربة ."
و ردّ القنصل بتهور : "إنه يقف هناك ليحصل على كروناته الخمسة . فالطبيب مثلنا نحن جميعاً : إنه يضارب بالخمسات في حين أضارب أنا بالآلاف – هذا هو الفارق الوحيد بييننا ."
ثم ضحك القنصل و هو ينظر نحو الآخرين حواليه بطريقة سببت لهم الحرج أيضاً .
و اضطر الطبيب إلى مجاراته في الضحك .
"ها قد أفلحتَ بلا ريب في إثارة الخصومات بيننا جميعاً ، يا مدير البريد ،" قال و هو يحاول التخفيف من حدّة الجو .
"أنا ؟"
"بذريتك !"
و هكذا فقد وجد مدير لبريد نفسه مكرهاً على الدخول في النقاش مرة أخرى :"نعم ، و لكن ، يا عزيزي الطبيب ، ينبغي ببساطة أن تكون لنا ذرية . و بوسعك أن تقول ما تشاء عن حجر الرحى ، غير أنها لا يمكن أن تصبح هدفنا ."
"إن هدفنا يكمن في ذاتنا . فعندما أموت أنا ، ينتهي كل شيء . هل تؤمن بوجود الرب ، يا مدير البريد ؟ "
"و بماذا يؤمن المرء إذن ؟ و أنت ، ألا تؤمن به ؟"
هز الطبيب رأسه . " إنني لم أقابله أبداً ، هل تعتقد أنه يسكن في الجوار ؟"
"ها- ها !" ضحكت زوجة الطبيب .
و تساءل مدير البريد :"أي نوع من الأهداف هذا الذي يكمن في أنفسنا ؟"
"انه استثمار الإنسان لوجوده على أفضل وجه ، و التمتع به ، على سبيل المثال ."
"يا له من هدف بائس ، هدف قصير المدى . صحيح أن كل شيء سينتهي بنهاية النفس في هذه الحالة ، غير أن بوسع المرء التشبث بهدف بعيد المدى : الخلود بواسطة الذرية . و أرجو منك أن تطلعني على رأيك بجد ، إذ يخيل إلي أنك كنت تروم استدراجنا بحديثك ، ليس إلا ."
"قطعاً : لا !"
"خذ حالتي أنا . إنني مدير البريد في هذه المدينة . و يمكن أن تكون وظيفتي بأهمية أي وظيفة أخرى لهذا الغرض . و لكن ما الذي يأمله رجل لا ذرية له عندما يموت ، إن لم يتيسر له عمل أي شيء آخر يخلده ؟ لن يرضيني أبداً أن أحاول الآن التجاوز على قدراتي ؛ بل بالعكس ، يسرني الآن أنني لم أعمل شيئاً متميزاً ، لأن هذا يعني أنني قد وفرت إمكانياتي لأبنائي . و إذا عشت لأرى علامات تفيد بأن أبنائي سيتجاوزونني في كل شيء ، فسأشعر إذ ذاك فعلاً بالامتنان للخالق العظيم . إن من بين أكثر ما يحزنني من الأشياء هو رؤية أولاد الرجال العظام و بناتهم : أطفال الآباء و الأمهات المشهورين ، فمنظرهم يورث الحزن أكثر من منظر الأطفال اليتامى . و لكن الحمد لله . إنه من اليسير الاعتقاد بأنني حتى لو كنت قد استطعت الذهاب أبعد مما أنا عليه الآن ، فان أطفالي سيتجاوزونني . و هذا هو أملي عندما أموت . اقصد أنني سأنهض بأطفالي ، و إن لم يكن أبوهم هو "گوته" الشاعر .
و لم ترق نظرية مدير البريد أحداً ، فهي نظرية و عزاء الفاشلين من الرجال ، و النكرات من الناس ، و ليس من هم في قمة الشجرة . أما القنصل جونسون ، فقد كان أكثر من محض أب لأبنائه - انه رجل مهم بذات نفسه . نعم ، و لعل نجمه سيرتفع أكثر ، فهو ينتصب متأهباً إزاء الضياء الأخضر ، مسلطاً عينيه صوب هدف جديد . و مع ذلك ، فقد شعر القنصل جونسون بالحاجة إلى إظهار مقدرته على التحدث بود مع مدير البريد ما دام لا يتعاطف مع آرائه . و هكذا فقد أومأ برأسه و قال :" في رأيي - بوصفي رجلاً مسكيناً - أن هناك الكثير من الصحة فيما تفضلت به يا مدير البريد ."
"رأي !" قال الطبيب بازدراء .
و تدخل المحامي فريدركسن – الذي كان حتى الآن يجلس مع هنريكسن مالك حوض السفن – قائلاً :"نعم ، بلا ريب : إنه رأيٌ جدير بالاعتبار . غير أن للعزاب و من هم بلا عقب آراءهم الخاصة أيضاً ."
و لا بد أنهم كانوا يخشون في تلك اللحظة أن يكون وقت المرح قد انتهى ، إذ لم يزد أحدهم على الموضوع كلمة . عندها ، سار القنصل بخطوات طوال ، و فتح باب داره ، و رحب بهم و هو يدعوهم إلى الدخول :" حسنٌ ، حاولوا الاتفاق الآن على تناول كأس من الشراب في الأقل ، " قال ضاحكاً .
و حالما دخلت المجموعة ، إنسل الشاب شلدروب من خلال غرفة المطبخ إلى الخارج . و لا بد أنه ما كان يهتم كثيراً بتلك النقاشات العميقة التي يصر مدير البريد على إثارتها . و لن تستطيع لومه ، فالحياة لا تشكل لغزاً لمن هم في عمره ، و ليل الصيف مِلك للشباب .



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 11
- كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 10
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 9
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 8
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 7
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 6
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 5
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 4
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 3
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
- السيد و العمامة
- يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
- كلاب أولاد كلب
- بغداد : 6./ 6. /6.
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / الأخيرة
- قصيدة -الرحيل- للشاعر العراقي سامي موريه
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 10
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 9
- الزنبقة تموت عشقاً في الحياة .... و تحيا / مرثية الشاعر يحيى ...


المزيد.....




- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 12