محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 3880 - 2012 / 10 / 14 - 17:18
المحور:
الادب والفن
إنها دمشق المدينة الأجمل في العالم كما اعتاد تكرارها عند الحديث عنها أمام المعارف إلى حد الضجر .
يعشقها حد الاشتهاء , إلى درجة التبدد على أرصفة وجدران حواريها القديمة وعندما يواجه بسؤالهم : "ما دام الأمر كذلك فلماذا أنت اليوم بيننا وقد هجرتها " لا يجد ما يدافع عن نفسه سوى أنه اضطر لمغادرتها قصرا , جواب يستسهل إدلائه خشية اختراق شرنقة من الوهم أمضى ما يقارب الإثني عشر عاما على التقوقع وراء خيوطها الواهية اكتشف مؤخرا أنها خيوط من الوهم والكذب والادعاء سرعان ما تفتقت وانهارت أمام جواب قصير وبسيط لصديقة متشبثة بالمدينة التي يدعي عشقها لكنه واضح وصارم ردا على دعوته لها للهروب من المدينة في ظل ما تتعرض له من موت ودمار والقدوم إليه في المنفى , أجابته :" إن كان لا بد من الموت فإني أفضل أن أموت هنا في مدينتي التي أعشق , الموت علينا حق , ولا أحد يموت ناقص عمر , إني أفضل أن تدفن جثتي في تراب الشام " , لقد أسقط في يده , سؤالها خلخل قناعته حول ما ادعي طيلة فترة وجوده بعيدا عن مدينته المعشوقة واكتشف فجأة أنه ليس سوى جثة بلا روح لاطمتها طيلة السنوات الماضية مدن المنافي الأوربية .
مضت اثنا عشر عاما قبل أن يلتقي معشوقته ثانية , ليس عودة نهائية ولا كمواطن فيها , كانت زيارة سياحية بجواز سفر أوربي يحمل فيزا مرور كأي سائح أوربي .
حين أعلن مضيف الطائرة بأنها تحلق "الآن" فوق سماء دمشق تخاطفته أمواج متتالية من خفقان القلب السريعة والمتفاوتة كادت أن تفجر صدره , هجم إلى النافذة علّه يتمكن من إلقاء نظرة عليها من عل , لم يستطع , فقد حجبته عنها سحابة كثيفة من الغبار قد سببت له حتى نوبة من ضيق التنفس .
هبطت الطائرة أرض مطار دمشق الدولي , وجد أخيه في استقباله في ردهة وصول المسافرين , وعند الوصول إلى المنزل لم يطق صبرا للقاء مدينته المعشوقة إلى اليوم التالي مما دفعه إلى الاعتذار من مستقبليه لرغبته القيام في جولة قصيرة على بعض أحيائها وشوارعها على أن يكون وحيدا , وعندما عرض بعضهم عليه مرافقته ادعى أنه يخش استهزاءهم إن هم شاهدوا "رعونته" و"هوسه" نحو المدينة على أنها المعشوقة التي تمتشق أحاسيسه , يضاف إلى ذلك أنه قد اشتاقها حد الانفجار وبالتالي يرغب أن ينفرد بحبيبته بعد كل هذا الغياب لوحدها ليبثها وجده كعاشق كما فعل مرة شبيهة حين التقاها بعد الإفراج عنه عقب اعتقال استغرق معظم مرحلة الشباب .
استقل سيارة أجرة وطلب من سائقها التوجه إلى جبل قاسيون ليلقي على مدينته من هناك نظرة عامة على جسده قبل أن يهبط إلى تفاصيله عبر شوارع أحيائها تماما كعاشق قد اعتمرته رغبة عارمة من الاشتهاء لممارسة الحب , آه لو يستطيع في دفعة واحدة أن يجولها في يوم واحد دون انقطاع يتلمس بأنامله جسدها ويتفقد ما يضم في حناياه من سنوات العمر الماضية , يستذكرها ويذوب وجدا .
من موقعه على قاسيون راح يتملاها , وتهيأ له أنه قد تهادت إلى أذنيه أصوات خالها أنفاسه القديمة قبل هروبه إلى المنفى , تتفصد من جدران منازلها وتنبعث من معظم زوايا حاراتها القديمة , من مقاهيها , حماماتها , خماراتها , مساجدها , مطاعمها , فنادقها , مؤسساتها , وزاراتها وبساتينها , من كل الأماكن التي احتوت جزءا ولو يسيرا من سنواته التي قضاها فيها , كيف استطاع لا يدري في لحظة هيامه الشديد حينها أن يميز تواتر حشرجات تأوهاته ودموعه عن وشنت آهات السعادة , حتى تكاد قهقهات النساء التي تداولت قلبه وجسده تخرق اللحظة أذنيه وها رائحة عطرهن تهدهد شعيرات منخريه .
تمشى ساهما حتى حافة المنحدر من الجهة الغربية للجبل حيث أطل من عل على طريق الربوة , هنا على الطريق تقع قهوة أبو شفيق ومطعم القصر وملهى الجوهرة حيث عمل ردها من الزمن أثناء فترة دراسته الجامعية , رفع رأسه , نظر إلى امتداد الأفق البعيد وأشار بإصبعه بحركة لا إرادية يحدث نفسه : هناك دمر البلد , وورائها ضاحية مشروع دمر , لقد عمل في محطاتها الحرارية , تحول بنظره إلى ناحية مشاريع سكن قدسيا , انفرجت شفتاه عن ابتسامة فخورة أنه قد زود العديد من أبنيتها بالتمديدات الكهربائية وتعهد العديد من أبنيتها بالدهان.
ورد خلال هبوطه مشيا على الأقدام منحدر قاسيون باتجاه حي المهاجرين إلى ساحة ذاكرته خاطرا سريعا كيف تقصد المجيء إليه في الزيارة الأولى ليتعرف عليه كحي للأغنياء ليطلع على أسلوب حياة قاطنيه ويقارنها مع حياة قاطني أحياء الفقراء في المخيم ونهر عيشة والقدم والميدان والحجر الأسود .
وقف عند التقاطع الرئيسي ليتأكد من معلوماته عن تفاصيل المدينة : من هنا اتجاه شارع أبو رمانة والمالكي حيث السفارات وحديقة السبكة , لكنه لا يدري لماذا ارتأى أن يسير باتجاه شارع يقود إلى مبنى وزارية الخارجية وحديقة المهاجرين , العفيف , استراحة الرواق , طلعة المهاجرين إلى منطقة الجسر الأبيض حيث كان يقطن الأحبة من الأصدقاء وحيث تقع عيادة الطبيب سامح شامية الذي اعتاد أن يصطحب إليه الفتيات اللواتي كن يردن التخلص من أجنتها اللاتي لا يعترف بها المجتمع دون تلك القطعة اللعينة من الورق .
من هناك استقل سيارة أجرة أوصلته إلى ساحة عرنوس منها مشى باتجاه السوق الذي لا يدري لماذا يطلق عليه سكان الشام "سوق التنابل" , أحس برغبة شديدة لتناول زبدية من البوظة باستراحة دامر , ثم تابع السير باتجاه شارع الحمراء حيث أخبرته صديقته المحامية المتشبثة بالوطن أن مكتبها يقع فيه لكنها لم يستطع التعرف عليه وسط زحمة الوقت والأمكنة , توقف فجأة في طريقه باتجاه ساحة السبع بحرات , هنا كانت تقع كافتريا الكهف حيث اعتاد ارتيادها لتناول كأس من البيرة , بحث عنها ولم يجدها واختلط عليه الأمر : هل وهنت ذاكرته بجغرافيا المدينة التي أحب أم أن الكافتيريا قد أزيلت كما تزيل العلاقات الرأسمالية كل شيء جميل .
تابع مسيره باتجاه مقهى الليتيرنا , يذكر أنه قد تعرف فيها في إحدى المرات على الأديب المرحوم ممدوح عدوان . انعطف يمينا باتجاه ساحة الفردوس حيث محلات العصير التي مازالت تقدم كاساتها المليئة للمارة العطشى كالسابق , تناول كأسا من عصير ثم تابع باتجاه مقهى هافانا حيث اعتاد في زمنه الشاعر مظفر النواب الجلوس إلى إحدى طاولاته المطلة على شارع الفردوس يخط مسودات قصائده , تذكر كيف كان يبذل جهودا مضنية للاقتراب من الطاولة التي كان يجلس اليها وهو يحتسي فنجان قهوته عله يحظى بالتفافة منه . توقف برهة على شرفة شارع الفردوس , هنا تقع صالة الكندي وسينما الفردوس حيث كانت تعقد مهرجانات السينما في دمشق ومؤسسة الكهرباء ومكاتب الطيران والقهوة التي تطل على جسر فكتوريا وثانوية جودت الهاشمي , علت شفتيه ابتسامة خجلة حين مرت على رأسه ذاكرة عميقة في القدم حين كان طالبا فيها واضطر لضرب زميله الطويل جدا في الصف واسمه نبيل مولوي شقيق الممثل الكوميدي زياد مولوي بسكين لأنه لم يستطع مجاراته باللكم لقصر قامته . من هناك يمكن للمرء أن يلتقي بموقع سينما الزهراء ونادي الضباط وفندق الشام .
تابع طريقه ساحة الفردوس مارا بتمثال يوسف العظمة ومبنى المحافظة , عند هذا التقاطع احتار يختار طريقه لإشباع فضول التذكر لديه , طريق البحصة والسوق العتيق إلى المرجة أم يتابع باتجاه منطقة الحجاز؟ اختار الأخيرة لسيطرة التعب على قدميه , هنا مابين سينما دمشق والعباسيين وعلى ضفاف بردى اعتاد تناول سندويشته المفضلة من لحم الروس صيفا , وشتاءا اعتاد على تناول صحنا من الفول النابت والبلية بلبلوك أو عرنوسا من الذرة الصفراء المسلوقة يدفئ يديه وجوفه , زهناك على الضفة الأخرى من الشارع اعتاد على ارتياد مطعم ذو شكل طولاني تناول زبدية تسقية أو فتة مقادم . تذكر فجأة أنه قد عاصر مرتين على الأقل فيضان نهر بردى وكيف كانت عربات يجرها رجال عتالين بدل الحصان لنقل الناس إلى الضفة الأخرى باتجاه شارع تقع عليه وزارة الداخلية يوصل إلى ساحة المرجة .
تابع صعودا باتجاه محطة الحجاز متجانبا مع مكتب البريد الرئيسي , تهادت مشيته كثيرا وتباطأت قدماه على غير العادة , وأحس بانقباض عميق في صدره وأحس أن قد بلغ إلى منطقة تطل على مفرق زماني جغرافي مشترك زاخمة بكم هائل من الذكريات تشمل معظم مراحل العمر , من الطفولة حتى قبيل مغادرته لمدينته المعشوقة , تهادى بمشيته ببطء شديد كأنه يخشى أن تطأ قدماه براءة طفل قد اعتاد الجلوس في مرحلة دراسته الابتدائية والإعدادية هنا في هذه الزاوية من عقدة المارة إلى صندوق بويا خشبي قد خبأ كتبه المدرسية داخله قد استعمله كمصدر رزق عن طريق مسح أحذية المارة , وهناك على الضفة الأخرى من الشارع حيث يقع ملهى الكروان قد قام في سن مبكرة بمهمة "بدي غارد" لحماية راقصة مصرية اعتادت على تقديم نمرة رقصها في الملهى آخر الليل وتقطن فندقا يطل على ساحة المرجة يملكه خاله أخ أمه , وهنا كانت تقع سينما عايدة التي كانت تعرض ثلاثة أفلام دفعة واحدة , يفتش المكان علّه يعثر على ما يدل عليها دون جدوى , اعتمرت سماه مسحة حزن عميقة , كيف يسمحون أهل الشام أن يختفي من شامه القديمة معلما منها قد حمل من عمره جزءا عزيزا على قلبه؟ ولكن مروره من أمام الفندق الكبير أعاد إليه هدوء نفسه , توقف مليا أمام الفندق , غمغم بكلام غير مفهوم , لقد عمل والده المرحوم فيه طباخا , كم حدثهم متفاخرا أن فيروز وفرقتها قد تذوقوا من طبخه عندما كانوا فيه كنزلاء خلال موسم معرض دمشق الدولي .
عند اجتيازه جادة الحلبوني تدفقت فجأة إلى عروقه قشعريرة , وعندما شعر بالتعب يسيطر عليه تابع بعض خطواته حتى الوصول إلى محطة الحجاز , اتخذ من إحدى درجات المحطة مقعدا له ثم ألقى بنظره إلى الجهة اليسارية حيث جادة الحلبوني وحاول أن يستعيد تفاصيلها : هنا تقع كراج لبنان ومكاتب الترجمة وصولا إلى جامعة دمشق وحي البرامكة , وتذكر ما كان يمتاز به هذا الحي , إنه فرع أمن دولة حمل أسمه قد أطلق عليه أسم فرع الحلبوني : لقد كان آخر نزلاء الفرع فقد قضى في إحدى زنازينه ثلاثة أيام فقط شاركته خلالها ساحة تنفسه موقوفة بقي يتذكر أنها كانت تحمل ابتسام ليس لأنه حمل نحوها مشاعر خاصة ليس بسبب تعاطفها مع جروحه البليغة التي ورثها من فرع التحقيق العسكري وحسب بل لأنها كانت تحمل اسم فتاة قد اغرم بها مطلع صباه .
ثم التفت إلى يمينه دخلة ضيقة توصل إلى الإطفائية يليها مطعم صغير جدا بيع سندويش فلافل بحاذاة مقهى الحجاز التي يحاذيها شارع خالد ابن الوليد امتدادا إلى حي المجتهد دب في أوصاله وراح يتابع امتداد شارع النصر على جانبيه , على يمينه مؤسسة الهاتف والقصر العدلي حتى تقاطعه مع شارع الثورة في مواجهة شارع الحميدية وعلى اليسار مسجد صغير ومؤسسة المياه ومحلات عصير ثم سوق الكهرباء ويليها المحكمة الشرعية .
تملى بأحاسيسه كل ما حوته الأمكنة من أنفاسه الماضية , ألقى بنظره إلى البعيد حيث يقع سوق الحميدة وبناء القلعة , مكانان تفوح منهما رائحة ما مضى من العمر .
يذكر عندما أراد بعد الإفراج عنه أن يزور البرج السادس من القلعة حيث كان يقيم كمعتقل قبل أن تقرر السلطات الأسدية الإقلاع عن استخدامه كسجن " دمشق" وتسليمه إلى وزارة السياحة باعتباره معلم سياحي , يذكر أنه قد عثر أثناء تجواله في زواياه على قصاصة ورق من علب السجائر قد خط عليها بعض خربشات تعود ملكيتها لأحد أصدقائه ممن جمعته بهم جدران البرج الصخرية الضخمة بلونها الشاحب أثناء مرحلة الاعتقال : طفرت من عينيه دمعة حزينة :على لقد قضى صديقه صاحب القصاصة بمرض السرطان فقط بعد ثلاثة شهور من إطلاق سراحه بثلاث .
نفذ الوقت من جعبة يومه بسرعة فقد انتصف الليل , شعر بتعب شديد حبذ عدم الاستمرار بجولته فليس من الحصافة متابعة جولته في هذه الساعة من الليل , نهض متثاقلا وأشار لسيارة أجرة بالتوقف وأقفل عائدا إلى المخيم متطلعا إلى يوم آخر يوفره من خلف ظهر أفراد عائلته المشتاقين لقضاء الوقت معه ليستنهض في ذاكرته مدينته المعشوقة .
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟