|
الحضيض والغوص في أعماق المجتمع الروسي قبل الثورة
أحمد عبد الرازق أبو العلا
الحوار المتمدن-العدد: 1127 - 2005 / 3 / 4 - 10:40
المحور:
الادب والفن
في السطور الأخيرة التي أنهي بها ( مكسيم جوركي) روايته ( طفولتي) ، وبعد أيام قليلة من تشييع أمه إلى مثواها الأخير ، قال له جده : حسنا يا السكي ! أنى بالضبط لا أستطيع أن أسميك ميدالية معلقة حول عنقي !! ليس لك مكان بعد اليوم هاهنا ، فقد آن لك أن تخرج إلى مابين الناس لكسب القوت .. يقول مكسيم : وهكذا خرجت إلى مابين الناس لكسب القوت ! اسمه الحقيقي هو ( الكسي مكسيموفيتش بيشكوف) ، واسمه المستعار -الأول – مكسيم هو اسم والده ، واسمه المستعار الثاني جوركي بمعني المر ، وكان يقول لقرائه عن نفسه – بالاسم المستعار – أنا كاتب مر ، وستذوقون مرارة النبيذ الذي خمرته ، وستسمعون مرارة الكلمة التي أقول !؟ إلا أن النقاد الذين تابعوا أعماله ، وكتبوا عنها قالوا له : " كلا ! لست كاتبا مرا ، انك عسلي المذاق ، ففيك حلاوة فرحة الحياة الحقيقية ، الفرحة الواعدة الوضاءة ، انك تغني مع الربيع الذي نعيشه الآن ، لقد بدأت أفضل الأزمان في التسعينيات ، بدأت كثبان الثلوج تتقلص ، وبدأ خرير بعض الجداول ، وغردت طيور جديدة ، وصوتك من بينها ، انه يبشر بالجديد ، وينطوي ذلك علي فرحة الربيع الطرية " (1) ولعل العبارة التي صفقها الجد في وجه ( الكسي) المعروف بمكسيم جوركي " قد آن لك أن تخرج إلى مابين الناس لكسب القوت " ، لعلها هي التي غيرت حياته بالفعل ، لأنه حين خرج ليعيش بين الناس ، تعرض للإهانة والمهانة ، والتشرد ، ولم يجد لنفسه مكانا آمنا في مجتمع روسيا القيصرية ، ذلك المجتمع الذي لم ينتصر للفقراء ، مثلما انتصر للأغنياء وعلية القوم ، وكان فلاحو روسيا قبل ثورة أكتوبر سنة 1917 ، يعيشون كما كانوا يعيشون في القرن السابع عشر ن كما صرح – وقتها – بذلك جوركي نفسه . حين عاش مكسيم بين الناس ، رأي الفلاحين الأرقاء ، وعلم أن سيبريا امتلأت بالمنفيين الثوريين الذين واجهوا ظلم وتعسف القيصر الذي حكم روسيا اعتمادا علي نظرية ( الحقوق الإلهية ) ، يعاونه – في ذلك – الجيش الذي يسيطر عليه النبلاء ، والمجمع المقدس ، وجهاز الموظفين البيروقراطي . وحين خرج إلى مابين الناس ، انضم إلى عصابة من الصبيان أولاد المتسولين والمشردين كانوا يسرقون ألواحا من الخشب من مخزن الأخشاب الذي يحتفظ بها لحين بناء المعرض التجاري الموسمي الذي يقام ربيع كل عام ، يقومون ببيعها ليغطي عائدها مصروفاتهم طوال العام !! أي حياة تلك التي عاشها ( مكسيم ) لكي تجعله كاتبا عظيما ؟! الذي ساعده – في اعتقادي – أولا : قدرته علي الصمود والتحدي والمواجهة ، وثانيا : رغبته في أن يكون عضوا فاعلا ومؤثرا في مجتمع لا يريد له حق الوجود وحق الحياة . وثالثا : أنه أعطي لنفسه فرصة التأمل والاندهاش ، والسؤال ، وأراد أن يحيل تأملاته ودهشته وتساؤلاته إلى موقف ورؤية ، تجاه الحياة التي يعيشها ويراها ، وتجاه الحياة التي يريدها أن تكون !! ، فلم يتنصل من هؤلاء الذين عاش معهم حياة التشرد ، وذاق بينهم مرارة الألم ، وواجه بهم عناد الحلم المستحيل ! .. حوّل كل هذه الأحاسيس – وغيرها – إلى كتابات تعد وثيقة تاريخية هامة تدين وتُعري مجتمعا وواقعا يعكس أوضاعا اجتماعية واقتصادية وسياسية ، لها خصوصيتها ، وتُعد بمثابة مفجر موضوعي وحقيقي للإبداع الأدبي والفني الصادقين ، استحضر هؤلاء الذين عاشوا ما بين الناس ، لكنهم لم يجدوا لأنفسهم مجالا صالحا لإظهار إنسانيتهم ، وابراز قيمهم ، حيث تماهت إنسانيتهم وانمحت ، لأن المجتمع لم يساعدهم في أن يكونوا بشرا حقيقيين ، وبالتالي اختلت منظومة قيمهم، ونستطيع أن نقول : انعدمت ، أو تلاشت ، ولم يعد لها وجود ، أصبحوا في ( الأعماق السفلي ) لهذا المجتمع ، أصبحوا حضيضا ، لا قيمة لهم .. اقرأ معي هذا الحوار المقتبس من هذه المسرحية : يتحدث كستليوف - صاحب المنزل- إلى لوقا القسيس الحكيم قائلا وهو يهزأ منه : - أي نوع من النساك أنت ؟! انك لا تملك جواز سفر ، بينما الرجل الفاضل يجب أن يكون معه جواز ، فكل الأخيار معهم جواز سفر ، نعم .. لوقا : هناك ناس وهناك مجرد رجال .. كستليوف: لا تحاول أن تكون ظريفا ، لا تكلمني بالألغاز ، فأنا لست اغبي منك ، ماذا تقصد بالتفريق بين الناس والرجال ؟ لوقا : ليس هذا لغزا ، ما أعنيه أن هناك نوعين من التربة ، نوعا غير صالح للزراعة بالمرة ، وآخر خصبا ، كل ما تزرعه فيه ينمو ، هذا هو كل الفرق كستليوف : حسنا وما معني هذا ؟؟ لوقا : لنأخذك أنت علي سبيل المثال ، إذا قال لك الله عز وجل " كن رجلا ياكستليوف " فلن يحدث كلامه أي أثر فيك ، وستظل كما أنت إلى أن تموت. كلمات ( لوقا) الواعظ تعكس وجهة نظر ( جوركي) في الفرق بين الرجال ومجرد الرجال ، أي الفرق بين ناس وناس ، فعلي الرغم من البؤس والتشرد ، يمكن المحافظة علي سمات الرجولة التي تسمو بالإنسان ، فالإنسان عند جوركي ، لابد أن يكون موضع احترام ، لا موضع شفقة ، وهذا الإيمان هو الذي دفعه إلى الانتصار علي فقره ، وبؤسه ، وتشرده المبكر ، لأنه اكتشف مواطن الرجولة في داخله ، ولم يرض أن يكون مجرد واحد من الناس . وساتين – في المسرحية – يعكس إيمان جوركي بالإنسان ، مؤكدا – من خلاله – علي تلك القيمة ، حين يقول مخاطبا البارون : " إن الإنسان حر فيما يفعل ، وهو نفسه الذي يدفع الثمن ، ثمن الإيمان وثمن الكفر ، ثمن الحب وثمن الذكاء ، وهذا هو سر حريته .. الإنسان هذه هي الحقيقة ، ما هو الإنسان؟؟ ، انه ليس أنت ولا أنا ولا هم ، لا أنه أنت وأنا وهم ، والعجوز ونابليون ، ومحمد .. الكل في واحد ( يخطط بيديه في الهواء شكل إنسان ) أفاهم أنت ؟؟ انه شيء هائل ، فيه البدايات وكل النهايات ، كل شيء موجود في الإنسان ، وكل شيء موجود من أجل الإنسان ، لا موجود إلا الإنسان ، وكل ما عداه فمن صنع يده وعقله ، الإنسان !! ما أروعه !! في اسمه رنه زهو عجيبة ! الإنسان يجب أن نحترم الإنسان لا أن نشفق عليه، أو نحط من قدره ، أن نحترمه ، هذا هو واجبنا ، فالشرب نخب الإنسان يا بارون ! ( ينهض) ما أجمل أن يشعر الواحد منا بآلامه إنسان يا بارون " في الحضيض نتعرف علي نماذج متباينة من البشر ، يمثلون شرائح مختلفة في مجتمع روسيا القيصرية ، كتبها جوركي في عام 1902 ، أي قبل الثورة الروسية بخمسة عشر عاما ، وتعد الثانية – من حيث الترتيب – في أعماله المسرحية ، وأصدر قبلها : البرجوازيون 1901 (2) وفيما بعد صدرت له : المصطافون 1904- أبناء الشمس 1905 – الأعداء 1906-(3) والعجوز . وأصدر بعد الثورة مسرحيتين هما : أيجور بوالتشوف والآخرون 1932 – و دستوجايف في نفس العام ، ومات بعدهما بأربع سنوات (4) هؤلاء المنبوذون والهاربين من العدالة ، يعبرون عن ذوات بعضها مريض وبعضها الآخر صحي ، فالبارون الذي كان يعمل موظفا في الدولة إلا أنه كان يحلم بالعيش كما يعيش البالونات ، ودفعه هذا الحلم إلى اختلاس أموال الحكومة ، فدخل السجن وحينما خرج لم يجد مكانا يأوي إليه إلا هذا القبو ، وهو ما يزال يعيش الحلم القديم ، أن يكون بارونا !! والممثل هو الآخر يعيش حلما لا يتحقق - رغبته الدائمة في التمثيل- ولا يملك شيئا يتيح له فرصه الانطلاق في هذا المجال الذي يحبه ، فيعيش حالة التمثيل مع نفسه داخل القبو ، وحين لايجد أحدا يعيره اهتمامنا ، وبأن الحياة لم يعد فيها ما يستحق أن يعيش من اجله ، أقدم علي الانتحار في نهاية المسرحية . وساتين الذي قتل رجلا اعتدي علي شقيقته ودخل السجن وخرج منه ، ولم يجد مكانا آخرغيرهذا القبو الذي تدور فيه الأحداث ، نراه يواجه العالم المحيط به بالسخرية اللاذعة والمرارة التي تصل إلى حلوقنا معه . وفاسيلي الشاب اللص ، والمرأة التي تعاني آلام المخاض ، وتموت ولا أحد يهتم بها ، وصاحب المنزل الذي قتله عشيق زوجته .. واليوشكا الإسكافي الذي لا يستطيع مواجهة الحياة بأي شكل ، وكذلك ( كلستشن) مولف المفاتيح الذي يسحر من كل شيء .. كل هؤلاء قدمهم جوركي في مسرحيته ، ولم يكن متعاطفا معهم تعاطفا تاما ، ولم يكن ضدهم أيضا ، بل قدمهم اعتمادا علي رؤية مؤداها : أن هؤلاء يعبرون عن حالتين إنسانيتين: بعضهم – برغم الحاجة والعوز - يتحولون إلى نمور بشرية ، انهم ميالون إلى الإجرام ، لا يؤمنون بالأخلاق ، ولا يمكن لهم التماهي في المجتمع الحر لكي يصبحوا إنسانيين برغم فقرهم ، ويصبحوا اجتماعيين برغم عوزهم بمعني آخر : لن تستطيع السيطرة عليهم أبدا . والبعض الآخر رائعون إنسانيا ، يملكون القدرة علي الحلم ، ويسعون إلى تحقيقه لكن تشردهم وسكرهم نشأ بسبب عدم القدرة علي تحقيق الحلم ، وهو ما دفع الممثل إلى الانتحار -كما أشرنا من قبل – الجمع بين الحالتين المتناقضتين ، أو بمعني آخر الجمع بين تلك المشاعر المتناقضة والمتباينة في بيئة واحدة هو ما أدي إلى طغيان الصدق الفني حين قدم جوركي شخوص مسرحيته ، انه عمل مسرحي يحتفي بالشخصية الإنسانية ، ربما أكثر من احتفائه بالحدث المسرحي ، وعلي الرغم من أن بعض النقاد قد اخذوا علي أعمال جوركي المسرحية ، إنها تتبع الأسس التقليدية للبناء المسرحي ، من عرض وعقدة وحل ، كما فعل من قبله أعمدة المسرح الحديث : ابسن – برنارد شو – بيرندولو – بر يخت ، إلا أننا نري أن احتفاءه بالشخصية ، لم يُضعف بناء النص ، صحيح أنه جعل الشخوص يتحدثون كما أرادوا تماما وبتلقائية وعفوية تقترب من الطبيعية كأسلوب (5)، إلا أن تلك التلقائية نجحت تماما في إبراز أبعاد الشخصية الدرامية ، ويمكن الاستفادة من ذلك حين نود التعرف علي الطريقة التي يتم بها تقديم الشخصية الدرامية بشكل خاص ، أي أنها صالحة كنموذج فني نقيس عليه ، والتحلل من القيود الكلاسيكية للمسرح ، ليس عيبا يؤخذ علي جوركي ، أو غيره من الكتاب ، لكن العيب ، ألا يكون الكاتب قادرا علي معالجة موضوعه أو فكرته بشكل درامي ، انساني حقيقي ، فأعمال تشيكوف(6)واسترا فسكي(7)الروسيان ، لم يحتفيا بذلك البناء الكلاسيكي المتعارف عليه ، وهذا هو السبب الذي جعل ناقدا مثل د. محمد مندور يعتبر أن " مسرح جوركي ليس إلا امتدادا لأوتشرك تشكيوف (8)،بفارق واحد هو وضوح الرؤية الثورية عند جوركي ، نظرا لامتداد العمر به بعد وفاة تشيكوف سنة 1904 ، ليشهد ثورة 1905 ، التي لم تنجح ، والروح الثورية المتأججة بين صفوف الشعب الروسي ، وكذلك ثورة 1917"(9) إن الخلل الذي أصاب منظومة القيم – لدي هؤلاء الذين يعيشون في الأعماق السفلي للمجتمع الروسي – والتي أشرت إليها في بداية هذه المقدمة - يرجع إلى فساد القيصر ، وحاشيته ، وحين يستشري الفساد في أي مجتمع من المجتمعات ، فان منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية يصيبها العطن ، ومن الصعب – في هذه الحالة – أن يكون هناك معني لقيم : الشرف أو الضمير أو الحقيقة أو الحق أو العدل أو الحب أو الحرية .، كلها تصير إلى عدم ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، ربما يكون هناك استثناءا علي القاعدة ، لكننا – هنا – نتحدث عن القاعدة وليس عن الاستثناء . وسوف أضرب أمثلة لتوضيح ذلك المعني : فاسيلي الشاب الذي يعمل لصا يتساءل: "ما قيمة الشرف أو الضمير ، انك لا تستطيع أن تلبسهما في قدميك بدل الحذاء ، الشرف والضمير مهمان بالنسبة للأقوياء القادرين فقط ". وفي موضع آخر من المسرحية نراه يقول : "أحاول أن اسري عن نفسي ، بتذكر أولئك الذين يسرقون أضعاف ما أسرق، ويحاطون بالاحترام والتقدير ، ولكن ذلك لا يسري عني لأنه ليس الحل لما في نفسي .. وأنا حينما أقول ذلك ، لست مدفوعا بما يسمونه الضمير ، فأنا لا أومن به ، شيء واحد اعلمه جيدا هو أن هذا الطريق ليس طريق الحياة الحقة ، أريد أن أحيا حياة افضل ، ويجب علي أن أحيا بطريقة تدعوني إلى احترام نفسي. “ وهذا ديالوج آخر يدور بين التتري – الذي يعمل حمالا في الميناء- وساتن القاتل ولوز الذي يعمل حمالا أيضا في الميناء . التتري ( متحمسا ) : يجب أن تلعبوا بأمانة .. ساتن : لماذا ؟؟ التتري : ماذا تعني ؟؟ ساتن : لا أعني إلا ما قلته .. لماذا يجب أن نلعب بأمانة ؟ التتري : ألا تعلم لماذا ؟ ساتن : أنا .. لا . هل تعلم أنت ؟! ( يبصق التتري باحتقار شديد ، بينما يضحك الآخرون منه ) جويتر أو لوز ( مازحا ) : يالك من إنسان مضحك أيها التتري ، ألا تفهم انهم لو بدأوا يعيشون بشرف وأمانة ، فسيموتون من الجوع بعد ثلاثة أيام .. وكلستش صانع المفاتيح (10) يندهش من الذين يبحثون عن الحقيقة ، ويتساءل وهو في حالة منْ اشتعلت فيه النار : أي حقيقة ؟؟ أين الحقيقة ؟؟ لا عمل ولا قوة ولا مكان أعيش فيه ، كل ما بقي هو أن أموت كالكلب ، أليست هذه هي الحقيقة ؟! يارب رحمتك ، ما قيمة الحقيقة بالنسبة إلى ؟؟أنى أريد أن أ تنفس بحرية اكثر ، هذا هو كل ما أريده ، أي ذنب جنيته ؟ وما قيمة هذه الحقيقة التي تتشدقون بها ؟ ليست لدي فرصة للحياة يارب يا قادر .. ليست هناك أي فرصة !! هذه هي الحقيقة . - ويسرد الواعظ ( لوقا ) حكاية طريفة من حكاياته ، يدلل بها علي مفهومه للعدل ، وللحق ، ومفهوم زملائه من ساكني القبو تجاه تلك القيم ، يقول : حضر إلى سيبريا عالم نفته الحكومة ، وكان يحمل معه كثيرا من الخرائط والكتب ونحوها ، فقال له رجل كان معه : هل تصنع فيّ معروفا وتدلني علي مكان أرض الحق والعدل ، وطريق الوصول إليها ؟ ففتح العالم كتبه ، واستشار خرائطه ، بحث هنا ، وبحث هناك ، فلم يجد أرص الحق والعدل ، لا هنا ولا هناك ، كل شيء في مكانه ، وكل البلاد والأراضي واضحة في أماكنها ، أما أرض الحقيقة والعدل فلا وجود لها . . لم يصدقه صاحبه وقال له : لابد أنها موجودة ، حقق النظر مرة ثانية ، وإلا فكتبك وخرائطك ، لاقيمة لها إذا ما فشلت في إرشادنا إلى أرض الحقيقة والعدل ، فغضب العالم وقال : إن خرائطي أدق خرائط في العالم ، أما أرض الحقيقة والعدل ، فلا وجود لها في أي مكان ، فغضب صاحبنا وقال محتدا : لقد عشت وقاسيت كل هذه السنوات ، معتقدا في وجودها ، ثم تأتي خرائطك لتدحض هذا الاعتقاد .؟ هذه سرقة أيها القذر الحقير ، أنت لص ولست عالما ، وضربه بقبضته علي أنفه مرتين ، ثم تركه وعاد إلى غرفته ، حيث شنق نفسه . والكذب الذي يلجأ إليه هؤلاء البؤساء ، إنما يتخذونه ستارا لخداع غيرهم ، ولكن الإنسان المستقل - كما يقول ساتين القاتل في المسرحية – سيد نفسه ، الذي ليس عالة علي أحد ، هذا الإنسان يستطيع أن يستغني عن الكذب ، لأن الكذب عقيدة العبيد والأسياد ، أما الصدق فهو اله الإنسان الحر .. إن الجو العدمي ، الكابوسي الذي يقدمه ( مكسيم جوركي) في هذا النص باستعراضه لتلك النماذج التي تعتمل فيها المشاعر المتناقضة من الخير والشر ، والقبح والجمال ، والحب والكراهية ، والدنس والطهر ، يعريها أمامنا ، ويكشفها من اجل التغيير ، أو قل الرغبة في التغيير ، انه حال المجتمع الروسي قبل الثورة ، ذلك المجتمع الذي شهد عدة اضطرابات مهدت للثورة البلشفية ، وجعلت مكسيم جوركي كاتبا منحازا للطبقة المطحونة ، التي ظلت لسنوات طويلة وقودا للأغنياء والنبلاء ، وقد يري القارئ لأعماله ، إن شخوصه يرددون الشعارات ، فتصبح المسرحية وكأنها دعائية ، إلا أننا نستطيع أن نقول : انه استطاع أن يستدعي إلى خشبة المسرح أشخاصا حقيقيين يتحدثون بتلقائية كما يحسون ، رغبة منه في إحداث التغيير بهم ، فها هو ساتين يتحدث في الفصل الرابع ، وقبل نهاية أحداث المسرحية بوقت قليل قائلا : انه سأل الواعظ ( لوقا ) مرة : " لماذا يعيش الناس أيها الجد ؟؟ فأجاب : يعيشون في انتظار حدوث شيء أفضل يا صاحبي ، خذ النجارين مثلا ، انهم يعيشون كلهم حياة قذرة تافهة ، ولكن سيأتي يوم يولد فيه نجار لم تشهد له الأرض مثيلا ، ليس له نظير ، فيغمر ضؤ وه الجميع ، ويقلب صناعة النجارة رأسا علي عقب ، فإذا تتقدم عشرين عاما في قفزة واحدة ، وهذا شأن سائر الناس ، هذا شأن الحدادين وصانعي الأحذية وغيرهم من العمال والفلاحين كذلك ، وحتى الأسياد ، كلهم يعيشون في انتظار حدوث شيء أفضل ، يعيشون مائة عام ، وربما اكثر من ذلك في انتظار ظهور رجل أفضل ممن حولهم " .
أحمد عبد الرازق أبو العلا
هوامش : 1 – أناتول لونا تشارسكي – من مقدمة كتاب ( مكسيم جوركي) طفولتي - ترجمة : سهيل أيوب – دار التقدم – موسكو – 1981- ص 12 2- البرجوازيون صدرت الترجمة العربية لها في عام1971 – ترجمة :أبو بكر يوسف حسين ، وصدرت ضمن سلسلة مسرحيات عالمية التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر – العدد رقم 73 3- ترجمها فؤاد دوارة تحت عنوان ( الهمج ) في نفس العام الذي ترجم فيه مسرحية الحضيض عام 1953 4- ولد جوركي في عام 1868 وتوفي في عام 1936 ، أي أنه عاش ثمانية وستين عاما . 5- تنتمي مسرحية الحضيض لمكسيم جوركي الي المنهج الطبيعي في الكتابة المسرحية ، ذلك المنهج الذي آمن وقدم به أعماله المسرحية الكاتب ( اميل زولا) 1840 – 1902 وكان يري أن الفن يجب أن يكون علميا في موضوعه ومنهجه ، ويأتي الموضوع – في رأيه – من مصدرين : أن يكون من نتائج الكشوف العلمية ، أو أن يكون تسجيلا صادقا لظروف الواقع المعاش ، ولهذا فان علي الكاتب الدرامي – الطبيعي – أن يختار شريحة من الحياة اختيارا موضوعيا ، وأن يجعل شخصيتها تتفاعل مع الأحداث طبقا للقوانين الخاصة بالوراثة والظروف الاجتماعية ، تلك القوانين التي تحكم الإنسان وتكسبه كل سلوكياته وأفعاله ، كما ينبغي أن تكون نتيجة تفاعلات الشخصيات مع أحداثها ، مطابقة للكشوف العلمية . أنظر في هذا الشأن وبالتفصيل معجم المصطلحات الدرامية – د. إبراهيم حمادة –صفحة 300 وما بعدها . 6- انطون بافلوفتش تشيكوف( 1860 - 1904)الذي يرى فيه معظم النقاد قمة الطبيعية، ومن أعماله المسرحية : مسرحية (بستان الكرز) التي تعد من أعماله الهامة، فالمسرحية قصة رمزية مفعمة بالحنين عن الضياع الذي يحل بطبقة النبلاء الروسية وعجزها عن الالتقاء والتفاهم مع العالم الحديث. ومن أعماله الأخري: (الخالة فانيا) و(النورس) و (الشقيقات الثلاث) . 7- (الكسندر أوستروفسكي ( 1823 - 1886) يختلف عن جوجول وبوشكين اللذين لم يكتب كل منهما أكثر من بضع مسرحيات ،لكنه ألف – وحده - أكثر من أربعين مسرحية .ومن مسرحياته (لكل حكيم غلطة). 8- الأوتشرك – يعني الاستطلاع أو الريبورتاج . 9- د. محمد مندور – الأصول الدرامية وتطورها – مقال – مجلة المسرح – العدد السابع – يوليو 1964 10- عمل جوركي في شبابه صانعا للمفاتيح مثل كلستش .
#أحمد_عبد_الرازق_أبو_العلا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثقافة العنف والإرهاب الديني والسياسي في مسرحية - السحرة
-
الأيدي الخفية في مهرجان المسرح التغريبي
-
حفل موسيقي ياباني مصري قليل من الفن .. كثير من الضجر
-
الواقع ومتغيراته
-
مسرحيات ( محمد كمال محمد ) المشاعر الإنسانية : بين الحضور و
...
-
مقدمة في القصة القصيرة
-
ندرة الكاتب المسرحي: الصحفيون والمسرح .. و يا قلبي لا تحزن!!
-
من المحروسة 61 إلى المحروسة 2015 والتعبير عن هموم الوطن
-
بين النهر والجبل .. رواية تتحدث عن النوبة القديمة
-
عن تحديات العولمة .. والرغبة الآثمة في قمع الشعوب
-
المهمشون يدفعون الثمن في مجموعة ( عبق الشوارع) .. للكاتب - أ
...
-
ازمة النوايا الطيبة في قصص قصيرة من السعودية
-
عن رشاد أبو شاو وروايته - البكاء علي صدر الحبيب
-
هل تأثرت الثقافة في مصر عقب أحداث 11 سبتمبر 2001؟؟
-
استجابتنا للشعر من أين تبدأ؟؟
-
إسرائيل والتطبيع وعلي سالم - حول كتاب رحلة إلى إسرائيل
-
القمع في الخطاب الروائي العربي
-
حول الحوار المتمدن
-
ثقافة العنف والإرهاب
-
المثقفون والسلطة في مصر
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|