|
كافكا الآخر.. رصد الاغتراب الروحي /ج2
علاء اللامي
الحوار المتمدن-العدد: 3876 - 2012 / 10 / 10 - 01:15
المحور:
الادب والفن
هل كان كافكا صهيونيا؟
لعل من أهم ما يمكن التوقف عنده من استنتاجات وردت في مقالة للناقد جودت السعد بعنون "رموز تحت الرحى" هو ذلك القائل بعدم يهودية كافكا أصلا، وأن والده كان مسيحيا أو للدقة: يهوديا متنصرا كالكثيرين من أبناء جيله من أتباع "مندلسون"، الذين يدعون إلى التمسك باليهودية كدين، والانخراط في أطر المجتمعات التي يعيش اليهود فيها. وهذا أمر غاية في الأهمية لم يتوقف عنده الكثيرون. إن الكاتب يخرج بهذا الاستنتاج من خلال تأكيد الناقد الصهيوني (مردخاي شلف) الذي تولى كتابة سيرة حياة كافكا الأكثر تفصيلا وأهمية من بين العديد من السيَّر التي كتبت عنه ، على أن هذا الأخير ( يعتبر مواطناً يهوديا، نَهل من المصادر الفكرية اليهودية ) ويستنتج الناقد العربي من ذلك - وإن بشيء من المبالغة والمجازفة النقدية- أن هذا القول لشلف ( يؤكد لا يهودية كافكا، فلم يقل عنه "شلف" أنه يهودي بل - قال إنه - يعتبر مواطناً يهودياً نهل من المصادر الفكرية، وحسب نصوص التوراة حتى الكافر الذي يطلع على التوراة يصبح مقدساً مثل أنبياء اليهود. ويضيف شلف لقد بدا كافكا شخصية يهودية، ولم يقل "أنه" كان بالفعل "يهوديا"، ومن المؤكد أن كافكا كتب الكثير لصالح اليهود مما جعلهم يكافئونه بالاحترام والتقدير وإشاعة كتاباته.) ثم يمط السعد هذه الفكرة نحو تخوم أخرى لا يمكن القبول بها دون تمحيص أو تدقيق ، من ذلك قوله أن كافكا كان مشدودا روحيا ومتأثراً بشخصية الملك التوراتي شاؤول، وهو أول ملوك التوراة الذي أفنى عمره يقاتل الفلسطينيين، حاملاً تابوت العهد الذي دمرته سنابك خيول الفلسطينيين في إحدى المعارك، وقد يكون المعجب الحقيقي بالملك شاؤول هو (برود). ولنا أن نعتبر شكوك السعد في أن يكون برود،و هو المعجب والمتأثر بالملك التوراتي شاؤول وليس كافكا، نوعا من التمحيص الاستدراكي، خصوصا وإن سيرة وكتابات برود تنحو هذا المنحى وتؤكده بما لا يقبل الشك.
يناقش السعد نصا على قدر من الأهمية لكافكا هو المحكمة ، وتتضمن هذه المناقشة معلومات هامة منها أن التشكيك بذمة واستقامة ماكس برود لدرجة الشك في انه زوَّر وحرَّف وعدَّل كتابات كافكا لم يكن حكرا على المدافعين عن كافكا من غير الصهاينة، بل اشتركت فيه صحيفة هاآرتس الصهيونية الأوسع انتشارا في إسرائيل، وتحديدا عند مناقشة المصطلحات التي نسبت لكافكا، كتبت هاآرتس (وضع كافكا مصطلحات "رجل من الكيبوتس" أو رجل من فلسطين" ليبرهن على قدراته في الاقتباس كما استخدم مصطلح "شعب البلاد" بدل "شعب فلسطين" نقلاً عن يديشيةالجيتو وهي لغة خاصة باليهود الأوروبيين " الاشكناز " حين كانوا يعيشون في غيتواتهم ، وهي لغة خليط من عدة لغات وليست هي اللغة العبرية القديمة. وفي يومياته 26 –11 –1911 رسم كافكا صداقاته مع اليهود الغربيين، وكان "القانون" المعبر الذي أوصل "أربعة يدخلون الجنة" إلى مغامرة محسوبة. إن بصمات برود واضحة على كتابات كافكا هذه ...) أما بخصوص مكانة وموضع فلسطين في قلب وكتابات كافكا، فلم يكن مرضيا ولا مُشجِّعا كثيرا لدى الصهاينة، فها هو أحدهم يكتب في هاآرتس (العتاب الذي وجه إلى كافكا من النقاد الصهيونيين أن فلسطين لم تكن حلمه، ولا حلم الكثيرين من اليهود ومثقفيهم كما أنه لم يُشر في كتاباته إلى أرض الميعاد والعودة إليها والتي حددها هيرتزل بوضوح). هذه الفكرة يكررها الناقد العربي ويستنتج منها خلاصة أخرى مهمة وأكثر وضوحا من سابقاتها فهو يقول (تميزت كتابات كافكا بتطابقها، شكلاً ومضموناً مع أسلوب ومصطلحات برود، وهذا ما يظهر جلياً في قصة "سبب الاضطهاد"، ففلسطين لم تكن هدفاً لكافكا، قد يكون لها أهمية وموقع من نفسه، لكنه لم يفكر أن تكون وطناً لـه، والموضوع لا يعدو أكثر من توظيف من قبل برود خدمة لمسيرة الحركة الصهيونية التي تلاقي عنتاً في إيجاد مهاجرين إلى فلسطين. ولأن أعمال كافكا كلها بين يدي برود، وكافكا في عالم الأموات كانت حرية التلاعب بالنصوص سهلة، وذات قيمة مادية كبيرة في كثير من الأحيان).
وإذا كان تدخل برود في أعمال كافكا أمرا شبه محسوم بموجب تحليلات ومعلومات السعد فإن علاقته بأبيه خضعت هي الأخرى للاستقراء والتحليل الذي ينحو منحى نفسيا مسلطا الضوء على تحكم عدد من العقد النفسية كما يعتقد الكاتب بسلوك وتفكير كافكا كعقدة أوديب التي قول بأنه لم يشف منها وظلت تلاحقه كرها بالأب وحبا للأم والذي فسره آخرون كما يعتقد السعد كنوع من الهيام بالأرض الموعودة لتطابق صفاتها مع الحلم الأنثوي تجاه الأم . كما يعرج السعد على عقدة أخرى يتعقد أنها تحكمت بكافكا وهي عقدة " الخصاء اللاشعوري " التي كانت تضغط كوابيسها عليه والتي نجمت من شدة رعبه من والده والتي (أدركها "ماكس برود" وعرف كنهها وجوهرها، ولما مات كافكا مبكراً وظفها في خدمة التوجه الصهيوني السياسي والأيديولوجي.) ولعل أقل ما يقال عن هذه التحليلات الاحتمالية هو أنها تفتقد للدقة والمبررات العلمية الكافية إذ لا يكفي أن يعيش الكاتب أو المبدع أي مبدع كان حالة خلافية أو صراعية مع أبيه أو أمه ليستنتج الناقد أو المؤرخ وكاتب السيرة - من ثم – وجود سلسلة من العقد النفسية التي تشكل مجمل سلوكه وتفكيره وإنتاجه الأدبي وليخرج أخيرا بالحكم الغامض وغير المبرر من الناحية العلمية التالي (أن المشاعر الدونية – لدى كافكا - هي نفسية بالدرجة الأساس، وفي هذه النقطة يتساوى كافكا مع أي يهودي) وهكذا يضيع الفرق بين النقد والخلط!
غير أن ما سيلي من استنتاجات يتوصل إليها السعد يعيد لهذه الدراسة النقدية توازنها ويخرجها من المبالغات النفسانية التي مالت إليها، وخصوصا حين يلخص بالكلمات المعبرة التالية نتائج الدور الذي لعبه ماكس برود في حياة وأدب كافكا.إن (ما قام به ماكس برود قد شوّه كافكا وأفقده أصالته وخصوصيته وعبقريته وحولـه إلى دمية قابلة "للقولبة" وتغيير شكلها وأوضاعها، والدمية تكون عادة الانعكاس المعلن لحالة صاحبها. فالشروح والتحليلات والتفسيرات والنشر والتعليقات التي مارسها برود أفقدت العمل الإبداعي أَلَقَهُ وهويته وغدا الأدب والأديب – أي كافكا – ممسحة ينظف بها الأوساخ الصهيونية. عندما أصبح كافكا رجل المبيعات الأول، كان المحتكر الوحيد لأعماله اليهودي الجشع ماكس برود فهو من يبرم العقود مع دور النشر وهو بالتالي من يقبض الريع والمبيعات. من جهة أخرى أدرك برود أن كافكا كاتب نخبة، والنخبة قادرة على قيادة العامة، والحركة الصهيونية إلى ما قبل وعد بلفور كانت ما تزال نخبوية، ومعظم قادتها أدباء لهم حضورهم على الساحة الأدبية والفكرية الأوروبية، فلا غَرو إذا وجد في كافكا ما يخدم فلسفتهم وخططهم المستقبلية سواء أكان يهودياً أم لا وسواء وضع النص أم وُضع النصُ له...) غير أن المساواة الضمنية الواردة في هذه الفقرة بين أن يخدم كافكا النخبة الصهيونية عن طريق نصوص وضعها هو أو وضعت له ونسبت وألصقت به يتضمن ظلما من الناحية المعيارية والأخلاقية لكافكا، خصوصا إذا كان الكلام باتجاه تحميله مسؤولية ما فعله الآخرون باسمه وهو منه براء. أما إذا كان الكلام يتعلق بالحالة الوصفية، التي تتعلق بواقع ما حدث، والتي تذهب إلى أن كافكا، أو للدقة أدبه وما نسب له من نصوص ، يكون قد استعمل من قبل الحركة الصهيونية ونخبتها المثقفة فهذا تقرير لواقع الحال لا يمكن نكرانه وهو ما نحاول أن نقيم الدليل على انه حدث فعلا وبالضد من العمق الإنساني لمجمل أدب كافكا والنزوع التحرري المناوئ للقمع والإكراه والقسوة والتغريب الذي يضج به منجزه الأدبي كله.
#علاء_اللامي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كافكا الآخر : رصد الاغتراب الروحي
-
التيّاران اليساريّ والقوميّ بين الفشل وقصور الأداء
-
شط العرب اليوم : إنها الكارثة!
-
فرانز كافكا بعيون عربية
-
شط العرب في معاهدة أرضروم وما بعدها
-
شط العرب بعد قرن من الأطماع الإيرانية
-
نصف قرن من التجاوزات المائية الإيرانية
-
التجاوزات العدوانية الإيرانية على أنهار العراق/ توثيق أولي
-
سوريا: الدم المسفوك لا يحتمل مزايدات الساسة!
-
زيارة أوغلو الاستفزازية كانت لمصلحة عراقية كركوك!
-
ربيع الأكراد والخلط بين الصهر القومي والاندماج المجتمعي
-
مَن يعرقل إكمال سد بخمة وإنقاذ دجلة ولماذا ؟
-
الحدث السوري في ضوء التجربة العراقية: ضرورة الموقف المُرَكَّ
...
-
مشروع تحلية الثرثار سينقذ العراق، فلماذا إهماله؟
-
-الجزيرة- و-العربية- و-فن- احتقار عقل المشاهد!
-
العراق بين إيران وتركيا.. منعطفات التاريخ وثوابت الجغرافيا
-
الأسس العامة لميثاق شرف لإنقاذ الرافدين من الزوال / ج5من 5ج
...
-
-لجنة العلوي- تحذر السعودية وتنتقد قمة القاهرة وتناشد أربكان
...
-
وزارة الخارجية وقانون المجاري المائية الدولية : تقصير أم توا
...
-
وقفة عند التصريح الأخير للحزب الشيوعي العراقي: وداوها بالتي
...
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|