|
المندائيون وقطيع دراور - 3
عبدالله الداخل
الحوار المتمدن-العدد: 3875 - 2012 / 10 / 9 - 00:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
دراور - المشكلة السابعة مقدمة: ما أسمّيه "المشكلة السابعة" ما يتعلق، في رأي السيدة دراور، بدَوْر الحضارة على أولاد رجال الدين بشكل خاص، وشؤون أخرى، حيث لا ندري كيف يمكن، من خليط متناقض من الآراء، استنتاجُ أن الخطر على المندائيين يأتي من المندائيين؟
ما يجعل هذا موضوع شائكاً أسبابٌ كثيرة يتصدرها التساؤل لماذا تربط السيدة دراور مصير المندائيين بأولاد رجال الدين، لأننا نرى الآن بأن معظم مَن يُكرَّسون أو "يُطرَسون" كرجال دين جدد ليسوا من سلالات رجال الدين الاثني عشر الذين وصفتهم السيدة دراور لنا باسهاب "علمي" متحدثة ًعن أطوالهم أو أشكال أنوفهم في محاولة منها بالايحاء للقارئ باحتمال أن تكون أصولهم يهودية! شائكٌ فعلاً إذ لا بُدّ من عدم تجاهل حقيقة أن مصائر الأديان جميعاً ستكون محكومة بمدى التطور العلمي في هذا العصر وفي العصور المقبلة، هذا التطور الذي هو محكومٌ بدوره بمسار النظام الاقتصادي الرأسمالي ومصيره، وهو نظامٌ من المستحيل أن "يخلد" كما يدّعي الاعلام الرأسمالي بما يردده أحياناً من هراء خدم الرأسمالية من "الكتاب" و"المفكرين" أو "الفلاسفة" الرجعيين، خاصة بعد انهيار الكتلة الاشتراكية. إذن من المستحيل أن يظل العلْمُ خادماً للرأسمالية، شأنه شأن الدين الذي ورثته الرأسمالية من الاقطاع، فالتناقض الصارخ بين العلم الحديث والدين، بين الله وغزو الفضاء، حيث تتمثل ازدواجية الفكر لدى الانسان المعاصر الذي يشهد وجود الكنيسة الى جانب الجامعة، رغم انحسار نشاط الكنيسة كثيراً، هو جزءٌ يمثل نموذجاً مهماً من الفوضى الخطيرة الضاربة أطنابها في كل مكان وفي كل ركن من أركان نشاط الحياة البشرية: في الصناعة والزراعة والمواصلات والتربية والصحة والغذاء وغيرها، وفي كل مكان. تناقض الحضارة الغربية في التظاهر بالاهتمام بالحيوانات وبين اضطهاد الشعوب – بين ادعاء المحافظة على اجناس الأحياء المهدَّدة Endangered species أو المجموعات البشرية المعرضة للاختفاء، من جهة، ومن الجهة الأخرى الإهمال المتعمد لمصائر الأقليات الصغيرة جداً والمهدَّدة بسبب من الاحتلالات واضطهاد شعوب البلدان التي تحتوي على المواد الأولية وتدمير البيئة فيها. لقد ثبت كذب الإعلام الرأسمالي في القلق المفتعل على مصير هذه الكائنات بسبب التناقض الصارخ بين الأقوال والأفعال.
إن تحليل السيدة دراور لمستقبل الدين المندائي يخلط (دون تجانس) بين سلوك بعض أبناء رجال الدين وارتدائهم "السدارة" وقص شعر رؤوسهم وغير ذلك باعتباره تهديداً للدين، وفي جملةٍ في نفس الفقرة عن زواج مندائيات من غير مندائيين (وهو أمرٌ نادر جداً، إنْ لم يكن معدوماً، وقت كتابتها لتحليلها)، وفي الجملة التي تليها مباشرة تتحدث عن كون اجراء الطقوس على ضفاف الأنهار في المدن "مستحيلاً" (وقد ثبت خطؤها طبعاً) موحية بأن من "المستحيل"، أيضاً، طبعاً، أو على الأقل من المستبعَد جداً أن يقوم المندائيون بتحدي هذه المصاعب أو أن يلجأوا الى أسلوب حضاري في التعميد في مياه نظيفة داخل أحواض حديثة تـُبنى خصيصاً لهذا الهدف! في الجملة التي تليها مباشرة تقفز السيدة دراور الى إحصاء عام 1932 في العراق حين كانت نفوس المندائيين 4,805 فقط؛ وتقول أن هذا رقم مخفـّض عمداً، وهنا من الضروري طرح تعريف منير البعلبكي لتعبير understatement في جملة السيدة دراور: Understatement: "التصريح (أو الحكم) المكبوح: تصريحٌ مقصودٌ به أن يصوِّرَ الفكرة َعلى نحو أضعف أو أقلّ مما تقتضيه الحقيقة".
تضيف السيدة دراور أن نتيجة احصاء المندائيين تلك ستراجَع بهدف تصحيح عدد نفوسهم على ضوء الاحصاء الذي أنجزته الحكومة العراقية مؤخراً (احصاء 1947؟) وتضيف Under the mandate, communities like those at Amarah abd Qal’at Salih took on a new prosperity, and independent Iraq promises protection and tolerance. The danger to the flock lies within the fold rather than from wolves without. الترجمة: "تحت الانتداب، نعمت مجتمعاتٌ كالتي في العمارة وقلعة صالح برخاء جديد، والعراق المستقل يعد بالحماية والتسامح. ان الخطر على القطيع يكمن في الداخل (داخله؟) وليس من الذئاب خارجه."
من هذه الفقرة الختامية للسيدة دراور، التي تحاول فيها أن تواصل مناقشة عوامل الخطر باختصار واضح، تبرز أسئلة كثيرة لتطرح نفسَها أمامنا:
1 يؤكد هذا الرأيُ السياسي الخطير للسيدة دراور شكوكي حول مواقف الباحثة في القسم الأول (أنقله أدناه، بعد المشكلة السادسة) ويوضح لنا أين تقف هذه "الباحثة" بالضبط من مسألة الاحتلال البريطاني للعراق، فكيف يمكن لمجتمع ٍ في بلد محتل أن "يتقبل" أو "يضطلع بـ" أو "ينعم بـ" – "رخاء جديد"؟ وكيف كان من الممكن اعتبار العراق مستقلاً "تحت الانتداب"؟ وكيف يمكن لبلدٍ تحت الانتداب الأجنبي أن يؤمّن الحماية والتسامح، ناهيك عن "الرخاء"؟
2 أليس من المشروع أن تمتد شكوك القارئ لتشمل الغرض من البحث آخذين بعين الاعتبار، كما أشرتُ، الى طبيعة وجود السيدة دراور في العراق؟ وعلى هذا الأساس فمن الممكن، بل من المشروع تطوير هذا السؤال كالآتي: بماذا يختلف بحث دراور هذا (وحتى بحوثها الأخرى) عن نتاج "الباحث" البريطاني (مقلد لورنس) ولفـْرِدْ ثِسِجَرْ في أهوار وجنوب العراق والذي هرب من أهوار العمارة في الرابع عشر أو الخامس عشر من تموز 1958 في هليكوبتر نقلته من منطقة تابعة لاقطاعي من أصدقائه من أقطاب النظام الملكي العراقي حين نقلته الى ايران؟
3 خلاصة دراور (الخطر على القطيع يكمن في داخله وليس من الذئاب خارجه) يُجبِرنا على التمعن في بضع كلمات فيه: Flock – قطيع؛ fold – قطيع، لكنها تعني أيضاً "حظيرة الخراف"، أوَ ليس هذا مربكاً؟ فما هدف دراور إذن على وجه الدقة وماذا تريد أن تقول باستعمالها كلمة fold؟ أتعني بها "العراق" مثلاً، المجتمعات العراقية الأخرى، أم أن الخطر على المندائيين يأتي من المندائيين أنفسهم؟ وهل أن المسؤول هم رجال الدين وأولادهم مثلاً؟ وكيف يمكن إلقاء اللوم على رجال الدين فقط؟ وكيف يمكن التوفيق بين الاقتناع بضرورة الحضارة، أو، على الأقل، المظاهر الحضارية الآنية (في موضوعنا، وآنذاك، قص شعر الرأس، حلاقة الذقن، لبس السدارة، وغيرها) وبين الدعوة إلى الحفاظ على كوميُنتي معينة، دينية، والتي تماثل، الى حد كبير، الدعوة الى الحفاظ على جنس من الكائنات النادرة المهددة بالانقراض؟ وكيف يمكن هذا الحفاظ (أو كيف يمكن الاقناع به) عندما يكون من يدعو الى ذلك مؤيداً لاحتلال ٍلم يجيء بهدف التحرير (التحرير من الاحتلال العثماني في موضوعنا) – مؤيداً له وركناً منه وجزءاً من نظامه الفكري وتواجده البدني (العسكري)؟ (كان زوج دراور ضابطاً ومستشاراً بريطانياً) – لا بُدّ أن يكون المرء والحالة هذه جريئاً بما فيه الكفاية، أو مهمِلاً بما فيه الكفاية، أو، ربما، صلفاً بما فوق الكفاية!
ولهذا فإن قليلي الذكاء من بعض مندائيي المهجر، من الرجعيين والبعثيين والجهلة والخبثاء وأتباع النظام الدكتاتوري السابق ومرتشي النظام العراقي الحالي وبعض رجال الدين، ما فتئوا يرددون عبارة دراور عن الخطر الذي يأتي من نفس القطيع وليس من الذئاب حول القطيع، وذلك للتنديد بالكتاب والمثقفين التقدميين واليساريين المندائيين من الناشطين في اتحاد الجمعيات المندائية في المهجر ومجموعة حقوق الانسان والمنظمات النسوية (في السويد خاصة) الذين أثبتوا صموداً إزاء مجموعة من الانتهازيين و"الكتبة" البعثيين المأجورين ورجال الأعمال والوصوليين من رجال الدين والمرتشين والساعين نحو الزعامات الفارغة.
(ثبتٌ بالمراجع - في القسم الرابع، القادم) ـــــــــــــــ
القسم الثاني المشكلة السادسة
مقدمة في المشكلة السادسة:
الاستثمار Investment: سأتحدث هنا بشكل مبسط وواضح. ملاحظتان: الأولى، الاستثمار هنا بمعنى أن يترك الشخص المتنفذ أو المؤسسة المتنفذة أو الجيش المحتل مشكلة ًما في المكان الذي ستتم مغادرتـُه، أعني مشكلة يصنعها الجيش أو المؤسسة بالاعتماد على فرضيات أو إحتمالات أنْ تساعدَهم هذه المشكلة في العودة إلى ذلك المكان في زمن ما في المستقبل! وهذا يشبه الى حدٍ ما توظيف رؤوس الأموال أو ما يشبهها في مشروع ما وذلك من أجل "التنمية" growth وتحقيق أرباح في المستقبل!
الملاحظة الثانية في الاستثمار - يتحول العلم الى "علمزيف" pseudoscience بشكل خطير عند ممارسة هذا النوع من الاستثمار من قبل "المفكرين"، من مأجوري النظام الذي يوظف، في هذا الاستثمار، من "العلماء" (أو أشباههم)، أو من الكتـّاب الكولونياليين والامبرياليين وأدعياء العلم والحضارة من كتاب البورجوازية والعنصريين والمأجورين ورجال الدين.
وفي ما يتعلق بالسيدة دراور فإنه سيكون أسهل على باحثي ومختصي المستقبل من المندائيين أو غيرهم التوغل في دراسة كونها سودو-أنثروبولوجست من نوع ما، فأنا أكتفي بالاشارة إلى بعض (بالتأكيد لي كل) مشاكل بحثها، لأني أظن أني أطرح هذا الموضوع بوضوح لأول مرة في تأريخ المجموعة المندائية، فهو إذن مجرد بداية، أو مجرد استعراض لنماذج، أو دعوة لإعادة قراءة واحدٍ من أخطر البحوث عن هذه المجموعة البشرية المسالمة.
المشكلة السادسة: يحتار القارئ المتفحص في تفسير بعض ما تطرحه السيدة دراور في كتابها، فهي ربما اعتمدت على ما قاله رجل واحد (وهو لا يمكن، في هذه الحالة، أن يكون رجل دين لأن رجال الدين المندائيين كثيراً ما يعتمدون على النصوص الدينية)، كما أن الكاتبة ربما اعتمدت على ممارسةٍ لعائلة واحدة (أو عائلتين كحد أقصى، في رأيي) لكي تستنتج وتعتبر بعض الطقوس عامة لدى كل المندائيين. مثال: في الرابط التالي المقتطف من الكتاب الأساسي، آنف الذكر، للسيدة دراور، سوف أناقش جملتين يمثلان جزءاً واحداً أو جانباً واحداً من طبيعة ما أصفه كمشكلة سادسة وأسميه بـ"الإستثمار": http://www.farvardyn.com/mandaean6.php الجملتان: Mandaeans have told me that they observe the Moslem ‘Arfat as a fast, but it is not prescribed by their holy books. All Moslem festivals are mbattal days for Mandaeans. ترجمتهما: "أخبرني المندائيون بأنهم يتقيدون باعتبار عرفات لدى المسلمين صياماً، لكن هذا لم تفرضه كتبهم المقدسة. كل الأعياد الاسلامية "مبطـّلات" لدى المندائيين."
ينبغي أن أؤكد أن هذه "العادات" الملفقة التي تتحدث عنها السيدة دراور لا وجود لها في سلوك المندائيين: لا الآن ولا في الماضي! لا في الطقوس ولا في سلوك رجال الدين ولا في سلوك عموم المندائيين.
ينبغي أن أؤكد لمن لا يعرفني بأني بنيتُ هذا الرأي على ملاحظاتي الشخصية الدقيقة لسلوك المندائيين خلال أكثر من نصف قرن. فعلى ملاحظة سلوك مَن وعلامَ اعتمدت السيدة دراور في هذا التعميم؟
من الواضح أنها تناقش مسألة مزدوجة، لكن الفكرة في الجملة الثانية، البسيطة، ذات الطبيعة التعميمية، هي إمتداد للفكرة في الجملة الأولى، المعقدة-المركّبة compound complex, i.e. reported speech + but) الجملتان تجسدان مشكلة واحدة تبدو صغيرة لأول وهلة ثم لا تلبث أن تصبح مضاعفة فيبدو الافتعالُ فيهما أكثر من واضح.
كيف؟
1 ليس هناك نص في الكتب الدينية المندائية بهذه التعاليم، بالطبع، فالسيدة دراور أعلم من غيرها بما تحتويه هذه الكتب، فهي تقول هذا بوضوح: but it is not prescribed by their holy books (لكن هذا لم تأمر به كتبُُهُم المقدسة) عبارة "لكن" هذه استدراكٌ هدفه إقناع القارئ بما ورد في الجزء الأول من هذه الجملة المعقدة-المركبة. هذا ما لم توفق الباحثة فيه وهو ما يُشكـّل دحضاً قوياً لادعائها وكشفاً لتناقضها.
2 من العبث أن نسأل مَن الذي أخبر السيدة دراور أن يومَ عرفات لدى المندائيين يومُ صيام! لكن يمكن الحكم فوراً على عبارة "أخبرني المندائيون" باعتبارها غامضة، ويحق لنا اعتبارها مضلـِّلة لأنها تفتقد للدقة العلمية، حيث تتجاوز هذه الكلمة كثيراً من الخطوات العلمية ومفردات اللغة العلمية في عبورها المباشر، السريع، إلى استنتاج عام، لكن استنتاج السيدة دراور هذا مبْتسَر، غير مبرر على الاطلاق، دون تقديم الأدلة الكافية، بعبارة أخرى فإنه إستنتاجٌ قد يحمل كثيراً من احتمالات العمل على إلحاق الضرر بهذه المجموعة البشرية الضعيفة، المهدَّدة، سريعة العطب. إن عبارة "اخبرني المندائيون" أو "أخبرني مندائيون" (سواءاً تـُرجِمت مع "الـ"التعريف أو بدونها) لا تدل على الاعتماد على التساؤل والتقصي والاستنتاج العلمي أو التجربة وتحليل النتائج أو الاحصاء، فمن هم "المندائيون" الذين "أخبروها" بذلك؟ ما عددهم؟ ما نسبتهم للمجموع؟ في أي مكان وزمان أخبروها؟ لماذا يعتبرون ذلك اليوم صياماً؟ ما تفسيرهم لذلك وما تفسير الكاتبة؟ وأخيراً وليس آخراً: لماذا تؤكد الكاتبة على هذا؟ إن عبارة Mandaeans have told me عبارة ٌصحفية وليست علمية، وكأن الكاتبة تقول لقرائها: -"هم الذين أخبروني بذلك وأنا لستُ مسؤولة عن هذا الموضوع، ولستُ انا الذي أقوله، لذا أرجو ألا يلومني أحدٌ على هذا!" حتى الصحفيون لا يقولون عبارات لامسؤولة مثل "أخبرني الناس"! أو "قال لي مَن حولي"، بل هم يُظهـِرون مَن هم حولهم، مع التصوير أو التزوير، أو تاركين التزوير لنا كي نميزه (أو، ربما، لا نميزه!) فكيف بالعلماء؟ إنها عبارة صحفية رديئة جداً، فالعلماء لا يستعملون عباراتٍ كهذه طبعاً ولا يعتمدون عليها، بل يميلون كثيراً إلى إهمالها.
3 لا تكتفي السيدة دراور بهذا الادعاء وإنما تضاعف المشكلة بالتصعيد وبالمزيد من التعميم، فإن الادّعاء بأن "كل" الأعياد الاسلامية هي مبطـّلات (أيام لا تـُجرى فيها طقوس) لدى المندائيين هو إدّعاءٌ مبالغ به إلى درجة الكذب، لأن كلمة "كل" ليست فقط غير واقعية بل أيضاً غير مسنـَدة بالأدلة.
حسناً! إنه "تعميم" ليس له ما يبرره إذن! بل أستطيع القول بثقة بأن هذه المحاولة من السيدة دراور، من وجهات نظر المندائيين الحريصين على سمعة مجموعتهم وسلامتها، تعميمٌ مشؤوم، بل مغرض، ولأن أي كاتب من هذا النوع وهذا المستوى، خاصة من الكتـّاب الغربيين، بضمنهم كتـّاب الانجليزية التي تـُعتبر اللغة الثانية لكثير من المهاجرين، لا بدّ أن يميز بين المفردات التالية: All – Majority - Most – A lot – Some – Few – A small number – Only one family – Only one person – None هذه العبارات والمفردات التي يمكن أن تعطي فكرة سريعة وربما تدل بشكل ما على خلاصات نتائج دراسات لعيّنات معينة تحمل نِسباً واضحة، قد كان بامكان السيدة دراور أن تختار منها بشكل أفضل بدل هذا الاخفاق الذريع، الواضح، فما مدى الدقة التي تحملها خلاصة السيدة دراور في جملتيها أعلاه؟ إذا كان الأمر عديم الأهمية تاريخياً أو دينياً أو إذا كان ما أشارت اليه في الواقع لا يمارَس طقسياً، أو ربما كان منعدماً كلياً في سلوك المندائيين (كما في هذا المثال)، أو لنفرض جدلاً أنه ربما مارسه شخصٌ أو مارسته عائلة أو عائلتان، فلماذا الاهتمام به؟ لماذا طرح هذا الموضوع أصلاً؟ والأهم: لماذا هذا التعميم generalization؟ فلماذا استعمال كلمة All؟
عندما يستعمل العالم الجيد كلمة "كل" فمعنى هذا أنه قد اعتمد على نماذج وإحصائيات وأدلة …إلخ، وأن هذا أمرٌ عام ومفروغ منه ولا يحتاج إلى مزيد من التساؤل والتجريب! All "كل" لا تدع مجالاً للاستثناء، لأنها تتغير في حالة الاستثناء الى Most "معظم"، أو إلى majority"أغلبية" (وفي تفسير الأغلبية درجاتٌ أيضاً)، وهناك ما يمكن أن يعبّر عن الدقة بدرجات كما في الفرق بين المقارنة والمفاضلة comparative or superlative degrees، ويُضاف الى هذا طبعاً مما ذكرتُ أعلاه ومما كان بإمكان السيدة دراور استعماله. لا هذه المفردات ولا ما يخالفها أو يشابهها في السلـّم صعوداً أو نزولاً ("قليل"، "نادر"..إلخ) يمكن للباحث العلمي استعمالها اعتباطاً أو ابتساراً، فكيف بـ"كل" التي هي في أعلى السلـّم؟
لذا أستطيع التشكيك بكل قوة، في هذه النقطة بالذات، بنوايا هذه الكاتبة التابعة للنظام الكولونيالي البريطاني القديم! فاذا علمنا أن ظروف الحساسية الدينية لم تكن تشير الى أي نوع من التحسن في ظروف المندائيين، ولا غيرهم في الواقع، طبعا، إذ ْلم يكن العراق (أثناء كتابتها لبحثها) ذا نظام ديمقراطي، إنما كان التطور فيه على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفكري بطيئاً جداً، وذلك بسبب احتلال الامبراطورية البريطانية (1917) الذي جاء بعد قرون عديدة من هيمنة الامبراطورية العثمانية (عندما حضر الرجال الأصحاء لتقطيع أوصال الرجل المريض) لا لكي "يحرر" البلاد كما ادّعى الجنرال مود، (وقلده بغباء واضح جورج بُش الإبن في 2003، مستعملاً نفس العبارة)، بل ليستبدل احتلالاً امبراطورياً شرقياً قديماً باحتلال امبراطوري غربي جديد، فلماذا تعتقد السيدة دراور بأهمية هذه المسألة، وفي ذلك الوقت؟
إذن يحق لنا أن نقول أن السيدة دراور قد حذت حذو أركان أو أعضاء أو خدم الطبقات الحاكمة البريطانية في تطبيق طريقةٍ في الاستثمار، في المشاكل التي دأبوا على تركها عند مغادرتهم الصورية للمناطق التي يحتلونها عسكرياً. (راجع ملاحظات مفصلة في نهاية هذا القسم)
4 بقدر تعلق الأمر بالشؤون الداخلية (المعاصرة) للمندائيين في المهجر فقد أوضحتُ لهم قائلاً: أنك لا تستطيع أن تستغل فقراء المندائيين ثم تقول أنك مندائي حتى ولو استثمرتَ كل رساميلك في شراء مبنى باسمك أو بام "شركة" وتسميه مندي! وتجعله في الخارج والداخل يبدو أنه مبنى مقدس، وانت بانتظار أن يتضاعف سعره عدة مرات حتى اذا ما أصاب الضعف أوصال الكوميُنتي، قمتَ ببيعه أو قام ورثتـُك بذلك. كما لا يحق لك المتاجرة بالدين لأنك تستطيع ذلك مالياً، أو لأنك تستطيع أن تستثمر أموالك في قضية دينية من أجل إنشاء امبراطورية صغيرة بائسة شبيهة بأنظمة العسف اليهودي والمسيحي والاسلامي في التأريخ الطبقي المشين!
كما أكدتُ بأن الخطر على المجموعة المندائية في الغرب يأتي من كبار رجال الأعمال المندائيين ومن عملاء الدكتاتورية السابقين، ومَن استـُخدمت أفعالهم المشينة في العراق ابان الدكتاتورية كذرائع لاضطهادهم بعد انهيارها، وهم أنفسهم الذين يتدخلون في التنظيمات ويحاولون إستغلال الدين أو صغار رجال الدين (ثلاثة من كبار رجال الدين المتصارعين على الزعامة متورطون في التنظيمات المدنية لأنهم رجال أعمال) لتحقيق طموحاتهم الشخصية، النفعية الضيقة، وهم بضعة أفراد معروفون، يحاولون تكبير مكانتهم من خلال التنظيمات أو التدرج الكهنوتي أو تكثير عدد رجال الدين التابعين لهم ظناً منهم أنهم يؤمّنون زعامتهم من خلال تصويتٍ يجري في حدود "مجلس" ديني!
إن من يسعى لاستغلال مجموعة بشرية يجد نفسَه عادة ً خارج هذه المجموعة ولا يمت لها بصلة: لا يمت لمشاعرها وواقعها وتطلعاتها، بل إنه، عاجلاً أو آجلاً، يجد نفسه في مواجهتها، فانتماؤه الطبقي هو الغالب على انتمائه الإثني أو الديني. إنه يجد نفسَه خارج الكوميُنتي حتى وإن أنفق نصف ثروته من أجل أن يتم انتخابُه زعيما ما في هذه المنظمة أو تلك، رغم انه بكل تأكيد لا يحتاج لهذا، إذ أن الخمول واللاأبالية تعم أوساط الكومينتي في كل مكان (خاصة أستراليا) لأسباب معروفة.
فلنعد لموضوعنا: ما الذي جعل السيدة دراور تقول عن المندائيين: "الخطر على القطيع يأتي من بينه وليس من الذئاب حوله"؟ فهذا كلام ليس فقط لامعقولاً irrational، وليس فقط مشكليـّاً. إنه خلافيّ جداً، مثيرٌ للجدل، مثلما هو مشكلي بالمعنى الثاني أعني أنه مسبب لإثارة المشاكل بين مجموعات أو أفراد المندائيين، أي ضمن مجتمعهم. فهناك من المندائيين من أنصاف المثقفين منهم خاصة مَن يتحدث عن السيدة دراور كما لو كانت شخصاً مقدساً، أو كما لو كانت امرأة مندائية مؤمنة بالدين المندائي! "إمرأة دين"! ألم تتعلم اللغة المندائية وتتكلمها بطلاقة؟ ألم تكن ترتدي الملابس البيضاء في لقاءاتها بالمندائيين؟ ألم تكتب عن المندائيين والدين المندائي؟ ألم تكن لها علاقات طيبة برجال الدين؟ وأخيراً وليس آخراً ألم تشخـّص "مكمن الخطر" على المندائيين؟!
ولكن هؤلاء الذين يستشهدون بعبارتها الأثيرة لديهم لا يقولون لنا بالضبط ما تعنيه دراور! كما أنهم عند اقتباسهم المتكرر للعبارة، بمناسبة أو بدونها، لا يقولون لنا ماذا يعنون ومَن يعنون! بل ان رجل دين متطرف، طموح، أناني، وسليط اللسان، كثير التذمر، كتب مرة إلى أحدهم ما يلي: "أنا معك اخي ... في ان يكون هناك قرار يتبناه فضيلة رئيس الطائفة لرفع كل ما يسيء للدين المندائي خاصة اذا جاء ذلك من ابناء ذلك الدين"! وأردف: "ان الخطر على القطيع يكمن فيه لا في الذئاب من حوله"!
فما الذي جعل دراور تقول هذا الكلام؟ فمن السذاجة أن يزكـّي أحدٌ بحثاً ما كـُتِب أًصلاً إلا لغرض ماليّ، مثلما يكون من السذاجة تخيل أن السيدة دراور كانت حريصة على مصير المندائيين والدين المندائي، فحديثها عن الحضارة و"السدارة" يشبه كثيراً أحاديث الإعلام الرأسمالي على مصير أجناس من الأحياء التي تختفي تدريجياً من على سطح كوكب الأرض بسبب التلويث الرأسمالي للبيئة، ويشبه كثيراً جداً الحب الكاذب الذي يبديه الاعلام الرأسمالي للأطفال وللحيوانات في الوقت الذي تقوم فيه الأجهزة العسكرية الرأسمالية بقتل أو تجويع الأطفال والشعوب في أصقاع مختلفة من كوكب الأرض.
فلو سلـّمنا جدلا بأن الخطر يأتي من "القطيع" (بشرط عدم وجود ذئاب حوله) فإنه بلا شك سيأتي من الأكباش التي "تقود" القطيع نحو المجهول. وفي هذه الحال تكون مقولة السيدة دراور أكثر دقة في انطباقها على كبار رجال الأعمال وعملائهم من بعض كبار رجال الدين. فهم كزملائهم من الأديان الاخرى: فرجال الدين اليهود كانوا وما زالوا بتنظيماتهم القوية سلاحاً فكرياً رجعياً صارماً بيد الصهيونية وبوجه جماهير اليهود والعرب في فلسطين المقسّمة منذ 1948، فهم دعاة الحرب والانتقام، الإنتقام لأحداث عمرُها ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف سنة أو أكثر، هذا إن صح علمياً أو تأريخياً إثبات أن تلك الأحداث قد حصلت فعلاً! أحداث تتكلم عنها كتبٌ قديمة يقولون أنها "مقدسة" لأنها "هبطت من السماء"! ويصْدُق القولُ نفسُه كثيراً على زملائهم رجال الدين المسيحيين، مبرري جميع الحروب والاحتلالات الغربية في العصر الحديث مثلما في القرون الوسطى. (واحد من الأمور الغريبة التي تحاول وسائل الاعلام الرأسمالية طمسَها هو أن هتلر كان مسيحياً ومدافعاً عن المسيحية، بل كان "مفكراً" مسيحياً! وهي تغض النظر عن جرائم رجال الدين المسيحيين الألمان خاصة سلوكهم مع مجموعات ضخمة من يهود ألمانيا والدول التي احتلها هتلر، كبولونيا) أما رجال الدين المسلمين فإن العنف الغالب على سلوكهم وأفكارهم له جذوره العميقة التي تعود إلى نشأة الاسلام وإلى نصوص واضحة في القرآن متأثرة بشكل كبير بنصوص "العهد القديم" بسبب وجود مجموعات كبيرة نسبياً من اليهود في الحجاز عند نشأة وتطور الاسلام والقرآن في سنينه الأولى، وفي يثرب بصورة خاصة.
ترتكب السيدة دراور، إذن، خطأين كبيرين في ترديد هذه المقولة: الأول "أدبي"، إن صح الوصف، بنعت المجموعة بالـ"قطيع". قد يقول البعض: لا بأس! فتشارلي تشابلن يبدأ فلمه العظيم "العصر الحديث" Modern Times بلقطتين مثيرتين (حتى في مستويات ومفاهيم هذه الأيام) يصوّر فيهما كيف يُعامَل الشغيلة كالقطيع في النظام الرأسمالي، لكن هذا النقد يختلف بالطبع عن طبيعة طرح دراور مثلما تختلف شخصية ونمط تفكير تشابلن عن شخصية ونمط تفكير دراور؛ واذا كان ما أوحى به تشابلن فريداً، فربما كان ما تقوله دراور عادياً باعتبار الكاتبة جزءاً من نظام "مسيحي" أو "يهودي" حيث تتردد كثيراً هذه المفردة (أعني "قطيع") في أدبيات المسيحية واليهودية: أنا راعيكم، وأنتم قطيعي. أنتم غنم! لأنها تقولها بجد وليس بلغة أو أسلوب النقد الساخر. الخطأ الثاني فكري أو فلسفي إن صح التعبير، أي أن هناك أمراً غير معقول في اعتبار أن الخطر على قطيع الخراف لا يأتي من الذئاب بل من الخراف نفسها! فكيف يمكن اعتبار هذا الهراء كلاماً يصلح للبشر الناضجين عقلياً وفي هذا العصر؟
عندما كرر البعض ما قالته السيدة دراور: "الخطر على القطيع يكمن فيه لا في الذئاب من حوله" سألتُ مندائياً مسنـّاً: "عمّي: شنو رأيك بهذا الكلام؟"
فأجاب:
"بويه هذا عمري كله، خمّيت عكا ومكة، ما شفت خروف ياكل خروف!"
فما الذي كتبته السيدة دراور على وجه الدقة لتنتهي بهذا التحذير الكاذب عن مصير المندائيين: " الخطر على القطيع يأتي منه وليس من الذئاب حوله"!
ما الذي كتبته عن أبناء رجال الدين؟
وهل ان موقفها طبيعيّ ٌ، دقيقٌ، وواضح فيما يتعلق باضطهاد النظام الكولونيالي البرتغالي للمندائيين العراقيين؟
وهل ان حديثها عن رجال الدين المندائيين في مقدمة البحث كان سليماً؟
قد أناقش ذلك لاحقاً في الأجزاء اللاحقة من هذا الموضوع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ملاحظة مفصلة في "الاستثمار" الاستعماري المشار إليه: يتمثل سلوك الامبرياليين البريطانيين بترك حكوماتٍ أو مجموعات تابعة لهم في البلاد التي يحتلونها، قوامُها من الجواسيس واللصوص والعصابات من أعداء السكان، أو بترك مشاكل حدودية أو قومية أو اقتصادية أو فكرية أو دينية أو ما شابه، وهي مشاكل تبدو ضئيلة الأهمية عند خلقها في البداية، ثم لا تلبث أن تكون طاغية عند إثارتها فيما بعد، وهي في الواقع مشاكل لا تـُحصى في كل البلدان التي احتلتها الإمبراطورية البريطانية وكان من بينها، مثلاً، الهند التي كانت بلداً واحداً واصبحت فيما بعد: الهند، باكستان، ومن ثم بنغلاديش، بغض النظر عن الصراع الذي أفضى الى ولادة الأخيرة (بنغلاديش) في بداية السبعينات من القرن العشرين، فهو نتيجة عادية للتقسيم الأول (أتذكر جيداً أنه في فيضان عام 1971 المدمّر في "الباكستان الشرقية" أو "البنغال"، كما كانت بنغلادش تسمى، لم تكن هناك سوى هليكوبتر حكومية باكستانية واحدة لتعنى بالمصيبة والانقاذ والإغاثة والتوزيع...إلخ!) فإذا أضفنا الى هذه الدول الثلاث "منطقة" أخرى متنازع عليها بين الهند وباكستان وهي كشمير، فستكون هناك أربع دول، أو أربعة اقسام اساسية وكبيرة، وعند ذاك سنتصور فداحة هذا النوع من الاستثمار. كان هذا مثالاً واحدا. وهناك أمثلة أخرى بالطبع، كان من بينها، وأخطرها على سلام العالم طبعاً، إستثمارهم الشهير في الكويت، فما حدث كان رهيباً: 1- إعتباراً من إعلان البريطانيين استقلال الكويت ومطالبة عبدالكريم قاسم، الوطني، قائد البورجوازية اللاوطنية، بالكويت باعتبارها جزءاً كان البريطانيون قد قاموا بسلخه من العراق، تلك المطالبة التي أدت الى مضاعفة وتعميق مشاكل نظام قاسم وكانت عاملاً جديداً وذريعة جديدة لبريطانيا لإسقاطه وإغراق العراق بالدماء والدموع؛ 2– مروراً بتقليد صدام حسين لعبد الكريم قاسم، لكنْ ليس بالمطالبة بالكويت والتمهيد بأساليب الإقناع القانوني أو التأريخي أو الدعائي كما فعل قاسم، إنما بالاجتياح سيء الصيت الذي تعرض فيه الكويتيون التي سمّاها صدام المحافظة التاسعة عشرة، الذي بدا للعالم وكأنه مفاجأة في الوقت الذي كانت الأنظمة الغربية تنتظره بفارغ الصبر؛ 3- وانتهاءاً بـ (أ) الاحتلال الأخير للعراق والذي ساهمت فيه الكويت مالياً ودعائياً، الى جانب دول خليجية أخرى، بهدف الانتقام لجرائم قام بها النظام الفاشي ضد الكويتيين لا تختلف عن جرائمه التي سبقتها في كردستان العراق، أو في إيران أثناء حرب 1980-88، كما لا تختلف جرائمُه ضد الكويتيين وممتلكاتهم عن جرائمِه ضد الوطنيين والمعارضين العراقيين وممتلكاتهم، أو أؤلئك العراقيين الذين اعتبرهم النظام القومي الفاشي غير عرب أو عراقيين وأطلق عليهم تعبير "تبعية ايرانية" وقام باغتيالهم أو تهجيرهم في ليلة ظلماء ونهب أملاكهم. ما الفرق؟ (ب) ما حدث ويحدث في العراق بعد الاحتلال، وهو كبير الشبه، شبيه ومكبّر جداً، لما حصل في الكويت عام 1990 بعد الاجتياح الفاشي في الثاني من آب المشؤوم، أليس كذلك؟ (ج) مواصلة تعريض مصالح الشعب العراقي وأراضيه وآباره ومياهه وموانيه إلى خطر جسيم. * أما في الشرق العربي فبالاضافة الى تقسيم العرب الى دول كثيرة، فقد كان البريطانيون هم المسؤولين طبعاً عن وعد "اليهود" بتأسيس دولة لهم في فلسطين حيث سمي بوعد (أو إعلان declaration) بلفور، وبلفور هو إسم وزير خارجية بريطانيا في 1917 الذي صدر الوعد باسمه، وكانوا هم من بادروا عسكرياً لمساعدة المجموعات الصهيونية على اعلان الاستقلال وذلك باستغلال تخلف العرب الى اقصى الحدود "الشيطانية" حيث أصبح استقلال الدولة "اليهودية" في اسرائيل واحداً من أهم وأكبر الاستثمارات الغربية في المنطقة العربية.
النظام الإقطا-رأسمالي البريطاني كان وراء مشكلة الكويت وقد قام هذا النظام الطفيلي بتأجيل إعلان ما سُمّي "استقلال" الكويت الشكلي حتى في وقت متأخر، أي الوقت المناسب، أعني الى ما بعد انبثاق حكومة وطنية في تموز 1958 التي جاءت إثر حركة عسكرية قامت بها منظمة سرية فريدة من نوعها من الضباط الوطنيين (فريدة بمعنى أنها ضمت عناصر غير متجانسة سياسياً أو فكرياً) ثم دفعتها الجماهير العراقية وساندتها في إجراء تحولات ثورية جذرية وذات صفات طبقية عميقة كان من بينها قانون الاصلاح الزراعي الذي نقل العراق من نظام إقطاعي (أقرب إلى القنانة، وليس كما وُصِفَ سابقاً بأنه "شبه إقطاعي" باعتبار كون مجمل النظام مزيجاً من الاقطاع والبورجوازية المتوسطة)؛ فالنظام البريطاني لم يكن يتوقع ذلك التغيير الكبير الذي حدث في العراق، وقد كانت "الثورة" ثورة جدية بالمعنى العلمي، الطبقي، وكانت، في الواقع، صدمة قوية ومؤلمة جداً للنظام الإقطا-رأسمالي البريطاني، صدمة لا فقط بسبب المفاجأة، بل أيضاً لقضائها السريع والمبرم على أركان النظام الملكي التابع للتاج البريطاني. لذا لم يكن النظام البريطاني، عندما كان مهيمناً على العراق، بحاجة الى إعلان استقلال دولة مجهرية على شكل "مشيخة" تنسلخ عن العراق ثم تـُستخدم كشوكة في مؤخرته، والتي كانت في الواقع، وكما تشير دلائلٌ تأريخية وجغرافية وقانونية، جزءاً من العراق. أتذكر أني كنتُ أحد الساخرين من عبدالكريم قاسم بسبب مطالبته بالكويت ربما بسبب عدم اطلاعي على وثائق تأريخية تتعلق بالحدود. وعلى أية حال كان هذا الإعلان عن الاستقلال الصوري قد أصبح ضرورياً للتاج البريطاني بعد نجاح حركة 14 تموز، أو، على وجه الدقة، أصبح ضرورياً في الوقت الذي يختاره البريطانيون، لذا لم يعلنوا "استقلال" الكويت ذاك بعد أحداث تموز مباشرة، وهو ما كان متوقعاً إثر هبوط وحدات من مظليين بريطانيين في الكويت (كما فعلوا في الأردن)، وانما اختاروا الوقت الملائم لذلك بعد ارتداد عبدالكريم قاسم عن نهج التغيير الجدي، الطبقي، أي بعد حوالي ثلاثة اعوام من "الثورة"، وذلك من أجل تشديد أزمة النظام القاسمي قبل دفع عملائهم للإجهاز عليه، وهؤلاء كانوا بالطبع مجموعة من الضباط البعثيين والقوميين الناصريين (والناصريون منظمة تابعة الى الرئيس المصري جمال عبد الناصر وسُميت عليه) والرجعيين والتجار الكبار والاقطاعيين والموظفين الكبار أيام الاحتلال (وما تلاه من السنين العجاف حتى حركة تموز) ومسؤولي الأمن والشرطة أيام جاسوسهم الكبير الضابط التركي نوري السعيد والعائلة "المالكة"، "المقدسة"، التي استوردها تشرتشل ولورنس إلى العراق ودول عربية أخرى من الحجاز، والمتضررين بحركة عبدالكريم قاسم الثورية وبالاصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي حققتها بدفعٍ وإسنادٍ من اليسار العراقي، وبشكل خاص الحزب الشيوعي الذي كان يقوده رجلٌ أمين كان يفتقر الى المبادرة بسبب إحترامه الفائض لآراء الآخرين، وإيمانه بنوع من الديمقراطية الفضفاضة، وهو حسين أحمد الملقب بالرضي (ويُكنى "سلام عادل") قبل انقلاب شباط الفاشي الذي قام بإعدام الرضي ومجموعته، أي قبل تغيير سياسة هذا الحزب نحو اليمين على أيدي عزيز محمد ومجموعته الانتهازية التي وقـّعت مع البعث فيما بعد على ما يُسمى بـ"الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" (أو "جَوْقـَتْ") في 1973؛ وعلى أية حال فإن الانتقام الذي أعقب انقلاب شباط الفاشي لم يكن انتقاماً من أجل البعثيين والناصريين لأنه كان من الواضح انه انتقامٌ للنظام الملكي الاقطاعي وللعائلة "المالكة" ولبريطانيا، ثم باع البعثيون حقوق العراق في المطالبة بالكويت بمبلغ أربعين مليون دولاراً استلمها "القادة" (كان عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية وأحمد حسن البكر رئيساً للوزراء) من الكويتيين بعد الانقلاب، لكن المبلغ كان أيضاً أجوراً للانقلابيين على أهم وظيفة قاموا بها وهو ما دفع البريطانيين أسياد الكويت الحقيقيين الى تشجيع البعثيين وحلفائهم على التصفية البدنية للشيوعيين وقادتهم وعلى الاعتداء عليهم وعلى عوائلهم دون رحمة ودون وازع من ضمير أو تقاليد.
وهناك العديد من أمثلة المشاكل الأخرى التي تركها البريطانيون وراءهم وعادوا الى اثارتها بشكل أو بآخر في مستعمراتهم السابقة.
هذا الاستثمار السياسي للمشاكل الحدودية التي تركتها الحكومات البريطانية وراءها في انسحابها الصوري من المناطق والبلدان التي قامت الامبراطورية الاقطا-رأسمالية البريطانية باحتلالها من أجل المصالح الطبقية الضيقة لشريحة ضيقة من الطبقات العليا في المجتمع الذي يمتاز فيه أفراد الشعب البريطاني العظيم عموماً بطيبة متناهية خاصة في الريف والمناطق البعيدة عن مراكز المدن الرأسمالية الكبيرة، فالبريطانيون ذوو ذهنيات متفتحة ورقـّةٍ وأخلاق سامية بالمقارنة مع المجموعات العريقة في الإجرام في الطبقات العليا من مجتمعهم.
إن في مقدمة المشاكل المستثمَرة التي تركتها وتتركها الجيوش البريطانية إلى جانب المشاكل الاقتصادية الناجمة عن امتصاص ثروات البلدان المحتلة وسرقتها هي مشاكل اجتماعية وأخلاقية في مقدمتها نشر الارهاب البدني والنفسي بتنفيذ العقوبات الصارمة على السكان، ومشاكل فكرية حيث تأتي في مقدمتها الأديان والتشجيع عليها وشراء رجال الدين وعدم الاهتمام بالتربية إلاّ بقدر ما يؤمّن لهم موظفين وضباطاً مخلصين لنظامهم يمنحونهم أجور العبيد (peanuts على حد تعبيرهم، أي "فول سوداني" أو "فستق العبيد"!) كي يظلوا مرتشين كما كانوا أيام العثمانيين مع تشجيعهم على الاستمرار في القسوة ضد أبناء جلدتهم، وتحويل جميع هؤلاء وغيرهم إلى جواسيس وخدم للامبراطورية البريطانية التي "لا تغيب الشمس عن أراضيها"! كما أن نظام الاحتلال أبقى على التقاليد القديمة ومنع التقدم العلمي والحضاري بحجة "الحرية الدينية" أو "حرية الايمان" Freedom of Faith، وغيرها من الأكاذيب المفضوحة التي يركّزها الاحتلال الامبريالي في البلدان المتخلفة باعتبارها من أهم وسائل الهيمنة على السكان، وهذا سلوكٌ طبيعي، فالنظام الإقطا-رأسمالي البريطاني كان هدفـُه وما زال نهب ثروات البلدان التي قام ويقوم باحتلالها بشكل مباشر (عسكري) أو غير مباشر (تشكيل أنظمة تابعة وتنصيب جواسيس في المواقع الكبيرة أو الحساسة)، ولم يخجل أقطاب النظام من الكذب المكشوف عن "التحرير" كقول الجنرال ستانلي مود بعد احتلال بغداد في 1917: "لا تأتي جيوشنا إلى مدنكم وأوطانكم كفاتحين، بل كمحررين"! “Our armies do not come into your cities and lands as conquerors or enemies, but as liberators.” General Stanley Maude, Baghdad, March 1917. وقد كرّر جورج بُش الإبن (في الاحتلال الأخير للعراق) هذا الكلام المنقول أصلا عن الألمان لدى احتلالهم النمسا عام 1938، حيث يُدان كاف التشبيه المضحك هنا، أعني كلمة “as” التي تعكس التعليمات الرسمية الروتينية والوقاحة العسكرية وتنم عن الغباء الاداري، وحيث تفضح اللغة ُجهلَ مستخدميها وصلافة الطبقات العليا الحاكمة والمتحكمة بمصائر الشعوب بسبب امتلاكها الإعلام والقوة العسكرية المتفوقة!
إن إحدى الوسائل المفضية إلى إستغلال الشعوب إحتلالُ أوطانها. فالحروب اساليبٌ طبقية لتصفية نزاعات طبقية، أو لتحقيق أطماع طبقية. فأطماع الطبقات العليا في أي بلد وفي أية حقبة تأريخية لا تحدها حدود. فاذا انطلقت طبقة ٌإقطاعية من قريةٍ ما، كما حصل بشكل متكرر في تأريخ النظم الاقطاعية القديمة، ونجحت قليلاً فإنها ستواصل حتى النهاية: نهايتها هي، إذ ليس من نهاية لأطماعها حتى سقوط الامبراطوريات التي تقوم بتأسيسها. والطبقات العليا في بلدٍ ما هي عدوة الفقراء في بلدها وعدوة جميع (بالتأكيد، جميع) الطبقات في البلدان الاخرى. إنهاعدوة الطبقات العليا والدنيا على حد سواء وفي كل مكان. فأعضاء شرائح الطبقة العليا الواحدة والأفراد الأثرياء في البلد الواحد وفي كل البلدان كبيرُهم يبتلع صغيرَهم حيث تحكمهم قوانين الأدغال التي يظنون أنها تحكم هذا الكوكب.
ليس ثمة فرقٌ كبيرٌ في الهدف بين احتلال العراق الحالي من قبل الولايات المتحدة من أجل الثروة النفطية الهائلة ثم مقتل مليونـَي مدني وتشريد ستة ملايين من مواطنيه، من ناحية، وبين مداهمة أكواخ الفلاحين واعتقالهم من قبل عصابات إقطاعي وحوشيته وحبسهم وتشريد عوائلهم، من ناحية أخرى.
عندما أقوم باستغلال شخص فإني أضع نفسي بالكامل خارج عالمه وهمومه ومشاعره وتطلعاته.
أضع نفسي في مواجهته.
مستغِل الكوميُنِتي يضع نفسَه خارج الكوميُنِتي، وفي مواجهتها.
أنت لا تستطيع أن تستغل العراقيين ثم تقول أنك عراقي، فإن من يصدقك قليلون، ولا يعني كلامُك سوى أنك تحمل "الجنسية" العراقية، هذا إن كنتَ تحملها حقاً!
فالذين سرقوا ويسرقون أموال العراق وعوائد النفط ومن ميزانيات دوائرهم ووزاراتهم، والجواسيس والقتلة والمختطفون والمرتشون، ليسوا عراقيين.
وإن كانوا عراقيين، فهم خونة، لأن مَن يخدع عدداً كبيراً أو صغيراً من الناس سياسياً أو دينياً أو بأي شكل ٍبغرض استغلالهم وسرقة أموال الشعب هو خائن لمجتمعه لأنه وقف ضد تطور وضد مستقبل هذا المجتمع.
كان صدام حسين وأبناؤه وأقاربُه أكبرَ رجال الأعمال في عهد الفاشيّة البعثية السابقة للاحتلال الأخير (2003)، وقد جعلت هذه الفاشية معظم رجال الدين من كل الأديان (مثلما جعلت من كثيرين آخرين) جواسيساً في خدمتها، ومن لم يخدمها أو وقف ضدها تعرض للاضطهاد وللموت، بضمنهم رجال دين شرفاء وناس صادقون في إيمانهم.
كانت مافيا عائلة المجيد التكريتية في صراع على نفط العراق مع مافيات عراقية أخرى، ومع مافيات أكبر، منظمات خطرة لا يهمها غير "البزنس والعائلة" قادمة من الغرب واجهاتـُها الاحتكاراتُ النفطية والتجارية الغربية ويوجهها رجال أعمال كبار جداً، مَلـْتي-بليونيرز، مثل جورج بُش الأب والإبن و"روح القدس" دك تشَيْني، حيث يليهم في الأهمية والحجم دونـَلـْد رَمْسْفـَلـْد، منظـّر "الحرية المشعّثة" Untidy Freedom Theorist (أو الحرية "المخربطة"!) حين أطلق "الفرهود" (النهب) الذي شمل ليس فقط ترك جثة النظام البعثي للديدان بل تعدّاه إلى البُنى التحتية للبلاد.
#عبدالله_الداخل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العشب
-
القرية – 78
-
كبار منسيون -1- عبد وحواح
-
القرية 77
-
مظفر النواب - 1 - بدايات الفرار الدائم
-
حوارات من سِفْر التحدّي -البدائي- - 1
-
القرية - 76
-
فتوى الشيخ عبدالله الداخل برجال الدين!
-
كامل الشوك
-
مقدمة جدية في تحليل جذور شخصية ابراهيم عرب - 2
-
ملاحظات في اللغة - 2
-
ملاحظات في اللغة -1-
-
مقدمة جدية في تحليل جذور شخصية ابراهيم عرب
-
الدين والجنون - 4 المدينة - 2
-
هل صحيح أن الخطر على القطيع يأتي منه وليس من الذئاب حوله؟
-
مختارات من -الوصايا-
-
أسماك الزينة - إلى كتّاب الإنترنت
-
لماذا وقعت زوجة القس في حب ملحد (قصة مملة!)
-
مقدمة في -سودونية- أحمد شوقي
-
ملاحظات في العلمزيف 2 Notes on Pseudoscience
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|