صاحب الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 1125 - 2005 / 3 / 2 - 11:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن أكثر ما يخشاه السلطان المستبد وجود نخبة من العلماء والفلاسفة، تنازعه الحًّجة على شرعية الحكم ومدى صدق دعواه لإحقاق الحق ونشر مبادئ العدالة والمساواة بين السكان. ولايخشى السلطان من احتجاج أو معارضة تضطلع بها مجموع من السكان، لأنه قادر على إنزال العقاب الشديد بهم وإجبارهم على إطاعته ولكن خشيته تكمن في بروز نخبة تحظى باحترام وتقدير الناس وقدرتها على تحريضهم وتنظيمهم ضده.
لذا يلجأ السلطان إلى شتى السُبل لإيقاع الأذى بنخبة المجتمع ويمنعهم من الاحتكاك بالناس وتبني مطالبهم وتحريضهم على العصيان. إن المبادئ الفلسفية الداعية للمساواة والعدالة، تفرض قيمها على الفيلسوف لتبني المطالب الاجتماعية ومن مهامه نشر مبادئ العدالة والمساواة والدفاع عن المظلومين.
هذا الأمر يقود إلى تعارض توجهات الفلاسفة مع السلطان حول إدارة شؤون المملكة ومهامها المفترضة للصالح العام، فإن أغفل السلطان مهامه كراعي لمصالح شعبه توجب على الفيلسوف إسداء النصح له لإحقاق الحق ومراعاة حقوق العامة من الناس.
وفي حال رفضها، لايجد الفيلسوف أمامه خياراً أخر سوى إعلان عدم صلاحية السلطان للحكم بالعدالة والمساواة بين الناس وتعرية مواطن الخلل والفساد في إدارة مملكته. وفي هذه الحالة يتخذ السلطان سبيل العنف والتنكيل بالفيلسوف المتدخل في شؤون المملكة ويعمل على تحريض العامة من الناس ضده ويتهمه بالإلحاد.
وتتخذ عقوبة السلطان أوجه مختلفة منها: التنكيل أو السجن أو النفي أو الملاحقة أو إلحاق الإهانة.......لأجل إسكات صوت النخبة في المجتمع وإخضاع الناس لمشيئته. "فقد حاول السلطان ((محمود الغزنوي)) الفتك بالفيلسوف ((أبن سينا)) فهرب الأخير إلى ((جرجان)) متخفياً".
تتوقف العقوبة المتخذة من قبل السلطان ضد الفيلسوف على دور وحراك الفيلسوف ومدى خطورته على السلطان، فكلما زادت خطورته في تحريك المجتمع ضد السلطان كلما كانت العقوبة أشد. وهذا الأمر قد يدفع الفيلسوف إلى الهروب من المملكة نحو المنفى تحاشياً من بطش السلطان خاصة عندما يزداد عُسف واضطهاد السلطان للفلاسفة والعلماء في المملكة.
فلقد أظهر ((الغزالي)) العزم على الخروج من المملكة خشية التنكيل به وكتب قائلاً:" وأنا أدبر في نفسي سفر الشام حذراً أن يطلع الخليفة، وحملة الصحاب على عزمي على المقام في الشام. فتلطفت بطائف الحًّيل في الخروج إلى بغداد وعلى عزم أن لا أغادرها أبداً. واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة، إذ لم يكن فيهم من يُجوز أن يكون للأعراض عًّما كنت فيه سبب ديني. إذا ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين، وكان ذلك مبلغهم من العلم".
إن لجوء نخبة المجتمع من المعارضة إلى المنفى، خشية التنكيل بها من قبل الحكام قديمة، قدم أنظمة الحكم المستبدة في التاريخ. وليس هناك ما يردع الحاكم كـ (القيم الدينية أو الاجتماعية) من استخدام أساليب العنف والقهر من أجل إحكام قبضته على المجتمع.
ولن تكون تلك القبضة الحديدة فعالة دون التنكيل واستخدام العنف ضد نخبة المجتمع من العلماء والفلاسفة والمثقفين، ومازالت تلك الأساليب القهرية للحكام معتمدة لوقتنا الراهن، ومازال طريق اللجوء إلى المنفى معتمد من المعارضة للحفاظ على حياتها من بطش الحكام.
إما فسحة البقاء في المملكة لمناهضة السلطان فلها عواقبها الوخيمة، وقد دفع ((الحلاج)) رأسه ثمناً لتلك المعارضة. وقد يغامر بعض الفلاسفة لمناهضة الحكام وسلوكهم غير السوي لإدارة الدولة، وتلك المغامرة تخضع لأمرين: الأولى محدودية تأثير الفيلسوف وتحريضه ضد المملكة، واقتصار اعتراضه على مجلس السلطان وتعرية حاشيته على التجاوز على المصالح العامة من الناس، والثانية مدى التسامح الذي يبديه السلطان تجاه النقد واعتباره من باب النصح والتقويم لشؤون المملكة وليس من باب التحريض ضده.
ويبقى حدود النقد مؤطراً في المجالس الخاصة الجامعة للعلماء والفلاسفة مع السلطان باعتبارها تداولية في شؤون الحكم يلجأ إليها السلطان لاستقراء الآراء المخالفة لإدارة المملكة. ولكن عند خروج هذا النقد عن حدوده المفترضة، فلن يتورع السلطان عن توجيه العقوبة اللازمة لأي شخص كان في المجلس.
ويروى عن ((أبي العلاء المعري)) كان سليط اللسان في حضرة السلطان، ولايخشى عاقبة النقد للسلطان وحاشيته. وحصل أن طُرد ((المعري)) أكثر من مرة من مجلس السلطان، لتطاوله على المجلس الذي يجمع الفلاسفة والعلماء مع السلطان.
"لقد أمر ((المرتضى)) حراسه مرة بسحب ((المعري)) من رجليه إلى خارج المجلس وإلقاءه في العراء نتيجة تطاوله على المجلس والسلطان". وفي مناسبة أخرى يحكى أنه في بغداد" دخل ((أبي العلاء المعري)) على ((المرتضى)) بينما كان يعيب على ((المتنبي)) بعض شعره، فما كان من المعري إلا أجاب: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله: لك يا منازل في القلوب منازل.......لكفاه فضلاً وشرفاً. فما كان من ((المرتضى)) إلا أن أمر حراسه بطرده من المجلس، وهو يقول غضباً لمن معه: أتدرون أي شيء أراد العمى ((المعري)) بذكره القصيدة...أراد قول المتنبي: وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ........فهي الشهادة لي بأني كاملُ".
وما كان ((أبي العلاء المعري)) يتجرأ على الرد على ((المرتضى)) لولا معرفته الجيدة بالمرتضى وإحساسه العميق بأن الأخير، لن يلجأ إلى استخدام العنف والقسوة ضد المخالفين له في الرأي، بل العكس يستأنس بآراء وأقوال العلماء والفلاسفة في مجلسه لتسيير شؤون الدولة. ويولي رعاية بالغة بهم، وهذا ما يفسر ازدهار العلوم والثقافة في تلك الحقبة في المملكة.
لم يقتصر الودًّ والاحترام وما حظي به العلماء والفلاسفة في زمن ((المرتضى)) في بغداد حسب، بل كان هناك مجلساً في حلب لـ ((سيف الدولة)) يجمع العلماء والفلاسفة، يتداول معهم شؤون العلم والمعرفة وكذلك شؤون الأمة وإدارة الحكم. وعرف عنه محباً للعلم والمعرفة وطالباً للنصح في شؤون المملكة والمجتمع.
كما عرف عنه متسامحاً وكثير العطاء لأهل العلم والفلاسفة، ولايخشى في حضرته العلماء والفلاسفة من قول الحق والإشارة إلى مواطن الخلل في شؤون المملكة وعرض مطالب العامة من الناس. لذا توافد على مجلسه الكثير من العلماء والفلاسفة، وكان يزيد من عطاياه تقديراً منه لنتاجهم في شؤون العلم والمعرفة.
ويحكى أن ((الفارابي)) دخل على سيف الدولة في مجلسه" فقال له سيف الدولة أجلس، فقال: حيث أنا أم حيث أنت؟ فقال: حيث أنت! فتخطى ((الفارابي)) رقاب الناس في المجلس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه. فقال سيف الدولة (بلغة المماليك) لحراسه لقد أساء هذا الشيخ الأدب! وأني لاختبره في العلوم إن لم يعرفها فخرقوا به. فقال له ((الفارابي)) بنفس لغة المماليك التي لايجيدها سوى المماليك والقلة القليلة. أيها الأمير أصبر فان الأمور بعواقبها".
وفيما بعد أصبح ((الفارابي)) جليس دائم لسيف الدولة حتى مماته. وتدلل تلك الشواهد على أن السلطان عندما يكون محباً للعلم والمعرفة، تتوافد على مجلسه نخبة من العلماء والفلاسفة يستأنس بآرائهم في كافة شؤون الدولة والمجتمع والمعرفة مما يزيد من كفاءته لإدارة شؤون المملكة المستندة إلى رأي نخبة المجتمع.
وبالضد من ذلك نجد السلطان الجاهل والأمي، يتوافد على مجلسه سفلة المجتمع بغرض الاستفادة منه في العطاء ويستأنس بمديحهم ويستخدمهم كأدوات قهرية للتنكيل بالمعارضين من نخبة المجتمع، ولاسبيل حينئذ لهذا السلطان ومملكته سوى الانهيار كونه يستند في مشورته إلى سفلة المجتمع لا هًّم لهم سوى تلبية مصالحهم وعلى حساب المملكة والمجتمع.
#صاحب_الربيعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟