|
سدُم ذاكرة أو المساء السبي
ياسين لمقدم
الحوار المتمدن-العدد: 3868 - 2012 / 10 / 2 - 03:41
المحور:
الادب والفن
قص/ سدُم ذاكرة أو المساء السبي ياسين لمقدم خرج من المنزل في ساعة ذات الأصيل، يجر وراءه خيباته ويطارد وقته الآخر. مرق بمحاذات مجموعة من الجالسين في المقهى، على الواجهة الخارجية، يتحاشى نظراتهم بالتحديق إلى الآماد البعيدة. سحناتهم تشي بضيم مكتوم، يتعقبون أحلامهم الهاربة، والشارع الطويل، العريض، يفضي إلى القصبة حيث ترتع أغلاط الماضي. فكر: للمساء كرنفاله الآثم. عاد أدراجه، مر قرب مجموعة من الدكاكين، يقضي أهلها جل أوقاتهم في الثرثرة، والعيون ترتجف في المحاجر ولا تكل. وقف قبالة شجرة الكاليبتوس السامقة، تغيرت ملامحها، هرمت، لم تعد كما كانت ولم تعد تأوي العصافير ولا شباب الحي الذين كانوا يجعلون منها مركزا لاتخاذ القرارات وباحة استراحة. ومن عليائها كان الأطفال يرقبون عودة آبائهم من مراكز العمل البعيدة، ويحدقون عبثا في الآماد القصية بحثا عن أهلة الأعياد ويمطرون بعضهم بالحمأ. الليل قادم بتريث والسماء التي تتناءى ستقع في نسيج الكواكب وتقبع هادئة مكابرة. وأعمدة الإنارة رنت إلى بعضها وسط الضباب في ليلة قاحلة شبيهة بجزيرة طفت على سطح البحر بعد غرق أكيد، فشكلت نجوما تئن في فضاء غبشي وتحمل على ظهرها آلاف المكنونات، تستفز المتطلع المتعطش للسبق الفلكي، وتحرق جناح بعض الفراشات الليلية. ساعتها فقط عاد إلى مأواه سالما من دوريات الليل من لصوص الليل من سيدة ترفل في سماجتها تزركش البسمات بالبلادة وتشهر الصمود تحت الغواشي. ولج المنزل متلفعا بالصمت وشهية مفتوحة عن آخرها لقضم ما تبقى من عشاء باهت. بعد أن أتم الأكل تناول الفرشاة لينظف الأسنان التي ظهرت له أمام المرآة هذه الليلة أكثر اصفرارا، شاخت. عالج النافذة المستعصية حتى انفتحت فحلقت نظراته في الفضاء مرتابة متمايلة كعصفور فر للتو من سجنه، تقيس الأفق، تبحث عن نقطه النائية في وقته الحائر على المستوى المحاصر. اصطدمت بجدار الضباب فكادت تتهاوى لو لم يتلقفها من دوامة السقوط في عمى الألوان بالإشاحة. نسمات مشبعة بعبق المنازل الواطئة تتسلل إليه من الدروب المهجورة التي رنت فيها السنابك، ونقشت على ثراها حروف ملاحم التاريخ الصادح بصفير الريح المغبرة، التي فرقت جموع الأصدقاء منذ الأزل، وأنهكت كاهل الصمت الأبكم بالإتاوات. انقادت الليلة لكثافة الضباب، وانقاد الضباب للريح المائسة، والريح المائسة تسللت إلى العرين فحملت ما اشتهت من ضواري لتلقي بها أنى شاءت. تناول مجموعة صور، قرأ على ظهر واحدة: "هناك كان يلهو ويعبث، يجري ويسقط، يسقط ثم ينهض ليتابع جريه. نهاره جري وأيامه كذلك. كلب لطيف لحارس السيارات الرابضة في ساحة محاطة بسور قصير يجلس عليه العامة خلال الأصيل. ولا يعبر الطريق إلا إذا أمنت. لكن مجموعة أطفال طاردته، وبالحجارة رمته، أراد أن يهرب إلى الرصيف الثاني لكن الحافلة داهمته، وها هو في الصورة جثة هامدة مسجاة بأوراق الجريدة". تذكر كيف جرفت السيول كل ذرات الأرض التي ولدوا فيها، منها، فهرولت أجساد عارية باتجاهات مختلفة/تصادمية. بعد مدة لم يرس على بر الأمان غير مركبه المنخور. وكخيالات الذاكرة تحتشد قصص الزمن الغابر على سطح سفينه تتدافع بالمناكب كي تنزلق إلى رمل الشاطئ، فتستلقي على ظهرها أو كيفما اتفق بأجساد تلمع في عريها، وتتسكع بين ثناياها أشعة الشمس. يتقزز من ذاكرته رغم أن كل الأيام التي ذهبت إلى غير رجعة لا تزال تحتفظ بصوره، بمحيطه، بمقدار راتب معاشه، بعدد عشيقاته. ذاكرة الذاكرة تتميز بسمة الأبدية، ولو تناءى عنها وطاف حول مدارات قصية وحدها تحوم فوق رأسه. وفي الصباح القادم سينطفئ الليل، وسيهب من حلم غادر يشكله في لوحاته موغلات سريالية، ولما يعيد قراءة الطلاءات سيكتشف جنونه ويعتنق مذاهب صامتة يجول بها في تيهه ليتأكد من تفاهته. يا ليالي الهزائم المتناسلة، بطونك حبلى مني بالعتم. الذاكرة تتنشق بشجن الوحدة، وتغرق في أحشاء الشوارع التعسات. ضحكات لولبية تأتيه من الخارج كأنها آخر فصل من دراما مسرحية تنتشي بالصور الجنائزية، تبعث على القنوط يليه الاندثار، ثم يتدافعان في كيانه المتوتر. ساعتها تقرأ الأيام برنامج قلقه المكنون، ثم تنفذ، فتواريه في جبانة رصاصية تنصهر لأول طلقة في أول الخريف. والريح، نعم، الريح إنها ترطن أو تنوح أو تقول شعرا...ترثيه. أزت النافذة وهو يغلقها تفاديا للجو الذي اعتكر، أبنت الذكريات الذين رحلوا، آجرت ما تبقى في الإطارات الخشبية، في الألبومات والدفاتر المدرسية وأنّت .
#ياسين_لمقدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النجعة الجبلية
-
قصص قصيرة للوفاء
-
قصص قصيرة حتى لا ننساكم
-
قصص قصيرة جدا
-
قصة قصيرة: طريق جرادة
-
قصة قصيرة: التيه
-
قصة قصيرة عيساوة
المزيد.....
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|