|
نموذج للاستعمار الجديد في العالم الثالث : قراءة انطباعية لرواية - الرجل المناسب - لوليام بويد !
مهند النابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 3867 - 2012 / 10 / 1 - 02:22
المحور:
الادب والفن
بالرغم من الجد والكد الذي يبذله المفكرون والباحثون الشرفاء لكشف النقاب عن طبيعة واهداف الاستعمار القديم والجديد ، الا ان سيكولوجية الاستعمار بقيت غامضة لدى الدهماء من الناس ، واكتفى الجميع بالكليشيهات والشعارات الكلامية المنمقة ، وكلها تلعن الاستعمار وتنسب لوجوده كافة المحن والانقسامات وكافة اوجه التخلف .... ولا يوجد أدنى شك من كون الهدف الرئيسي للاستعمار " قديمه وجديده " ينحصر في استعباد الشعوب ونهب الموارد ، وذلك بكل الاشكال التي يظهر بها صريحا سافرا او متخفيا غير مرئيا ، ومن خلال الممارسات العسكرية أم الاقتصادية التنموية أو حتى من خلال ممارسات التخريب والتجسس وتجنيد العملاء والمثقفين والكتاب . وربما رأينا ذلك سافرا في الحروب الأخيرة التي شنتها امريكا ومنذ عشرين عاما على العراق وافغانستان ، او حتى في ممارسات اسرائيل العدوانية والاستيطانية المستمرة ، وحتى في الوجوه الحديثة لاعادة الاستعمار والوصاية لأوطان العرب ، بحجة التخلص من الطغاة كما شاهدنا في تدخل الناتو في ليبيا ، وكما نشاهد حاليا في الضغوط العربية –الغربية لاعادة نفس السيناريو في سوريا ، وكلها مشاريع استعمارية سافرة تسعى لاعادة تقسيم بلاد العرب ضمن مخطط جديد لنشر "الفوضى الخلاقة " ، وبموافقة ودعم مشيخات وممالك النفط العربية ، وبمساعدة عاشقي السلطة والعلمانيين وتجار الدين وقاطني اوتيلات الخمس نجوم في عواصم الغرب ، الجاهزين فورا لتولي المناصب الجديدة ، كبدلاء جاهزين للطغاة اللذين انتهت أدوارهم وحان الاوان لاستبدالهم بوجوه جديدة ، واللذين لا تهمهم مصالح بلدانهم ، وكل همهم كراسي الحكم والسلطان ، واللذين يقدمون للمستعمرين الجدد كل التسهيلات بحجة "رد الجميل " ، والتي تسمح بهيمنة المصالح الاستعمارية في اقتسام النفوذ والثروة والموقع الاستراتيجي ، بل وتجدهم يسعون للصلح السري والتطبيع مع اسرائيل الغاشمة ، مستغلين غفلة الدهماء ورواج الفكر السلفي والبرغماتي ، ملقين عرض الحائط بمصالح شعوبهم وحريتها الحقيقية ، سائرين القهقرى عكس مسار الحتمية التاريخية لتحرر الشعوب وبناء المستقبل وسيادة الديموقراطية والتعددية ، وكأن قدر الشعوب العربية المسكينة الخلاص من استعمار داخلي قمعي خانق ( خلقه الطغاة بجبروتهم وفسادهم ) ، ليمسك بخناقها استعمار خارجي جديد (ديبلوماسي وناعم ) وأجندته معروفة وهمه الأكبر حماية مصالح الغرب النفطية والاستراتيجية ، والمحافظة على أمن اسرائيل وهيمنتها واستيطانها الجائر وتفوفها الكاسح . ومن النادر أن تجد كتابا صريحا يكشف النقاب عن خفايا الوجود الاستعماري في دول العالم العالم الثالث ، ويحاول ان يقدم صورة "حيادية – موضوعية" لأساليب الاستعمار الظاهرة والخفية .... وهذا ما وجدته وراء سطور رواية مترجمة بعنوان " الرجل المناسب " من تاليف الكاتب البريطاني وليام بويد ، فهو يدخلنا لمتاهات بلد افريقي خيالي ، من خلال رؤيا "مواري " حيث تحل الديبلوماسية الماكرة محل الاستعمار العسكري التقليدي ، وحيث نجد ان الديبلوماسية يمكن ان تلعب دورا خطيرا يوازي خطر التدخل العسكي المباشر ، لنقارن الدور الخبيث الذي تلعبه دول الناتو وامريكا وحتى اسرائيل ، بالتعاون مع الدول النفطية العربية وأبواقها الاعلامية ، لتاجيج الخلافات ودعم التدخل العسكري في دول ما يسمى الربيع العربي ! الرؤيا في هذه الرواية حيادية ومتوازنة لدرجة كبيرة ، فهي بقدر ما تكشف اللؤم والمكر والدهاء الاستعماري ، بقدر ما تسلط الأضواء على الخرافات والفساد والتخلف المستشري في هذا البلد "الافتراضي " الذي تدور فيه الأحداث . انها رواية سياسية من الطراز الاول بالرغم من خلوها من المباشرة والتقرير والخطابة ، وهي تكشف النقاب بجرأة عن الأحداث " الساخنة والمستترة " ، والتي قد تتماثل وتتشابه لحد بعيد يشكل او بآخر مع مجريات الامور في أي بلد من دول العالم الثالث . ف"شانجو" اله البرق هو الذي قتل امرأة تدعى " انوسينس" ، وحيث يتطلب البرتوكول القبلي ترك جثة هذه المراة لأيام تحت اشعة الشمس الحارقة ، بانتظار الكاهن " الساحر " للقيام بالطقوس السحرية التي تستدعي ذبح ماعز لتحرير المرأة وروحها من غضب "شانجو " ! ويشعر موظف السفارة البريطانية بالاستياء التام من هؤلاء الناس ، ويتمنى الخلاص منهم حيث يقول بمرارة :" وكل ما يتطلبه الأمر هو تنظيم مكون من ناس عاديين يقومون بالعمل الجاد ( الخالي من عبدة شانجو اله الرعد !)" . لقد اصبح رجال الخارجية البريطانية مهتمين بالانتخابات القادمة في " كينجانجا " البلد الأفريقي الافتراضي ، وذلك بعد أن تبين لهم ان مخزون الزيت الخام ( النفط ) المستكشف حاليا أكبر بكثير مما كان يظن اولا ، كما اتضح من الاستفتاء ان أكبر الأحزاب السياسية الموالية لبريطانيا له حظ كبير في اسقاط الحكومة الحاضرة ذات الشعبية الضعيفة . ويبدو ان رائحة النفط تملك " جاذبية طاغية " بالرغم من انها في واقع الأمر كريهة وسامة لحد ما ، ووجدنا تاثيرها القاتل في حربي امريكا على العراق ، وفي خلق دولة جنوب السودان وتقسيم السودان ، وفي التدخل العسكري السريع للناتو في ليبيا ، وفي التحالفات الغربية-- الخليجية المشبوهة لتخريب الثورات العربية اليانعة ، وكذلك في خفايا الصراع العالمي مع ايران ! الفساد النمطي ! أما الفساد المستشري في " كينجانجا " فهو "نمطي-نموذجي" يشبه الفساد المستشري في كافة بلدان العالم الثالث ، فهذه الدولة الافريقية الخيالية تأتي السابعة في ترتيب الدول المستوردة للشمبانيا في العالم (اما ترتيبها في الألعاب الألومبية فربما الأخيرة !) ، وهي تهتم كثيرا برفاهية موظفيها الكبار فقد اشترت لهم في العام الماضي اكثر من مائتي سيارة مرسيدس بنز . وتدار الانتخابات في هذا البلد الخيالي بطريقة نزيهة ن فيكفي أن تذهب الى أي قرية وان تدفع للعمدة ما يطلبه ، ثم تطلب منه أن يدلي أهل البلدة بأصواتهم ، فتحصل على تلك الأصوات ! فهل يستطيع بلد يستشري الفساد فيه بهذا الشكل أن يقاوم الاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة ! ويبدو ان مخيلة الكاتب متواضعة امام "ابداعات" الفاسدين المتنفذين في عالمنا العربي البائس ، اللذين لا يتركون مشروعا ينجز بدون ان يأخذوا منه نسبهم المئوية (او ما يسمى اصطلاحا : عمولتهم ) ، وقد اعطتهم " الخصخصة " الفرصة الذهبية لسرقة مرافق ومقدرات الأوطان بلا حسيب او رقيب ، كما يبدو ان الشركات العالمية التي تحظى بالمشاريع الاستراتيجية (في معظم دول العالم الثالث والعربي تحديدا ) قد اصبحت ملمة تماما بدهاليز هذه اللعبة ، وتعرف كيف ترضي كافة "اللاعبين" من خلال شبكة عنكبوتية تشبه تراتبية المافيا من حيث توزيع النسب وتوزيع الأدوار ، أما الأمثلة على ذلك فهي كثيرة ومتنوعة وربما تغري كاتب روائي مبدع لكي يباشر بكتابة رواية جديدة اقترح ان يسميها " الفساد العنكبوتي " ، واضمن ان تلقى رواجا وان تنافس فيلم "الأب الروحي" ان تحولت لشريط سينمائي ! استغلال الطقوس والعادات ! ان التحرر والاستقلال ليس حدثا شكليا وانما وعي انساني متجدد ، والمستعمر البالغ المكر والخبث يستغل الطقوس والعادات المحلية ليبرر فعله الاستعماري المحتقر للشعوب ، فالكاتب يصف افريقيا بواسطة بطله قائلا :" وكلها افريقيا ....مشهد "انوسينس" المرأة المغطاة بالعسل والتمائم والأحجبة ، وحيث الدخان الخانق يتصاعد من النار حولها ، والأطفال شبه العراة يتجولون في ذلك المكان بلامبالاة ، والدجاجات تنقر التراب .... والجثة راقدة في سباتها الأبدي ، لا تتأئر بشيء تحت غطائها الزاهي الألوان ...ومع كل يوم يمر عليها وهي بهذه الحالة تتعفن ويتكاثر حولها الذباب والحشرات الاخرى !" والآن كيف تخمن اي شكل من أشكال التقدم يمكن ان يسود في بلد تحكمه مثل هذه الطقوس والخزعبلات ؟ وهو نفس الاستنتاج الذي يتوصل اليه موظف السفارة حين يقول باستياء :" حلت عليهم اللعنة ! انه بلد مرذول لا يحتمل ، فهم يذهبون لأعمالهم يوميا دون ان يعنيهم شيء ، كما لو كان هذا اليوم يوما عاديا كبقية اليام ، ويمشون فوق جثث الموتى بدون احترام واي تفكير ....انهم حيوانات متوحشة فاقدة الاحساس ! " ، ان هذا التعبير الأخير تحديدا هو الذي يبرر "الفعل الاستعماري الخسيس " لأن الانسان لا يحترم حياة الحيوان المتوحش ! الاستعمار بوجوهه القديمة والجديدة يسعى دوما لتشويه صورة ضحاياه المعنوية والنمطية ، مستغلا الاعلام والمحطات الفضائية في عالم " القرية الكبيرة الواحدة " الذي نعيش فيه ، وهو يستغل الطقوس والعادات والممارسات المتخلفة ، وهو في عنصريته وكراهيته العمياء لا يتحيز لأحد سواء للحاكم المتسلط واجهزته القمعية الاجرامية الفاسدة ، او للمعارضين المشتتين الطامعين للسلطة والبائعين لضمائرهم وانتماءتهم ، ولا للثري الفاسد المبدد لثروات شعبه الشهواني ، ولا للانتهازي المتاجر بالدين ، ولا للطالباني الموسوم بالارهاب حيث لا يضير جنود اليانكي الأشاوس حين يتبولون بانتشاء فوق جثث قتلاهم ، كذلك لا تعير امريكا بالا حين يقوم جندي تافه بقتل ستة عشر افغانيا معظمهم من النساء والأطفال ، بلا سبب معروف ، بينما تقيم الدنيا ولا تقعدها عند سقوط صواريخ تائهة على بلدات دولة الاجرام اسرائيل ، ولا تجد احدا يندد بالضحايا الفلسطينيين المدنيين ، هذه هي النظرة الاستعمارية المتجددة والتي تحاول ان تتستر بمفاهيم حقوق الانسان ! تكمن مشكلتنا الحقيقية كعرب في اننا لا نحب القراءة ولا نأخذ العبر والدروس ، فكل ما حدث ويحدث الآن في اوطاننا هو مجرد تطبيق شبه حرفي "لبرامج ومؤامرات وسيناريوهات" مكتوبة وغير مكتوبة ، وملقاة هنا وهناك في خطب وابحاث وكتب وملخصات ، ولا نعيرها اهتماما لأننا نعتقد ان الأمر لا يخصنا وبأنها مجرد تنظير غير عملي ، ولأن اصحاب القرار معزولين في بروج عاجية ، تحيط بهم شلة من الفاسدين المنتفعين . نحتاج لصدمة وعي يومية تشبه صدمة الكهرباء ، وهذه هي المهمة الصعبة للكتاب والمفكرين والباحثين الشرفاء ! مهند النابلسي [email protected]
#مهند_النابلسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
-
الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم
...
-
“عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا
...
-
وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
-
ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
-
-بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز
...
-
كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل
...
-
هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟
-
-بوشكين-.. كلمة العام 2024
-
ممثلة سورية تروي قصة اعتداء عليها في مطار بيروت (فيديو)
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|