|
-لا شيء في هذا العالم أصعب من الحب-..غابرييل خوسيه غارثيا ماركيز - الأدب العالمي- -المكتبة الألكترونية -
فاطمة الفلاحي
(Fatima Alfalahi)
الحوار المتمدن-العدد: 3862 - 2012 / 9 / 26 - 01:56
المحور:
الادب والفن
"لا شيء في هذا العالم أصعب من الحب"..غابرييل خوسيه غارثيا ماركيز - الأدب العالمي- "المكتبة الألكترونية "
كيف يمكن لحياتي أن تكون من دون قلم المعلم ثابالا "
" لا وجود لمسنّ ينسى أين خبّأ كنزه " شيشرون
من عرفوني وأنا في الرّابعة من عمري، يقولون إنني كنت شاحباً ومستغرقاً في التأمل، وإنني لم أكن أتكلم إلا لأروي هذيانات. ولكن حكاياتي، في معظمها، كانت أحداثاً بسيطة من الحياة اليومية، أجعلها أنا أكثر جاذبية بتفاصيل متخيلة، لكي يصغي إليّ الكبار. وكانت أفضل مصادر إلهامي هي الأحاديث التي يتبادلها الكبار أمامي لأنهم يظنون أنني لا أفهمها. أو التي يشفّرونها عمداً، كي لا أفهمها. لكن الأمر كان خلاف ذلك؛ فقد كنت امتصها مثل إسفنجة، وأفككها إلى أجزاء، وأقلبها لكي أخفي الأصل؛ وعندما أرويها للأشخاص أنفسهم الذين رووها تتملكهم الحيرة للتوافق الغريب بين ما أقوله، وما يفكرون فيه.
وكانت لي أمنية : الشيء الوحيد الذي أريده في هذا العالم، هو أن أصبح كاتباً وسأصبح كاتباً . وأن أكثر ما يهمني في هذا العالم هو عملية الإبداع . أي سر هو هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوى يمكن لكائن بشري أن يموت من اجله ، أن يموت جوعا ، أو بردا ، أو من أي شئ آخر لمجرد عمل هذا الشيء الذي لا يمكن رؤيته أو لمسه ، وهو شئ في نهاية المطاف ، إذا ما أمعنا النظر ، لا ينفع في أي شئ ؟ - كان هذا الماركيز قد كرّس نفسه كلياً للكتابة ، يكتب يومياً دون توقف يذكر ولمدة سنة ونصف ، وأن توقف عن الكتابة ، فهو فقط ومضطرا لبيع كل ممتلكاته من أثاث وأجهزة منزلية ، كلما تراكمت عليه الديون .
- كان رجلاً ناسكاً بسحابات من الغموض مضى الزمان يجعلها أكثر تكاثفاُ.. لقد كان حالة غير قابلة للاختراق .
- ماكوندو هي المدينة العالم التي أعاد ماركيز بناءها بكل ما يحمل في قلبه من ذكريات الطفولة وبيت النمل وحكايات الجدّة ، والموتى الأحياء ، وبالنبرة ذاتها التي كانت تحكي بها الجدّة الحكايات تحدّث ماركيز عن الحرب والعنف وضياع المبادئ وسط الثورات الدامية والخلافات الأيدلوجية التي كانت تفتك ببلاده . هذه القرية المعزولة في أمريكا الجنوبية ( ماكوندو ) , تجري فيها أحداث غريبة غير واقعية لكنها تنخرط في سياق طبيعي ضمن الرواية دون استهجان من شخوصها , ومن هذه الأحداث عودة الأرواح بأجسادها الى الحياة مرة أخرى مصرة على التعلق بأماكنها ومقتنياتها ! .
- أبدى استغرابه ودهشته بقوله: "من عجائب الدنيا حقا أن يحصل مثل مناحيم بيجن على جائزة نوبل للسلام تكريما لسياسته الإجرامية، فقد أعطته الجائزة في البداية الغطاء اللازم لأن يذبح، وبسلام وأمان، أكثر من 2000 لاجئ فلسطيني في المخيمات داخل بيروت عام 1982م، التي تطورت، في الواقع، خلال السنوات اللاحقة على يد مجموعة من أنجب تلاميذ المدرسة الصهيونية الحديثة، مع حتمية الاعتراف بأن الذي تفوق على الجميع هو التلميذ النجيب إريل شارون".
**حزن غابرييل عما حدث يومها في صبرا وشاتيلا . ** ولو كان موجودا لوقتنا هذا هل ياترى سيحزن قلبه على ماحدث ومازال يحدث في العراق من مجازر وقتل على الهوية ؟ ** وهل ستسحق وترعب قلبه قسوة قلب بشار على إبادة شعبه ؟
قال: صادف أن كنت في باريس، عندما ارتكب شارون - بغطاء من جائزة نوبل للسلام تلك التي مُنحت لرابين والسادات - مجازر صبرا وشاتيلا التي قتل خلالها ما يقرب من 30 ألف فلسطيني لبناني . وصادف أيضا أن كنت في باريس عندما فرض الجنرال ياروزيلسكي سلطة العسكر ضد إرادة الأغلبية من شعب بولندا. أصابت الأزمة البولندية أوروبا بصدمة جعلتها تترنح من الغضب. وقمت شخصيا بالتوقيع على عدد كبير من البيانات التي تندد باغتيال الحرية في بولندا، وشاركت في الاحتفالية التي أقيمت تكريما لبطولة الشعب البولندي بمسرح ( بير ادى بار) تحت رعاية وزارة الثقافة الفرنسية. وعلى العكس من ذلك تماما ساد نوع من الصمت الرهيب عندما اجتاحت القوات الشارونية لبنان. علما بأن أعداد القتلى أو المشردين هناك لا تسمح بأية مقارنة مع ما حدث في بولندا .. لا أدري، هل يدرك هؤلاء أنهم بهذه الصورة يبيعون أرواحهم في مواجهة ابتزاز رخيص لا يمكن التصدي له بالاحتقار؟ لاأحد عانى في الحقيقة كالشعب الفلسطيني . فإلى متى نظل بلا ألسنة؟ إنني لم أجد من يومها من يدعوني إلى احتفال ببطولة الشعب الفلسطيني في أي مسرح تحت رعاية أية وزارة..!!
وأكمل قوله : هذا ما يدفعني الآن إلى التوقيع على "ذلك البيان" بشكل منفرد، وأن أعلن عن اشمئزازي من المجازر التي ترتكبها يوميا المدرسة الصهيونية الحديثة. إنني أطالب بترشيح أرييل شارون لجائزة نوبل في القتل. سامحوني إذا قلت أيضا إنني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل. ومن ثم أعلن عن تقديري غير المحدود لبطولة الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الإبادة على الرغم من إنكار "القوة العظمى" أو "المثقفين الجبناء" أو "وسائل الإعلام" أو حتى "بعض العرب" لوجوده. إنني أوقع على هذا البيان باسمي .. ووقع غابرييل خوسيه غارثيا ماركيز على بيان الإدانة الشهير متخليا عن جائزة نوبل للآداب التي نالها عام 1982 ، واعلان موقفه وتاييده للقضية الفلسطينية .. وعلى إثر بيانه شكل برلمان الكتاب الدولي وفدا يضم الكاتب النيجري "أوول سونكا"، والأديب البرتغالي "ساراموغو"، وهو الموقف الذي أيده ماركيز فورًا، وإن أبدى أسفه لعدم قدرته على المشاركة بسبب أوضاعه الصحية.، لزيارة الأراضي المحتلة، وتحديدًا رام الله . وهنا بادر الكتاب العرب بفك لجام صمتهم ، ناشرين المقالات في كل الصحف العربية تأييدا لموقف غابرييل من القضية الفلسطينية .. كما هو حال بعض مثقفينا ،لايتذكرون ولا يسألون عن أعلامنا ومفكرينا وعلمائنا ، إلا بعد أن يتلقفهم الموت في غفلة منا . وننسا أنهم كانوا بأمس الحاجة لسؤالنا عنهم وهم أحياء .
ومن بيانه: "نحن الذين نقاوم فقدان الذاكرة"؛ إذ رأى الوعاء الفكري لممارسات النازية متماثلاً مع الصهيونية، حيث ارتكز هتلر على نظرية المجال الحيوي لتحقيق مشروعه التوسعي باحتلال أراضي الآخرين." "ما أسماه هتلر الحل النهائي لمشكلة اليهود بوضعهم في معسكرات الاعتقال سيئة السمعة -هو ما رآه المخرج المناسب بالنسبة له- قد استند إليه الإسرائيليون من خلال الاستطراد في سرد وقائع الإبادة الجماعية لتبرير إبادة جماعية أخرى (وهي إبادة الفلسطينيين)". وأبدى رفضه للإبتزاز الصهيوني في قضية المحرقة قائلاً: "أما حكاية الملايين الستة من اليهود ضحايا هتلر، فمن الممكن إحالتها إلى ترسانة الخرافات اليهودية".
لا تنتظر أكثر بقلم غابرييل خوسيه غارثيا ماركيز "لو شاء الله أن ينسى أنني دمية، وأن يهبني شيئاً من حياة أخرى، فإنني سوف أستثمرها بكل قواي. ربما لن أقول كل ما أفكر به، لكنني حتماً سأفكر في كل ما سأقوله. سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه. سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور. سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام. لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، فسأرتدي ملابس بسيطة وأستلقي على الأرض، ليس فقط عاري الجسد وإنما عاري الروح أيضاً. سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق. للطفـل سـوف أعطي الأجنحة، لكنني سأدعه يتعلّم التحليق وحده. وللكهول سأعلّمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان. لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر... تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سرّ السعادة تكمن في تسلقه. تعلّمت أن المولود الجديد حين يشد على إصبع أبيه للمرّة الأولى فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد. تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف. تعلمت منكم أشياء كثيرة! لكن، قلة منها ستفيدني، لأنها عندما ستوضب في حقيبتي أكون أودع الحياة. قل دائماً ما تشعر به، وافعل ما تفكّر فيه. لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التي أراكِ فيها نائمة لكنت ضممتك بشدة بين ذراعيّ ولتضرعت إلى الله أن يجعلني حارساً لروحك. لو كنت أعرف أنها الدقائق الأخيرة التي أراك فيها ، لقلت " أحبك" ولتجاهلت، بخجل، أنك تعرفين ذلك. هناك دوماً يوم الغد، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل، لكن لو أنني مخطئ وهذا هو يومي الأخير، أحب أن أقول كم أحبك، وأنني لن أنساك أبداً. لأن الغد ليس مضموناً لا للشاب ولا للمسن. ربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبهم . فلا تنتظر أكثر، تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتي ولا بد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو قبلة، أو أنك كنت مشغولاً كي ترسل لهم أمنية أخيرة. حافظ بقربك على مَنْ تحب، إهمس في أذنهم أنك بحاجة إليهم، أحببهم واعتني بهم، وخذ ما يكفي من الوقت لتقول لهم عبارات مثل: أفهمك، سامحني، من فضلك، شكراً، وكل كلمات الحب التي تعرفها. لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار، فاطلب من الربّ القوة والحكمة للتعبير عنها. وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك". * رسالة الكاتب إلى أصدقائه ومحبيه إثر قراره إ”
" ومن أقواله " • الخجل هو شبح لا يمكن هزيمته • دع الزمن يمضي وسنرى ما الذي يحمله. • أحبك لا لذاتك بل لما أنا عليه عندما أكون بقربك. • في كل دقيقة نغمض فيها أعيننا نفقد ستين ثانية من النور • على الناس الذين يحبهم المرء أن يموتوا مع كل أشيائهم • المرء لا ينتمي لأي مكان مادام ليس فيه ميت تحت التراب • أن يصل المرء في الوقت المناسب خير من توجيه الدعوة إليه. • لا أحد يستحق دموعك، ولئن استحقها أحد فلن يدعك تذرفها. • إن الإنسانية كالجيوش في المعركة، تقدمها مرتبط بسرعة أبطأ أفرادها. • لا تتوقف عن الابتسام حتى وإن كنت حزينا فلربما فتن أحد بابتسامتك. • الحب في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يشتد كثافة، كلما اقترب من الموت • لقد محا الحنين - كالعادة - الذكريات السيئة , وضخم الطيبة . ليس هناك من ينجو من آثاره المخربة • لم أستطع النوم لغضبي من كوني أفكر فيه , ولكن ماكان يغضبني أكثر : هو أنني كلما ازددت غضباً , كان تفكيري فيه يزداد . • من نافذة القطار يمكن رؤية الرجال يجلسون أمام أبواب بيوتهم ويكفي إلقاء نظرة واحدة على وجوههم لمعرفة المستقبل الذي ينتظرهم • لو كنت أعرف أن هذه هي المرة الأخيرة التي أراك فيها تخرج من الباب لكنت احتضنتك ، وقبلتك ، ثم كنت أناديك لكي احتضنك وأقبلك مرة أخرى . • عبثاً سيحاول النهوض، الصياح بصوته المتخاذل ،أن يلطم داخل التابوت المظلم الضيق لكي يعرفوا أنه لا يزال حياً وآنهم بسبيلهم لدفنه وهو على قيد الحياة. سيكون ذلك بلاطائل ، فحتى هنالك لن تستجيب أعضاؤه لذلك النداء العاجل الأخير من جهازه العصبي.
"كرنولوجيا غابرييل خوسيه غارثيا ماكيز" روائي واقعي وصحفي وناشر وناشط سياسي كولمبي يكنى بـــ " غابيتو " ، الهدوء والخجل من طباعه ، مولع بحكايا الجد واساطير وخرافات الجدة .. كان بيتهم عبارة عن ولاية من النساء عداه وجده ، كثيرا ما أخافته معتقداتهن وأشباحهن في حكاياهن الممزوجة بالخرافات له عن . قصص الحرب الأهلية، وقصة مذبحة الموز، وزواج والديه، والمزاولات اليومية للطقوس المتعلقة بالخرافات، إضافة إلى حضور ومغادرة الخالات، وبنات جّده غير الشرعيات .. فكانت تلك المخاف هي بذرة نشئته ككاتب وقاص وروائي لايشق له غبار ...قال عنها : "أشعر أن كل كتاباتي كانت حول التجارب التي مررت بها وسمعت عنها وأنا برفقة جدي.. " - في عام 1927 وُلد غابرييل خوسيه غارثيا ماركيز في مدينة أراكاتاكا في منطقة ماجدالينا . - في عام 1928 قام ما يزيد على 32 ألف عامل بالإضراب مطالبين بأوضاع عمل صحية، وعلاج طبي، ودفعات نقدية بدلاً من صكوك الشركة التي لا يمكن صرفها. وكان رد فعل الأمريكيين تجاه إضراب العمال واعتراضاتهم هو تجاهل مطالبهم، وبعد بداية الإضراب بفترة قصيرة احتلت الحكومة الكولومبية منطقة مزارع الموز، واستخدمت القوات المسلحة لمجابهة المضربين، حتى أنها أرسلت قواتها لإطلاق النار على العمال العزل حينما حاولوا التظاهر بالقرية مسقط رأس ماركيز ، وبذلك قتلت المئات منهم. وخلال الشهور القليلة التي تلت، كانت أعداد كبيرة من الناس قد اختفت، وفي النهاية أُنكرت الواقعة برمتها بشكل رسمي، ومسحت من كتب التاريخ تماماً. لكن غارسيا ماركيز أدرج هذه الأحداث ووثقّها فيما بعد في كتابه "مائة عام من العزلة". - أثرت الـــ " لا فايولينسيا" أي العنف، تأثيرا كبيرا على حياته وعلى كتاباته فامتدت جذور هذا العنف إلى مذبحة الموز، في ذلك الوقت شخص واحد فقط من رجال السياسة امتلك الشجاعة إلى درجة الوقوف في وجه الحكومة وانتقاد فسادها، كان اسمه جورجي ايليسير غيتان، وهو شاب من أعضاء الكونجرس من الليبراليين، نادى في اجتماعات الكونجرس بالتحقيق في الحادث , وأصبح بطل الفلاحين والفقراء . - في عام 1939 توفي جده ، حزنا عليه تردت صحة الجدة وساءت حالة العمى عندها - في عام 1940 عاد لعيش في كنف والديه في سوكر، حيث يعمل والده كصيدلاني فيها - في عام 1940 حصل على بعثة دراسية لمدرسة ثانوية للطلبة الموهوبين، كان يدير المدرسة اليسوعيون المتدينون، وكانت هذه المدرسة التي تسمى الليسو ناسيونال في مدينة زيباكويرا التي تبعد 30 ميلاً إلى الشمال من العاصمة بوغوتا، كانت أول مرة يرى فيها العاصمة، وجدها كئيبة وظالمة، وتجربته هذه ساعدته على تأكيد هويته ككوستينو هو أحد الأقليمين الرئيسيين الذي انقسمت إليه البلاد هما الكوستينوس لمنطقة ساحل الكاريبي، والكاتشاكوس لمنطقة المرتفعات الوسطى، وكلا المجموعتين استخدمتا تعبيرات تحتقر الأخرى، حيث يتميز الكوستينوس بتكوينهم من خليط عرقي صوته مسموع، يميل إلى الخرافات، وبشكل أساسي منحدرين من أصول تعود إلى القراصنة والمهربين، وفيهم خليط من العبيد السود، وهم من هواة الرقص وحب المغامرة، أما الكاتشاكوس فهم أكثر رسمية وأرستقراطية، انحدروا من أصول عرقية نقية، ويشعرون بالفخر بسبب التقدم الواضح في مدنهم مثل مدينة بوغوتا. إضافة إلى فخرهم بمقدرتهم على التحدث باللغة الإسبانية بطلاقة . ..و كثيرا ما أشار إلى نفسه كونه " كمستيزو " و " كوستينو"، أي هجين فيه خصائص الاثنين معاً ، وساعده هذا على تطوير نفسه ككاتب محترف عجائبي . - في عام 1946 التحق بجامعة يونيفيرسيداد ناسيونال في بوغوتا لدراسة القانون بدلاً من الصحافة.. فقد كان مهتما بدراسته إلى أقصى حد ، وفي الأماسي كان يقرأ على زملاؤه في السكن الداخلي محتوى الكتب بصوت مرتفع . - في عام 1946 نشرت له قصته الاولى "الاستقالة الثالثة" في صحيفة بوغوتا الليبرالية "الإسبكتيتور" " حتى أن ناشره المتحمس مدحه وقال عنه "العبقري الجديد للكتابة الكولومبية" ، دخل بعدها ماركيز مرحلة الإبداع بكتابة عشرة قصص أخرى للصحيفة خلال السنوات القليلة اللاحقة. - في عام 1946 فترة العنف ، تقطّعت أوصال البلد، من نتائجها مقتل ما يزيد عن 150 ألف كولومبي حتى عام 1953 ، هذا العنف أصبح فيما بعد الخلفية الأساسية للعديد من روايات ماركيز وقصصه، خصوصاً ما كتبه في رواية "ساعة نحس". - في عام 1947 خلال زيارة ماركيز عائلته تعرف على فتاة بعمر 13 سنة تدعى مرسيدس بارتشا باردو. كانت شديدة السمرة وهادئة، انحدرت من أصول مصرية، يقول ماركيز إنه وجدها "أكثر إنسان ممتع قابله في حياته"، وبعد تخرجه من الليسيو ناسيونال، أخذ إجازة قصيرة مع والديه قبل الذهاب إلى الجامعة، أثناء تلك الفترة طلب يدها للزواج .لكنها أجلت الخطوبة لحين انتهاء دراستها . - في عام 1948 أصبح ماركيز كسولاً جدا ، تخلف عن حضور المحاضرات، وأهمل دراسته، وفضل التجول في بوغوتا، والتنقل في مواصلاتها، وقراءة الشعر بدلاً من دراسة القانون، تناول طعامه في المقاهي الرخيصة، ودخن السجائر، واختلط بالمشبوهين وبالاشتراكيين المثقفين، والفنانين المتضورين جوعاً، والصحفيين الواعدين، وفي يوم ما، تغيرت حياته بأكملها من خلال قراءة كتاب واحد بسيط ، اسمه "كافكا".. كان لهذا الكتاب أكبر الأثر على ماركيز، حيث جعله يدرك أنه لم يكن على الأديب أن يتحدث عن نفسه على شكل قصة تقليدية. يقول: "فكرت في نفسي.. لم أعرف إنساناً قط كان مسموحاً له بالكتابة بهذا الأسلوب، لو كنت أعرف لكنت بدأت الكتابة منذ زمن طويل" .." إن صوت كافكا كان له نفس الصدى الذي امتلكته جدتي، كانت هذه هي طريقتها التي استخدمتها في رواية القصص، حيث تحدثت عن أغرب الأحداث، بنبرة صوت طبيعية تماماً". - في عام 1948 تقرب مختلطا بالدائرة الأدبية التي يطلق عليها اسم" إيل غروبو دي بارانكويللا" ،فكرس كل وقته بقراءة أعمال همنجواي، وجويس، وولف . قرأ روائع الأدب ومن خلالها وجد الإلهام الكبير في كتابات سوفوكليس وخصوصا " أوديبوس ريكس " و " أنتيجون " فقد أصبح كل من فولكنر، وسوفوكليس لهما أكبر تأثير مرّ عليه في حياته خلال أواخر سنوات الأربعينات وبداية الخمسينات، بهره فولكنر في مقدرته على صياغة طفولته على شكل ماضٍ أسطوري، فوجد الأفكار لحبكة رواية تدور حول المجتمع، وإساءة استخدام السلطة فيه، علمه فولكنر أن يكتب عن أقرب الأشياء إليه . - في عام 1948 ، كان لاغتيال غيتان تأثيرا كبيرا على ماركيز كونه كاتب انساني ومن عائلة متحررة ، شارك في مظاهرات البوغوتازو ، أغلقت في تلك الفترة كلية اليونيفيرسيداد ناسيونال، مما عجّل بانتقاله إلى الشمال الأكثر أمناً، حيث انتقل إلى جامعة كاراتاغينا، هناك تابع دراسة القانون بفتور، وأثناء ذلك كان يكتب عموداً يومياً لصحيفة اليونيفيرسال، وهي صحيفة كارتاغينية محلية - في عام 1950 قرر أن يتخلى عن محاولاته في دراسة القانون . - في عام 1952 عاد برفقة والدته الى بيت جدته في أراكاتاكا، لتجهيز البيت من أجل بيعه، وجدوا البيت في حالة مزرية وبحاجة للكثير من الإصلاح، ومع ذلك، أثار هذا البيت في رأسه زوبعة من الذكريات كان يرغب في رواية بعنوان "لاكازا " البيت"، وعند عودته إلى بارانكويللا كتب أولى رواياته "عاصفة الورقة" بحبكة معدّلة عن أنتيجون، وأعاد نقلها إلى البلدة الأسطورية، ورفض الناشر عرض القصة . - في عام 1953 حاصرته حالة من القلق، فجمع حاجياته، واستقال من عمله، وبدأ يبيع الموسوعات في لاغواجيرا مع صديق له. - في عام 1953 خطب مرسيدس بارتشا بشكل رسمي، كل الأصدقاء المقربون من الكاتب يعرفون مدى أهميتها بالنسبة له؛ فهي التي كانت تدير أمور العائلة، ويتحدث عنها باستمرار، قائلا "إن زوجتي وولدَي أهم ما في حياتي، وبفضلهم استطعت تخطي الصعاب التي واجهتني", ولماركيز ابنان "رودريجو" مخرج سينمائي يعيش في الولايات المتحدة، و"جونزالو" مصمم جرافيك ويعيش في المكسيك. - في عام 1954 انتقل بعدها الى بوغوتا، وقبل بالعمل ككاتب للقصص والمقالات عن الأفلام في صحيفة السبيكتاتور. - صدرت له مذكراته التي تناولت حياته لغاية 1955 تحت عنوان " عشت لأروي " - صدرت له رواية " مذكرات عاهراتي السود " تحكي عن ذكريات رجل مسن ومغامراته العاطفية . - صدرت له رواية "الأم الكبيرة " - في عام 1955 تجول ماركيز مسافراً بين جنيف، وروما، وبولندا، وهنغاريا، واستقر في النهاية في باريس ، أغلقت حكومة بينيللا مطابع صحيفة أيل سبيكتاتور ، فوجد نفسه عاطلاً عن العمل، سكن في الحي اللاتيني منها ، واستدان ليعيش وجمع الزجاجات الفارغة مقابل إعادتها . - في عام 1955 صدرت له قصة " بحار السفينة المحطمة" بشكل حلقات متسلسلة في صحيفة إلإسبكتادور الكولومبية اليومية ، وهي قصة حقيقية لسفينة مغمورة الذكر عملت الحكومة على محاولة إشهارها . سببت له القصة الشعور بعدم الأمان في كولومبيا . - ترك العمل في الصحيفة ، عمل كمراسل أجنبي في كل من روما وباريس وبرشلونة و كاراكاس ونيويورك . - في عام 1955 كان ماركيز في أوروبا الشرقية ، فعمد أحد أصدقائه على نشر قصته " عاصفة الورق " . - كان أصدقاء وعمل ثابت في كتابة أعمدة لصحيفة الهيرالدو، وفي المساء عمل على كتابة قصصه الخيالية. - في عام 1956 ،طبع حوالي إحدى عشر مسودة من روايته "لا أحد يكتب للكولونيل" تحكي عن كولونيل انتهى دوره السياسي واصبح خارج اللعبة، يرصد تفاصيل حياته اليومية وما فيها من بؤس ، بعدما كانت له حياة عسكرية مرموقة في ظل الدكتاتورية التي تحكم بلداً من بلدان العالم الثالث، اصبح وحيداً، منبوذاً، يعاني من فراغ كبير وثقيل ، ينتظر بريداً لم يصل أبدا، البريد الحامل لجواب الحكومة والمتعلق براتبه التقاعدي الخاص بالمحاربين القدامى، منذ ما يزيد على ست وخمسين سنة. وتعد جولته الأسبوعية عند الميناء من الطقوس المخيبة للآمال، حيث ينتظر الكولونيل وصول مركب البريد كل يوم جمعة، ولكنه لم يكن يحمل له شيئا في أي يوم، فيعلق موظف البريد بقسوة: "لا أحد يكاتب الكولونيل". ولم يبق للكولونيل أية أملاك أو ثروة سوى ديك الشجار الذي يعتبر ذكرى من ابنه أغوسطين الذي قتل رميا بالرصاص قبل تسعة شهور لقيامه بتوزيع منشورات ضد الحكومة العسكرية، فيجبر الفقر والجوع الكولونيل وزوجته المصابة بالربو على بيع الديك في النهاية، وما أن يضع الكولونيل عربون المشتري في جيبه، حتى تدخل الرواية منعطفا كبيرا، فيأخذ رفاق أغوسطين، الذين يتخذون من محل الخياطة نواة للمعارضة اللاشرعية في القرية، الديك ليومه التدريبي الأول استعدادا للمباراة المقبلة، وفي حلبة القتال يعيش الكولونيل حماس الشباب المثير، فالديك الذي يخصهم جميعا يكسب أهمية تتجاوز المباراة ويصبح رمزا للتضامن والمعارضة الفعالة. وعندما يأخذ الكولونيل الديك معه مجددا، يشعر بأنه لم يمسك بين يديه من قبل "كائنا دافقا بالحياة مثل هذا"، وتلمح زوجته إلى أن "المرء لا يمكن أن يأكل الوهم"، "ولكن الوهم يغذي" تكون إجابة الكولونيل الذي أصبح مستعدا الآن، "حتى الانتصار المنشود للديك"، أن يأكل (برازا) أن تطلب الأمر". - في عام 1957 وبعد الانتهاء من رواية الكولونيل سافر إلى لندن، وفي النهاية عاد إلى فنزويلا المكان المفضل للاجئين الكولومبيين. - في عام 1957 أنهى روايته "البلدة المكونة من الهراء" ، تتحدث عن فترة العنف وتعاون مع صديقه القديم بلينيو أبوليو الذي كان حينها محرراً في صحيفة "ايلايت" وهي صحيفة أسبوعية في كاراكاس. - في عام 1957 تجول كلاهما في دول أوروبا الشيوعية باحثين عن أجوبة وحلول لمشكلات كولومبيا، مساهمين بمقالات في دور النشر الأمريكية اللاتينية المختلفة، ومع إيمانهم بوجود شيء جيد في الشيوعية، إلا أن غارثيا ماركيز أيقن بأن الشيوعية قد تكون سيئة بنفس مقدار درجة العنف التي مرت بها البلاد، وبعد مكوثه في لندن لمدة وجيزة، عاد مرة أخرى إلى فنزويلا . - في عام 1958 ،جازف ماركيز بالعودة إلى كولومبيا بشكل مستتر، واختفى عن الأنظار متسللاً إلى بلدته الأصلية، وتزوج بمرسيدس باتشا التي كانت تنتظره في بارانكويللا لسنوات طويلة، وبعد ذلك تسلل هو وعروسه مرة أخرى عائداً بها إلى كاراكاس . - في عام 1958 نشرت صحيفة "مومينتو" بعض المقالات عن الخيانة الأمريكية، واستغلال الطغاة، فأذعنت الصحيفة للضغط السياسي ،وأخذت موقفاً موالياً لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية بعد زيارة نيكسون المدمرة في مايو، موقف الجريدة أغضبهما مما حدى بغابرييل وصديقه ميندوزا بتقديم استقالتيهما. - في عام 1959 ،سافر إلى هافان ليغطي أحداث ثورة كاسترو، ألهمته الثورة في كتابة المقالات ، فساعد الثورة من خلال فرع بوغوتا في وكالة أنباء كاسترو برنسالاتينا، وكانت بداية صداقة بينه وبين كاسترو استمرت حتى وفاة غابرييل . - في عام 1959 ولد رودريجو الابن الأول لغارثيا ماركيز، وانتقلت العائلة لتعيش في مدينة نيويورك، حيث كان مشرفاً على فرع صحيفة "برنسا لاتين" في أمريكا الشمالية، واجتهدوا كثيراً تحت تهديدات القتل التي وجهها لهم الأمريكان الغاضبون فاستقال ماركيز من عمله بعد عام واحد، وأصبح مشوشاً بالنسبة للتصدعات الفكرية التي كانت تحدث في الحزب الاشتراكي الكوبي. فانتقل بعائلته إلى مدينة مكسيكو، مسافراً عبر الجنوب وحُرم من دخول الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى حتى عام 1971. - في عام 1961 ، عمل على ترجمة الأفلام في مدينة مكسيكو ، وعمل على كتابة السيناريوهات المسرحية، وأثناء ذلك بدأ بنشر بعض رواياته الخيالية. ساعده أصدقاءه على نشر رواية "لا أحد يكتب إلى الكولونيل" . - في عام 1962، نشر رواية " جنازة الأم الكبيرة" . - في عام 1962 ، ولد ابنه الثاني غونزالو. - في عام 1962 أقنعه أصدقاؤه بدخول مسابقة الأدب الكولومبي في بوغوتا. راجع رواية "ساحة نحس" وقدمها ففازت. فقام رعاة الجائزة بإرسال الكتاب إلى مدريد من أجل نشره، وصدر عام 1962، وكانت خيبة أمله كبيرة، فقد قام الناشر الإسباني بالتخلص من جميع الألفاظ العاميّة المستخدمة في أمريكا اللاتينية، وكل المادة التي اعترض عليها، ونقحها إلى درجة يصعب فيها التعرف على العمل الأصلي ، وجعل الشخصيات تتكلم اللغة الإسبانية الرسمية الموجودة في القواميس، فاكتئب ماركيز إلى درجة كبيرة، واضطر إلى رفض العمل، وكان عليه أن يعمل حوالي نصف عقد حتى يعيد نشر الكتاب بشكل مـُرضي. - في عام 1963 كتب ( 12 قصة قصيرة ) "قصة مهاجرة " قدمت بعضها بشكل مقالات في الصحيفة وبعضها سنيوريوهات سينمائية ، وواحدة منها قدمت بشكل مسلسل تلفزيوني ، جميعها كانت يغمرها الحس الايروتيك - في عام 1966 ، تم إعادة نشر روايته " ساعة نحس " وترجمت أول نسخة بالإنجليزية عام 1979. تم كتابة هذه الرواية عندما كان ماركيز يعيش في باريس، وقد فاز بجائزة أدبية عنها في كولومبيا ساهمت فيما بعد في إيصاله ليكون من الفائزين بجائزة نوبل للآداب عام 1982. - في عام 1967، نُشرت روايته " مائة عام من العزلة" فبِيعَ منها على الفور 8000 نسخة آنذاك. - في عام 1967 نشر كتاب بعنوان "خبر اختطاف " عن الكفاح الدامي لكولومبيا ضد المخدرات والإرهاب. - في عام 1970 نشرت قصته المتسلسلة " بحار السفينة المحطمة" ، واعتبرها الكثيرون على أنها رواية وليست قصة . - في عام 1970 قد وصل بيع روايته " مائة عام من العزلة" حوالي نصف مليون نسخة ، وترجمت إلى أكثر من 40 لغة ، حتى وصل عدد النسخ حسب تقديرات عديدة إلى أكثر من 25 مليون نسخة !! وحصلت على 4 جوائز توّجت بحصول الكاتب على جائزة نوبّل للآداب 1982 ، و حولته إلى أشهر كاتب في أمريكا اللاتينية ، و واحد من أشهر كتاب العالم . - في عام 1972 اختمرت في رأسه فكرة كتابة روايته "خريف البطريرك" بشكل كامل أثناء تغطية صحفية كان يقوم بها لمحاكمة شعبية لأحد الجنرالات المتهمين بجرائم حرب، ومن ناحية أخرى فان عمله الصحفي أتاح له نفوذا كبيرا في كثير من الأنظمة الحاكمة ومراكز السلطة في أمريكا اللاتينية بالإضافة إلى شبكة اتصالات واسعة بشخصيات سياسية . - في عام 1975 صدرت له رواية " خريف البطريرك " . - في عام 1976 صدرت له رواية " مائة عام من العزلة " . - في عام 1981 نشرت له رواية " حكاية موت معلن " تحكي قصة ثأر مسجلة في الصحف.وتم اقتباسها وتحويلها إلى عمل مسرحي في حلبة مصارعة الثيران على يد المخرج الكولومبي الشهير " خورخي علي تريانا " . - في عام 1982 نال جائزة نوبل للأدب ،تقديراً لكتاباته الشيقة في القص والروايات - في عام 1982 صدرت له " رائحة الجوافة "
- في عام 1982 حصل غابرييل خوسيه غارثيا ماركيز على جائزة نوبل للأدب عن رائعته «مائة عام من العزلة»..وفي لحظة تسلمه الجائزة قال: "لقد أدركت أن عبقريتي الحقيقية موجودة في جذوري ببيت أركاتيكا بين النمل وحكايات الجد والجدة، على أرض كولومبيا في أمريكا اللاتينية". وحين تسلمه لقيمة الجائزة كان أول ما فكر فيه هو شراء دار صحفية يعود من خلالها لممارسة عمله المفضل في الحياة، وقال : "لقد ظلت النقود موضوعة في احد البنوك السويسرية لمدة ستة عشر عاما نسيت خلالها أمرها تماما حتى ذكرتني بها مرسيدس فكان أول ما فعلت هو شراء كامبيو". كامبيو : هي مجلة إخبارية أسبوعية حققت نجاحا تجاريا كبيرا بسبب المقالات التي يكتبها ماركيز فيها والتي تعتبر وسيلته للتحاور مع قرائه عن طريق الرد على أسئلتهم واستفساراتهم التي تكشف في أحيان كثيرة عن جوانب لم تكن معروفة عن حياته. - في عام 1985 صدرت له رواية " الحب في زمن الكوليرا " يحكي قصة الحب بين والديه . - في عام 1986 ، ألقى ماركيز خطبة في اجتماع عالمي لمناسبة ضحايا قنبلة هيروشيما، رسم فيه الصورة المظلمة لحاضر الإنسان ومستقبله في ظل السيطرة النووية للدول الكبرى، وأعاد إلى الأذهان احتمالات ما بعد الكارثة، وأرجح هذه الاحتمالات أن الصراصير وحدها ستكون شاهدة على حضارة الإنسان بعد أن يحل ليل أبدي بلا ذاكرة. - في عام 1999 بدأ بكتابة سيرته الذاتية عندما علم أنه مصاب بالسرطان ، قال وقتها : "إن وهبني الرب من الحياة قطعة فسأرتدي ملابس بسيطة، وأستلقي تحت الشمس..." - عام 1999 ، تم تشخيص اصابة غابرييل خوسيه غارثيا ماركيز في السرطان اللمفاوي وتلقى العلاج الكيميائي في مستشفى في لوس انجلوس، ومنذ ذلك الوقت بدأ في كتابة مذكراته، وكتب فيها "لقد خفضت علاقاتي مع أصدقائي إلى أدنى حد ممكن، وقطعت الهاتف، وقمت بإلغاء رحلاتي وجميع الخطط الحالية والمستقبلية"، "وعكفت على الكتابة كل يوم دون انقطاع". - في عام 2002 قدمت سيرته الذاتية في جزئها الأول المكونة من ثلاثة، ونالت أضخم المبيعات في عالم الكتب الإسبانية. - في عام 2002 ، نشر الجزء الأول من ثلاثة من سيرته "عشت لأروي"، والتي يستعيد فيها أدق تفاصيل الطفولة والشباب، بصورة درامية ترجمها للعربية الدكتور طلعت شاهين ، طبع مليون نسخة تم تقديمها في كل من برشلونة وبوجوتا وبوينس ايريس والمكسيك في وقت واحد. - في عام 2003 ، نشرت الترجمة الانجليزية لسيرته " أعيش لأروي " ترجمة " ايدث جروسمان " وكنت من الكتب الأكثر مبيعاً . - في عام 2004 ، نشر رواية جديدة بعنوان "ذكريات غانياتي الحزينات " طبع منها مليون نسخة كطبعة أولى . - في الستينيات والسبعينيات من عمره توافقت أفكار غابرييل مع أفكار الجماعات الثورية في أميركا اللاتينية .. وتوطدت علاقته مع القائد الكوبي فيدل كاسترو .حين كان ناقدًا للوضع في كولومبيا، لكنه لم يدعم علنا الجماعات المسلحة مثل فارك وجيش التحرير الوطني التي تعمل في بلاده . - قام بدور بارز كوسيط في عملية السلام بين متمردي الجناح الأيسر والحكومة الكولومبية وهو يري أنه نجح في إصلاح الكثير من القضايا التي غاب عنها وجه العدالة في جميع أنحاء العالم وذلك باستخدام دبلوماسيته التي اشتهر بها وهو ما يعده ماركيز تكتيكا أكثر فاعلية من مجرد الاستعانة بالبروتوكولات الرسمية. - في عام 2004 كتب روايته الشهيرة "ذكريات غانياتي الحزينات" التي لاقت رواجا غير مسبوق في شتي أنحاء العالم، غير أنه في لقاء له بصحيفة "لا فينجرديا" المكسيكية أعلن ماركيز أنه توقف عن الكتابة - في عام 2005 ، كان هو العام الأول في حياته الذي لم يستطع فيه كتابة سطر واحد.. - في عام 2005 لم يكتب حتى ولو سطراً واحداً، وقد قال:" من خلال تجربتي فأنا أستطيع الكتابة دون أدنى مشاكل، لكن القراء سيدركون أن قلبي لم يكن معي لحظة الكتابة". - في عام 2007 : كانت روايته " مائة عام من العزلة" ، إحدى أكثر عشرة روايات مبيعاً في أمريكا اللاتينية حسبما تؤكده قوائم رسمية تم نشرها ، مؤخراً في عاصمة باراغواي ( أسونسيون ) رغم مرور أكثر من أربعين عاماً على صدورها !!! - في شهر نيسان 2007 كشف ماركيز أسرار " مئة عام من العزلة " وما لاقى من صعوبات مادية في إرسال مخطوط الرواية إلى دار النشر وكيف رهنت زوجته ( مرسيدس ) بعض أدوات المنزل ليتسنى لهما إرسال المخطوط , حتى أنها شرعت برهن خاتمي الزواج في سبيل الرواية التي استمرّ ( ماركيز ) سنة و نصف في كتابتها بانياً عليها كل آماله في تسديد الديون التي ترتبت عليهما من تكاليف معيشية أثناء فترة الكتابة حتى خرجت للنور عام 1967 . - في عام 2009 كان لقاء غابرييل خوسيه غارثيا ماركيز لوزارة الثقافة في كولومبيا - في عام 2008 تم الإعلان عن انتهاء غابرييل من رواية جديدة باسم "رواية الحب". - وفي عام 2012 أعلن أخو غابرييل أن غابرييل خوسيه غارثيا ماركيز أصيب بالخرف، وأشار إلى أن العلاج الكيميائي الذي تلقاه للعلاج من السرطان اللمفاوي قد يكون السبب .
" من ذاكرات الماركيز " • " بدأ بمغازلة الاشتراكية، محاولاً أن يفلت من انتباه الدكتاتور غوستافو روجاز بينيللا في ذلك الوقت وكان يفكر كثيراً في واجباته ككاتب في فترة العنف , وفي عام 1955 حصلت حادثة أعادته إلى طريق الأدب، وأدت بشكل ما إلى نفيه المؤقت من كولومبيا، حينما غرقت المدمرة الكولومبية الصغيرة "الكاداس" في مياه البحر العالية أثناء عودتها من كارتاغينا، وجرف العديد من البحارة عن ظهر المركب وماتوا جميعاً، عدا رجل واحد هو لويس اليخاندرو فيلساكو الذي استطاع أن يعيش لمدة عشرة أيام في البحر متمسكاً بقارب نجاة وعندما جرفته الأمواج إلى الشاطئ ، أصبح بسرعة مذهلة بطلاً قومياً، فاستخدمته الحكومة في الدعاية لها، قام فيلاسكو بعمل كل شيء، من إلقاء الخطب إلى الدعاية لساعات اليد والأحذية، وفي النهاية قرر أن يقول الحقيقة.. كانت سفينة الكالداس تحمل بضائع غير مشروعة، وأغرقتهم مياه البحر بسبب إهمالهم وعدم كفاءتهم ! وبزيارته لمكاتب صحيفة ايل سبيكتاتور قدم فيلاسكو قصته لهم، وبعد تردد قبلوا بها، سرد فيلاسكو قصته على غارثيا ماركيز ، والذي أعاد صياغة قصته نثراً، ونشر القصة على مدى أسبوعين كاملين، تحت عنوان "حقيقة مغامرتي، قصة لويس اليخاندرو فيلساكو"، أثارت القصة ردة فعل قوية، فبالنسبة لفيلاسكو طردته البحرية من العمل، وكان يُخشى من أن بينيللا قد تطالب بمحاكمة غارثيا ماركيز، فأرسلته دار نشره إلى إيطاليا لتغطية نبأ الموت الوشيك للبابا بيوس الثاني عشر، غير أن بقاء البابا على قيد الحياة جعل رحلته دون فائدة، فرتب لنفسه رحلة حول أوروبا كمراسل، وبعد مراجعة للخطة في روما، بدأ بجولة في الكتلة الشيوعية، وبعد ذلك في نفس تلك السنة استطاع أصدقاؤه أن ينشروا له أخيراً روايته "عاصفة ورقة" في بوغوتا.
• في كتابي أعتقد كتبت: "ما لا نمتلكه، نجده في الصديق ". أنا وجابو تشابهنا في أشياء كثيرة واختلفنا قليلا. في السياسة، لا يمكن تفادي إختلاف الآراء، ودليل الصداقة أن ما يمكن أن يفرقنا هو ما يربطنا أكثر: الإحترام. أحيانا أترك جانبا انتمائنا الخلافي لأمريكا اللاتينية، لأفكر أن أمريكا اللاتينية تدرك نفسها كمشكلة سياسيا واقتصاديا فقط، كمشكلة تجبر العالم على أن ينظر لنا مرة وأخرى، على أن ينقذنا من عجزنا الذاتي. جابو مهموم بظاهرة السلطة، و"خريف البطريرك " لا تؤكد هذا فقط وإنما تجسد من جميع الأوجه قوة ومأساوية السلطة. من وجهة نظري، في علاقتنا برجال السلطة يبزر ثلاثة؛ فرانسو ميتران " رئيس فرنسا الأسبق " : كتلة من الذكاء والثقافة الأدبية والميكافيلية السياسية.في مذكراته كتب ميتران إلى صديق آخر مشترك، هو بابلو نيرودا قال له: "سارع بقراءة مائة عام من العزلة". إنها أجمل رواية أنتجتها أمريكا اللاتينية منذ الحرب الماضية. تعرف ميتران على ماركيز وكتب: "إنه رجل متوحد مع عمله. محدد، صلد، حالم وصامت". مع ويليام ستيرون وأرثر ميللر وجارثيا ماركيز حضرت بداية رئاسة فرانسو ميتران في آيار (مايو) 1981 بعد ذلك كنا شهودا على أول أفعاله كحاكم: توقيع قرارات رئاسية بمنح الجنسية الفرنسية لميلان كونديرا وخوليو كورتاثر، اللذان كان كلاهما منفيان من الديكتاتورية الشيوعية في براغ والفاشية في بوينوس أيرس. الثقافة الأدبية لرئيس فرنسي لا يمكن أن تثير الدهشة أبدا. حكى لي نيرودا أن لقاءاته مع الرئيس بومبيدو، بينما كان نيرودا سفيرا لشيلي في فرنسا. كانت حجتهما هي مناقشة السياسة الاقتصادية لنادي باريس، لكنها في الحقيقة كانت حوارات طويلة حول شعر بودلير. الشيء المدهش أن يوجد رئيس للولايات المتحدة يقرأ كتبا. هذا ما اكتشفناه ذات ليلة جابو وأنا بينما كنا نسمع بيل كلينتون يتلو من الذاكرة فقرات كاملة من فوكنر، وكيف يكشف أنه قرأ اليكخوته ولماذا كان ماركو اوريليو هو كاتبه المفضل. ولأنهاء الفصل السياسي أذكر قارئ ورجل دولة آخر هو فيلبي جونزالز، الذي كان يتحدث ويفكر ككاتب، فقد قرأ كل الكتب، ومع هذا فهو ليس حزينا. كان لنا، جابو وأنا أصدقاء وأعداء كثيرين في الأدب، ليس كلهم مشتركين. لكن عندما ننظر لحياتنا ذات الفصول غير المنهية أعتقد أنه يوجد لكلانا صديق كاتب أو بمعنى أدق كاتب صديق، نضعه فوق الجميع. إنه خوليو كورتاثر، وأعتقد إن جابو وأنا لم نكن ما أصبحنا ولا حتى ما نريد أن نكون بدون الصداقة الرائعة للعظيم كورتاثر. في كورتاثر تلتقي العبقرية الأدبية والتواضع الشخصي، الثقافة العالمية والحمية المحلية "جزر المالفين أرجنتينية ــ كان يقول دائما ــ والمختفين أيضا". قرأ كل شيء ورأى كل شيء، فقط لكي يتقاسمه. إحدى الليالي التي لا تنسى في صداقتنا تمت في قطار باريس ــ براغ في كانون الأول (ديسمبر) 1968 كان كونديرا قد دعانا لأن نحتفظ بالخيال ــ أي بالأمل ــ في وجود ثقافة تشيكية مستقلة في بلد محاط بالمدرعات السوفييتيتة. كورتاثر كان يربط الموضوعات مثل حكواتي عربي في ساحة مراكش. عندما وصلنا فجرا إلى براغ كان كونديرا ينتظرنا في المحطة. أصطحبنا إلى ساونا وعندما طلبنا جابو وأنا حماما لكي نتخلص من الحر، حملنا إلى نهر مولتافا ودفعنا إلى الماء المتجمد مثل ديدان الصيد. أتذكر تعليق جابو عندما خرجنا من النهر: " اعتقدت يا كارلوس خلال لحظة إننا سنموت معا في أرض كافكا".
• كتبت يوما مقالا متسرعا في زاوية صديقي الناقد " خيرمان بارغاس " اليومية (الزرافة) وكان أفراد الجماعة معي «ينتظرون حكمه بنوع من الرعب التوقيري.. مزق المقالة نتفا صغيرة، دون أن ينظر إلي، ودون أن ينطق بكلمة واحدة ونثرها في قمامة أعقاب السجائر وأعواد الثقاب المحروقة في المنفضة، لم ينطق جميعنا بأي شيء، ولم يتبدل المزاج على المنضدة ولم يجر التعليق في الحادث في أي وقت آخر، ولكن الدرس الذي تعلمته مازال ينفعني حتى الآن، كلما داهمني بسبب الكسل أو التسرع إغواء كتابة فقرة متسرعة لكي أخرج من مأزق».
• " أنا لا أصنع شخصياتي لتموت.. أصنعها لتعيش"، تقول "مرسيدس" فوجئت به خلال كتابته روايته "لا أحد يكاتب الكولونيل" يطلق صراخا ويهرب من غرفته شاحبا ومرتعدا، وعندما سألته عما حدث اجابها بكآبة: "قد قتلت الكولونيل الآن".
• في حواري مع بلينيو أبوليو ميندوزا عن بعض أعمالي المبكرة، التي تتضمن شخصية الكولونيل، بأنها تشكل "نوعا من الأدب الهادف الذي يقدم صورة متميزة ومحسوبة بعض الشيء للواقع..ليست من الكتب التي تنتهي بالصفحة الأخيرة".
• "لقد احتطت منذ شهور كي لا يكون مقالي فى ذكراي مجرد حسرة على السنوات الذاهبة، إنما العكس تماما: تمجيد للشيخوخة. بدأت بالتساؤل متى بدأت أعي أنني صرت عجوزا. وأظن أن الأمر حدث قبل وقت قصير جدا من ذلك اليوم. ففي الثانية والأربعين من عمري لجأت إلى الطبيب لألم فى ظهري سبب لي ضيقا فى التنفس. فلم يول الطبيب أهمية للأمر وقال لي إنه ألم عادي فى مثل سنك." فقلت له: غير العادي إذن في هذه الحالة هي سني. ابتسم الطبيب ابتسامة مشفقة وقال أرى أنك فيلسوف. هي المرة الأولى التي فكرت فيها بسني بمعايير الشيخوخة ولكنني سرعان ما نسيت ذلك. «فى العقد الخامس بدأت أتخيل ما هى الشيخوخة، عندما انتهيت إلى أولى فجوات الذاكرة. كنت أذرع البيت بحثا عن النظارة ثم اكتشف أننى أضعها على عيني أو أدخل بها تحت فرشة الاستحمام. أو أضع نظارة القراءة دون أن أنزع نظارة البصر. في أحد الأيام تناولت فطوري مرتين لأنني نسيت المرة الأولى منهما. وتعلمت التعرف إلى ضيق أصدقائي عندما لا يجرؤن على تنبيهي إلى أنني أروى لهم الحكاية نفسها التي رويتها الأسبوع الفائت. في ذلك الحين كانت هناك في ذاكرتي قائمة وجوه معروفة وقائمة أخرى باسم كل واحد من أصحاب تلك الوجوه ولكنني في لحظة تبادل التحية لا أتوصل إلى المطابقة بين الوجوه.»
• كتبت فى يوم احتفالي بعيد ميلادي التسعين "ولد ماركيز فى السادس من مارس 1927" على لسان بطل روايتي "ذاكرة غانياتي الحزينات" ، والتي ضمنتها الكثير من الإشارات الموحية لمعاناة حقيقية نفسية تنبئ عن إحساس عميق يقظ بزحف عوارض الشيخوخة .
• وإن ذاكرة المسنين تضيع في الأمور غير الجوهرية ولكن نادرا ما تخطئ في الأمور التي تهمنا حقا.
وقد أوضح شيشرون ذلك بجرة قلم: لا وجود لمسن ينسى أين خبأ كنزه.
• عندما مات كورتاثر هاتفت جابو ، فرد علي معزيا: "لا تصدق ما تقرأ في الصحف. هذا حقيقي في الأدب لايوجد فناء" .• سمع جابو كورتاثر يتحدث عن الكتب والمؤلفين ، وهو يتحدث عن أكثر الأشياء حياة، الأكثر قربا، الأكثر حميمية. قال له : " إن غابرييل يمتلك ذاكرة شعرية رائعة، لدرجة أنني أحدسه " ، وأحسد كارلوس مونسيبايس : " الذي قضى مساء كاملا مع نيرودا، متحاورا بكلمات لا تتجاوز مقتطفات من شعر نيرودا" ، و أحسد "شيما بيريث " : " الذي يمكنه أن يتلو هيلدرين وجوته وريلكة بالالمانية" ، وأحسد " أنطونيا فراسير": " التي تحفظ قصيدة في كل ليلة" .
• كان جابو يعرف شعر جارثيلاسو دي لا فيجا يحفظ ويردد قصيدته : إشارتك مكتوبة في روحي وعندما أكتب عنك أتمنى أن تكتبي أنت، لأقرأ أنا وحيدا، حتى الأن لا أستطيع أن أتكلم.
• برشلونة الشاطئ الجميل وكارلوس بارال والأخوين جويتيسولو وروسا ريجاس وأصدقاءنا الثلاثة رودريجو وثيثيليا وجونزالو الذين ترددوا على سينمات (ساريا) خلال عشر سنوات سعيا وراء أفلام فرانكشتين ودراكولا، كأنهم كانوا يشعرون بشيء، كنا نفسره نحن بمنطق مبالغ فيه: إنها إسبانيا فرانكو. في المكسيك كنا أنا وجابو نهدئ من روعنا محاولين فهم التمردات والاغتيالات وما خفي منها وما ظهر. في مقاهي باريس وبارات فينسيا وطرق أوفيدو ومدريد أدركنا أن الواقع دائما أكثر روائية من الخيال. وهكذا يجب أن يتفوق الخيال، ليس على الواقع وإنما على خيالية الواقع. الواقع القاسي المؤلم للوطن كولومبيا: الوداع يا مستر نوبل. وطن مخطوف مغتصب، محتضر، مخدوع.
• اللقاء الأول كان في مكاتب ذلك العالم الكريم السخي الغريب الأطوار والمجنون (مانويل بارباتشانو برونسي). قصر قديم في شارع قرطبة ــ قصر دراكولا كما قال جابو ــ حيث قدمني ألفارو موتيس إلى جارثيا ماركيز وولدت الصداقة منذ النظرة الأولى. أعتقد أنه منذ تلك اللحظة أصبحنا صديقين للأبد، لدرجة أنه يمكنني أن أحدد ملامح الفترات المختلفة في حياتي منذ الثانية والثلاثين من عمري، عبر ملامح الصداقة مع جابو. وهو نفسه قال ذات مرة إننا لو كتبنا ذكرياتنا المشتركة فسوف يجد القراء صفحات متطابقة. في مكسيك الستينيات كانت الحياة الأدبية تدور حول مقهيان في (الزونا روسا)، كينرت والتيرول. قررنا جابو وأنا أن ننظم اللقاءات كل أحد بدءا من السادسة في بيتي المتهدم في سان أنخيل. مرت البشرية بأكملها على هذا المكان. كلنا كنا شبابا، كلنا كنا واعدين، كنا كلنا ندخن ونشرب. البعض لم يخرج من طور الواعدين وأخرين قرروا أن يجنوا ما يسد رمقهم بما لا يتناسب مع كم وعظمة العمل. كنا كلنا نرقص على نغمات الاكتشافات الجديدة: البيتلز ورولينج ستون. يوجد دليل: صورة غير تقليدية لجابو يرقص (الواتوسي) مع ايلينا جارو. كل الفتيات كن جميلات. من كانت أجمل من زهرة الأوركيديا الحزية الرقيقة (أرابيا أربينز). أرابيا، ابنة رئيس جواتيمالا المخلوع (بواسطة السي آي ايه) خاكوبو أربينز. جاءت إلى المكسيك لتدرس السينما بينما كنا، جابو وأنا كاتبين للسيناريو شديدي الضعف في عملنا كما كانت هي في الحياة. كتبنا معا سيناريو (الديك الذهبي)، إحدى قصص خوان رولفو، الذي أخرجه رودلوفو جافالدون، الذي كان مخرجا الطلب عليه كبير لدرجة أنه كان بالنهار يكتب سيناريو للمطربة (ليبرتاد لاماركي) وفي الليل يكتب معنا (الديك الذهبي)، لدرجة أن الأمر كان يختلط علينا، فأحيانا نجعل الديك يغني تانغو والسيدة (ليبرتاد) تقأقئ. ذات يوم قال لي جارثيا ماركيز: (ماذا سنفعل؟ هل سننقذ السينما المكسيكية أم سنكتب رواياتنا)؟ إننا نلعب بمصيرنا.
" شائعات مست الحقيقة " • نشرت بصفحة الصحة قصة أسرة يتجاوز أفرادها الخمسة آلاف. رجل وامرأة يعيشان فى مدينة ميدلن بكولومبيا أمريكا اللاتينية يتقاسمان العيش وينتظران مصيرا واحدا يقودهما إلى انحسار العقل وضياع الذاكرة، يسلبهما سنوات الحكمة ويسرق منهم العقل والفعل حصاد المعارف وثمار العمل. فى صورة أشبه بالأساطير القديمة تتوارث الأسرة موروثا جينيا طالته طفرة فى تركيبته يقود إلى الإصابة بألزهايمر. الأمر يصل إلى الحد الذى معه تتخلص السيدات من أرحامهن خوفا من الحمل بأطفال يتربص بهم ألزهايمر فى الخامسة والأربعين تبدأ أعراض اضطراب الذاكرة وتداخل الرؤى واختلاط الصور وتدهور وظائف المخ المعرفية. فى الواحد والخمسين من العمر تكتمل الصورة العدمية للمرض الذى يداهم المخ ويعود الإنسان إلى موات قبل الموت.
• أخبر خيمي خوسيه غارثيا ماركيز طلابه في جامعة قرطاجنة بكولومبيا بأن شقيقه غابرييل البالغ من العمر خمسة وثمانين عاما يتصل به هاتفيا بشكل متواصل يسأل عن أشياء بديهية جدا.فلا أصدق أن أخي الذي أحببته دائما يعاني من فقدان تدريجي للذاكرة إننا نعاني من هذا المرض الذي ينحدر في عائلتنا ونحن جميعا معرضون للإصابة به. أصيب أخي عام 1990 بسرطان الغدد الليمفاوية وتلقى علاجا كيماويا يبدو أنه كان له أثر في الإسراع بظهور أعراض فقدان الذاكرة. كتب أخي أول جزء من سيرته الذاتية «عشت لأروي» لكنه أصبح من غير الممكن أن يستكمل جزئها الثاني فلا أظنه بقادر على الكتابة. لكنه مازال باسما قادرا على السخرية متفائلا كعادته دائما».
• و قال خيمي: "إن غابرييل يعاني بعض المشكلات تتعلق بذاكرته، في بعض الأحيان أبكي من أجله لشعوري بأنني سافقده." وأضاف بأن الكاتب العالمي المعروف توقف عن الكتابة منذ مرضه".
• ما قد يخفف من وطأة هذا الألم أن ماركيز فيما بقى له من عمر لن يكون أبدا ذلك المسن الذي لا وجود له لأنه حتى لو نسى أين خبأ كنزه فلن ينسى العالم كنز ماركيز يختبئ فى عقل كل إنسان قرأ له كتابا.
" قراءات " علق غابرييل على معايير الإبداع الفني وأثر الكتابة فى تاريخ الإنسان بقوله :"إن الإمتحان الحقيقى لقدرات الكاتب وما يبدع من كتابات إنما هو صمودها أمام اختبار الزمن". العزلة اصطلاح غائر في أعماق عالم ماركيز انطلاقاً من عالمه الخاص انسياباً إلى بناء الرواية. والعزلة في عالم ماركيز تتجاوز كونها حالة، إنها تضرب جذورها، تتعمق تتكاثف، تتبلور تصبح في النهاية طريقة حياة، فقد ومنهاج استجابة في مواجهة الدوافع السياسية والاقتصادية الخارجية، تنتقل من كونها لعنة إلى انكفاء سلوكي يترجم المحتوى العقلي في شكل انكماش ازاء العالم الخارجي حتى التفاني والتحوّل إلى رماد. وقوقعة العزلة لن تتحطم إلا حين يتصاعد الصراع فيغدو تطاحناً حتى الموت في مواجهة الاغتراب عن الطبيعة والآخرين والذات. إن تهشّم القوقعة لا يحدث إلا في حالة واحدة فحسب؛ حين يغدو بداخلها كائن آخر مختلف كيفياً عن سابقه، كائن نجح، ولو لمرة واحدة، في أن يحدق متجرداً في وجه اغترابه. - إن سبب الاستقبال الكبير الذي حظيت به رواية "مائة عام من العزلة" ، فهو التركيز الأخاذ على الواقع الملموس والشيء المدرك والمرئي، وهذا ما ينعكس في الصياغة اللغوية والروائية أيضا. - وقد أعرب فيها عن إدانته للمجازر التي ارتكبها جلادو شارون والكيان الصهيوني؛ وعرى ضمير الأمة العربية الغافِ في سباته ، وحمل الأدباء مسؤولية حماية مستقبل الأمة في نبذ كل ما يحدث من جرائم بحق أمتهم وإتخاذ موقف موحد في نصرة القضية الفلسطينية .. فقد خجل من حمل هذه الجائزة في الوقت الذي يحمله فيها مرتكبو المجازر في فلسطين ولبنان . - امتازت كتابات غابرييل بواقعيتها العجائبية ، وشدة انتمائها لهذا الاسلوب . - فقد مزج غابرييل بين الواقع والخيال وخلط الأساطير بالحقائق واستدعى من التاريخ القصص ليلقى بظلالها على أحداث روايته التى جاءت مثلا بديعا لإبداع العقل البشرى. - تنوعت كتاباته في شتى الأجناس الأدبية فكان من الصعب تصنيفها وتجيرها على أنها مكتوبة بالاسلوب نفسه . - صنف البعض كتاباته على أنها من أدب الخيال بالتحديد في حكاية موت معلن - يؤكد غابرييل أن قصصه ليست سوى صور من حياته الصاخبة، العاصفة، المدوية أو هى انعكاسات لحياة من عرفهم وعاش معهم وهى مزيج من السيرة الذاتية والخيال الجامح يتداخلان ويتشابكان فى أبعاد مختلفة - تناولت روايته " الجنرال في متاهة " سيرة سيمون خوريه أنطونيو دي بوليفار " وطني من أمريكا الجنوبية وهو مؤسس ورئيس كولومبيا الكبرى. أطلقوا عليه اسم «جورج واشنطن أمريكا اللاتينية» وذلك بسبب الدور الذي قام به في تحرير الكثير من دول أمريكا اللاتينية: كولومبيا وفنزويلا وأكوادور وبيرو وبوليفيا، التي كانت تحت الحكم الأسباني . واشتهر بوليفار كمحرر واحترمه الناس العاديون، ولكنه معارضة شديدة تخللت أيامه الأخيرة عندما هدف إلى توحيد أمريكا الجنوبية كلها تحت سلطته، وسميت دولة بوليفيا باسمه. - لم تك رواية "لا أحد يكاتب الكولونيل" سياسية بحتة ، لكنها تناولت أعمال القمع السياسي ، وانتشار الرقابة والعنف ضد المعارضة ، بالأضافة إلى أنه لم يغفل التطرق إلى التجاوزات الإجتماعية . - ورود كلمة الحب في عنوان روايته " الحب في زمن الكوليرا " رغم أنها قصة منقوعة بالحزن تروي: قصة رجل وامرأة منذ المراهقة وحتى ما بعد بلوغهما سن السبعين ،واصفا ما تغير من حولهما وما دار من حروب أهليه في منطقة الكاريبي و حتى تغيرات التكنولوجيا وتأثيراتها على نهر مجدلينا العظيم والبيئة الطبيعية في حوضه ، و كيف كانت الكوليرا ،ذاك الوحش الكاسر الذي نشر غضبه في كل أرجاء منطقة الكاريبي، ذات الحر الخانق والفقر المدقع حاصدا البشر بشراسة لدرجة ترى فيها الجثث ملقاة في الشوارع ولا ينفذ منها حتى الأطباء أنفسهم .. - وربط فيها بين اللوز المر والغراميات الكئيبة في طريق الطبيب أحد أبطال الرواية لمعاينة حالة انتحار لمهاجر نكتشف فيما بعد أنه قد يعتبر شخصا زائدا في الرواية وأنه مجرد حدث ثانوي .. كما يموت الطبيب في اليوم ذاته بحادث آخر ليبدأ ماركيز في قص أحداث الرواية عائدا بذاكرة الأبطال ما يزيد على نصف قرن .. - امتازت لغته في رواية " ذاكرة غانياتي الحزينات " بانسيابيتها ودفئها ، فتتسربل إلى قلب القارئ دون استئذان " منذ ذلك الحين صارت موجودة في ذاكرتي بوضوح يمكنني معه أن أفعل بها ما أشاء أبدل لون عينيها حسب حالتي المعنوية , لون الماء عند الاستيقاظ , لون قطر القصب حين تضحك , لون الضوء عندما أعارضها ". - في هذه الرواية يقول ماركيز:" أن الحب قد يتأخر كثيراً حتى يصل وهذا ماحصل معه حين أحب الطفلة ابنة الأربعة عشر عاماً وهو في التسعين فيعود لقراءة القصص الرومانسية .... التي كان يكرهها في صباه . وبعد هكذا حالة حب تباع مقالاته مثل السجائر المهربة ولاسيما المقالات التي تلت عيد ميلاد الفتاة الخامس عشر ". - في روايته " ذاكرة غانياتي الحزينات " تطرق إلى الوحدة والعزلة في كتاباته " إننا وحيدان في العالم ياطفلتي " وهذا ما يؤكد حاجته الكبيرة إلى الحنان وكما يفسر اهتمامه بالهر الذي أهدي له في عيد ميلاده .وكان دقيق الوصف في كل التفاصيل حتى وهو يصف مكتبه (الورق إلى يسارها الحبر إلى يمينها) ، ويكرس القيم " إنني دقيق في مواعيدي لمجرد إلا يعرف مدى استهانتي بوقت الآخرين" . - فضح وعرى ماركيز الرؤوس الكبيرة في المجتمع وهي تمارس العهر في البيوت السرية ، مشيرا إلى قصة المصرفي الكبير الذي قتل في إحدى هذه البيوت ويرد الخبر بالجريدة على أنه إعتداء عليه من قبل قطاع طرق ليبراليين . - في روايته " خريف البطريرك " مليئة بزخم الأحداث المفزعة ، تشم فيها رائحة الدم والسحر والخيال كانت تعج بأغاني الساحل الكولومبي وألحانه، حيواناته وأعشابه، طرائفه ومآسيه، قصص حب وهمية وحقائق دموية، سحر وتعاويذ، مآدب من لحم بشري متبّل، وبحر يباع قطعاً مرقّمة. فقد تجاوز فيها حدود أمريكا اللاتينية، يعلن حالة الحرب على كل منافسيه، من الأطفال إلى الكرسي البابوي في روما... قائلا :" في ذروة خريفه، "عاش أنا..." يموت ضحاياه: أطفال ومعارضون، رجال دين ومتمرّدون، هنود وهندوسيون، عرب ومضطهدون آخرون. عاش أنا، يقول. غير أنه في النهاية يجد نفسه وجهاً لوجه مع الموت , و حسب تسلسل الأحداث وتداخلها في الرواية، فهناك زمن مغلق تدور فيه أحداث الرواية بأسلوب يجمع بين الشعر والموسيقى والسيناريو السينمائي ، وبحركة دائرية مغلقة في نشيدها المذهل ضد الدكتاتورية. - منح البطريرك أمه " بندئيون الفارادو " مرسوما ملكيا بــ " صفة قديسة الوطن" حيث تقاسم وإياها وحاشيته ثروات الوطن باعتبارها ملكية خاصة بهم ، على الرغم من أن حاشيته كثيرا ما كانوا يتمنون التخلص منه بشتى الطرق بسبب عناده و تخلفه الذي يهدد استقرار الحكومة الذي قد يجعل حدوث انفجار ما ممكناً نتيجة حالة الاستياء العامة التي يشعر بها المدنيين و العسكريين على حد سواء لما كان عليه البلد من الحرائق و القتل و التنكيل و التسلط يستنفد الوطن كل ثرواته و قواه و لم يبق سوى البحر الذي يجد البطريرك نفسه مضطراً للتنازل عنه للامريكيين الشماليين الذين يهددونه دائماً بعملية انزال جديد ( للمارينز ) . فقد كان بطريك غابرييل شخصية دكتاتورية فهو النتاج الحتمي ؛ البديهي للجهل و العنف و القسوة التي يمكن أن يبلغها رجل معتوه عندما تضعه الظروف على رأس السلطة و الواقع أن البطريرك هو ضحية أخرى يمكن أن تضاف إلى الضحايا التي يحكم عليها هو نفسه بالموت فكل هؤلاء الذين معه تجرفهم سيرورة واحدة لا غير ، سيرورة الانحطاط التي تضع هذا البطريرك بالصدفة في السلطة . - وفيها تناول غابرييل حيثيات الواقع القمعي ، السلطوي و الأيديولوجي بغض النظر عن المكان أو الزمان ، الشئ الوحيد الذي يتغير هو أسماء الطغاة و عدد ضحاياهم الجدد . - حاول غابرييل دائما في كتاباته العودة إلى الجذور ، وفي توثيق الصلة بين التاريخ الاجتماعي - تاريخ البلدات والمدن الأميركية اللاتينية - والتاريخ الفردي ،متمثلاً بتاريخ شخصيات عسكرية - جده العقيد نيكولاس، وبوليفار ،وغيرهما - فجسد بذلك قدراته في التماهي بالتاريخ وبالجماعة. • استمر "جيرالد مارتن" سبعة عشر عاماً في البحث والكتابة للسيرة الذاتية لماركيز، وقضى ساعات طويلة في مناقشات مع ماركيز نفسه وقابل أيضاً أكثر من ثلاثمائة من الأشخاص الآخرين ممن عرفوه، ومن بينهم زوجته وأبناءه وأحفاده، وكذلك وكلاء الأعمال والمترجمين والكتاب والزعماء السياسيين وزعماء أحزاب ورؤساء دول، من ضمنهم الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، والرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، ورئيس وزراء إسبانيا السابق فيليب غونزاليز، وغيرهم من الشخصيات التي نهجت نهجاً اشتراكياً في سياستها، وقابل أيضاً من يعتبرون أنفسهم خصوماً له، وكانت النتيجة هي انبعاث كل من الكاتب والإنسان. • بذل ماركيز جهدا كبيراً في سبيل المعرفة، فبدأ يقرأ بطريقة حرفية نقدية، متجاوزا مرحلة القراءة للمتعة فقط! إذ توغل في أشد أسرار بنائها الأدبي، على حد قوله، قام بإعادة قراءة «يوليسيس» لجيمس جويس و«الصخب والعنف» لفوكنر برؤية نقدية، فاكتشف الكثير عن جمال وبساطة إبداعاتهم .. • اعترف في بداياته الإبداعية، بمحاولته تقليد فوكنر في روايته "بينما أرقد محتضراً" جاعلا الحوار الداخلي (المونولوج) يشمل القرية كلها، مثل جوقة إغريقية تروى بطريقة فوكنر، لكنه حدد عدد الشخصيات واقتصر على ثلاثة أصوات (الجد والأم والطفل) حتى يسهل تحديد هوية المتكلم تلقائياً عن طريق نبراتها ومصائرها المختلفة جداً، وقد كان لديه وعي نقدي جعله ينتبه الى أنه يستمد شخصياته من سيرته الذاتية، فالجد لن يكون أعور مثل جده، وإنما أعرج، ستكون الأم ذاهلة مثل أمه، والطفل مرعوب ومتأمل مثلما كان في مثل سنه. • كان غابرييل سيء الحظ مع النساء والنقود، لكنه كان بارعا في الكتابة ولم يحتج إلى حسن الطالع ذلك لم يكن يهمه، فقد كان يؤمن في مجال موهبته أنه لايحتاج الى حسن طالع ، بل إلى ثقافة وعدم يأس. • كان محاطاً بأصدقاء مثقفين (صحفيين، شعراء، رسامين، نقاد) يخلصون له النصيحة والنقد، واعترف في مذكراته بفضلهم عليه قائلا : " كيف يمكن لحياتي أن تكون من دون قلم المعلم ثابالا" .. • أعاد النظر في روايته الأولى "عاصفة الأوراق" التي رفضت ، فصحح فيها وفقا لرؤى أصدقائه النقدية ، وغير في بنية روايته ، وألغى مقطعاً مطولاً عن البطلة التي تتأمل ممرا من أزهار البيجونيا تحت وابل مطر يستمر ثلاثة أيام، وحذف حواراً غير ضروري للجد مع الكولونيل "أوريليانو بوينديا" وحوالي ثلاثين صفحة تشوش شكلاً ومضمونا البناء الموحد للرواية. • وبسبب إدمانه عادة مواصلة التصحيح حتى الموت، على حد قوله، فقد أصدر الطبعة الأولى من روايته «عاصفة الأوراق» بعد سنين من كتابتها، دون أي تغيير معمق باستثناء بعض الحذف والترقيع! • علمته صداقة النقاد والمثقفين، كما علمه الفشل، المراجعة الدقيقة لما يكتب، حتى إنه بات يرى أن قيمة أي عمل أدبي تقاس بعدد مسوداته، أي يقاس بمدى التنقيحات التي أجراها المبدع! وبمدى نضج الرؤية النقدية التي يمتلكها! لهذا كان يلازمه كلما أنجز كتابا إحساس بالخوف ، إذ يؤرقه أن يكون عاجزا عن كتابة آخر أفضل منه، فالاستمرار في الكتابة لايعني شيئاً حين لايشكل تطوراً في مسيرة المبدع الفنية. • ولذائقته النقدية استطاع أن يستغني عن رواية كتبها بعنوان "البيت" إذ بدت له بعد أن عمل فيها ستة أشهر مهزلة غير موفقة!! وقد أعاد كتابتها من جديد بعد فترة، فغير عنوانها وتجاوز نقاط الضعف التي وجدها فيها. • إن هذه العادة في التنقيح لن نجدها إلا لدى كاتب يحس بمسؤولية الكلمة التي يوجهها الى المتلقي، ويسعى الى تنمية ذائقته النقدية، وفهمه العميق للجنس الأدبي الذي يكتب فيه، لهذا تطورت رؤيته الإبداعية فقدم المدهش والجميل والممتع.
"ماكتبه عنه النقاد ،وما قاله عنه الأصدقاء " - كتبت التايمز : عن روايته " مائة عام من العزلة " : أن هذه الرواية كاسحة تتسم بالألق الفوضوي ، و هي أقرب إلى الشعر منها إلى النثر ، بل هي ملحمة موسيقية لا متناهية )) التايمز - كتبت صنداي تايمز : عن روايته " مائة عام من العزلة " : أن هذه الرواية ماهي إلا عمل أدبي غني ، مكثّف كالأدغال ، حافل بالوهم المتواضع ، زاخر بالفعل ، ثري بالمرح الحزين ، يتدفق بالأحداث و الفلسفة و التأمل ، حتى ليدفعك إلى العجب - كتبت نيويورك تايمز : عن روايته " مائة عام من العزلة " : تصحو ، بعد قراءة هذه الرواية الرائعة ، كمن يصحو من حلم ، عقلك و خيالك جامحان بل ملتهبان .. و أمامك غابرييل غارسيا ماركيز العملاق كخياله و جبريته و عظمته ، فهو و الرواية مدهشان - كتبت الغارديان : عن روايته " مائة عام من العزلة " : قليلة هي الروايات التي تغيّر حياة الناس , وهذه الرواية واحدة من تلك الروايات - كتبت فاينانشال تايمز : عن روايته " مائة عام من العزلة " : هذه الخبرة لا تعدلها , في الغنى خبرة أخرى - قال الشاعر بابلو نيرودا : عن روايته " مائة عام من العزلة " :إنّها أعظم نص كتب باللغة الإسبانية منذ " دون كيشوت " - قال الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس : عن روايته " مائة عام من العزلة " : حينما قرأت المائة صفحة الأولى من كتاب ( مائة عام من العزلة ) بدأت سريعاً في كتابة ما أحسست به قائلاً : لقد انتهيت للتوِّ من قراءة الإنجيل الأميركي اللاتيني ، وأحيي فضلاً عن ذلك العبقرية الحارة والمؤثرة لأحد أصدقائي الأكثر حميمية . - كتبت صنداي تلغراف: عن روايته " مائة عام من العزلة " : هي من أكثر الأعمال التي بُولغ في تقديرها على مرّ العصور.
- "قال مالك فرع لإحدى شركات مبيعات الكتب في عاصمة البارغواي": أن "سحر هذا العمل سيدوم لقرونٍ من الزمن " ، وقد رعت الأكاديمية الملكية الاسبانية وأكاديميات اللغة الاسبانية على امتداد العالم هذا العام طبعة خاصة بلغت مليون نسخة !! -" أجرت صحيفة ريبوبليكا الايطالية": استطلاعاً للرأي احتلت فيه " مئة عام من العزلة " المرتبة الأولى كأفضل رواية من الروايات العشرين المختارة .
- "جيرالد مارتن": هو الأستاذ الأقدم في جامعة ميتروبوليتان لندن، وأستاذ اللغات الحديثة في جامعة بيتسبرغ والمعروف بكتاباته عن السرد الأميركي اللاتيني،قدم سيرة ذاتية ثرية وآسرة عن " غابرييل غارثيا ماركيز " تليق برواياته ذائعة الصيت. "وعلى الرغم من تسجيل "مارتن" لخصوصيات الحياة عند "ماركيز" إلا أننا نجده في كتابه هذا يتمعن بالقضايا الأكبر، فيما بين الاحتفال بغارثيا ماركيز وبحثه عن الجودة الأدبية، وبين سياسته وكتابته - خداع السلطة والعزلة والحب - إنه يستكشف التناقض فيما بين رحم خلفية الكاتب الكاريبي والفاشستية في "بوجودا" العليا، ويبين لنا كيف ظهرت هذه الفروق في كتابته في كل شكل اتخذه من أشكال حياته، إنه يستكشف الخبرة والتصورات الظاهرة، أو الكامنة في روايات "ماركيز" ويفحص مبررات الكاتب ورد فعل العامة - لتحوله بعيداً في الثمانينيات عن الواقعية السحرية التي قدمته إلى الشهرة الدولية باتجاه بساطة أعظم تلك التي سوف تشكل علامة في بداية عمله في "الحب في زمن الكوليرا".
"الخاتمة " ومن ثم، إذا كان ماركيز قد ألف كتابه الأخير، يجب عليه أن يصدر تعليمات واضحة للمنفذين العاملين لديه كى يضمن عدم صدور أى عمل غير منشور له فى يوم من الأيام. وحيث يعلم الناشرون والقراء أن الكتابة مهنة ليس لها موعد للتقاعد، فإنهم يرفضون أن يدعوا ذلك يمر بسلام.
"نبذة عن روايات وقصص غابرييل " "الحب في زمن الكوليرا" عندما يموت زوج فيرمينا دازا، وهو الطبيب جوفينال أوربينو، بعمر 81 سنة وبطريقة ماساوية بعد زواج دام أكثر من خمسين عاما، يظهر فلورينتيو إريزا الذي كانت فارمينا قد رفضته قبل زوجها، فيعاهدها ثانية على "الوفاء الأبدي والحب الدائم" ولكن الأرملة أوربينو تطرده، وبهذا ينتهي الفصل الأول من فصول الرواية الستة التي تصور حياة الشخصيات الثلاثة باسترجاع الماضي. انتظر العاشق المرفوض فلورينتينو اريزا واحدا وخمسين عاما وتسعة شهور وأربعة أيام الفرصة الممكنة للفوز بفيرمينا دازا مرة ثانية، فعندما كان شابا وقع في غرام فيرمينا دازا، وقوعا أبديا، وكانت هي آنذاك تلميذة بدت كأنها تبادله مشاعره بعد المئات من رسائل الحب الغارقة في الرومانسية العميقة، يتقدم لخطبتها ولكن والدها الذي يعارض زواج ابنته من عامل تلغراف فقير يأخذها في سفرة طويلة إلى أقاربه تستمر عاما ونصف العام، ولكن يستمر اتصال المحبين ببعضهما سرا عن طريق مراكز التلغراف الواقعة على مسار تلك الرحلة. وتكتشف فيرمينا في إحدى صحوتها أثناء اللقاء الأول بعد عودتها أن حبها لفورينتيو لم يكن سوى وهم ومخادعة لنفسها فترده. وعندما يخطبها فيما بعد أكثر شباب المدينة سحرا وجاذبية، الطبيب أوربينو المحترم من قبل الجميع، تذعن لمطالبة والدها في أن يجعل من ابنته سيدة مرموقة فتتزوج رجلا لا تحبه هو الآخر، وخلال خمسين عاما من الحياة المشتركة تعرف فارمينا والطبيب الحب أو على الأقل حالة تشبه الحب تماما. يدافع كلاهما عن هذا "الحب المروض" . في المحافل الكبيرة والصغيرة. يصبح فلورينتينو في هذه الأثناء مديرا لشركة الكاريبي للنقل النهري، وكانت حياته قد تحولت إلى حياة "دون جوان" بارع ولكنه بقي وحيدا مخلصا لفيرمينا في قرارة قلبه، كان هدفه هو أن يحافظ على عزيمته على البقاء على قيد الحياة بصحة جيدة، حتى يتحقق قدره في ظل فيرمينا دازا. ولم ينصره في معركته من أجل الحب سوى الموت.يمتد تودد فلورينتينو الجديد للأرملة أوربينو عبر أكثر من مئة وأربعين رسالة لم تجب عليها فيرمينا، كان يعزيها فيها على وحدتها وحيرتها بعد سنوات الزواج الطويلة تلك. بدون أن يقلب شيئا من صفحات الماضي، ويشجع فيرمينا بتأملاته الملائمة لعمرهما وظروفها على الاستمرار في العيش، وحينما يتعرفان إلى بعضهما بصورة أكبر في النهاية تصبح زيارات فلورينتينو الأسبوعية شغل فيرمينا الشاغل. وعندما يحاول أبناؤها ثنيها عن تلك العلاقة المضحكة بالنسبة لعمرها والمسيئة لسمعتها، تناضل فيرمينا من أجل هذا "الحب الفتى". فتقوم مع فلورينتينو برحلة نهرية على طول نهر مجدلينا، وينجح الزوجان أثناء "سفرة شهر العسل بالتقدم صوب جوهر الحب بدون طرق ملتوية" وللفرار من الواقع المرفوض، يرفع على السفينة علم الكوليرا الأصفر، يأمر فلورينتينو قبطان السفينة أن يقطع النهر مجددا وعندما يسأل الأخير إلى متى يجب أن تستمر رحلة الذهاب والإياب، بين مصب النهر ومدينة لادورادا، يجيب فلورينتينو بشجاعة "مدى الحياة".
" خريف البطريك " تعود بداية الأحداث في الرواية إلى الطفولة الأولى للبطريرك ـ وهو الأسم الوحيد الذي يشار إليه في الرواية ـ إثناء فترة العهد الأخير لنظام النيابة الملكية لأسرة (غودوس ) ، وتندلع بعد حروب الاستقلال حرب أهلية بين الليبراليين من جهة والمحافظين من جهة أخرى لمدة زمنية تتراوح تقريباً احدى عشرة سنة ينتزع من خلالها السلطة ما يقارب أربعة عشر جنرالاً الواحد تلو الآخر ويكون في آخر هذه السلسلة من الجنرالات جنرال مستبد بصورة تفوق المعقول ويمتلك نزعة قوية إلى حد ما ، تجرأ مرة على ان يرفض شروط ومطالب الأنكليز ، لكنه في نهاية الأمر يقدم على الأنتحار مع كافة أفراد أسرته على أثر حركة مسلحة كان قام بها ضد البطريرك بايعاز وتوجيه من الأنكليز أنفسهم وهكذا تمت العملية إلى ان تم ـ بواسطة الأنكليز و القوات المسلحة ـ تعين وتنصيب البطريرك وهو الشخصية الأمية والدموية والمستبدة والمنعدمة الضمير قائداً ورئيساً لهذه الجمهورية .حين وصل كان الوضع الاقتصادي ، السياسي ، والحياتي العام يسير من سئ إلى اسوأ تعرض إلى بعض المتاعب ومع هذا تم تخليصه وإنقاذه بفضل جهود ومساعدة الأمريكيين الشماليين شريطة منحهم الحق الدائم في مسألة استثمار الثروات الكثيرة والمدفونة ولذلك نرى ان البطريرك قد بقي على سدة الحكم و سيطول بقائه بفضل تمتعه بحاسة شم تسمح له بان يحس الخطر في الوقت المناسب والمكان المفترض ولذلك نرى أيضاً ـ ان ردة فعله تاتي بقسوة غير منتظرة وحجته و دليله لهذه المسألة هو منطقه الذي لا يقبل الجدل في الدفاع عن سلطته وحكمه و حياته وصولاً إلى حاشيته..ثم تتكرر المناورة / المحاولة بشكل دوري كلما خرج منتصراً من الكمائن المنصوبة ومحاولات الأغتيال العديدة التي تعرض لها من كل حدب و صوب و حين يحاول بطريقته المخاتلة و المخادعة أن يذيع بياناً يتحدث فيه عن نواياه الطيبة القادمة او يعلن تصريحاً ما يمنح فيه العفو حتى تنطلق من جديد أساليب القمع بصورة أكثر وحشية مما كانت عليه سابقاً و هناك مثالاً من ضمن الأحداث التي تجري في الرواية ، تلك المتمثلة بعملية اليانصيب التي تحاك بهدف ازاحته و إسقاطه .. فلكي يبقى رقم البطريرك فائزاً / رابحاً على الدوام كان يعمل عند كل سحب للبطاقات احتجاز طفلين و يلقى بهما في غياهب سجونه وبمثل هذه الطريقة أختفى ما يقارب الألف طفل وهنا يبدأ الأهالي بالاحتجاج مطالبين الرأي العام بتفسيرات لما يحدث وباطلاق سراح هؤلاء الصغار وعندما يعلم البطريرك بما يجري يعمد إلى تفجير المركب الذي حشر فيه هذا العدد المهول من الأطفال و هو في عرض البحر و على أثر هذه القضية يكتشف فجأة أن شخصية ( رودريغو دو اغيلار ) هذا الشخص الذي منحه و وضع فيه ثقته هو العقل المدبر الأول لكل هذه المؤامرة المحاكة ضده فيقدم على وضعه في الفرن لشيه و تقديمه لاحقاً على طبق من الفضة إلى كل الجنرالات المشتركين و المتورطين الذي يجدون أنفسهم مضطرين لأكله خلال أحدى حفلات العشاء السرية الضخمة التي كان يقيمها البطريرك بين فترة و أخرى .
"في ساعة نحس" الرواية تحكي قصة مجموعه من الشخصيات قرية هادئه في, ممله, كل شيء فيها يتحرك بنظام أشبه بالأوتوماتيكي, القرية كانت تفتقر للديناميكية, للحركة, لعنصر المفاجأة, و هذا ما سيحدث لاحقاً فالقرية تواجه موجه من نشرات فضائح يتم توزيعها على أبواب أهل القرية, و تحمل هذه النشرات بالطبع فضائح و أسرار أهالي هذه القرية, و تتأزم الأمور عندما يقتل سيزار مونتيرو و هو أحد سكان البلده باستور و ذلك بعد قراءته في نشرات الفضائح أن باستور على علاقة بزوجته. هناك العمده المتهم بجرائم قتل غامضه و من يدخل سجونه قد لا يوّفق في العودة منها, و هناك كذلك الأب الذي لا يتوانى عن مهاجمة أي موجه للتغيير, سواء من خلال رفضه لعروض الأفلام الأجنبية أو حتى مرور سرك الغجر, بالإضافة لهما هناك شخصيات عديده و متفرقه, منها الطبيب, و الحلاّق و الأرملة, و ترينيداد و مينا و كل منها له حكايته. "في نظرة واحدة أفصح العمدة عن نفاذ الصبر الذي قدمه طوال أسبوعين من المعاناة، حتى ولو كان العالم يوشك أن يبلغ نهايته يا ابت أصبح الألم حصيناً في مواجهة المسكنات، فعلق العمدة أرجوحته على شرفة غرفته محاولاً الإغفاء في برودة صدر المساء، لكنه هوى عند الساعة الثامنة في هاوية اليأس مرة أخرى وهبط إلى الميدان الذي كان يغط في سبات تحت وطأة موجة الحر. بعد الطواف حول المنطقة دون العثور على مصدر الإلهام الذي يحتاجه للسمو فوق الألم مضى إلى دار السينما، وكانت تلك غلطة، فقد زاد أزيز الطائرات العسكرية في تفاقم الألم، غادر دار السينما قبل الاستراحة وبلغ الصيدلية فيما كان دون لالو موسكوته يتأهب لإغلاق الباب".
"ذاكرة غانياتي الحزينات " : قصة صحفي في التسعين من عمره يرغب في عيد مولده أن يهدي لنفسه ليلة حب حميمة مع مراهقة عذراء .. ولكن ما يحصل بعد أحداث ٍ عديدة في الرواية أنّه .. يقع في حبّ الطفلة ويكتفي بمراقبتها وهي نائمة .. ويتنازل لها في النهاية عن كل ما يملك لكن هذه الفتاة استبيحت عذريتها من أحدهم .
"لا أحد يكاتب الكولونيل" ترجمها عن الأسبانية : صالح علماني ودققها : سعيد حورانية نزع الكولونيل غطاء علبة البنْ فتأكد من أنه لم يبق فيها سوي قدر ملعقة صغيرة. فتناول إبريق القهوة عن الموقد، وسكب نصف ما يحتويه من ماء على الأرض الترابية، ثم كشط بسكين محتويات العلبة ونفضه فوق الإبريق إلى أن سقطت آخر ذرات البنْ مختلطة بصدأ العلبة. وبينما كان ينتظر غليان القهوة، شعر الكولونيل وهو يجلس إلى جانب الموقد المصنوع من لبن، وعلى وجهه تبدو مظاهر الانتظار الواثق البريء، بأن نبتات فطر وزنابق سامة تنمو في أحشائه. حدث هذا في أكتوبر. في صباح يوم من الصعب تصنيفه، وخاصة لرجل مثله عاش أصباحا كثيرة مثل هذا الصباح. فطوال ست وخمسين سنة منذ انتهت الحرب الأهلية الأخيرة لم يفعل الكولونيل خلالها شيئا سوي الانتظار، وكان مجيء أكتوبر أحد الأمور القليلة التي تمر في حياته. رفعت زوجته الكلة عندما رأته يدخل حجرة النوم حاملا القهوة. لقد عانت تلك الليلة من نوبة ربو، وتنتابها الآن حالة من النعاس. ولكنها اعتدلت لتتناول الفنجان، وقالت: - وأنت! فكذب الكولونيل قائلا: - لقد تناولت قهوتي، ومازالت لدينا ملعقة كبيرة من البنْ. في تلك اللحظة شرعت الأجراس تقرع. كان الكولونيل قد نسي الجنازة. وبينما كانت زوجته تتناول القهوة، نزع شبكة النوم المعلقة في أحد أركان الغرفة وطواها في الركن الآخر وراء الباب. فكرت المرأة بالميت، وقالت: - ولد سنة .1922 بعد شهر تماما من ميلاد ابننا. يوم السادس من نيسان (ابريل). وتابعت رشف القهوة ما بين شهقات تنفسها المتقطع. كانت امرأة تبدو وكأنها مبنية من غضاريف بيضاء مسندة إلى عمود فقري متقوس وبلا مرونة. واختلاجات أنفاسها تضطرها إلى ضغط أسئلتها. وعندما انتهت من تناول القهوة كانت ما تزال تفكر بالميت فقال: لابد أن دفن المرء في أكتوبر شيء رهيب . ولكن زوجها لم يعرها اهتماما. فتح النافذة. كان أكتوبر قد استقر في البهو. فأخذ يتأمل النباتات التي كانت تنشق عن اخضرار كثيف. والأخاديد الدقيقة التي خلفتها الديدان في الوحل، ثم أخذ يحس من جديد بالشهر المشئوم في أمعائه. **** قال - أشعر بأن عظامي رطبة. فردت زوجته: - انه الشتاء. منذ بدأ المطر يهطل وأنا أقول لك بأن تنام لابسا جرابك. - منذ أسبوع وأنا أنام بالجراب. كانت السماء تمطر ببطء ولكن دون توقف. وكان الكولونيل يود أن يلف نفسه ببطانية صوفية ويعود من جديد إلى سريره المعلق. ولكن إلحاح الأجراس البرونزية ذكٌره بالجنازة، فدمدم: يا لأكتوبر ، وسار نحو وسط الغرفة. وعند ذلك فقط تذكر ديك المصارعة المربوط بقائمة السرير. وبعد أن حمل الفنجان الفارغ إلى المطبخ، ملأ الساعة ذات البندول المثبتة ضمن إطار خشبي مزخرف في الصالة. وعلى العكس من غرفة النوم الضيقة التي لا تناسب تنفس المريضة بالربو. فقد كانت الصالة واسعة. وفيها أربعة كراسي هزازة من الليف حول طاولة من الجص. وعلى الجدار المقابل لذلك الذي علقت عليه الساعة. علقت لوحة لامرأة متكئة وسط حرير ناعم شفاف ومحاطة بعشاق في مركب يغص بالزهور. كانت السادسة وعشرين دقيقة عندما انتهي من تعبئة الساعة. بعد ذلك حمل الديك إلى المطبخ، وربطه إلى دعامة بجانب حفنة من الذرة. نفذت مجموعة من الأطفال من خلال السور المتشقق، وجلست حول الديك لتراقبه بصمت. - لا تنظروا كثيرا إلى هذا الحيوان. فالديوك تتآكل من كثرة النظر إليها قال لهم الكولونيل. ولكن الأطفال لم يرفعوا أنظارهم عن الديك، وراح أحدهم يعزف على الهارمونيكا أنغام الأغنية الدارجة لا تلمسني اليوم ، فقال له الكولونيل: هناك ميت في القرية فدس الطفل الآلة في جيب بنطلونه ومضي الكولونيل إلى الغرفة ليرتدي ملابسه ويذهب إلى الجنازة. لم تكن ملابسه البيضاء مكويّة بسبب نوبة الربو التي أصابت المرأة. وهكذا كان عليه أن يستقر رأيه على ارتداء بدلة الجوخ السوداء التي استخدمها في مناسبات خاصة جدا بعد زواجه. وقد كلفة العثور عليها في أسفل الصندوق جهدا ليس بالقليل. كانت ملفوفة بأوراق الصحف، ومحفوظة من العث بكرات صغيرة من النفتالين. تابعت المرأة التي كانت مستلقية على السرير التفكير بالميت وقالت: - لابد وأنه التقي مع أغوستين الآن. ويمكن ألا يكون قد حكي له عن الحالة التي وصلنا إليها بعد موته. فقال الكولونيل: - لابد وانهما يتناقشان عن الديوك الآن. عثر في الصندوق على مظلة كبيرة وقديمة. كانت زوجته قد ربحتها في سوق خيري أقيم لجمع تبرعات لصالح حزب الكولونيل. في تلك الليلة ذاتها حضروا عرضا في الهواء الطلق. ولم يتوقف العرض برغم المطر الذي كان يهطل. وشاهد الكولونيل، وزوجته، وابنه أغوستين الذي كان عمره حينئذ ثماني سنوات العرض حتى نهايته، وهم جالسون تحت المظلة. لقد مات أغوستين الآن وبطانة المظلة التي هي من الأطلس قد اهترأت يفعل العث. - انظري كيف صارت مظلتنا كمظلات مهرجي السيرك. قالها الكولونيل وكأنه يقول عبارة قديمة كان يستخدمها بكثرة. وفتح فوق رأسه جهازا غامضا من القضبان المعدنية. ثم تابع: - إنها تنفع الآن لعدّ النجوم فقط. ابتسم. ولكن المرأة لم تتكلف مشقة النظر إلى المظلة ودمدمت: كل شيء هكذا . إننا نتعفن في الحياة . وأغمضت عينيها لتفكر بالميت بتركيز أكبر. بعد أن حلق الكولونيل ذقنه بالتلمس إذ لم تكن عنده مرآة منذ زمن بعيد ارتدي ملابسه بصمت. كان البنطال ضيقا وملتصقا بالساقين مثل سروال داخلي طويل تقريبا، ويغلق عند الكاحلين بعقدتين منزلقتين، ويثبت عند الخصر بلسانين صغيرين من القماش نفسه يمران من خلال ابزيمين مذهبين ومخاطين على ارتفاع الكليتين، فهو لم يكن يستخدم حزاما، أما القميص الذي كان بلون الكرتون، وبقساوة الكرتون أيضا، فانه يغلق في أعلاه بزر نحاسي، وهذا الزر نفسه يثبت أيضا الياقة المستعارة. ولكن الياقة المستعارة كانت ممزقة، لذلك فان الكولونيل تخلي عن وضع ربطة العنق. كان يقوم بكل حركة وكأنه يؤدي مهمة خطيرة. عظام يديه كانت مغطاة بالجلد اللامع المشدود والمخطط بتفرعات العروق كجلد الرقبة. وقبل أن يلبس حذاءه ذا الكعب العالي اللامع حكّ الوحل العالق بنعله. وفي هذه اللحظة فقط رأته زوجته وهو يرتدي ملابس يوم عرسه. وعندها أدركت كم هرم زوجها. قالت: - يبدو وكأنك ذاهب إلى حدث هام. فقال الكولونيل: - هذه الجنازة حدث هام. فهذا هو الميت الأول الذي يموت ميتة طبيعية منذ سنوات عديدة. انقطع المطر بعد التاسعة. وأخذ الكولونيل يستعد للخروج عندما جذبته زوجته من كم سترته، وقالت: - سرح شعرك. حاول أن يثني شعره الخشن بمشط عظم، ولكن جهده ذهب سدي. - لابد أني أبدو كببغاء. تفحصته المرأة. وفكرت أن لا. فلم يكن الكولونيل يبدو كببغاء. كان رجلا جافا، له عظام متينة متمفصلة كبراغ وصمولات. وبسبب حيوية عينيه فقط لا يبدو ككائن محنط بالفورمول. حسن هكذا ، وافقت هي، وأضافت عندما كان زوجها يغادر الغرفة: - اسأل الطبيب عما إذا كنا قد ألقينا عليه ماء ساخنا في هذا البيت. كانا يعيشان في طرف القرية، في بيت سقفه من السعف وجدرانه مطلية يكلس قد تقشر. وكانت الرطوبة ما تزال منتشرة ولكن المطر كفّ عن الهطول، فهبط الكولونيل باتجاه الساحة عبر زقاق يفصل بيوتا متلاصقة. وعند وصوله إلى الشارع الرئيسي شعر برجفة، فإلى أبعد مدي يبلغه بصره كانت القرية مفروشة بالزهور. بينما جلست النساء أمام أبواب البيوت بانتظار الجنازة وقد ارتدين السواد. عندما وصل إلى الساحة أخذ مطر ناعم يهطل من جديد. ورأي صاحب صالة البيليار الكولونيل وهو أمام محله فصرخ له وقد فتح ذراعيه: - أيها الكولونيل، انتظر وسأعيرك مظلة. فأجابة الكولونيل دون أن يلتفت: - شكرا، فالحال حسنة هكذا. لم تكن الجنازة قد خرجت بعد. وكان الرجال وهم يرتدون ملابس بيضاء وربطات عنق سوداء يتبادلون الحديث أمام بيت الميت تحت مظلاتهم. ورأي أحدهم الكولونيل وهو يقفز فوق برك الماء في الساحة فصرخ: - تعال وانضم إلى أيها الصديق. وأفسح له مكانا تحت مظلته. قال الكولونيل: - شكرا أيها الصديق. لكنه لم يقبل الدعوة، بل دخل من فوره إلى البيت ليعزي والدة المتوفي. كان أول ما أحس به هو رائحة زهور كثيرة متنوعة. وبعد ذلك شعر بالحر. وحاول أن يشق طريقه وسط الحشد المجتمع في غرفة النوم. ولكن أحدهم وضع يده على ظهره، ودفعه نحو عمق الغرفة عبر دهليز من الوجوه الحائرة إلى حيث توجد واسعتين وعميقتين فتحتا أنف الميت. هناك كانت الأم تهش الذباب عن التابوت بمذبة من السعف المجدول. ووقفت نساء أخريات يرتدين السواد ويتأملن الجثة وعلى وجوههن تعبير من يتأمل تدفق الماء في نهر. وفجأة انبعث صوت من آخر الغرفة. فمال الكولونيل مجانبا امرأة، ووجد نفسه بمحاذاة وجه أم الميت، فوضع احدي يديه على كتفها وضغط على أسنانه وقال: - تعازي ومشاعري. لم تلتفت إليه. فتحت فمها وأطلقت نباحا حادا. فذعر الكولونيل. وشعر بأنه مدفوع نحو الجثة بحركات الحشد المضطرب الذي انفجر يهتز من حوله. فبحث بيده عن شيء يستند إليه ولكنه لم يجد الجدار. فقد كانت أجساد أخرى مكانه. همس أحدهم في أذنه بصوت ناعم جدا: انتبه، أيها الكولونيل . أدار رأسه فوجد أمامه الميت. ولكنه لم يتعرف عليه فقد كان قاسيا وديناميكيا، وتبدو عليه الحيرة مثله، وهو مغطي بخرق بيضاء والبوق بين يديه. وعندما رفع رأسه فوق الصرخات بحثا عن الهواء، ورأي التابوت المغطي وهو يهتز متقدما باتجاه الباب وعليه إكليل من زهور تتفتت وهي تصطدم بالجدران. تعرّق. وشعر بألم في مفاصله. وبعد برهة عرف أنه أصبح في الشارع لأن قطرات المطر الخفيف أصابت رموشه، شدّه أحدهم من ذراعه وقال له: - تعال أيها الصديق، لقد كنت أنتظرك. كان هذا دون ساباس عراب ابنه الميت، والوحيد بين زعماء حزبه الذي استطاع الإفلات من الاضطهاد السياسي وبقي يعيش في القرية بعد ذلك. شكرا أيها الصديق ، قال الكولونيل، وسار بجانبه صامتا تحت المظلة. بدأت الفرقة الموسيقية تعزف اللحن الجنائزي. وأحس الكولونيل بأن ثمة آلة نحاسية ناقصة، وللمرة الأولي تأكد بأن المتوفي قد مات، فدمدم: - يا للمسكين. تنحنح دون ساباس. وكان يحمل المظلة بيده السري، وكانت قبضتها في مستوي رأسه تقريبا، إذ كان أقصر بكثير من الكولونيل. وعندما خرج الموكب من الساحة أخذ الرجال يتناقشون. حينئذ التفت دون ساباس نحو الكولونيل بوجهه المكتئب، وقال: - ما هي أخبار الديك أيها الصديق. - انه هناك أجاب الكولونيل. وفي هذه اللحظة سمعت صرخة متسائلة: - إلى أين تذهبون بهذا الميت؟ رفع الكولونيل نظره، فرأي العمدة يقف على شرفة المركز وقفة خطابية. كان يرتدي سروالا داخليا وفانلٌة، وأحد خديه متورم وغير حليق. أوقف الموسيقيون عزفهم للّحن الجنائزي. وبعد لحظات تعرف الكولونيل على صوت الأب أنخل وهو يصرخ متحاورا مع العمدة. وفك رموز الحوار من خلال فرقعة قطرات المطر على المظلات. - وماذا الآن؟ تساءل دون ساباس. فأجاب الكولونيل: - لاشيء، ولكن لا يمكن للجنازة أن تمر من أمام مركز الشرطة. فهتف دون ساباس: - لقد نسيت هذا. إنني انسي دائما أننا في حالة طوارىء. قال الكولونيل: - ولكن هذا ليس تمردا. أنها جنازة موسيقيٌ ميت مسكين. غيرٌ الموكب اتجاهه. وعند مروره في الأحياء الواطئة تطلعت إليه النسوة وهن يقضمن أظافرهن بصمت. ولكنهن خرجن بعد ذلك إلى منتصف الشارع وأطلقن صرخات الإطراء، والامتنان والوداع، وكأنهن يعتقدن بأن الميت يسمعهن وهو في تابوته. شعر الكولونيل بالتوعك وهو في المقبرة. وعندما دفعه دون ساباس نحو الجدار ليفسح الطريق أمام الرجال الذين يحملون النعش، التفت إليه مبتسما، ولكنه التقي بوجه قاس. سأله: - ماذا جري لك أيها الصديق. فتنهد الكولونيل: - انه أكتوبر يا صديقي. رجعا من نفس الشارع. كان المطر قد انقطع. وأصبحت السماء أعمق، وأشد زرقة. وفكر الكولونيل: لن تمطر أكثر ، وشعر بأن حالته تتحسن، ولكنه استمر في ذهوله. وأيقظه دون ساباس: - أيها الصديق، عليك أن تعرض نفسك على طبيب. فقال الكولونيل: - لست مريضا. كل ما في الأمر إنني أشعر في أكتوبر وكأن ثمة حيوانات في أحشائي. آه! ، قال دون ساباس. ثم ودعه أمام باب منزله، وهو بناء جديد، من طبقتين، بنوافذ من حديد مزخرفة. واتجه الكولونيل إلى منزله قانطا ليخلع بذلة المناسبات. ثم عاد وخرج من جديد بعد لحظات ليشتري من الدكان الذي على الناصية علبة قهوة ونصف رطل من الذرة للديك. **** شغل الكولونيل نفسه بالعناية بالديك رغم انه كان يفضل قضاء يوم الخميس في سريره. لم ينقطع المطر طوال أيام. وخلال الأسبوع انبجست نباتات أحشائه. وأمضي عدة ليال في سهر متواصل، يتعذب بصفير رئتي المريضة بالربو. ولكن أكتوبر منحه هدنة مساء يوم الجمعة. وقد استغل أصدقاء اغوستين وهم معلمو خياطة مثلما كان هو، ومتعصبون لمصارعة الديكة استغلوا الفرصة ليتفحصوا الديك. فوجدوا انه في وضع جيد. وعاد الكولونيل إلى الغرفة عندما ذهبوا وظل وحيدا مع زوجته التي بدت منفعلة. سألته: - ما رأيهم. أنهم متحمسون. وجميعهم يدخرون المال ليراهنوا على الديك. فقالت المرأة: - لست أدري ما الذي رأوه في هذا الديك القبيح. انه يبدو لي كظاهرة غريبة، فرأسه صغير جدا بالنسبة لقائمتيه. أجابها الكولونيل: - أنهم يقولون بأنه أفضل ديك في المنطقة. ويساوي حوالي خمسين بيزو. كان متيقنا انه بهذه الوسيلة سيبرر قراره بالاحتفاظ بالديك، الموروث عن ابنه الذي مات مطعونا قبل تسعة شهور في حلبة مصارعة الديكة، لأنه كان يوزع منشورات سرية. قالت المرأة: أن ما تقوله حلم يكلف غالىا. فعندما تنتهي الذرة سيكون علينا أن نغذيه بأكبادنا . فكر الكولونيل طوال الوقت الذي كان يبحث فيه عن بنطاله القطني في صندوق الملابس، وقال: - سيكون هذا لبضعة شهور فقط. فقد أصبح معروفا، بشكل مؤكد أن مصارعة للديوك ستجري في كانون الثاني (يناير) وبعد ذلك نستطيع بيعه بسعر أفضل. كان البنطال دون كي. فمسدته المرأة فوق فتحة الموقد على صفيحتين من الحديد المحمي على الفحم. سألته: - ما هي ضرورة خروجك إلى الشارع؟ - البريد. لقد نسيت أن اليوم هو الجمعة ، علقت وهي عائدة إلى الغرفة. كان الكولونيل قد ارتدي ملابسه كاملة ما عدا البنطال. ولاحظت هي حذاءه، فقالت: - هذا الحذاء للرمي. داوم على لبس الجزمة اللامعة ذات الكعب. أحس الكولونيل بالكدر. وقال معترضا: - أنها تبدو كأحذية الأيتام. وكلما لبستها أشعر وكأني هارب من مأوي للأيتام. - نحن أيتام من ابننا قالت المرأة. لقد أفحمته هذه المرة أيضا. اتجه الكولونيل إلى الميناء النهري قبل أن تصفر المراكب. كان يلبس جزمة لامعة، وبنطالا أبيض دون حزام، وقميصا دون ياقة عنق مغلقا في أعلاه بزر نحاسي. وراقب مناورة المراكب وهي تحاول الدخول إلى الميناء بينما كان يقف في متجر موسي السوري نزل المسافرون منهكين بعد ثماني ساعات لم يغيروا خلالها من وضعياتهم. لقد كانوا المسافرين أنفسهم الذين يأتون دائما: باعة متجولين، وبعض أهل القرية الذين سافروا في الأسبوع الماضي وعادوا كالمعتاد. المركب الأخير كان مركب البريد. وقد نظر إليه الكولونيل وهو يرسو بجزع قلق. واكتشف كيس البريد على السطح، معلقا بأنابيب البخار ومغطي بقطعة قماش مغلقة. فقد شحذ حسه خمسة عشر عاما من الانتظار. كما شحذ الديك أشواقه. ومنذ اللحظة التي صعد بها موظف البريد إلى المركب، وفك الكيس وألقي به على ظهره، كان الكولونيل يراقبه بنظراته. وتابعه عبر الشارع الموازي للميناء، حيث تمتد متاهة من المخازن والباركات التي تعج ببضائع ذات ألوان استعراضية في كل مرة كان الكولونيل يفعل هذا، وكان دوما يحس بقلق مختلف ولكنه كالرعب، باعث على الترقب المتوتر. كان الطبيب ينتظر في مكتب البريد ليستلم الصحف. فقال له الكولونيل: - زوجتي تسألك عما إذا كان أحد ألقي عليك ماء ساخنا في بيتنا. كان الطبيب شابا جمجمته مغطاة بشعر مجعد مطلي بمادة براقة. وكان ثمة شيء لا يصدق في دقة ترتيب أسنانه. وقد أبدي اهتماما بصحة المريضة بالربو. وزوده الكولونيل بمعلومات مفصلة عن حالتها دون أن يتوقف عن مراقبة حركات موظف البريد الذي كان يفرز الرسائل مصنفا إياها كلا في كوة خاصة. وقد أغاظت الكولونيل طريقته المتثاقلة في العمل. استلم الطبيب رسائله الخاصة مع رزمة الصحف. ووضع جانبا النشرات الدعائية الطبية. ثم تصفح الرسائل الخاصة. وفي أثناء ذلك، قام الموظف بتوزيع الرسائل على أصحابها الموجودين. تطلع الكولونيل إلى الكوة الخاصة به في اللائحة الأبجدية. بينما كانت في يد الموظف رسالة مرسلة بالطائرة حوافيها زرقاء ضاعفت من توتر أعصابه. نزع الطبيب مغلف الصحف. وقرأ الأخبار البارزة، بينما كان الكولونيل الذي يثبت نظره على كوته ينتظر من موظف البريد أن يتوقف أمامها. ولكنه لم يفعل ذلك. قطع الطبيب قراءته للصحف. ونظر إلى الكولونيل. ثم نظر إلى الموظف الذي جلس أمام جهاز البرق وعاد ينظر مرة أخرى إلى الكولونيل، وقال: - فلنذهب. قال الموظف الذي لم يرفع رأسه: - لاشيء للكولونيل. فأحس الكولونيل بالخجل، وقال كاذبا: - لم أكن أنتظر شيئا والتفت نحو الطبيب بنظرة طفولية تماما، وتابع: - ليس لي من يكاتبني. رجعا صامتين. الطبيب مركزا اهتمامه في الصحف. والكولونيل بطريقته المعتادة في المشي التي تبدو كمشية رجل يذرع الشارع بحثا عن قطعة نقود ضائعة. كان مساء ساطعا. وأشجار اللوز في الساحة تلقي آخر أوراقها المتعفنة. وعندما وصلوا إلى باب العيادة كان الليل قد بدأ يخيم. - ما هي الأخبار سأله الكولونيل. فقدم إليه الطبيب عدة صحف، وقال: - لست أدري... فمن الصعب قراءة ما بين السطور التي تسمح الرقابة بنشرها. قرأ الكولونيل العناوين البارزة. كلها أخبار عالمية. في أعلى الصفحة، وعلى أربعة أعمدة، تقرير حول تأميم قناة السويس. الصفحة الأولي كانت ممتلئة كلها تقريبا بالنعوات. - لا أمل في إجراء انتخابات قال الكولونيل. فقال له الطبيب: - لا تكن ساذجا أيها الكولونيل. فقد أصبحنا كبارا على انتظار المسيح المخلص. حاول الكولونيل أن يعيد إليه الصحف، ولكن الطبيب اعترض قائلا: - خذها معك إلى البيت.. اقرأها هذه الليلة وأعدها لي غدا. بعد الساعة السادسة بقليل قرعت في برج الكنيسة أجراس الرقابة السينمائية. إذ أن الأب أنخل يستخدم هذه الوسيلة ليشير إلى النوعية الأخلاقية للفيلم استنادا إلى قائمة التصنيف التي يتلقاها بالبريد كل شهر. عدت زوجة الكولونيل دقات الناقوس، فكانت دقتين. - انه فيلم سيء لجميع الأعمار... منذ سنة تقريبا وجميع الأفلام سيئة لجميع الأعمار. أسدلت ستارة الكلة ودمدمت: لقد فسد العالم . أما الكولونيل فلم يعلق بشيء. وقبل أن ينام ربط الديك إلى قائمة السرير. ثم أغلق البيت ورش مبيد الحشرات في الغرفة. وضع بعدها المصباح على الأرض، وعلق سرير نومه واستلقي ليقرأ الصحف. قرأها جميعا حسب تسلسل تواريخها ومن الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. في الحادية عشرة تعالى صوت نفير منع التجول. وختم الكولونيل القراءة بعد نصف ساعة من ذلك. فتح باب البهو باتجاه الليل القاتم، وبال على دعامة السقف الخشبية، التي تعج بالبعوض.. وعندما رجع إلى الغرفة كانت زوجته مستيقظة. سألته: - أليس في الصحف شيء عن قدماء المحاربين. - لا شيء. قالها الكولونيل ثم أطفأ المصباح قبل أن يدس نفسه في السرير، ثم أردف: لقد كانوا سابقا ينشرون على الأقل قائمة بأسماء المحالين الجدد على التقاعد. ولكنهم منذ حوالي خمس سنوات تقريبا لا يذكرون شيئا. أمطرت بعد منتصف الليل. واستجاب الكولونيل للنعاس ولكنه استيقظ بعد لحظة مذعورا بسبب أمعائه. وانتبه لوجود ثقب في السقف يتسرب منه الماء إلى مكان ما من البيت. فنهض وقد لف نفسه ببطانية صوفية حتى رأسه وحاول تحديد مكان الثقب في الظلام. انزلق خيط من العرق البارد على عموده الفقري. فأدرك انه مصاب بحمي. وأحسٌ بأنه يطفو في دوائر ذات مركز واحد ضمن بركة من الهلام. تكلم احدهم. فرد عليه الكولونيل من سريره المعلق الذي كان يستخدمه وهو ثائر. سألته زوجته: - مع من تتكلم. - مع الإنجليزي المتنكر كنمر، الذي ظهر في معسكر الكولونيل اوربليانو بوينديا أجابها الكولونيل. ثم استدار في السرير، وهو يتقد بالحمى، وتابع: - لقد كان دوق مارلبورو. استيقظ في غاية الإنهاك. وعندما دق ناقوس الصلاة للمرة الثانية قفز من سريره المعلق وانتصب في واقع من الاضطراب والضوضاء التي كان يسببها صراخ الديك. كان رأسه ما يزال يلف في دوائر ذات مركز واحد. أحس بالغثيان. فخرج إلى البهو واتجه نحو المرحاض عبر الحفيف الناعم وروائح الشتاء المكفهرة. حجرة المرحاض الصغيرة المصنوعة من الأخشاب والمغطاة بسقف من التوتياء كانت تعبق بأبخرة الامونياك المنطلق من المبولة. وعندما رفع الكولونيل الغطاء انطلقت من الفتحة سحابة من الذباب. لقد كان ذعرا مزيفا. فعندما اتخذ وضع القرفصاء على الأرضية المصنوعة من خشب لم تصقله فارة النجارة، أحسن بتفاهة رغبته الخائبة. فقد شعر بدل الغثيان بألم ثقيل في الجهاز الهضمي. لاشك في هذا تمتم الكولونيل فدائما يحدث لي نفس الشيء في أكتوبر . وظهرت عليه سيماء الواثق البريء الآمل إلى أن خمد الفطر الذي في أحشائه. عندئذ عاد إلى الغرفة ليري الديك. قالت له زوجته: - لقد كنت تهذي من الحمي في الليل. كانت قد بدأت بترتيب الغرفة التي لم تنظم طوال أسبوع الأزمة، وحاول الكولونيل جاهدا أن يتذكر. ثم قال كاذبا: - لم تكن الحمي، وإنما هو حلم العناكب من جديد. وكما يحدث دائما، خرجت المرأة من الأزمة بحماسة شديدة. ففي فترة الصباح قلبت البيت رأسا على عقب. وأبدلت مكان كل الأشياء ما عدا الساعة ولوحة حورية البحيرات. لقد كانت ضئيلة ومرنة لدرجة أنها عندما كانت تتنقل بخفها الذي صنع من القطيفة وثوبها الأسود المغلق بكامله، تبدو وكأنها تملك خاصية المقدرة على اختراق الجدران. ولكن قبل أن تصل الساعة إلى الثانية عشرة كانت قد استعادت كثافتها، وثقلها الإنساني. لقد كانت في السرير فراغا. أما الآن، وهي تتحرك بين أصص السرخس والبيجونيا، فإن و جودها يملأ البيت. لو أن سنة مضت على وفاة أغوستين لكنت غنيت قالت، وهي تحرك القدر الذي يغلي على الموقد والذي يحتوي على جميع أصناف نباتات الأكل التي بامكان أرض الاستواء إنتاجها، مقطعة إلى قطع متشابهة. قال لها الكولونيل: - إذا كنت تشعرين برغبة في الغناء غني. فهذا مفيد من أجل الغدة الصفراء. بعد الغداء حضر الطبيب. كان الكولونيل وزوجته يتناولان القهوة في المطبخ عندما دفع الباب المؤدي إلى الشارع وهتف: - لقد مات المرضي. نهض الكولونيل لاستقباله، وقال وهو يقوده إلى الصالة: - أن الأمر كذلك أيها الدكتور. ودائما كنت أقول لك أن ساعتك تمضي مع ساعة الدجاجات. ذهبت المرأة إلى الغرفة لتعد نفسها للفحص. وبقي الطبيب في الصالة مع الكولونيل. ورغم الحر، فإن بدلته المصنوعة من الكتان السادة كانت تطلق نفحة من البرودة. وعندما أعلنت المرأة أنها مستعدة، قدم الطبيب إلى الكولونيل ثلاث رزم من الورق ضمن مغلف. وقال: هذا هو ما لم تقله صحف الأمس . ثم دخل إلى الغرفة. لقد خمن الكولونيل ذلك. فقد كانت تلك الأوراق تحتوي أهم آخر الأحداث على المستوي الوطني مطبوعة على آلة سحب، للتداول السري، وتقريرا عن وضع المقاومة المسلحة داخل البلاد. أحس بالانهيار. فعشر سنوات من الإعلام السري لم تعلمه بأنه ليس هناك أي خبر أكثر مفاجأة من أخبار الشهر القادم. كان قد انتهي من القراءة عندما رجع الطبيب إلى الصالة وقال: - إن هذه المريضة في حالة أحسن من حالتي. فبإصابة بالربو كهذه سأكون قادرا على العيش مائة سنة. نظر إليه الكولونيل بتجهم. وأعاد إليه المغلف دون أن يتفوه بكلمة واحدة، ولكن الطبيب رده قائلا بصوت خافت: - أطلع عليه آخرين. وضع الكولونيل المغلف في جيب بنطاله. خرجت المرأة من الغرفة قائلة: في يوم قريب سأموت وسأحملك معي إلى الجحيم أيها الدكتور . رد الطبيب صامتا بإظهار ميناء أسنانه المرتبة. ثم أدار كرسيا نحو الطاولة الصغيرة وتناول من حقيبته عدة زجاجات من أدوية العينات المجانية. مضت المرأة مسرعة نحو المطبخ: - انتظر ريثما أسخن لك القهوة. - لا، شكرا جزيلا قال لها الطبيب وهو يكتب مقدار الجرعة على ورقة من الأوراق المرفقة بالزجاجات والتي تحتوي تركيب الدواء، وتابع: - إني ارفض رفضا قاطعا منحك الفرصة لتسميمي. ضحكت وهي في المطبخ. وعندما انتهي الطبيب من الكتابة، قرأ ما كتبه بصوت عال، إذ كان يعرف أن أحدا لا يستطيع حل رموز كتابته. حاول الكولونيل أن يركز انتباهه. وعندما رجعت المرأة من المطبخ لاحظت على وجهه الآم الليلة الماضية، فقالت للطبيب وهي تشير إلى زوجها: - لقد عاني لليلة من الحمي. وأمضي حوالي ساعتين وهو يهذي بهراء عن الحرب الأهلية. ذعر الكولونيل، وقال بإصرار: لم تكن حمي ، ثم تابع وهو يستعيد رصانته: وفوق ذلك، في اليوم الذي سأشعر فيه بأني مريض فاني لن أضع نفسي بين يدي احد. وإنما سألقي بنفسي إلى صندوق القمامة . ذهب إلى الغرفة لإحضار الصحف. - شكرا أيها الزهرة قال الطبيب. سارا معا نحو الساحة. كان الهواء جافا. وإسفلت الشارع بدأ يذوب بسبب الحر. وعندما ودعه الطبيب، سأله الكولونيل بصوت خافت، وقد ضغط على أسنانه: - بكم نحن مدينون لك أيها الدكتور. قال الطبيب: - لاشيء في الوقت الحاضر ثم ربت على ظهره قائلا: - سآتيك بلائحة ديون سمينة عندما يكسب الديك. اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط ليعطي الرسالة السرية لأصدقاء أغوستين. لقد كان هذا المحل هو مأواه الوحيد منذ أخذ رفاقه في الحزب يموتون أو يطردون من القرية، وتحول هو إلى مجرد رجل وحيد لا اهتمامات لديه سوي انتظار البريد كل يوم جمعة. دفء الأصيل أثار ديناميكية المرأة. وبينما هي جالسة إلى جانب أزهار البيجونيا التي في الممر وبجانبها صندوق ملابس قديمة لا نفع منها، مرة أخرى المعجزة الخارقة بصنع ملابس جديدة من لاشيء. فقد صنعت أطواقا للمعاصم، وياقة من نسيج ظهر رداء مهترىء ثم جمعت قصاصات مربعة، ومنتظمة، من أجزاء قماشية مختلفة الألوان. أطلق صرار لصفيره العنان في البهو. والشمس مالت للمغيب. ولكن المرأة لم تنتبه إليها وهي تحتضر فوق أزهار البيجونيا. ورفعت رأسها عندما خيم الليل فقط لدي عودة الكولونيل إلى البيت. عندئذ ضغطت الياقة بيديها الاثنتين ودعكت أماكن الوصل إلى القماش، وقالت: لقد صار دماغي جامدا مثل هراوة . فقال لها الكولونيل: - لقد كان هكذا دائما. ولكنه انتبه بعد ذلك إلى جسد المرأة المغطي بقطع القماش الملونة، فقال: - انك تبدين كعصفور نجار. - يجب أن أكون نصف نجارة لأستطيع تأمين الملابس لك قالت ومدت إليه قميصا مصنوعا من أنسجة ذات ثلاثة ألوان مختلفة، باستثناء الياقة والمعصمين إذ كانت بلون موحد، ثم أردفت المرأة: - يكفي أن تخلع الجاكيت فقط في الكرنفال. قاطعتها أجراس الساعة السادسة. أن ملاك الحرب ينادي للصلاة ، صلٌت بصوت عال، وهي تتجه إلى غرفة النوم حاملة الملابس، تبادل الكولونيل الحوار مع الصبيان الذين حضروا بعد خروجهم من المدرسة للتفرج على الديك. ثم تذكر أنه لم تعد لديهم ذرة تكفي الديك لليوم التالي فدخل إلى غرفة النوم ليطلب نقودا من امرأته. - أعتقد أن لم يعد لدينا سوي خمسين سنتا قالت. كانت تخفي النقود تحت حصيرة الفراش، وقد ربطت عليها عدة عقد في طرف منديل. كانت تلك النقود ثمن ماكينة الخياطة التي كان يملكها أغوستين. لقد أنفقوا خلال تسعة شهور تلك النقود سنتا بعد سنت، مقسمين إياها ما بين ضرورياتهم وضروريات الديك. ولم يبق منها الآن سوي قطعتين من فئة العشرين وقطعة من فئة العشرة سنتات. قالت المرأة: - اشتر رطلا من الذرة. واشتر بالباقي بنا لقهوة الصباح وأربع اونصات من الجبن. - وفيلاّ مذهبا لنعلقه على الباب تابع الكولونيل مقلدا إياها، ثم قال: - أن الذرة وحدها تساوي اثنين وأربعين سنتا. فكرا لبرهة. أن الديك حيوان، وسواء لديه أن انتظر بلا طعام ، قالت المرأة مبدئيا. ولكن تعابير وجه زوجها أجبرتها على إعادة النظر، جلس الكولونيل على السرير، وأسند مرفقيه إلى ركبتيه، بينما كانت قطع النقود المعدنية ترن بين يديه. ثم قال بعد برهة: أنا لا أريد الديك لنفسي... لو أن الأمر متعلق بي لقمت هذه الليلة بالذات بإعداد وجبة من الديك. ولا شك أن تخمة من خمسين بيزو ستكون شيئا جيدا . وتوقف قليلا ليسحق بعوضة على رقبته. ثم لاحق زوجته، بالنظر، وهي تمضي في أنحاء الغرفة. وقال: - أن ما يشغل تفكيري هو أن هؤلاء الشبان المساكين يدخرون النقود للرهان على الديك. عند ذلك بدأت هي بالتفكير. قامت بدورة كاملة في الغرفة وهي تحمل مضخة مبيد الحشرات. وأحس الكولونيل شيئا خرافيا في موقفها. شعر وكأنها تستدعي أرواح البيت لاستشارتها. وأخيرا وضعت المضخة على مذبح من الحجر المنقوش وثبتت عينيها اللتين بلون الرجبٌ، وقالت: - اشترِ الذرة. والله يعلم كيف سنتدبر نحن أمرنا. ****** هذه هي معجزة تكثير الخبز ، هكذا كان الكولونيل يكرر كلما جلس إلى المائدة طوال الأسبوع التالي. وبمهارتها المذهلة في الإصلاح والرفأ والترقيع، كانت تبدو وكأنها اكتشفت لغز تدعيم الاقتصاد البيتي في الفراغ. وقد أطال أكتوبر استراحته. وحلت الرطوبة محلٌ الغيبوبة. وانعشتها الشمس النحاسية، فخصصت المرأة ثلاث ليال لتنهمك بتسريح شعرها. الآن بدأت الصلاة المغناة ، هكذا قال لها الكولونيل في الأمسية التي حلٌت بها فتائل شعرها الزرقاء بمشطي أسنانه متباعدة. في الأمسية التالية، وهي جالسة في البهو وشرشف أبيض على حضنها، استخدمت مشطا أكثر نعومة لتنزع القمل الذي تكاثر خلال الأزمة. وأخيرا غسلت شعرها بماء الخزامى، وانتظرت حتى جف، ثم عقصت الشعر على الرقبة في لفتين وثبتته بمشبك. استلقي الكولونيل في الليل مسهدا في سريره، لقد قاسي كثرا وهو يفكر بمصير الديك. ولكن عندما وزنوه يوم الأربعاء كان في حالة جيدة. في تلك الليلة ذاتها، وعندما غادر أصدقاء أغوستين البيت، وهم يضعون حساباتهم السعيدة عن فوز الديك، أحس الكولونيل أيضا بأنه في حالة جيدة. قصت امرأته له شعره. لقد رفعتِ عشرين سنة عن كاهلي قال لها وهو يتلمس رأسه بيديه. ففكرت المرأة بان زوجها على حق، وقالت: - عندما أكون في حالة جيدة فاني قادرة على بعث ميت من موته. ولكن إيمانها هذا استمر لساعات قليلة فقط. إذ لم يبق في البيت شيء يستحق البيع، ما عدا الساعة واللوحة. وفي يوم الخميس ليلا، أبدت المرأة قلقها لهذا الوضع أمام نضوب آخر الموارد. فقال لها الكولونيل مواسيا: - لا تقلقي، فغدا يأتي البريد. في اليوم التالي، وبينما كان ينتظر مركب البريد أمام عيادة الطبيب، قال الكولونيل وعيناه معلقتان على كيس البريد: - أن الطائرة لشيء عظيم، فهم يقولون بأنها قادرة على الوصول إلى أوروبا في ليلة واحدة. أجل، هذا صحيح ، قال الطبيب وهو يهوي وجهه بمجلة مصورة. ورأي الكولونيل موظف البريد يقف بين مجموعة من الناس وهو ينتظر انتهاء المركب من مناورته ليقفز إليه. كان أول من قفز. وتسلم من الكابتن مظروفا ختم بالشمع الأحمر، ثم صعد إلى سطح المركب، حيث كان كيس البريد معلقا فوق برميلين للبترول. - ولكن رغم ذلك، فإن للطائرة مخاطرها قال الكولونيل. وأضاع نظره موظف البريد، ولكنه عثر عليه من جديد إلى جانب الزجاجات الملونة في عربة المرطبات. فتابع قائلا: - إن الإنسانية لا تتقدم مجانا. قال الطبيب: - أنها حاليا أكثر أمانا من السفينة. فعلى ارتفاع عشرين ألف قدم يكون الطيران فوق العواصف. - عشرون ألف قدم كرر الكولونيل وهو حائر، دون أن يستوعب الرقم تماما. اهتم الطبيب بالأمر، فشٌد المجلة بيديه الاثنتين إلى أن تمكن من تثبيتها بشكل كامل، وقال: ثمة استقرار تام. ولكن الكولونيل كان يلاحق موظف البريد. رآه وهو يشرب مرطبا له رغوة وردية حاملا الكوب بيده السري، بينما كان يمسك كيس البريد بيده اليمني. تابع الطبيب حديثه: - إضافة إلى هذا، توجد بواخر راسية في البحر وهي على اتصال دائم بالطائرات الليلية. وبهذه الاحتياطيات الكثيرة. فإن الطائرات أكثر أمانا من السفن . نظر الكولونيل. إليه وقال: - بالتأكيد. لابد أنها مثل البساط. اتجه الموظف نحوهما مباشرة. مال الكولونيل برغبة لا تقاوم محاولا قراءة الاسم المكتوب على الظرف المختوم بالشمع الأحمر. فتح الموظف الكيس. وسلٌم الطبيب رزمة الصحف. ثم مزق طرف المظروف الذي يضم الرسائل الخاصة وتحقق من صحة جهة الإرسال، ثم قرأ عن الرسائل أسماء المرسل إليهم. فتح الطبيب الصحف وقال وهو يقرأ العناوين البارزة: - ما تزال قضية السويس مستمرة. إن الغرب يفقد مواقعه. قال الكولونيل الذي لم يقرأ العناوين، والذي قام بمجهود ليسيطر على آلام معدته: منذ فرضت الرقابة والصحف لا تتحدث إلا عن أوروبا.. من الأفضل أن يأتي الأوروبيون إلى هنا ونذهب نحن إلى أوروبا. وهكذا سيعرف كل منا ما الذي يجري في بلده . فقال الطبيب ضاحكا، ودون أن يرفع نظره عن الصحف: - أن أمريكا الجنوبية بالنسبة للأوروبيين هي رجل له شارب، يحمل غيتارا ومسدسا... أنهم لا يفهمون مشاكلنا. ناوله موظف البريد رسائله، ودس الباقي في الكيس وعاد ليغلقه من جديد. استعد الطبيب ليقرأ رسائله الشخصية. ولكن قبل أن يشق مغلفاتها نظر إلى الكولونيل، ثم نظر إلى الموظف: - ألا يوجد شيء للكولونيل. أحس الكولونيل بالذعر. ألقي الموظف بالكيس على كتفه ونزل الرصيف وأجاب دون أن يدير رأسه: - ليس لدي الكولونيل من يكاتبه. على غير عادته، لم يذهب لتوه إلى بيته. تناول قهوة في محل الخياطة بينما كان أصدقاء اغوستين يتفحصون الصحف. أحس بأنه مغبون. وكان يفضل البقاء هناك حتى يوم الجمعة التالي كي لا يقف هذه الليلة أمام زوجته صفر اليدين. ولكن عندما أغلقوا المحل كان عليه أن يواجه الواقع. سألته المرأة التي كانت تنتظره: - لاشيء. - لاشيء أجابها الكولونيل. يوم الجمعة التالي ذهب إلى حيث المراكب. ومثل كل جمعة رجع إلى البيت دون الرسالة المنتظرة. قالت له زوجته هذه الليلة: لقد انتظرنا ما فيه الكفاية. يجب أن يكون للمرء صبر الجواميس مثلك لينتظر رسالة طوال خمس عشرة سنة . فقال الكولونيل وهو يدس نفسه في السرير ليقرأ الصحف. - يجب أن ننتظر دورنا أن رقمنا هو ألف وثمانمائة وثلاثة وعشرون. ردت المرأة: لقد كسب هذا الرقم مرتين في اليانصيب منذ بدأنا الانتظار. قرأ الكولونيل الصحف كالعادة، من الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. ولكنه لم يركز انتباهه هذه المرة. إذ كان يفكر خلال القراءة بمعاشه التقاعدي: قبل تسع عشرة سنة، عندما أصدر الكونجرس القانون، بدأت عملية مماطلة استمرت ثماني سنوات، وبعد ذلك احتاج لست سنوات أخرى حتى تمكن من ضم اسمه إلى قائمة قدماء المحاربين. وكانت تلك آخر رسالة يتلقاها الكولونيل. انتهي من القراءة بعد سماعه إشارة منع التجول. وعندما مضي ليطفىء المصباح تأكد اعتقاده بان زوجته مازالت مستيقظة: - أما زلت تحتفظين بتلك القصاصة فكرت المرأة، وقالت: - أجل، يجب أن تكون محفوظة مع الأوراق الأخرى. خرجت من تحت الكلٌة وأخرجت من الخزانة صندوقا خشبيا به حزمة من الرسائل المرتبة حسب تواريخها والمشدودة إلى بعضها برباط مطاطي. سحبت من بينها إعلانا من وكالة للمحاماة يعد بمتابعة فعالة لقضية رواتب المتقاعدين بعد الحرب. - لو أنك فعلت هذا منذ بدأت أحدثك بموضوع استبدال المحامي لكان لدينا متسع من الوقت حتى لإنفاق المال قالت المرأة وهي تسلم لزوجها قصاصة الجريدة، ثم أردفت: إذا ما وضعوه لنا في صندوق كما يفعلون بالهنود. قرأ الكولونيل القصاصة التي تحمل تاريخا مضت عليه سنتان، ووضعها في جيب القميص المعلق وراء الباب. - السيئ في الأمر هو أن استبدال محام بآخر يتطلب نقودا. فقالت المرأة بتصميم: - لاشيء من هذا. اكتب لهم قائلا بان يحسموا المبلغ الذي يريدونه من الراتب التقاعدي نفسه عندما يحصلون عليه. أنها الطريقة الوحيدة لجعلهم يهتمون بالقضية. وهكذا ذهب الكولونيل مساء يوم السبت لزيارة محاميه فوجده مستلقيا على السرير المعلق دون هموم. كان رجلا اسود يشبه تمثالا ضخما، ليس له سوي نابين في فكه العلوي. دسٌ المحامي قدميه في خفٌ نعله من الخشب وفتح نافذة المكتب من فوق بيانو أوتوماتيكي يغطيه الغبار وعليه أوراق محشوة في فراغات لفافات اسطوانية وقصاصات من الجريدة الرسمية ملصقة بالصمغ على دفاتر قديمة لمسك الحسابات، ومجموعة من نشرات المحاسبة للإطلاع. وكان البيانو الأوتوماتيكي الذي بلا مفاتيح يستخدم كطاولة للكتابة. بدأ الكولونيل بعرض ما يساوره من قلق قبل أن يعلن عن غرض زيارته. لقد حذرتك من قبل بأن القضية لن تحل بين يوم وآخر ، قال المحامي مستغلا احدي وقفات الكولونيل عن الحديث. كان الحر يسحقه. فشّد إلى الوراء نوابض مسند الكرسي وحرك أما وجهه قطعة من الورق المقوي عليها كتابة دعائية مستخدما إياها كمروحة، وقال: - أن وكلائي كثيرا ما يكتبون إلى بأنه يجب ألا نيأس. فرد الكولونيل: - إني أسمع هذا الكلام ذاته منذ خمسة عشر عاما. لقد أصبح هذا الكلام مثل حكاية الديك المخصي. قدم المحامي شرحا بيانيا مسهبا للصعوبات الإدارية التي تعترضه. كان الكرسي ضيقا جدا بالنسبة لاليتيه الخريفتين. قال منذ خمس عشرة سنة كان الأمر أكثر سهولة، ففي ذلك الوقت كانت عناصر الجمعية البلدية لقدماء المحاربين مؤلفة من كلا الحزبين . ملأ رئتيه بهواء حارق، ثم تلفظ بعبارة حكيمة وكأنه انتهي من اختراعها لتوه: - الاتحاد يصنع القوة. قال الكولونيل، وقد تنبه لأول مرة في حياته إلى عزلته: - ولكنه لم يفعل ذلك في قضيتنا. فجميع رفاقي ماتوا وهم ينتظرون البريد. لم يتأثر المحامي. وقال: - لقد صدر القانون متأخرا جدا. ولم يحظ الجميع بحظ مثل حظك فقد كنت كولونيلا في العشرين من العمر. وأضيفت بعد هذا مادة خاصة للقانون، ولهذا كان على الحكومة أن تقوم بترقيع في الميزانية. دائما نفس القصة. وفي كل مرة يسمعها الكولونيل يشعر بحقد أصم. أن ما اطلبه ليس صدقة. ليس قضية تقديم إحسان. لقد تمزقت جلودنا لننقذ الجمهورية . فتح المحامي ذراعيه وقال: - نعم. الأمر هكذا أيها الكولونيل. ولكن الجحود البشري لا حدود له وهذه لقصة يعرفها أيضا الكولونيل. فقد بدأ يسمعها منذ اليوم التالي لاتفاقية نيرلانديا عندما وعدت الحكومة بتقديم بدل سفر وتعويض لمائتين من ضباط الثورة. وعسكرت حول شجرة الثييبا العملاقة في نيرلانديا فرقة ثورية مؤلفة في غالبيتها من شبان يافعين هاربين من مدارسهم، وانتظرت الفرقة طوال شهور ثلاثة. رجع أفرادها بعد ذلك إلى بيوتهم على نفقتهم الخاصة وهناك تابعوا الانتظار. وبعد مرور ستين سنة تقريبا مازال الكولونيل ينتظر. وهاج الكولونيل بتأثير هذه الذكريات، فاتخذ وضعا خطيرا: اسند يده اليمني على عظم الفخذ، ودمدم: - لقد صممت على اتخاذ قرار. وقف المحامي حائرا: - ماذا تعني - استبدال المحامي. دخلت بطة يتبعها عدد من فراخها إلى المكتب. فنهض المحامي ليطردها خارجا، كما تشاء أيها الكولونيل . قال وهو يهش تلك الحيوانات. سيكون لك ما تريد. ولو كنت قادرا على تحقيق المعجزات لما عشت في هذا القن . وضع حاجزا خشبيا على باب البهو ثم عاد إلى مقعده. قال الكولونيل: - لقد اشتغل ابني طوال حياته، وبيتي مرهون.. لقد أصبح قانون التقاعد مصدر تقاعد للمحامين مدي الحياة. فاعترض المحامي: - ولكنه ليس كذلك بالنسبة لي. فقد أنفقت النقود حتى أخرها في تقديم الالتماسات. تألم الكولونيل لتفكيره بأنه وقع ضحية ظلم. فقال مصححا: هذا ما أردت قوله ثم جفف جبهته بكم قميصه، وتابع: - أن براغي الرأس قد صدئت بسبب هذا الحر. بعد لحظة، قلب المحامي المكتب بحثا عن التوكيل. وتقدمت الشمس نحو منتصف الغرفة الضيقة المشادة من أخشاب دون سحج. وبعد أن بحث في كل مكان دون فائدة، انحني على يديه ورجليه، وهو يزفر، وتناول لفافة أوراق من تحت البيانو الأوتوماتيكي: - هاهو. ثم قدم للكولونيل ورقة عليها عدة أختام، وأضاف: يجب أن اكتب إلى وكلائي لأتلاف النسخ التي لديهم ، نفض الكولونيل الغبار ووضع الورقة في جيب قميصه. - مزقها أنت بنفسك. لا ، أجاب الكولونيل. أنها عشرون سنة من الذكريات . وانتظر أن يتابع المحامي بحثه. ولكنه لم يفعل ذلك. مضي نحو السرير المعلق ليجفف العرق. ومن هناك نظر إلى الكولونيل من خلال الفراغ المتلالىء. - إنني بحاجة للوثائق أيضا قال الكولونيل. - أية وثائق. - الإثباتات. فتح المحامي ذراعيه قائلا: - سيكون هذا مستحيلا أيها الكولونيل. ذعر الكولونيل. لأنه عندما كان ضابطا ماليا للثورة في إقليم ماكوندو، قام برحلة شاقة استمرت ستة أيام وهو يحمل أرصدة وأموال الحرب الأهلية في صندوقين مربوطين على متن بغلة ليصل إلى معسكر نيرلانديا، وهو يجر البغلة التي قتلها الجوع. قبل نصف ساعة من توقيع الاتفاقية. وقد أعطاه الكولونيل اوريليانو بوينديا رئيس إدارة التموين العامة للقوات الثورية على شاطىء الأطلنطي إيصالا بالأموال وأدخل الصندوقين في قائمة الجرد الخاصة بالاستلام. قال الكولونيل: أنها وثائق ذات قيمة لا تقدر. ويوجد بينها إيصال مكتوب بخط ويد الكولونيل اوريليانو بوينديا. قال المحامي: أعرف ذلك. ولكن هذه الوثائق مرت على آلاف وآلاف الأيدي، وعلى آلاف وآلاف المكاتب حتى وصلت، من يدري، إلى أية دائرة في وزارة الحربية. أن وثائق من هذا النوع لا يمكن أن تمر على أي موظف دون أن يوليها الأهمية قال الكولونيل. فرد المحامي مدققا: ولكن الموظفين تبدلوا عدة مرات خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة.. تذكر بأن ستة رؤساء قد تبادلوا السلطة وكل رئيس غير أعضاء حكومته عشر مرات على الأقل وكل وزير استبدل موظفيه مائة مرة على الأقل. قال الكولونيل : ولكن لا يمكن لأي منهم أن يأخذ تلك الوثائق إلى بيته. ولا بد أن كل موظف كان يجد الأوراق في مكانها. يئس المحامي، فقال له: - وإضافة إلى هذا، فان هذه الأوراق إذا ما خرجت الآن من وزارة الحربية ستخضع للسير في الدور من جديد في جدول أقدمية المتقاعدين. - هذا لا يهمني قال الكولونيل. - ولكنها ستكون مسألة قرون من الزمن. - ليس مهما، فمن انتظر الكثير ينتظر القليل. ******* حمل إلى الطاولة الصغيرة في الصالة دفترا من ورق مسطر، وريشة ومحبرة وورقة نشاف، وترك الباب المؤدي إلى الغرفة مفتوحا حتى يستطيع استشارة زوجته إذا ما لزم الأمر. بينما كانت هي تصلي صلاة المساء. سألها: - في أي يوم نحن 27 أكتوبر (تشرين الأول). بدأ يكتب متخذا وضعية مدروسة، فاليد التي تحمل الريشة موضوعة فوق ورقة النشاف، والعمود الفقري عمودي لتسهيل التنفس، كما علموه في المدرسة. أصبح الحر لا يطاق في الصالة المغلقة. وانزلقت منه قطرة عرق على الرسالة. فالتقطها الكولونيل بورقة النشاف. حاول بعد ذلك أن يحكٌ الكلمات التي تحلل حبرها، ولكنه أحدث لطخة. لم ييأس كتب نداء ودوٌن في الهامش: الحقوق محفوظة . ثم قرأ الفقرة بكاملها. - في أي يوم ادخلوا اسمي في قائمة قدماء المحاربين. لم تقطع المرأة صلاتها لتفكر، بل قالت: - في 21 أغسطس (آب) .1949 بعد لحظات بدأ المطر يهطل. ملأ الكولونيل صفحة كاملة بخط كبير مشوش وطفولي بعض الشيء، كما علموه في المدرسة العامة في ماناوري . ثم ملأ صفحة أخرى حتى منتصفها، ووضع توقيعه. قرأ الرسالة على زوجته. ووافقت هي على كل جملة بحركة من رأسها. وعندما انتهي من القراءة أغلق المظروف وأطفأ المصباح. - يمكنك أن تطلب من احدهم أن ينسخها لك على آلة كاتبة. - لا، لقد تعبت وأنا اطلب المعروف من الآخرين. أجابها الكولونيل. ولمدة نصف ساعة، أحس بالمطر الذي يتساقط على سفح السطح. وغرقت القرية كلها بالوابل. وبعد نفير منع التجول بدأت قطرات المطر تنزلق من مكان ما من البيت. - كان يجب إصلاح هذا منذ زمن طويل قالت المرأة، ثم أردفت: - من الأفضل دائما أن نفهم الأمور في حينها. قال الكولونيل، مشيرا إلى الماء المتسرب: - لاشيء متأخرا أبدا. يمكن أن تحل جميع هذه الأمور عندما ينتهي رهن البيت. - بقيت سنتان. أشعل المصباح ليحدد مكان الثقب الذي في سقف الصالة. ثم وضع تحته علبة الصفيح التي يشرب منها الديك وعاد إلى غرفة النوم تلحقه الفرقعة المعدنية التي يحدثها الماء. عند اصطدامه بالعلبة الفارغة. - ربما فكوا الرهن قبل كانون الثاني (يناير) ساعين لكسب النقود قال، وأقنع نفسه بذلك، ثم تابع: - عندها تكون قد انقضت سنة على وفاة اغوستين ونستطيع الذهاب إلى السينما. ضحكت هي بصوت خافت وقالت: حتى إني ما عدت اذكر صورا مشوشة منها . حاول الكولونيل رؤيتها من خلال الكلة: - متى ذهبت إلى السينما لآخر مرة؟ فقالت: - سنة .1931 وكان يعرضون يومها فيلم إرادة الميت . - وهل كان به رعب. - لم يعرف ذلك أبدا. فقد انقطع وابل المطر عندما كان الشبح يحاول سرقة العقد من الفتاة. هسسة المطر جعلتهما يغفوان. شعر الكولونيل بألم خفيف في أمعائه، ولكنه لم يفزع. كان على وشك أن يجتاز أكتوبر آخر وهو حي. لف نفسه ببطانية صوفية وأحس للحظة بتنفس المرأة المتقطع أحسه نائيا وهي تبحر في حلم آخر. عندئذ تكلم، وهو واع تماما. استيقظت المرأة: - مع من تتكلم فرد الكولونيل: - ليس مع احد. كنت أفكر بأننا كنا محقين عندما قلنا للكولونيل اوريليانو جوينديا، في اجتماع ماكوندو بأن لا يستلم. فهذا هو السبب في ضياع الجميع. أمطرت طوال الأسبوع. وفي اليوم الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) وضد مشيئة الكولونيل - أخذت المرأة زهورا إلى قبر اوغستين. وعند عودتها من المقبرة، كانت مصابة بنوبة ربو جديدة. كان أسبوعا قاسيا.. أكثر قسوة من أسابيع أكتوبر الأربعة التي اعتقد الكولونيل انه لن يجتازها حيا. حضر الطبيب لعيادة المريضة وخرج من الغرفة صارخا: بربو كهذا، سأكون مستعدا لدفن القرية بكاملها . ولكنه تحدث مع الكولونيل على انفراد ووصف للمريضة علاجا يعتمد نظاما خاصا. عاني الكولونيل أيضا من نكسة صحية. واحتضر لساعات طويلة في المرحاض، وتعرق ثلجا، وهو يحس بنباتات أحشائه تتعفن وتسقط متفتتة إلى قطع صغيرة. انه الشتاء ، كرر دون يأس. كل شيء سيكون مختلفا عندما تنتهي الأمطار . واقتنع بذلك فعلا، متأكدا انه سيكون على قيد الحياة عندما ستصله الرسالة. لقد أصبح من واجبه هذه المرة أن يعني بترقيع الاقتصاد المنزلي. وكان عليه أن يضغط على أسنانه مرات ومرات وهو يطلب الاستدانة من الدكاكين المجاورة. حتى الأسبوع القادم فقط ، كان يقول لهم، دون أن يكون متأكدا هو نفسه بأن هذا صحيح. ثمة نقود كان يجب أن تصلني منذ يوم الجمعة . وعندما خرجت المرأة من أزمتها تعرفت عليه مذهولة: - لقد صرت عظما اجرد. فقال لها الكولونيل: - إنني اعتني بنفسي لأكون صالحا للبيع. وقد بعت نفسي لمصنع يصنع المزامير. ولكنه في الواقع بالكاد كان يقف مستندا على أمل الرسالة. وبسبب إرهاقه، وبسبب عظامه التي سحقها الإجهاد، فانه لم يستطع أن يعتني بحاجاته وحاجات الديك الضرورية في الوقت ذاته. في النصف الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) رأي أن الديك سيموت بعد أن أمضي يومين بلا ذرة. عندئذ تذكر حفنة من اللوبيا كان قد علقها في شهر يوليو (تموز) فوق الموقد. فتح الكيس الذي يحتوي على اللوبيا ووضع أمام الديك علبة ممتلئة بالحبوب الجافة. فقالت له: - تعال هنا. أجابها الكولونيل: - سآتيك حالا - ثم قال لنفسه وهو يراقب ردة فعل الديك: - عند الجوع لا يوجد خبز سيء. وجد زوجته تحاول الاعتدال في السرير. ومن الجسد التالف كانت تصدر روائح إعشاب طيبة. تلفظت بالكلمات، كلمة كلمة، بتدقيق محسوب: - اخرج بهذا الديك حالا من هنا. كان الكولونيل قد أعد نفسه لهذه اللحظة. كان ينتظرها منذ الأمسية التي قتل بها ابنه وقرر هو الاحتفاظ بالديك. لذلك كان لديه وقت طويل ليفكر. قال: - لم يعد الأمر يستحق ذلك، فخلال ثلاثة شهور ستجري مباراة مصارعة الديكة وعندها نستطيع أن نبيعه بأغلى الأسعار. فقالت المرأة: - القضية ليست قضية نقود. عندما يأتي الشباب قل لهم أن يأخذوه وليفعلوا به ما يرغبون. قال لها الكولونيل مستخدما حجة محضرة مسبقا: - إني احتفظ به من أجل أغوستين... تصوري وجهه لو انه اتى يومها ليخبرنا بفوز الديك. صرخت المرأة وقد فكرت فعلا بابنها: لقد كانت هذه الديكة اللعينة هي سبب ضياعه. فلو انه بقي في البيت يوم الثالث من يناير (كانون الثاني) ذاك، لما كانت فاجأته ساعة الشر . ثم وجهت سبابتها الضامرة نحو الباب وهتفت: - يبدو لي وكأني كنت أري ما سيجري عندما خرج حاملا الديك تحت ذراعيه. لقد حذرته بألا يذهب بحثا عن موته في ملعب مصارعة الديوك، ولكنه كشر عن أسنانه وقال لي: اصمتي، فهذا المساء سنتعفن من كثرة النقود . سقطت منهكة دفعها برفق الكولونيل نحو الوسادة. واصطدمت عيناه بعينين مشابهتين تماما لعينيه. حاولي ألا تتحركي ، قال لها وهو يحس بالصفير وكأنه في رئتيه هو. راحت المرأة في غيبوبة قصيرة. أطبقت عينيها. وعندما فتحتهما من جديد كان تنفسها يبدو أكثر انتظاما. قالت: - أن هذا بسبب الحالة التي أصبحنا بها. فمن الكفر اقتطاع الخبز عن أفواهنا وإعطاؤه للديك. جفف لها الكولونيل جبهتها بشرشف السرير. - لا أحد يموت في ثلاثة شهور. - وماذا سنأكل خلال هذا الوقت - تساءلت المرأة. فقال الكولونيل: - لست أدري ولكن لو إننا سنموت من الجوع لكنا قد متنا منذ زمن. كان الديك يقف الآن بكامل حيويته أمام العلبة الفارغة. وعندما رأي الكولونيل أطلق صوتا حلقيا، شبه إنساني، وقذف رأسه إلى الوراء. فبادله الكولونيل ابتسامة شريك في الجريمة، وقال: - إن الحياة قاسية أيها الرفيق. خرج إلى الشارع. وتسكع في القرية التي تنام القيلولة دون أن يفكر بشيء، وحتى دون أن يحاول إقناع نفسه بان مشكلته ليس لها من حلٌ. سار في شوارع مقفرة إلى أن وجد نفسه منهكا. عندها رجع إلى البيت. أحست المرأة بدخوله ونادته إلى الغرفة. - ماذا تريدين؟ فأجابت دون أن تنظر إليه: - يمكننا أن نبيع الساعة. كان الكولونيل قد فكر بهذا. قالت المرأة: إني متأكدة بان ألفارو سيعطيك أربعين بيزو في الحال.. تصور بأية سهولة اشتري منا قبلا ماكينة الخياطة . أنها تتكلم عن الخياط الذي كان اغوستين يعمل عنده. - يمكنني أن أحدثه في الصباح بهذا الخصوص - قال الكولونيل بضيق. فقالت هي بصراحة: - لاشيء للكلام في الصباح. خذ الساعة إليه الآن، وضعها أمامه على الطاولة وقل له: يا الفارو، لقد أحضرت لك هذه الساعة لتشتريها مني . وسيفهم هو في الحال. شعر الكولونيل بالتعاسة، وقال معترضا: - أن حملها سيكون كمن يحمل لحدا. ولو رآني الناس في الشارع حاملا هذه الواجهة فإنهم سيؤلفون عني أغنية من أغاني رافائيل اسكالونا. ولكن زوجته أقنعته هذه المرة أيضا. ونزعت بنفسها الساعة عن الجدار، لفتها بورق الصحف ووضعتها بين يديه قائلة: لن ترجع إلى هنا دون الأربعين بيزو . اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط حاملا اللفافة تحت ذراعه. ووجد أصدقاء أغوستين يجلسون أمام الباب. قدم إليه أحدهم مقعدا. شكرا ، قال الكولونيل وقد تبلبلت أفكاره، ثم أردف: لقد كنت مارا من هنا بالصدفة . خرج الفارو من الدكان حاملا قطعة قماش قطني مبللة بالماء وعلقها في الممر على سلك ممتد بين دعامتين. كان شابا، له تركيب قاس كثير النتوءات وعينان ذاهلتان. وقد دعاه هو أيضا للجلوس. أحس الكولونيل بالانتعاش. أسند الكرسي الذي بلا مسند إلى إطار الباب وجلس ينتظر ريثما يبقي الفارو وحيدا ليعرض عليه الصفقة. وفجأة أحس بأنه محاط بوجوه مقطبة. قال:ألا أزعجكم. اعترضوا جميعهم على هذا. وانحني أحدهم نحوه وقال بصوت لا يكاد يسمع: لقد كتب أغوستين. راقب الكولونيل الشارع المقفر، وسأل: ماذا يقول؟ ما يقوله دائما. أعطوه المنشور السري، فأخفاه الكولونيل في جيب البنطال. وبقي صامتا ينقر بأصابعه على الساعة المغطاة حتى انتبه إلى أن هناك من يكلمه. فتوقف عن النقر حائرا. ماذا تحمل معك أيها الكولونيل؟ تفادي الكولونيل عيني خيرمان الخضراوين النافذتين. وقال كاذبا: لا شيء. إني أحمل الساعة إلى الألماني ليصلحها لي. لا تكن أحمق أيها الكولونيل. انتظر، وسأفحصها لك ، قال خيرمان وهو يحاول انتزاع الساعة منه. قاوم. لم يقل شيئا ولكن رموشه أصبحت شهباء. فأصر الآخرون: أعطه الساعة أيها الكولونيل، فهو يفهم في الآلات. إنني لا أريد إزعاجه. فرد عليه خيرمان، وهو يأخذ الساعة منه: أي إزعاج هذا. أن الألماني سينتزع منك عشرة بيزوات ويترك الساعة على حالها. دخل خيرمان إلى الدكان حاملا الساعة. كان الفارو يعمل وراء ماكينة الخياطة. و في آخر الدكان، تحت غيتار. معلق بمسمار، كانت تجلس فتاة تقوم بتثبيت الأزرار. وفوق الغيتار لوحة كتب عليها: ممنوع التكلم بالسياسة . أحس الكولونيل بأن جسده أصبح أثقل. فأسند أقدامه على عارضة الكرسي. خراء، أيها الكولونيل. فوجىء الكولونيل لهذه العبارة، وقال: بدون كلمات نابية . ثبت الفونسو النظارات على أنفه ليتفحص بشكل أفضل حذاء الكولونيل ذا الكعب العالي، ثم قال: إني أتكلم عن الحذاء. فأنت تلبس حذاء مريعا. ولكنك تستطيع قول ذلك دون كلمات نابية قال الكولونيل، وعرض عليه نعل الحذاء قائلا: لقد أصبح عمر هذا الحذاء الفظيع أربعين عاما، وها هو يسمع الآن لأول مرة كلمة نابية. قضي الأمر ، صرخ خيرمان من الداخل في نفس الوقت الذي انطلقت به دقات الساعة. وفي البيت المجاور، ضربت امرأة على الجدار الفاصل، وصرخت: دعوا هذا الغيتار جانبا، فلم تمض سنة بعد على موت اغوستين. انفجرت قهقهة عالية. أنها الساعة. خرج خيرمان حاملا الساعة الملفوفة، وقال: لم يكن بها شيء، إذا أردت فسأصطحبك إلى البيت لأعلقها مكانها. رفض الكولونيل العرض. بكم أنا مدين لك؟ لا تهتم بهذا أيها الكولونيل، فالديك سيدفع في كانون الثاني (يناير). رد عليه خيرمان وهو يحتل مكانه بين المجموعة. عندها وجد الكولونيل أن الفرصة مواتية، فقال له: إني أعرض عليك شيئا. ما هو؟ أهديك الديك. ثم تفحص الوجوه المحيطة به وقال: إني أهدي الديك لكم جميعا. تطلع إليه خيرمان حائرا. لقد أصبحت عجوزا على هذه الأمور ، تابع الكولونيل كلامه وقد هيمنت على صوته صرامة مقنعة. انه مسئولية كبيرة بالنسبة لي. ومنذ أيام وأنا أشعر بأن الحيوان يموت شيئا فشيئا . قال ألفونسو: لا تهتم لهذا أيها الكولونيل، كل ما في الأمر أن الديك يبدل ريشه في هذه الفترة، ولذا فإن منابت الريش تكون ملتهبة. وقال خيرمان مؤكدا: في الشهر القادم سيكون في حالة جيدة. على كل حال أنا لا أريده قال الكولونيل. اخترقه خيرمان بنظرات حدقتيه، وقال بإصرار: تذكر أيها الكولونيل أن الأمر المهم، هو أن تكون أنت من يضع ديك اغوستين في حلبة الصراع يوم المباراة. فكر الكولونيل بهذا، وقال: إني مدرك للأمر. ولهذا السبب احتفظ بالديك حتى الآن . ضغط على أسنانه وأحس بقوة تجعله يتقدم: ولكن السيئ في الأمر هو مازال أمامنا ثلاثة شهور. كان خيرمان أول من فهمه، فقال: إذا لم يكن هناك شيء آخر سوي هذا الأمر فليس من مشكلة. ثم اقترح حله للمسألة.. ووافق الآخرون. وفي أوائل الليل، عندما دخل إلى البيت واللفافة تحت ذراعه، شعرت امرأته بالإحباط، وسألته: لا شيء. لا شيء أجابها الكولونيل، ثم أردف: ولكن الأمر ليس مهما الآن، فالشباب سيؤمنون الغذاء للديك. انتظر وسأعيرك مظلة أيها الصديق. فتح دون ساباس خزانة مركبة في جدار المكتب. وكشف عن محتوياتها المكركبة، منها جزم متلبدة لركوب الخيل، وحلقات ركائب، وأحزمة وسيور جلدية وإناء من الألمنيوم مليء بالمهاميز التي يستخدمها الخيالة. وفي القسم العلوي من الخزانة توجد نصف دزينة من المظلات المعلقة إلى جانب قبعة نسائية. شكرا يا صديقي . قالها الكولونيل وهو يستند بمرفقيه إلى النافذة، أفضل الانتظار حتى يتوقف المطر . لم يغلق دون ساباس الخزانة. وجلس وراء المكتب ضمن مجال المروحة الكهربائية. ثم أخرج من الدرج حقنة ملفوفة بالقطن، وأخذ الكولونيل يتأمل أشجار اللوز الرصاصية من خلال المطر. لقد كان مساء مقفرا. قال: أن المطر مختلف من خلال هذه النافذة، فهو يبدو كأنه يهطل في قرية أخرى. المطر هو المطر من أية زاوية نظرت إليه رد دون ساباس، وهو يضع الحقنة ليغليها على اللوح الزجاجي الذي يغطي المكتب، ثم أردف: ما هذه القرية سوي براز. هز الكولونيل كتفيه. وسار إلى وسط المكتب: صالة واسعة بلاطها أخضر وبها قطع موبيليا مغطاة بقماش ألوانه حيوية. وفي طرفه أكياس ملح، وخوابي عسل، وسروج خيل مكومة بفوضى. تابعه دون ساباس بنظرة فارغة تماما. لو كنت مكانك لما فكرت هكذا قال الكولونيل. جلس مقاطعا ساقيه، وثبت نظرته الهادئة على الرجل المنحني فوق المكتب. كان رجلا قصيرا، ضخما ولكن لحمه مترهل، وفي عينيه حزن ضفدع حديثة الولادة. قال دون ساباس: اعرض نفسك على طبيب أيها الصديق. فأنت تبدو جنائزيا بعض الشيء منذ يوم الدفن. رفع الكولونيل رأسه، وقال: إنني في حالة جيدة. انتظر دون ساباس حتى تغلي الحقنة. وقال متأسفا: لو إني أستطيع أن أقول هذا! كم أنت محظوظ! فأنت قادر على أكل ركاب نحاسي . تأمل ظاهر كفه ذات الشعر الغزير والمليئة بالنمش البني. كان يضع خاتما به فص أسود فوق خاتم الزواج. هذا صحيح قال الكولونيل موافقا. نادي دون ساباس زوجته من خلال الباب الذي يصل ما بين المكتب وبقية البيت. ثم بدأ بشرح مؤلم للنظام الغذائي الذي يتبعه. تناول زجاجة دواء صغيرة من جيب قميصه ووضع فوق المكتب قرص دواء أبيض بحجم حبة لوبيا، وقال: انه تعذيب أن أحمل هذا معي في كل مكان أذهب إليه. انه كمن يحمل الموت في جيبه. اقترب الكولونيل من المكتب. وتفحص قرص الدواء في كف يده إلى أن دعاه دون ساباس لتذوقه. ثم قال له شارحا: انه لتحلية القهوة. أي، سكر ولكن بدون سكر. فقال الكولونيل، ولعابه مضمخ بطعم الحلاوة الحزين: فعلا، انه شيء يشبه قرع الأجراس ولكن دون أجراس. اتكأ دون ساباس على المكتب بمرفقيه ووجهه بين يديه بعد أن زرقته زوجته بالحقنة. لم يعد الكولونيل يعرف ما يفعله بجسده. أطفأت المروحة الكهربائية، ووضعتها فوق الصندوق المصفح ثم اتجهت نحو الخزانة قائلة: أن للمظلات علاقة ما بالموت. لم يعرها الكولونيل اهتماما. كان قد خرج من بيته في الساعة الرابعة وغرضه انتظار البريد، ولكن المطر اضطره إلى أن يلتجىء إلى مكتب دون ساباس. وعندما صفرت المراكب كان المطر ما يزال يهطل. الجميع يقولون بأن الموت هو امرأة ، تابعت المرأة حديثها. لقد كانت بدينة وأطول من زوجها، ولها تؤلول مغطي بالشعر على شفتها العليا. تذكر طريقتها في الحديث بأزيز المروحة الكهربائية. ولكني لا أعتقد بأنه امرأة ، قالت. ثم أغلقت الخزانة والتفتت وكأنها تستشير عيني الكولونيل: إني اعتقد بأن الموت هو حيوان بأظلاف. فقال لها الكولونيل موافقا: ربما. فأحيانا تحدث أمور غريبة جدا. فكر بموظف البريد وتخيله وهو يقفز إلى المركب مرتديا ممطرا من المشمع. لقد انقضي شهر على استبداله المحامي. وله الحق الآن بانتظار الرد. وتابعت زوجة دون ساباس الحديث عن الموت إلى أن انتبهت لتعابير الذهول التي تلف الكولونيل. فقالت: لابد أن هنالك ما يشغل تفكيرك أيها الصديق. استعاد الكولونيل وعيه، وقال كاذبا: أجل أيتها الصديقة. إني أفكر بأن الساعة قد تجاوزت الخامسة ولم أعط الحقنة للديك بعد. وقفت مشدوهة، ثم هتفت: حقنة لديك وكأنه كائن بشري. أن هذا دنس. لم يعد بامكان دون ساباس احتمالها. فرفع وجهه المحتقن، وأمر زوجته: أغلقي فمك للحظة. وفعلا رفعت يديها إلى فهمها. فتابع هو: منذ نصف ساعة وأنت تزعجين صديقي بحماقاتك. لا، أبدا قال الكولونيل معترضا. صفقت المرأة الباب. وجفف دون ساباس رقبته بمنديل مضمخ بالخزامى. اقترب الكولونيل من النافذة. كان المطر يهطل دون توقف. ودجاجة لها قوائم صفراء طويلة تعبر الساحة المقفرة. هل صحيح أنكم تحقنون الديك؟ أجل صحيح. فالتمرينات ستبدأ في الأسبوع القادم قال الكولونيل. فقال دون ساباس: أن هذا تهور. فأنت لست مهيئا لهذه الأعمال. قال الكولونيل: أجل، ولكن هذا ليس سببا للوي عنق الديك. أنها مجازفة حمقاء قال دون ساباس وهو يتجه إلى النافذة. أخذ الكولونيل نفسا ككير حداد. وعينا صديقه جعلته يشعر بالشفقة على نفسه. قال دون ساباس: خذ نصيحتي أيها الصديق. خير لك أن تبيع هذا الديك قبل أن يصبح الوقت متأخرا. ليس ثمة ما يؤسف عليه أبدا. فقال دون ساباس بإصرار: لا تكن واهما. أن هذا الديك صفقة بحدين: فمن ناحية سترفع عن كاهلك وجع الرأس، ومن ناحية أخرى ستضع في جيبك مبلغ تسعمائة بيزو. تسعمائة بيزو هتف الكولونيل. أجل، تسعمائة بيزو. أتعتقد بأنهم يدفعون هذا الثمن مقابل الديك؟ أجابه دون ساباس: ليس الأمر اعتقادا. إني متأكد من هذا. كان هذا الرقم هو أعلى رقم دخل رأس الكولونيل منذ سلم ميزانية الثورة. وعندما خرج من مكتب دون ساباس أحس بأحشائه تتلوي، ولكنه كان على يقين هذه المرة بأن الألم لم يكن بسبب الطقس. وفي مكتب البريد اتجه مباشرة إلى الموظف، وقال: إني انتظر رسالة مستعجلة. ستصل بالطائرة. بحث الموظف في الكوى المصنفة وعندما انتهي من القراءة وضع الرسائل حسب الحروف المطابقة لها ولكنه لم يقل شيئا. نفض راحتيه ووجه إلى الكولونيل نظرة ذات مغزى. كان يجب أن تصلني اليوم بكل تأكيد قال الكولونيل. هز الموظف كتفيه. وقال الشيء الوحيد الذي يصل بكل تأكيد هو الموت أيها الكولونيل. استقبلته زوجته بطبق من عصيدة ماثامورا الذرة. أكله صامتا، وكان يتوقف طويلا ليفكر ما بين ملعقة وأخرى. خمنت امرأته التي كانت تجلس مقابله بأن ثمة أمرا قد تغير في البيت، فسألته: ماذا جري لك؟ قال الكولونيل كاذبا: إني أفكر بالموظف المسئول عن التقاعد. فخلال خمسين عاما سنكون تحت التراب مطمئنين. بينما هذا الرجل المسكين سيحتضر كل يوم جمعة وهو ينتظر راتبه التقاعدي. أنها بادرة سيئة.. فهذا يعني انك بدأت تخضع للقدر . قالت المرأة، وتابعت تناول العصيدة. ولكنها انتبهت بعد برهة إلى أن زوجها مازال غائبا. أن ما عليك عمله الآن هو أن تلتهم هذه العصيدة. فقال الكولونيل: أنها لذيذة جدا. من أين طلعت بها؟ أجابت المرأة: من الديك. فقد أحضر له الشبان كثيرا من الذرة، وقرر هو أن يقاسمنا إياها.. هكذا هي الحياة. تنهد الكولونيل: نعم هكذا. أن الحياة هي أفضل شيء تم اختراعه. نظر إلى الديك المربوط بدعامة الموقد وبدا له هذه المرة حيوانا مختلفا. ونظرت المرأة إليه أيضا، وقالت: هذا المساء اضطررت لإخراج الصبيان بالعصا. فقد أحضروا دجاجة هرمة ليجامعوها مع الديك. قال الكولونيل: ليست المرة الأولي التي يحدث هذا. فهكذا كانوا يفعلون في القرى مع الكولونيل أوربليانو بوينديا. إذا كانوا يحضرون له الصبايا ليضاجعهن. أعجبت هي بالمقارنة الطريفة. وأصدر الديك صوتا من حلقه وصل إلى الممر كصوت إنساني مكتوم. أحس أحيانا وكأن هذا الحيوان سينطلق متكلما قالت المرأة. وعاد الكولونيل لينظر إليه، وقال: انه ديك حاك وصائح. ثم أجري بذهنه عمليات حسابية بينما كان يتناول ملعقة من العصيدة، وقال: انه يكفي لإطعامنا ثلاث سنوات. الأحلام لا تؤكل قالت المرأة. لا تؤكل، ولكنها تغذي رد الكولونيل، ثم تابع: أنها شبيهة بعض الشيء بالحبوب العجيبة التي يتناولها صديقي دون ساباس. نام نوما سيئا هذه الليلة وهو يحاول أن يمحو أرقاما من رأسه. في اليوم التالي عند الغداء قدمت المرأة صحنين من عصيدة الذرة، والتهمت طبقها ورأسها منحنيا، دون أن تتلفظ بكلمة واحدة. أحس الكولونيل وكأنه مصاب بعدوي تعكر المزاج. بماذا تفكرين؟ لا شيء قالت المرأة. سيطر عليه انطباع بأن دور زوجته في الكذب قد جاء هذه المرة. حاول أن يجرها للكلام. ولكن المرأة أصرت: لست أفكر بشيء غريب. إني أفكر بأن قرابة شهرين قد انقضيا على رحيل الميت ولم أذهب لأعزي حتى الآن. وهكذا ذهبت لتقديم العزاء هذه الليلة. اصطحبها الكولونيل حتى بيت الميت ثم توجه إلى صالة السينما تجذبه الموسيقي المنبعثة من مكبرات الصوت. كان الأب أنخل يجلس على باب مكتبه مراقبا مدخل السينما ليعرف الذين يحضرون العرض بالرغم من تحذيراته الإثني عشر. تموجات الضوء، والموسيقي الصاخبة وصرخات الأطفال فرضت مقاومة طبيعية في الحي. هدد أحد الأطفال الكولونيل ببندقية خشبية وقال له بصوت متسلط فوقي: ما هي أخبار الديك أيها الكولونيل. رفع الكولونيل يديه. ها هو الديك. كان ثمة ملصق بأربعة ألوان يحتل واجهة الصالة بكاملها كتب عليها (عذراء منتصف الليل). وعليه رسم امرأة ترتدي ملابس الرقص وإحدى ساقيها عارية حتى الفخذ. تابع الكولونيل التسكع في المكان إلى أن انفجرت رعود وبروق بعيدة. وعندما عاد إلى حيث ذهبت زوجته، لم يجدها في بيت الميت، ولا في بيتها وقدر الكولونيل بأنه لم يبق وقت قصير على بدء منع التجول، ولكن الساعة كانت متوقفة، انتظر، وهو يشعر بالعاصفة تقترب من القرية. وعندما تأهب ليخرج من جديد دخلت زوجته إلى البيت. حمل الديك إلى غرفة النوم. وأبدلت هي ثيابها ثم مضت لتشرب ماء من الصالة في الوقت الذي كان به الكولونيل قد انتهي من ملء الساعة وجلس ينتظر إشارة منع التجول ليضبط الساعة. سألها الكولونيل: أين كنت؟ هنا ، أجابت المرأة. ووضعت الكأس على الخابية دون أن تنظر إلى زوجها وعادت إلى غرفة النوم، وقالت: لم يكن أحد يصدق بأنها ستمطر بهذه السرعة . لم يعلق الكولونيل بشيء. وعندما دقت إشارة منع التجول ضبط الساعة على الحادية عشرة، ثم أغلق الزجاج وأعاد الكرسي إلى وضعه. وجد زوجته تصلي صلاة المساء. لم تجيبي على سؤالي قال لها الكولونيل. أي سؤال. أين كنت؟ فقالت هي: لقد كنت أتحدث مع الناس. فمنذ زمن طويل لم أخرج إلى الشارع. علق الكولونيل سرير نومه. وأغلق باب البيت ورش الغرفة بالمبيدات. بعد ذلك وضع المصباح على الأرض واستلقي في السرير. ثم قال بأسي: إني أفهمك. فأسوأ ما في حالات الشدة هو أنها تجبر المرء على الكذب. نفثت هي زفرة طويلة، وقالت: لقد ذهبت إلى الأب أنجل. ذهبت لأطلب منه قرضا مقابل خاتمي الزواج. وماذا قال لك؟ قال: إن المتاجرة بالأغراض المقدسة، خطيئة. وتابعت من وراء الكلة: منذ يومين حاولت أن أبيع الساعة. ولكن لم يقبل شراءها أحد، لأنهم يبيعون الآن بالتقسيط ساعات حديثة لها أرقام مضيئة، يمكن رؤية الوقت بها في الظلام . تحقق الكولونيل من أن أربعين سنة من الحياة المشتركة ، ومن الجوع المشترك، والمقاساة المشتركة، لم تكن كافية ليتعرف على زوجته. وأحس بأن شيئا قد شاخ في الحب أيضا. قالت هي: ولم يقبل أحد شراء اللوحة. فالجميع تقريبا لديهم نفس اللوحة.. حتى إنني ذهبت إلى منطقة الأتراك. شعر الكولونيل بالمرارة: وبهذا أصبح الجميع الآن يعرفون بأننا نموت جوعا. فقالت المرأة: لقد تعبت. فأنتم معشر الرجال لا تنتبهون إلى مشاكل البيت. لقد وضعت عدة مرات حجارة في القدر وغليتها كي لا يعرف الجيران بأنه ليس لدينا ما نملأ به القدر. شعر الكولونيل بالاستفزاز، فقال: أن هذا الذي فعلته هو المسكنة الحقيقية. غادرت المرأة الكلة واتجهت نحو السرير المعلق قائلة: إني مستعدة لأقضي على التصنع والأوهام في هذا البيت .. بدأ صوتها يكفهر غضبا: لقد طفح كيلي من الصبر والوقار . لم يحرك الكولونيل عضلة واحدة في جسده. وتابعت هي: عشرون سنة وأنا أنتظر العصافير الملونة التي يعدونك بها بعد كل انتخابات، ومن كل هذا الانتظار بقي لنا ابن ميت.. لا شيء سوي ابن ميت. قال الكولونيل الذي كان معتادا على هذا النوع من المهاترات: لقد قمنا بواجبنا. فردت المرأة: وهم قاموا بكسب ألف بيزو شهريا في مجلس النواب طوال عشرين سنة. فهذا صديقنا دون ساباس وبيته ذو الطبقتين الذي لا يتسع لأمواله. لقد أتي إلى القرية كبائع أدوية يعلق أفعى حول عنقه. ولكنه يموت شيئا فشيئا بالسكري قال الكولونيل. فردت المرأة: وأنت تموت جوعا. كل هذا لتتأكد أن الوقار لا يؤكل. قطع البرق عليها حديثها، ثم انفجر الرعد في الخارج، ودخل إلى غرفة النوم ومرق إلى ما تحت السرير مثل سيل من الحجارة. قفزت المرأة بحثا عن مسبحتها. ابتسم الكولونيل وقال: أن هذا يصيبك لأنك لا تكبحين لسانك. لقد قلت لك دائما أن الرب عضو في حزبنا. ولكنه في الواقع كان يشعر بالمرارة. بعد لحظات أطفأ المصباح وغرق في التفكير وسط ظلام يشقه البرق. تذكر ماكوندو، لقد انتظر الكولونيل عشر سنوات حتى تتحقق مواثيق ميرلانديا. وفي غيبوبة قيظ الظهيرة رأي قطارا أصفر يصل معفرا بالغبار ومحملا بالرجال والنساء والحيوانات الذين سحق الحر أنفاسهم، وهم مكدسون في كل مكان، وحتى على سطح العربات. تلك الفترة كانت فترة حمي الموز. وخلال أربع وعشرين ساعة عمروا القرية. عندها قال الكولونيل: إني ذاهب، فرائحة الموز تعفن أمعائي وغادر ماكوندو في قطار العودة، يوم الأربعاء السابع والعشرين من يوليو (تموز) سنة ألف وتسعمائة وست، في الساعة الثانية وثماني عشرة دقيقة بعد الظهر. لقد احتاج لنصف قرن بعدها ليكتشف. انه لم ينعم بدقيقة راحة بعد الاستسلام في نيرلانديا. فتح عينيه، وقال: إذن يجب ألا نفكر في الأمر بعد الآن. ماذا؟ قال الكولونيل: أعني مسألة الديك.. غدا بالذات سأبيعه إلى صديقي ساباس بمبلغ تسعمائة بيزو. ****** نفذ إلى المكتب، من خلال النافذة، أنين الحيوانات المخصية مختلطا بصرخات دون ساباس. إذا لم يأت خلال عشر دقائق فسوف اذهب ، هكذا عاهد الكولونيل نفسه بعد أن أمضي ساعتين في الانتظار، ولكنه انتظر عشرين دقيقة أخرى. وكان يتهيأ للخروج عندما دخل دون ساباس إلى المكتب تتبعه مجموعة من العمال المساعدين. مر دون ساباس عدة مرات أمام الكولونيل دون أن يلتفت إليه. وانتبه لوجوده عندما خرج العمال فقط. هل تنتظرني أيها الصديق؟ قال الكولونيل: أجل يا صديقي. ولكن إذا كنت مشغولا فسأعود فيما بعد. لم يسمعه دون ساباس لأنه أصبح في الناحية الأخرى من الباب ولكنه قال له وهو يخرج: سأعود حالا. كانت ظهيرة متقدة. والمكتب يلتهب بالحر المنعكس إليه من الشارع. أغمض الكولونيل، الذي خدره الحر، عينيه رغم أرادته. وفي الحال بدأ يحلم بزوجته. دخلت زوجة دون ساباس على رؤوس أصابعها وقالت له: لا تستيقظ أيها الصديق، سأغلق الأباجور فقط، لأن المكتب صار جهنما. لاحقها الكولونيل بنظرة غائبة عن الوعي تماما. قالت وهي في الظل بعد أن أغلقت الأباجور: هل تحلم كثيرا في نومك؟ شعر الكولونيل بالخجل لأنه نام، وأجابها : أحيانا وأري نفسي في جميع أحلامي تقريبا وأنا أتخبط في شبكة عنكبوت. قالت المرأة: أنا أعاني من الكوابيس كل ليلة. ولكني بدأت أعرف الآن من هم هؤلاء الناس المجهولون الذين يظهرون لنا في الأحلام. أدارت المروحة الكهربائية، وقالت: في الأسبوع الماضي ظهرت لي في الحلم امرأة وقفت على رأس سريري. وقد وجدت الشجاعة لأسألها من تكون، فأجابتني قائلة: أنا المرأة التي ماتت في هذه الغرفة منذ اثنتي عشرة سنة . فقال الكولونيل: ولكن لم تكد تمضي سنتان بعد على بناء هذا البيت. نعم. وهذا يعني أن الأموات يخطئون أيضا. جعل أزيز المروحة الكهربائية البرودة أكثر رسوخا. وشعر الكولونيل بفقدان الصبر والاضطراب بسبب النعاس الذي غلبه وبسبب هذه المرأة البدينة التي انتقلت فورا من الحديث عن الأحلام إلى تجسد الموتى وعودتهم ثانية إلى الحياة. وكان ينتظر فرصة تتوقف فيها عن الحديث لينصرف عندما دخل ساباس إلى المكتب مع رئيس عماله. فقالت له المرأة: لقد سخنت لك الحساء أربع مرات حتى الآن. قال دون ساباس: سخنيه عشر مرات إذا شئت. ولكن لا تثيري أعصابي وتجعليني أفقد صبري الآن. فتح صندوق السيولة النقدية وسلم لرئيس عماله رزمة من الأوراق المالية ومعها قائمة تعليمات. فتح رئيس العمال الأباجورات ليعد النقود. لمح دون ساباس بالكولونيل في طرف المكتب ولكنه لم يبد أي تأثر، بل تابع حديثه مع رئيس عماله. نهض الكولونيل في اللحظة التي كان الرجلان يستعدان بها لمغادرة المكتب من جديد. فتوقف دون ساباس قبل أن يفتح الباب، وقال: ماذا أستطيع أن أقدم لك أيها الصديق؟ انتبه الكولونيل إلى رئيس العمال ينظر إليه، فقال: لا شيء يا صديقي، كنت أود التحدث إليك. فقال دون ساباس: مهما كان الأمر، يمكنك قوله الآن حالا. لأني لا أستطيع إضاعة دقيقة واحدة. وظل واقفا ويده ممسكة بقبضة الباب الكروية. شعر الكولونيل بانقضاء أطول خمس ثوان في حياته، فضغط على أسنانه ودمدم: إن الأمر يتعلق بمسألة الديك. عندها كان دون ساباس قد انتهي من فتح الباب. مسألة الديك ، كرر مبتسما، وقاد رئيس عماله نحو الممر إن العالم يهوي بينما صديقي مشغول بهذا الديك . ثم قال موجها حديثه إلى الكولونيل: حسنا جدا أيها الصديق، سأعود حالا. وقف الكولونيل وسط المكتب بلا حراك حتى تلاشي وقع خطوات الرجلين في آخر الممر. وخرج بعد ذلك ليسير في شوارع القرية المشلولة في قيلولة الأحد. لم يجد أحدا في دكان الخياط. وعيادة الطبيب كانت مغلقة. ولم يكن هناك من يحرس البضائع المعروضة في متاجر السوريين. كان النهر كصفحة من الرصاص. وثمة رجل نائم على أربعة براميل بترول في الميناء، يقي وجهه من الشمس بقبعة. اتجه الكولونيل إلى بيته متيقنا بأنه المكان الوحيد الحيوي في القرية. كانت زوجته تنتظره وقد أعدت وجبة غداء كاملة. قالت مفسرة: لقد استدنت ووعدت أن أدفع غدا صباحا. خلال تناول الغداء روي لها الكولونيل أحداث الساعات الثلاث الأخيرة. واستمعت إليه جزعة، ثم قالت عندما انتهي: كل ما في الأمر انك لا تملك شخصية قوية. فأنت تذهب وكأنك ذاهب لطلب صدقة بينما يجب عليك أن تدخل مرفوع الرأس وتنادي صديقك جانبا وتقول له: أيها الصديق، لقد قررت أن أبيعك الديك . فقال الكولونيل: هكذا هي الحياة، أنها نفحة. كانت تسيطر عليها حالة من الحماس. فقد رتبت البيت صباح هذا اليوم وارتدت ملابسها بطريقة غير مألوفة، إذ لبست حذاء زوجها القديم، ومريلة من المشمع، وربطت على رأسها مزقة من القماش معقودة بعقدتين عند الأذنين. قالت له: ليس لديك أدني حس تجاري. فمن يذهب ليبيع شيئا ما يجب أن يتخذ نفس هيئة من يذهب ليشتري . لاحظ الكولونيل بعض الطرافة في شكلها. فقاطعها ضاحكا: ابق هكذا كما أنت الآن، لأن تشبهين الرجل القصير بائع الجلبان. نزعت مزقة القماش عن رأسها، وقالت: إني أكلمك بجدية.. سآخذ الديك حالا إلى صديقنا وأراهنك على ما تشاء بأني سأعود خلال نصف ساعة ومعي تسعمائة بيزو. قال لها الكولونيل: لقد أدارت الأرقام رأسك. وها قد بدأت تلعبين بثمن الديك. لقد كلفه كثيرا إقناعها بالعدول عن رأيها. إذ أنها بدأت منذ الصباح بتنظيم برنامج في ذهنها. للسنوات الثلاث القادمة التي سيمضيانها دون احتضار أيام الجمعة في انتظار البريد. وأعدت البيت لاستقبال التسعمائة بيزو، فنظمت لائحة بالأشياء الأساسية التي لا يملكانها، دون أن تنسي تسجيل حذاء جديد للكولونيل. وأفسحت مكانا في حجرة النوم للمرآة. إن هذه الضربة المفاجئة لجميع مشاريعها جعلتها تضطرم بإحساس من الخجل والحقد. نامت قيلولة قصيرة. وعندما استيقظت كان الكولونيل جالسا في البهو. وماذا ستفعل الآن؟ سألته هي: فقال الكولونيل: إني أفكر. إذن، فقد حلت المشكلة: سنحصل على تلك النقود خلال خمسين سنة. ولكن الكولونيل كان قد قرر. في الواقع، أن يبيع الديك مساء هذا اليوم بالذات. فكر بدون ساباس، وتخيله وحيدا في مكتبه، يتهيأ أمام المروحة الكهربائية لأخذ حقنة الأنسولين اليومية. كان قد أعد ما سيقوله. خذ الديك معك. فرؤية وجه القديس تصنع المعجزات قالت له زوجته وهو خارج. رفض الكولونيل ذلك. ولكنها تبعته حتى الباب الخارجي بقلق يائس، وقالت: ليس مهما أن يكون هناك فيلق من الناس، خذه من ذراعه وتنح به جانبا ولا تدعه يتحرك قبل أن يعطيك التسعمائة بيزو. سيظنون إننا نعد الانقلاب. لم تهتم هي بهذا. وقالت بإصرار: تذكر أنك أنت صاحب الديك. وتذكر أنك أنت الذي ستقدم له معروفا ببيعه الديك. حسنا. كان دون ساباس في غرفة نومه مع الطبيب. فقالت زوجته للكولونيل: انتهز الفرصة الآن أيها الصديق. إن الطبيب يفحصه لأنه سيذهب إلى المزرعة ولن يعود حتى يوم الخميس . درس الكولونيل الأمر وهو بين قوتين متعارضتين تتجاذبانه فرغم قراره الحاسم ببيع الديك. رغب لو أنه وصل بعد ساعة حتى لا يجد دون ساباس. أستطيع أن أنتظر قال لها. ولكن زوجة دون ساباس أصرت عليه. وقادته إلى غرفة النوم حيث كان زوجها جالسا بسرواله الداخلي على سرير كالعرش، بينما ثبت على الطبيب عينيه اللتين بلا بريق. وانتظر الكولونيل حتى انتهي الطبيب من تسخين أنبوب زجاجي به عينه من بول المريض، ثم شم البخار المتصاعد منه وأشار إلى دون ساباس إشارة النجاح. قال الطبيب متوجها إلى الكولونيل: يجب رميه بالرصاص. فالسكري يتباطأ كثيرا بالقضاء على الأغنياء. لقد فعلت أنت كل ما تستطيع لذلك بواسطة حقن الأنسولين اللعينة التي أعطيتني إياها . قال دون ساباس وهو يربت على اليتيه المترهلتين، وتابع: ولكني مسمار قاس على الأكل . بعدها اتجه نحو الكولونيل قائلا: اقترب أيها الصديق.. عندما خرجت في الظهيرة بحثا عنك لم أجد حتى ولا قبعتك. لا أستخدم قبعة كي لا أضطر لرفعها أمام أحد. بدأ دون ساباس بارتداء ملابسه. ودس الطبيب في جيب سترته انبوبا زجاجيا به عينة من الدم. ثم رتب محتويات حقيبته. وظن الكولونيل بأن الطبيب يستعد للذهاب، فقال له: لو كنت مكانك يا دكتور لقدمت لصديقنا قائمة حساب بمئة ألف بيزو. فهكذا ستصبح همومه أقل. قال الطبيب: لقد عرضت عليه هذه الصفقة، ولكني طلبت مليونا. فالفقر هو أفضل علاج للسكري. شكرا لهذه الوصفة ، قال دون ساباس وهو يحاول أن يحشر كرشه الضخم في البنطال الخاص بركوب الخيل، ثم أردف ولكني لن أقبل بها لأحول دون أن تصبح أنت غنيا وتصاب بالمرض . رأي الطبيب أسنانه التي انعكست على غطاء حقيبته المعدني. ثم نظر إلى ساعته دون أن يبدو عليه الاستعجال. وعندما بدأ دون ساباس بلبس جزمته اتجه نحو الكولونيل الذي أتي في وقت غير مناسب. حسنا أيها الصديق، ما الذي حصل للديك. وانتبه الكولونيل إلى أن الطبيب أيضا سيسمع جوابه. فضغط على أسنانه ودمدم: لا شيء أيها الصديق. أني آت لأبيعك إياه. انتهي دون ساباس من لبس الجزمة، وقال دون تأثر: حسنا أيها الصديق.. أنها أعقل فكرة خطرت لك. وأمام تعابير عدم الفهم التي ظهرت على وجه الطبيب، قدم الكولونيل تبريره قائلا: لقد أصبحت كبيرا على هذه الأمور. ولو أن عمري أقل بعشرين سنة مما أنا عليه لكان الأمر مختلفا. فرد الطبيب: أنت دائما أصغر من عمرك بعشرين سنة. استرد الكولونيل أنفاسه. وانتظر من دون ساباس أن يقول له شيئا، ولكنه لم يفعل، وإنما ارتدي سترة جلدية لها سحاب وتأهب للخروج من غرفة النوم فقال الكولونيل: يمكننا أن نتحدث بهذا الأمر في الأسبوع القادم إذا شئت. هذا ما كنت سأقوله لك قال دون ساباس، ثم أردف: لدي زبون قد يدفع لك أربعمائة بيزو ثمنا للديك. ولكن يجب الانتظار حتى يوم الخميس. كم؟ تساءل الطبيب. أربعمائة بيزو. فقال الطبيب: لقد سمعت بأنه يساوي أكثر من هذا المبلغ بكثير. استغل الكولونيل استغراب الطبيب ليقول لصديقه: كنت قد حدثتني عن تسعمائة بيزو.. إنه أفضل ديك في الناحية كلها. رد دون ساباس على الطبيب شارحا: في وقت سابق كان يمكن لأي كان أن يدفع ألف بيزو ثمنا له. أما الآن فليس هناك من يتجرأ على إطلاق ديك جيد. فثمة خطر دائما في أن يخرج من حلقة المصارعة صريعا بالرصاص . ثم التفت نحو الكولونيل بحزن مفتعل بإتقان وقال: هذا ما كنت أنوي قوله لك أيها الصديق. أشار الكولونيل برأسه موافقا، وقال: حسنا. تبعهما في الممر وهما خارجان. ولكن الطبيب ظل في الصالة بدعوة من زوجة دون ساباس التي طلبت منه علاجا لتلك الأشياء التي تصيب المرأة فجأة ولا أحد يعرف ما هي . انتظر الكولونيل في المكتب. بينما فتح دون ساباس صندوق الخزنة، ودس نقودا في جميع جيوبه ثم مد إلى الكولونيل أربع أوراق نقدية. وقال: هذا ستون بيزو أيها الصديق. وعندما يباع الديك نصفي الحساب. سار الكولونيل برفقه الطبيب عبر متاجر شارع الميناء وقد أنعشتهما برودة المساء، بينما كان مركب شحن محمل بقصب السكر ينزلق مع تيار الماء البارد. لاحظ الكولونيل احتقانا في وجه الطبيب: وأنت كيف حالك أيها الدكتور؟ هز الطبيب كتفيه وقال: لا بأس. ولكني أعتقد بأني محتاج لاستشارة طبيب فقال الكولونيل: إنه الشتاء، فهو يجعل أمعائي تتعفن. تأمله الطبيب بنظرة خالية تماما من أي اهتمام مهني. وحيا السوريين الجالسين أمام أبواب متاجرهم واحدا واحدا. وأمام العيادة عرض الكولونيل موقفه في صفقة بيع الديك، إذ قال مفسرا: لم أعد قادرا على عمل شيء آخر. لقد أصبح الحيوان يتغذى باللحم البشري. قال الطبيب: إن الحيوان الوحيد الذي يتغذى باللحم البشري هو دون ساباس.. إني متأكد انه سيبيع الديك بتسعمائة بيزو. أتعتقد ذلك؟ إني متأكد.. فهذه صفقة تجارية مكشوفة مثلها كمثل صفقة التحالف الوطني مع العمدة. رفض الكولونيل تصديق ذلك، وقال: لقد قام صديقي بذلك التحالف مع العمدة لكي ينقذ جلده. وهكذا استطاع البقاء في القرية . فرد الطبيب: وهكذا استطاع أيضا شراء أملاك أعضاء حزبه الذين طردهم العمدة من القرية بنصف ثمنها . ثم دق على باب العيادة لأنه لم يجد المفتاح في جيوبه. والتفت بعد ذلك ليلتقي بوجه الكولونيل الذي لم يصدق كلامه، وقال: لا تكن ساذجا. فصديق دون ساباس يهتم بالمال أكثر بكثير مما يهتم بجلده. خرجت زوجة الكولونيل في هذه الليلة للتسوق. وقد رافقها زوجها حتى متاجر السوريين وهو يجتر في تأملاته ما قاله الطبيب. قالت له زوجته: أبحث حالا عن الشباب وأخبرهم بأنك قد بعت الديك.. يجب ألا تبقيهم على الأمل. أجابها الكولونيل: لا يمكن اعتبار الديك مباعا إلى أن يعود صديقي ساباس. عندما ترك زوجته ذهب إلى صالة البلياردو وهناك وجد ألفارو وهو يلعب الروليت. كان المحل يعج بالناس ليلة الأحد. والحر يبدو أكثر كثافة بسبب جهاز الراديو الذي يبث بأعلى صوته. سرح الكولونيل في الأرقام ذات الألوان الحيوية المكتوبة على بساط مائدة الروليت الذي من الشمع الأسود،و المضاءة بمصباح بترولي موضوع على صندوق وسط الطاولة. كان الفارو وكأنه يصر على الخسارة يكرر المراهنة على الرقم ثلاثة وعشرين. وبينما كان الكولونيل يتابع اللعب من فوق كتف الفارو لاحظ أن الرقم أحد عشر قد كسب أربع مرات من أصل تسع. فهمس في أذن الفارو: راهن على الأحد عشر، فهو الذي يكسب أكثر من غيره. تفحص الفارو البساط. ولم يراهن في الدورة التالية. وإنما أخرج نقودا من جيب بنطاله، وبين النقود كانت توجد ورقة مطوية، قدمها إلى الكولونيل من تحت الطاولة، وقال: أنها من اغوستين. أخفي الكولونيل الورقة السرية في جيبه، وراهن الفارو على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل: ابدأ بالقليل. ربما تكون إصابة جيدة ، رد عليه الفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل: ابدأ بالقليل. ربما تكون إصابة جيدة ، رد عليه ألفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر عندما بدأت العجلة الكبيرة الملونة بالدوران. شعر الكولونيل بالتململ، فهو يجرب للمرة الأولى فتنة،و ذعر، وقلق الحظ. كسب الرقم خمسة فقال الكولونيل خجلا: إني آسف أشد الأسف. ثم تابع بعينيه الذراع الخشبية وهي تسحب نقود الفارو، وقد سيطر عليه إحساس لا يقاوم بالشعور بالذنب، وقال: أن هذا يصيبني لأني أحشر نفسي فيما لا يخصني. ابتسم الفارو دون أن ينظر إليه، وقال: لا تهتم أيها الكولونيل. جرب حظك في الحب. وفجأة قاطع الجميع نفير أبواق. فتفرق اللاعبون وقد رفعوا أيديهم إلى الأعلى. شعر الكولونيل بالصرير الجاف والبارد لأقسام بندقية تتهيأ من ورائه ففهم انه قد وقع وقعة مشئومة في مصيدة للشرطة وهو يحمل المنشور السري في جيبه. دار نصف دورة دون أن يرفع يديه. وعندها رأي بالقرب منه، ولأول مرة في حياته، الرجل الذي أطلق النار على ابنه. كان يقف مقابله وفوهة بندقيته مصوبة نحو بطنه. كان صغيرا، قصير الشعر، ويعبق برائحة طفولية. ضغط الكولونيل على أسنانه وأبعد عنه برفق وبأطراف أصابعه ماسورة البندقية، وقال: بعد إذنك. فواجهته عينان صغيرتان ودائريتان كعيني خفاش. وأحسٌّ لبرهة بأن هاتين العينين قد ابتلعتاه. ومضغتاه وهضمتاه، ثم لفظتاه مباشرة: تفضل بالذهاب أيها الكولونيل. **** لم يكن بحاجة إلى فتح النافذة ليتأكد من أن كانون الأول ديسمبر قد حل. فقد اكتشف ذلك في عظامه ذاتها عندما كان يقطع الفواكه من أجل إفطار الديك في المطبخ. بعد ذلك فتح الباب ورأي البهو فتأكد إحساسه. كان البهو بديعا، تغطيه الإعشاب والأشجار، أما المرحاض فكان يطفو في الضوء، على ارتفاع ميليمتر عن الأرض. بقيت زوجته في الفراش حتى الساعة التاسعة. وعندما ظهرت في المطبخ كان زوجها قد انتهي من ترتيب البيت، ووقف يتحدث مع الصبيان عن الديك. واضطرت هي أن تقوم بالالتفاف من حولهم لتصل إلى الموقد. فصرخت بهم: ابتعدوا من طريقي ثم وجهت نظرة عابسة إلى الديك وقالت: لا أصدق تلك اللحظة التي سيخرج بها طير الشؤم هذا من البيت. تفحص الكولونيل، من خلال الديك، مزاج زوجته. فلم يجد في الحيوان شيئا يدعو إلى التهجم. بل رآه مستعدا لبدء التدريب. كان عنق الحيوان وقوائمه وعرفه المخطط قد اتخذت صورة تامة، وزهوا لا يقاوم. قال لها الكولونيل بعد ذهاب الصبيان: أطلي من النافذة وانسي الديك. فالمرء يشعر في صباح كهذا برغبة لأخذ صورة. أطلت هي من النافذة، ولكن وجهها لم يعكس أي تعبير. أرغب بزرع الأزهار قالت وهي تعود إلى جانب الموقد. علق الكولونيل المرآة على الدعامة ليحلق ذقنه، وقال: إذا كنت ترغبين بزراعة الأزهار، فازرعها. حاول أن يتذكر حركاته من خلال حركات صورته المنطبعة في المرآة. قالت: ولكن الخنازير ستأكلها! فقال الكولونيل: هذا أفضل. إذ لابد أن الخنازير المعلوفة بالأزهار ستكون لذيذة جدا. تطلع من خلال المرآة إلى المرأة ولاحظ أنها مازالت تحمل نفس التعابير. وعلى بريق النار كان وجهها يبدو وكأنه مصاغ من مادة الموقد. ودون أن ينتبه إلى نفسه، وبينما عيناه معلقتان بزوجته، تابع الكولونيل حلاقة ذقنه باللمس كما فعل طوال سنوات كثيرة. فكرت المرأة خلال صمتها الطويل، ثم قالت: ولكني لا أريد أن ازرع أزهارا. فقال الكولونيل: حسنا إذن لا تزرعيها. شعر بأنه قد تحسٌن. فقد أذبل كانون الأول ديسمبر مملكة النباتات التي في أحشائه. لقد لاقي صعوبة وهو يحاول لبس الحذاء الجديد هذا الصباح، وبعد أن حاول ذلك عدة مرات تأكد بأن جهده يذهب سدي، فعاد يلبس الجزمة ذات الكعب العالي. ولاحظت زوجته التغيير، فقالت: إذا أنت لم تلبس الحذاء الجديد فانه لن يتروض على قدميك أبدا. فقال الكولونيل معترضا: إنه كأحذية المشلولين. واعتقد بأن على بائعي الأحذية أن يبيعوها بعد شهر من استخدامها. خرج إلى الشارع يدفعه هاجس بأن الرسالة ستصله هذا المساء. وبما أن موعد المراكب لم يكن قد حان، فانه ذهب لينتظر دون ساباس في مكتبه. ولكنهم أكدوا له بأنه لن يأتي حتى يوم الاثنين. لم ييأس على الرغم من أنه لم يكن يتوقع هذا التغيير في موعد عودته. يجب أن يأتي عاجلا أم آجلا قال لنفسه، ثم اتجه إلى الميناء. دمدم الكولونيل وهو يجلس في متجر موسي السوري: السنة بكاملها يجب أن تكون ديسمبر كانون الأول . فالمرء يشعر في هذا الشهر وكأنه مصاغ من بلور. ولابد أن موسي السوري قد قام بمجهود ذهني كبير ليترجم الفكرة إلى عربيته التي نسيها تقريبا. كان رجلا شرقيا هادئا، مغطي حتى جمجمته ببشرة ناعمة وكأنه ناج من الماء فعلا. قال: لقد كانت الأمور هكذا فيما مضي. ولو أن الأمر ما يزال كذلك الآن فان عمري سيكون ثمانمائة وسبعة وتسعون عاما. وأنت؟ سبعة وخمسون قال الكولونيل، وهو يلاحق موظف البريد بنظره. وعندها فقط اكتشف وجود السيرك. إذ رأي الخيمة المرقطة على سطح مركب البريد بين أكوام من الأغراض الملونة. وضاعف موظف البريد من مجال رؤيته للحظة وهو يبحث بعينيه عن الوحوش ما بين الصناديق المتراكمة في مركب آخر. ولكنه لم يعثر عليها.. قال: ثمة سيرك. أنه أول سيرك يأتي منذ عشر سنوات. تحقق موسي السوري من الخبر. ثم تحدث إلى زوجته بخليط من العربية والأسبانية. وأجابته هي من الغرفة المجاورة للمتجر. وبعدها قال شيئا لنفسه ثم ترجم للكولونيل ما يدور بذهنه: لابد من إخفاء القط أيها الكولونيل. فقد يسرقه الصبيان ويبيعونه للسيرك. قال الكولونيل وهو يتهيأ ليلحق بالموظف: ولكنه ليس سيركا لحيوانات مفترسة. فرد السوري: ليس مهما. فالبهلوانات يأكلون القطط كي لا تتحطم عظامهم. لحق بالموظف بين متاجر الميناء حتى الساحة. وهناك فاجأته الضجة القادمة من ملعب مصارعة الديوك. وقال له أحدهم. وهو يمر. شيئا ما عن الديك. وعندها فقط تذكر بأن اليوم هو اليوم المحدد لبدء التدريب. مر من أمام مكتب البريد دون اكتراث. وبعد هنيهة كان ينتصب وسط ملعب المصارعة المضطرب. رأي ديكه في حلبة الصراع وحيدا. بلا دفاع، ومخالب أطرافه مربوطة بخرق من القماش ويبدو عليه شيء من الخوف الواضح وسط صخب الساحة. وكان الخصم أمامه ديكا حزينا رمادي اللون.. لم يظهر على الكولونيل أي تأثير. فقد كان السجال بين الديكين بهجمات متكافئة. مرت لحظة سريعة متواصلة اشتبكت فيها القوائم والريش والأعناق وسط الهتاف الصاخب. ثم طار الديك الخصم مصطدما بالحاجز الخشبي وقام بالدوران حول نفسه وعاد للهجوم. أما ديكه فلم يهاجم، وإنما كان يدفع كل هجوم ويعود ليسقط في نفس المكان تماما. ولكن قوائمه لم تعد ترتجف الآن. قفز خيرمان عن الحاجز الخشبي، ورفع الديك بيديه الاثنتين وعرضه للجمهور الذي على المدرجات. فحدث انفجار مجنون من التصفيق والصراخ. ولاحظ الكولونيل عدم التناسب ما بين حماسة الهتاف وزخم المشهد. وبدا له كل ذلك مجرد مهزلة تشارك بها الديكة بمشيئتها ووعيها. تفحص الرواق الدائري الذي ينبض، بفضول يخالطه بعض الاحتقار. ثم نزلت مجموعة من الحشد الهائج عن المدرجات نحو الحلبة. ولاحظ الكولونيل. فوضي الوجوه الحارة، والجشعة، والحيوية بشكل رهيب. كانوا أناسا جديدين، جميع أهل القرية الجدد. وعادت لتحيا في مخيلته فجأة كما في نبوءة لحظة ضائعة في أفق ذكرياته. عندها قفز عن الحاجز الخشبي، وشق طريقه بين الحشد المتركز في ميدان المصارعة واصطدم بعيني خيرمان الهادئتين. اللتين تطلعتا إليه دون أن ترمشا. مساء الخير أيها الكولونيل. أخذ الكولونيل الديك منه، ودمدم: مساء الخير ولم يقل شيئا آخر، فقد هزه نبض الحيوان العميق والدافىء. وفكر بأنه لم يلمس أبدا في حياته شيئا بهذه الحيوية بين يديه. قال خيرمان متلعثما: لم تكن موجودا في البيت. وقاطعته موجة جديدة من الهتاف. فشعر الكولونيل بالفزع. وعاد يشق طريقه، دون أن ينظر إلى أحد، ذاهلا بتأثير التصفيق والصراخ، وخرج إلى الشارع والديك تحت ذراعه. القرية كلها الناس الذين تحت خرجوا ليروه، وتبعه أطفال المدرسة. كان ثمة زنجي عملاق يقف فوق طاولة وقد أحاط عنقه بأفعى، يبيع أدوية بلا ترخيص في أحد أركان الساحة. وكانت تلتف حوله ثلة كبيرة ممن كانوا عائدين من المينا. يستمعون إلى مناداته الرتيبة، ولكن عند مرور الكولونيل حاملا الديك اتجه إليه. لم يشعر أبدا بأن طريق البيت كان أطول مما هو عليه اليوم. كانت القرية ترقد منذ زمن طويل في نوع من السبات، الذي عاشت به عشر سنوات من التاريخ، وفي هذا المساء مساء يوم جمعة آخر دون وصول الرسالة المنتظرة استيقظ الناس. وتذكر الكولونيل حقبة أخرى، فقد رأي نفسه مع زوجته وابنه وهم يجلسون تحت المظلة يشاهدون عرضا لم يتوقف برغم المطر الغزير. وتذكر زعماء حزبه ذوي الشعور المسرحة بدقة، وهم يجلسون في بهو بيته يهوون وجوههم على أنغام الموسيقي. عبر من خلال الشارع الموازي للنهر، وهناك التقي أيضا بجلبة الحشود كما في أيام الأحد الانتخابية الصاخبة. رأي عملية إنزال السيرك ومعدٌاته إلى البر. ومن داخل أحد المتاجر صرخت امرأة بشيء له علاقة بالديك. استمر في ذهوله حتى البيت، وهو ما يزال يسمع أصوانا متفرقة، وكأن بقايا هتافات ملعب الصراع تلاحقه. عندما وصل أمام باب البيت، التفت إلى الأطفال قائلا: ليذهب كل إلى بيته. وإذا ما دخل أحدكم فسأخرجه بالحزام. أغلق الباب بالرتاج ومضي مباشرة إلى المطبخ. خرجت امرأته من غرفة النوم وهي تشهق، وصرخت: لقد أخذوه بالقوة، قلت لهم أن الديك لن يخرج من هذا البيت مادمت على قيد الحياة . ربط الكولونيل الديك إلى دعامة الموقد. وأبدل الماء الذي في العلبة، بينما كان لصوت زوجته المحتدم يلاحقه: قالوا بأنهم سيأخذونه من فوق جثتينا، وقالوا أن الديك ليس لنا وحدنا وإنما هو للقرية كلها. وعندما انتهي من الديك، التفت الكولونيل ليلتقي بوجه زوجته القلق. واكتشف، دون دهشة، أنها لم تثر فيه أي تأنيب أو شفقة. حسنا فعلوا قال بهدوء، ثم أضاف، وهو يفتش جيوبه، بلهجة عميقة عذبة: لن يباع الديك. تبعته حتى غرفة النوم. وأحست بأنه إنساني تماما، ولكنه لا يمس، وكأنها تراه على شاشة سينما. أخرج الكولونيل من الخزانة رزمة من الأوراق النقدية وجمعها مع تلك التي كانت في جيوبه، ثم عدٌها جميعا وأعادها إلى الخزانة قائلا: ها هنا تسعة وعشرون بيزو سنعيدها إلى صديقي ساباس. والباقي سأدفعه له عندما يصل الراتب التقاعدي. وإذا لم يصل الراتب التقاعدي سألته المرأة. سيصل ولكن، إذا لم يصل. عندها لن أدفع له. عثر على الحذاء الجديد تحت السرير. فرجع إلى الخزانة بحثا عن علبة الحذاء، ثم نعليه بخرقة قماش ووضعه في العلبة، كما كان عندما أحضرته زوجته يوم الأحد ليلا. لم تتحرك من مكانها. قال الكولونيل: وسنعيد الحذاء. وهكذا يصبح لدينا ثلاثة عشر بيزو آخر. لن يقبلوا إعادته. فرد الكولونيل: يجب أن يقبلوا. لقد لبسته لمرتين فقط. ولكن الأتراك لا يفهمون هذه الأمور. يجب أن يفهموها. وإذا لم يفهموها؟ عندئذ دعيهم لا يفهمون. استلقيا للنوم دون طعام. وانتظر الكولونيل ريثما تنتهي زوجته من صلاتها ليطفىء المصباح. سمع أجراس الرقابة السينمائية، وبعدها على الفور بعد ثلاث ساعات سمع إشارة منع التجول. أصبح تنفس المرأة المتحشرجة محزنا مع هواء الفجر البارد. كانت عينا الكولونيل ما تزالان مفتوحتين عندما تكلمت هي بصوت استرضائي رصين: هل أنت مستيقظ؟ أجل فقالت المرأة: حاول أن تفكر بالعقل. وتحدث غدا مع الصديق ساباس. لن يأتي حتى يوم الاثنين. هذا أفضل. سيكون أمامك ثلاثة أيام للتفكير. ليس ثمة ما يستدعي التفكير. كان هواء أكتوبر قد مضي وحلت محله برودة معتدلة. وعاد الكولونيل يشعر بكانون الأول ديسمبر من خلال دقات الساعة التي تطلقها طيور الكروان. وعندما دقت الساعة الثانية. لم يكن قد نام بعد، ولكنه كان يعرف أيضا أن زوجته مازالت مستيقظة أيضا. حاول تغيير وضعيته في السرير. هل أنت مستيقظ، قالت المرأة: نعم. فكرت للحظة، وقالت: لسنا في وضع يمكننا من فعل هذا. فكر جيدا بما تعنيه أربعمائة بيزو مجتمعة. بعد وقت قصير سيصلنا الراتب التقاعدي قال الكولونيل. انك تقول هذا الكلام منذ خمس عشرة سنة. فقال الكولونيل: لهذا لا يمكن أن يتأخر الراتب كثيرا. صمتت. ولكن عندما عادت للحديث، بدا للكولونيل وكأن الزمن لم يمر. إني أشعر وكأن هذه النقود لن تصل مطلقا قالت المرأة. ستصل. وإذا لم تصل. لم يجد صوتا ليرد عليها. وعند صياح أول ديك في الفجر اصطدم بالواقع، ولكنه عاد ليغطٌ في نوم عميق، دون أي شعور بالندم. وعندما استيقظ، كانت الشمس قد ارتفعت. وكانت زوجته ما تزال نائمة. وكرر الكولونيل، بشكل إلى ومنهجي، حركاته التي يقوم بها كل صباح، ولكنه في هذا اليوم كان متأخرا ساعتين عن الأيام الأخرى، وانتظر زوجته لتناول طعام الإفطار. استيقظت مكتئبة. تبادلا تحية الصباح وجلسا لتناول الإفطار صامتين. رشف الكولونيل فنجانا من القهوة مع قطعة من الجبن وشريحة من الخبز الحلو. ثم أمضي فترة الصباح بكاملها في دكان الخياط. وفي الساعة الواحدة رجع إلى البيت ووجد زوجته ترقع بعض الملابس وهي جالسة إلى جانب أزهار البيجونيا. قال لها: لقد حان موعد الغداء. لا يوجد شيء للغداء ردت المرأة. هز كتفيه، ثم مضي يعمل على إغلاق الفتحات التي في سور البهو ليمنع الأطفال من الدخول إلى المطبخ. وعندما رجع إلى الممر كانت المائدة قد أعدت. خلال تناول الغداء شعر الكولونيل بأن زوجته تجهد نفسها كي لا تبكي. وقد أفزعه هذا الشعور . فهو يعرف شخصية امرأته القاسية بطبيعتها، والتي زادت من قسوتها أربعون سنة من المرارة. حتى أن موت ابنها لم يجعلها تذرف دمعة واحدة. ثبت عينيه التي تحمل نظرة لوم بعينيها مباشرة. فعضت هي على شفتيها، وجففت رموشها بكمها وتابعت تناول الطعام. انك بلا ضمير. ولكن الكولونيل لم يقل شيئا. انك متكبر، وعنيد، وبلا ضمير كررت هي. ثم وضعت أدوات طعامها متقاطعة في الطبق، ولكنها عادت لتعدل وضع الأدوات وتبعدها عن بعضها لاعتقاداتها الخرافية. وقالت: لقد أمضيت حياة بكاملها وأنا آكل التراب لأجد نفسي الآن أقل اعتبارا من مجرد ديك . ليس الأمر هكذا قال الكولونيل. فردت المرأة: بل هو كذلك. وعليك أن تعرف بأني أموت، وأن هذا الذي يصيبني ليس مرضا وإنما هو الاحتضار. لم يقل الكولونيل شيئا حتى انتهي من طعامه: إذا ما ضمن لي الدكتور بأن الربو سيفارقك إذا ما بعت الديك، فاني سأبيعه في الحال، أما بغير هذا فلن أبيعه. أخذ الديك إلى ملعب المصارعة في هذا المساء. وعندما رجع وجد زوجته على حافة نوبة جديدة. كانت تتمشي على طول الممر، وشعرها مسدل على ظهرها، وذراعاها مفتوحتان وهي تبحث عن الهواء من خلال صفير رئتيها. وبقيت في الممر حتى أول الليل. وبعدها استلقت في فراشها دون أن تقول شيئا لزوجها. مضغت صلواتها حتى ما بعد منع التجول بقليل، حينئذ أراد الكولونيل إطفاء المصباح. ولكنها منعته قائلة: لا أريد أن أموت في الظلام. ترك الكولونيل المصباح على الأرض. وبدأ يشعر بالاستنزاف. كان يرغب لو انه ينسي كل شيء، لو انه ينام أربعة وأربعين يوما دفعة واحدة ليستيقظ يوم العشرين من كانون الثاني يناير في الساعة الثالثة مساء، في ملعب مصارعة الديكة وفي اللحظة التي سيفلت بها الديك تماما، ولكنه أحس بأنه مراقب من زوجته. قالت بعد هنيهة: أنها نفس القصة دائما. نحصل على الجوع ليأكل الآخرون. أنها نفس القصة تتكرر منذ أربعين سنة . احتفظ الكولونيل بصمته إلى أن توقفت زوجته عن الحديث لتسأله ما إذا كان لا يزال مستيقظا. وأجابها بنعم. فتابعت المرأة حديثها بوتيرة متدفقة، لا تهدأ. الجميع سيكسبون من الديك، ألا نحن. فنحن الوحيدون الذين لا نملك سنتا واحدا لنراهن به. لصاحب الديك حق يناله هو عشرون بالمئة. ردت المرأة: وكان لك حق أيضا بالحصول على منصب لائق عندما كانوا يمزقون جلدك في الانتخابات . ولك الحق أيضا بالحصول على راتبك التقاعدي كمحارب قديم بعد أن حشرت انفك في الحرب الأهلية. ولكن ها هم الآن يعيشون جميعا حياتهم المأمونة بينما أنت وحيد تماما، تموت جوعا. لست وحيدا قال الكولونيل. وحاول أن يشرح لها أمرا، ولكن النعاس غلبه. واستمرت هي تتكلم إلى أن تنبهت لنوم زوجها. عندها خرجت من تحت الكلة وتمشت في الصالة المظلمة. وهناك تابعت الكلام، حتى ناداها الكولونيل في الصباح الباكر. ظهرت في الباب، كطيف. كان ضوء المصباح الذاوي ينعكس عليها من أسفل، فأطفأته قبل أن تدخل تحت الكلة. ولكنها استمرت في الكلام. فقاطعها الكولونيل: اقترح أن نعمل شيئا. الشيء الوحيد الذي نستطيع عمله هو أن نبيع الديك. يمكننا أيضا أن نبيع الساعة. لن يشتريها أحد. سأحاول غدا أن اجعل ألفارو يدفع لي أربعين بيزو ثمنا لها. لن يدفع لك شيئا. عندما عادت المرأة لتتكلم هذه المرة كانت قد خرجت من جديد من تحت الكلة. وأحس الكولونيل بأنفاسها المضمخة بروائح الإعشاب الطبية. لن يشتريها أحد. فرد الكولونيل برقة، ودون أي أثر للخداع في صوته: سنري ذلك. نامي الآن، وإذا لم نستطع أن نبيع شيئا في الغد فإننا سنفكر بوسيلة أخرى. حاول الاحتفاظ بعينيه مفتوحتين، ولكن النعاس غلبه وسقط في أعماق هلام بلازمان ولا مكان، حيث أصبح لكلام زوجته معني مختلف. ولكنه أحس، بعد برهة، بأن هناك من يهز كتفه. اجبني. لم يعرف الكولونيل إذا ما سمع هذه الكلمة وهو نائم أم بعد استيقاظه. كان الفجر قد بدأ بالبزوغ. ومن النافذة كان يبدو النور الأخضر ليوم الأحد. وفكر بأنه مصاب بحمي، فقد كانت عيناه ملتهبتين، وكلفته استعادة الرؤية عناء كبيرا. ماذا نستطيع أن نفعل إذا لم نتمكن من بيع شيء كررت المرأة. فأجابها الكولونيل وقد صحا تماما: عندها يكون يوم العشرين من كانون الثاني يناير قد اتى. ويومها سيدفعون لنا عشرين بالمئة من قيمة المراهنات. فقالت المرأة: هذا إذا كسب الديك. ولكن إذا ما خسر.. ألم يخطر ببالك أن الديك قد يخسر. انه ديك لا يمكن أن يخسر. ولكن افترض انه خسر. مازال أمامنا خمسة وأربعون يوما لنبدأ التفكير بهذه الأمور. سيطر اليأس على المرأة، فسألته: حتى ذلك الحين، ماذا سنأكل ثم جذبت الكولونيل من عنق قميصه الداخلي، وهزته بقوة. قل لي، ماذا سنأكل؟ لقد احتاج الكولونيل لخمس وتسعين سنة الخمس وتسعين سنة التي عاشها، دقيقة دقيقة، ليصل إلى هذه اللحظة، فأحس بالنقاء، الوضوح، وبأنه لا يقهر في اللحظة التي رد بها: خراء
"خطبة لاذعة ضد رجل جالس " تُقرّبُ إليها المرآة من أجل أن تسمعَ الظل غير المسموع ، ترجع لتنظرَ إلى الزوجِ من أجل أن تتأكدَ بأنه لا يسمعها ، و تقول جملة أخرى إلى المرآة بلا صوت ، ترغب بالضحك لكنها لا تقدر : عيناها غارقتان بالدموع .تحاول فرك أجفانها إلا أن الوجه ملطخ بالماكياج ، لا تستطيع تحمل ذلك ، تقول بغضب : _ اللعنة على عالمٍ كهذا ! تبدأ بإزالة الماكياج أمام المرآة ، في الأول بسبب غضبها لأنها بكت ثم بطريقة مؤثرة ، بينما تكمل قائلة ، لكن الآن ليس مع الزوج إنما مع خيالها : _ إن لم يكن ذلك بسبب الشروقات ، سنبقى شباباً طوال الحياة ، إن من المؤكد أن المرء يشيخُ عند بزوغ النهار ، ( العصريّات ) حزينةٌ لكن تُجهّزُ المرءَ إلى مغامرة كل ليلة ( كما يقول أصدقائي من رجال الأدب ) . يقيناً إن السعادة ليست كما يقولون ، بأنها تستمرُّ فقط للحظة واحدة ولا تُعْرفُ عندما تُمْتلك إنما عندما تنتهي ، الحقيقة إنها لتستمرُّ باستمرار الحب ، لأن استمرار الشعور بالحب حتى الموت .. أمرٌ جميل . لم أفكّر بإغرائك ، واضح ، ولكن ما افتقدت قوله ، سأظل مفتقدة له . فعند نهاية سنتين من التوبة تعترف لي على الأقل بأنني محقة في أن أكون مستاءة لأنك في جنون الفِراشِ ناديتني باسم واحدة أخرى : ( الذي بالتأكيد لم يكن اسمها ، ولا أتذكر حتى لمن ) .أعرف جيداً بأن كل واحد في العالم عنده شخص يفكر به في هذه اللحظة ، من ليس عنده ؟ أنا نفسي عندي ، بالرغم من أنني لم أشرّفكَ ذات يوم بالحديث عنه . لكني كنتُ أحبكَ دائماً بعنفوان كي لا أخطئَ بالاسم !
"عشت لأروي". كتب ماركيز بنفسه المرحلة الأولى فقط من حياته وبالتحديد الفترة من سن الخامسة إلى سن الثلاثين أي سنوات الطفولة والشباب المبكر وهي نفس الفترة التي سبقت اتخاذه في سن الثلاثين لأهم قرار في حياته وهو قرار أن يصبح كاتبا. وفي هذا النص الذي كتبه ماركيز عن نفسه يحافظ ماركيز على الكيفية نفسها التي كان يتصرف بموجبها في رواياته فيسرد أحداث حياته كما لو كان يسرد أحداث رواية. ونعرف أن كل شىء أو حدث في روايات ماركيز كان له أصل في حياته الحقيقية ونعرف أيضا أن ماركيز لم يكن يقصد النقل الحرفي لهذا الأصل بل بالأحرى إعادة الاشتغال عليه بحيث تمتزج أحداث حياته الخاصة والأحداث السياسية التي عاصرها بأحلامه وتفسيراته ورؤاه الذاتية والخاصة. وكان المأمول أن تصدر السيرة في ثلاثة أجزاء لكن "عشت لأروي" ظل لمدة طويلة هو جزء السيرة الوحيد المتاح ولما طالت المدة أكثر من اللازم لم يعد هناك أي أمل في أن تصدر أجزاء أخرى. لكن العالم فوجىء في عام 2006 بصدور سيرة جديدة لماركيز باللغة الإنجليزية مختلفة كليا عن السيرة التي كتبها بنفسه وتحمل السيرة الجديدة اسم كاتب بريطاني يدعى جيرالد مارتن. وعلى عكس ماركيز الذي ركز في سيرته لا على حقائق الحياة نفسها بل على طريقة تذكر هذه الحقائق وكيفية روايتها، يلتزم جيرالد مارتن بحقائق حياة ماركيز نفسها ويسرد هذه الحقائق في كتابه بكل دقة وموضوعية. ويقال أن جيرالد مارتن لم يشرع في الكتابة إلا بعد أخذ موافقة ماركيز نفسه وأن مشروع الكتاب استغرق نحو سبعة عشر عاما وكان ماركيز يزوده طوال هذه المدة بكل ما يحتاج إليه من معلومات ووثائق.
"مشاهدة المطر في غاليسيا " ت.حسام الدين خضور لا بد أن يكون صديقي القديم الرسام والشاعر والروائي هيكتور روخاس هيرازو ـ الذي لم أره منذ وقت طويل ـ قد شعر برعشة الشفقة عندما رآني في مدريد في زحمة المصورين والصحفيين؛ لأنه جاء إليّ وهمس: «تذكر أن عليك أن ترأف بحالك من وقت إلى آخر.» وفي الواقع، مضت شهور ـ وربما سنوات ـ منذ أن أعطيت نفسي هدية تستحقها بجدارة. وهكذا قررت أن أمنح نفسي ما كان، في الحقيقة، واحداً من أحلامي: زيارة إلى غاليسيا. لا أحد يستمتع بالأكل يستطيع أن يفكر بـِ غاليسيا دون التفكير أولاً بملذات مطبخها. «الحنين يبدأ بالطعام،» قال تشي غيفارا، مشتاقاً ربما إلى المشاوي الكثيرة في وطنه الأم الأرجنتين، بينما كان برفقة رجال وحيدين في الليل يتحدثون عن الحرب، في سييرا مايسترا. وبالنسبة إلي، أيضاً، بدأ شوقي لـِ: غاليسيا بالطعام حتى قبل أن أذهب إلى هناك. والواقع أن جدتي، في البيت الكبير في أراكاتاكا، حيث عرفت أشباحي الأولى، لعبت دور الخباز المبهج، واستمرت به حتى عندما غدت عمياء تقريباً، وإلى أن فاض النهر، ودمر الفرن الذي لم يرغب أحد في البيت بإعادة بنائه. لكن شعور جدتي الشديد بعملها كان قوياً إلى حد أنها عندما لم تعد تستطيع أن تصنع الخبز أخذت تصنع اللحوم المدخنة. لحوم مدخنة شهية، مع أننا نحن الصغار لم نحبها ـ لا يحب الصغار أشياء الكبار غير المألوفة على الإطلاق ـ وعلى الرغم من ذلك فإن نكهة ذلك الطعم الأول ظل مطبوعاً في ذاكرة بلعومي إلى الأبد. لم أجد ذلك الطعم ثانية أبداً في أي من اللحوم المدخنة الكثيرة المختلفة؛ التي تناولتها فيما بعد في أي من أيامي الطيبة والعصيبة إلى أن تذوقت بالمصادفةــ بعد أربعين سنة، في برشلونة ــ شريحة نقية من لحم كتف الخنزير. وكل متعة الطفولة وشكوكها وعزلها الطفولة عادت إليّ فجأة مع نكهة تلك اللحوم المدخنة غير المنسية؛ التي صنعتها جدتي. ومن تلك التجربة نما اهتمامي في اقتفاء أثر نسب تلك النكهة، و، في البحث عنها، وجدت نسبي بين خضار أيار المهتاج وبحر الريف الغاليسي الخصيب وأمطاره ورياحه الدائمة. وعندئذٍ فحسب عرفت من أين حصلت جدتي على سرعة التصديق الذي سمح لها أن تعيش في عالم أسطوري. كان كل شيء فيه ممكناً، وحيث كانت الإيضاحات المنطقية معدومة تماماً في الواقع، أدركت من أين جاء ولعها في تحضير الطعام، والزوار المفترضين، وعادة غنائها طوال اليوم. «يجب أن تحضر طبق اللحم والسمك لأنك لا تعلم أبداً ماذا يريد الناس عندما يأتون إلى الغداء،» كانت تقول، عندما كانت تسمع القطار يصفر. لقد ماتت بعد أن تقدم بها العمر كثيراً وفقدت بصرها، وحسها بالواقع مشوش بالكامل إلى حد أنها كانت تتحدث عن أقدم ذكرياتها كما لو كانت تحدث في تلك اللحظة، وتتحدث مع الموتى الذين عرفتهم أحياء في شبابها البعيد. كنت أخبر أحد الأصدقاء الغاليسيين بذلك في الأسبوع الأخير في سانتياغو دي كومبوستيلا وقال: «إذاً يجب أن تكون جدتك غاليسية، لا ريب في ذلك، لأنها كانت مخبولة.» وفي الواقع كل الغاليسيين الذين أعرفهم، وهؤلاء الذين قابلتهم دون أن يتسنى لي وقت كي أعرفهم، يبدو أنهم من مواليد برج الحوت. لا أعرف من أين يأتي العار من كونك سائحاً. لقد سمعت الكثير من الأصدقاء وهم في زخم سياحي تام يقولون إنهم لا يريدون أن يختلطوا بالسياح، غير مدركين أنهم على الرغم من عدم اختلاطهم بهم، سياح مثل الآخرين تماماً. عندما أزور مكاناً ولا يتاح لي الوقت لأعرفه إلا سطحياً، أفترض أني سائح دون خجل. أحب أن أشارك في تلك الرحلات السريعة التي يوضح فيها المرشدون كل شيء تراه خارج النافذة ـ «على يمينكم ويساركم سيداتي وسادتي...» ـ وأحد الأسباب هو أنني أعرف مرة وإلى الأبد كل شيء، لا أزعج نفسي كي أراه عندما أخرج فيما بعد لأكتشف المكان بطريقتي الخاصة. وفي كل حال، لا تدع سانتياغو دي كومبوستيلا وقتاً لمثل هذه التفاصيل: فالمدينة تفرض نفسها مباشرة، بالتمام والكمال، كما لو أن المرء مولود فيها. فقد اعتقدت وثابرت على الاعتقاد، حقاً، أن ما من ساحة في العالم أجمل من ساحة مدينة سينا. والساحة الوحيدة التي جعلتني أرتاب في اعتبارها الساحة الأجمل هي ساحة سانتياغو دي كومبوستيلا. فاتزانها ومظهرها الفتي يمنعك من التفكير بعمرها المهيب؛ بدلاً من ذلك، تبدو كما لو أنها قد شيَّدتها يوم أمس وحسب جماعة ما فقدت حسها بالزمن. قد لا يأتي هذا الانطباع من الساحة ذاتها لكن من كونها ـ مثل كل زاوية في المدينة ـ منغمسة حتى روحها في الحياة اليومية. إنها مدينة مفعمة بالحياة، يحثها حشد من الطلاب السعداء المسترسلين في مرحهم الذين لا يمنحونها فرصة كي تتقدم في العمر. وعلى الجدران التي ظلت سليمة، تمد حياة الشجيرات طريقها عبر الشقوق في صراع عنيد لتعيش إلى ما بعد النسيان، وعند كل خطوة، كما لو كانت الشيء الأكثر طبيعية في العالم، تواجه المرء معجزة الحجارة في بريقها الكامل. أمطرت السماء لثلاثة أيام، ليس على نحو عاصف، بل مع فترات غير مألوفة من الشمس المشرقة. ورغم ذلك، لم يبدُ أن أصدقائي الغاليسيين قد رأوا تلك الفترات، واعتذروا عن المطر طوال الوقت. وربما كانوا غير واعين أن غاليسيا دون مطر ستغدو شيئاً مخيباً للآمال، لأن بلدهم بلد أسطوري ـ أكثر مما يدرك الغاليسيون أنفسهم ـ وفي البلاد الأسطورية لا تشرق الشمس أبداً. قالوا لنا: «لو قدمت في الأسبوع الأخير لاستمتعت بمناخ ممتع» والخجل بادٍ على وجوههم. «إنه مناخ غير عادي في مثل هذا الوقت من السنة،» أصروا ناسين فال ـ إنكلان وروزاليا دي كاسترو وكل شاعر غاليسي عاش أبداً، الذين تمطر السماء في كتبهم من بداية الخليقة، وخلالها تهب الرياح التي لا تهدأ أبداً، وربما الشيء نفسه الذي يبذر البذور المجنونة هو الذي يجعل كثيراً من الغاليسيين مختلفين على نحو مبهج. أمطرت في المدينة، وأمطرت في الحقول المفعمة بالحياة، وأمطرت في جنة البحيرة في أروزا ومصبات نهر فيغو؛ وفوق الجسر، وأمطرت في بلازا دي كامبادوس غير الهيابة وغير الحقيقية تقريباً، وأمطرت حتى على جزيرة لا توخا، حيث يوجد فندق من عالم وزمن آخر، يبدو أنه ينتظر حتى يتوقف المطر، وتهدأ الرياح وتشرق الشمس لكي يبدأ الحياة. لقد مشينا تحت هذا المطر كما لو كنا في حالة من نعمة إلهية ونحن نأكل المحار بوفرة، المحار الوحيد الحي الباقي في هذا العالم المُدَمَّر؛ ونأكل السمك الذي، في الصحن، كان لا يزال يبدو كالسمك؛ والسلطة التي تستمر بالنمو على الطاولة. وعرفنا أن كل هذا بفضل المطر الذي لم يكف عن الهطول أبداً. والآن بعد سنوات كثيرة منذ أن سمعت الكاتب الفارو كنغويرو وهو يتحدث عن الطعام الغاليسي في أحد مطاعم برشلونة، وكان وصفه باهراً جداً إلى حد أنني أخذته على محمل هذيان غاليسي. فبقدر ما أستطيع أن أتذكر سمعت مهاجرين غاليسيين يتحدثون عن غاليسيا، فكرت دائماً بذكرياتهم ملونة بأوهام حنينهم إلى الوطن. واليوم أتذكر ساعاتي الاثنين، والسبعين في غاليسيا، وأتساءل فيما إذا كانت كلها حقيقية، أو إذا ما بدأت أنا نفسي بالسقوط ضحية الهذيان مثل جدتي. فبين الغاليسيين ـ كما نعرف جميعاً ـ لا يمكنك أن تؤكد أمراً أبداً.
"قصة موت معلن" تتكلم الرواية عن قصة موت بطل الرواية (سنتياغو نصار) فانت تعرف من البداية ان بطل الرواية مات مقتولا لكن روعة اسلوب الرائع ماركيز انه اتى بالنهاية فى البداية وابدع فى الرواية بشكل لا يوصف
"رجل عجوز بجناحين كبيرين" بعد اليوم الثالث للمطر كانوا قد قتلوا الكثير جداً من السرطانات داخل البيت مما اضطر بيلايو أن يعبر باحته الموحلة ليرميها في البحر، ذلك لأن الوليدة الجديدة قد أصيبت بالحمى طوال الليل واعتقدوا أن ذلك بسبب الرائحة النتنة. العالم حزيناً منذ الثلاثاء. صار البحر والسماء قطعة واحدة من الرماد ورمال الشاطئ التي تلمع في ليالي آذار مثل ضوء مطحون، وقد أمست مزيجاً من الطين والمحار. وهن الضوء جداً في وقت الظهيرة حتى أن بيلايو عندما عاد إلى بيته بعد أن رمى السرطانات، كان من الصعب عليه أن يرى ذلك الذي يتحرك ويئن في آخر الباحة. تحتم عليه أن يقترب جداً ليرى أنه رجل عجوز، عجوز جداً، منكب على وجهه في الطين، وهو على الرغم من كل الجهود المضنية التي يبذلها، لا يستطيع النهوض، إذ أن جناحين هائلين كانا يعيقانه. أرعبه هذا الكابوس فهرع ليأتي بأليسندا زوجته، التي تضع الكمادات على الطفلة المريضة، وأخذها إلى آخر الباحة. نظرا إلى الجسد الملقى بذهول أخرس. كان يرتدى أسمال جامعي الخرق. لم تكن هناك سوى بضعة شعيرات على صلعته وبضعة اسنان في فمه، وحالته المثيرة للشفقة لجد كبير واقع في الوحل أزالت أي شعور بالمهابة كان من الممكن أن يحمله. جناحاه الصقريان الضخمان، الوسخان والنصف منتوفان، عالقان أبداً في الطين. كان بيلايو وأليساندا قد نظرا إليه طويلاً وعن قرب حتى تغلبا على ذهولهما فوجداه في الأخير أليفاً. ثم تجرأا للكلام معه وأجابهما بصوت قوي غير مفهوم لبحار. هكذا تخطيا غرابة الجناحين واستخلصا بذكاء أنه قد قذف بمفرده من سفينة أجنبية غارقة بفعل عاصفة. ولذلك استدعيا جارتهما، التي كانت تعرف كل شيء عن الحياة والموت، لتراه. كلما كانت تحتاج إليه هي نظرة واحدة لتبين لهما خطأهما. قالت لهما،"إنه ملاك. لابد أنه قد جاء من أجل الطفلة، لكن المسكين هرم جداً مما جعل المطر يطيح به." في اليوم التالي عرف الجميع قد أن ملاكاً بدمه ولحمه قد وقع أسيراً في منزل بيلايو. وإزاء الرأي الحكيم الذي طرحته الجارة، التي كانت ترى أن الملائكة في تلك الأزمنة لاجئون انقذوا من مؤامرة روحية، لم تطاوعهم قلوبهم على ضربه بالهراوات حتى الموت. كان بيلايو يراقبه طوال وقت العصر من نافذة المطبخ، متسلحاً بهراوته البوليسية، وقبل أن يأوي إلى فراشه أخرجه من الطين وحشره في القن مع الدجاجات. وعند منتصف الليل، عندما توقف المطر، كان بيلايو وأليساندا لايزالان يقتلان السرطانات. بعد ذلك بوقت قصير أفاقت الطفلة من الحمى وصارت لديها رغبة في تناول الطعام. فشعرا بشهامة دفعتهما إلى أن يقررا أن يضعا الملاك على طوف مع ماء عذب وزوادة لثلاثة أيام ويتركانه لمصيره في أعالي البحار. لكنهما حين ذهبا إلى الباحة مع ظهور أول خيط للفجر، شاهدا أن الجيران كلهم هناك أمام قن الدجاج ويتسلون بالملاك، ومن دونما وازع، يرمونه عبر الفتحات بمختلف الأشياء ليأكلها كأنه لم يكن كائناً سماوياً بل مجرد حيوان سيرك. وصل الأب غونزاكا قبل السابعة، بعد أن ذعرته الأخبار الغريبة. خلال ذلك الوقت كان قد وصل متفرجون أقل طيشاً من أولئك الذين جاؤوا مع الفجر وكانوا يقومون بكل انواع الحدوس التي تتعلق بمستقبل الأسير. وأبسطها فكرة أن من الأحرى تعيينه عمدة للعالم. آخرون من امتلكوا عقلاً صارماً شعروا أنه من الأحرى أن يرقى مرتبة جنرال بخمس نجوم من أجل كسب جميع الحروب. البعض من الحالمين تأملوا أنه من الممكن أن يوضع للاستيلاد من أجل أن تنتشر في الأرض سلالة من البشر المجنحين الحكماء الذين من الممكن أن يتولوا مسؤولية الكون. لكن الأب قبل أن يكون كاهناً، كان يعمل في تقطيع الأخشاب. فراجع ثقافته الشفاهية بلحظة وطلب منهم فتح الباب كي يلقي نظرة فاحصة على ذلك الرجل المسكين الذي كان يبدو أشبه بدجاجة ضخمة عاجزة بين الدجاجات الرائعات. كان يضطجع في الزاوية يجفف جناحيه المفتوحين تحت ضوء الشمس بين قشور الفواكه وبقايا طعام الإفطار التي رماها عليه من جاؤوه مبكرا. وعندما دخل الأب غونزاكا القن وقال له صباح الخير باللاتينية. وشعر بالغربة إزاء وقاحة العالم فلم يستطع الملاك إلا أن يرفع عينيه الأثريتين ويتمتم بشيء ما بلغته الخاصة. عندما لم يفهم لغة الرب ولم يعرف كيف يحيي كهنته صار لدى كاهن الإبرشية شك بأن هذا دجال لا غير. وعندما اقترب منه لاحظ أنه اقرب إلى البشر؛ فلديه رائحة مشردين لا تطاق، الجانب الخلفي من جناحيه قد اكتسى بالطفيليات كما أن الريش الكبيرة قد عبثت بها الريح، وليس ثمة شيء يمكن أن يحيله إلى كرامة وفخر الملائكة. ثم خرج من قن الدجاج وبموعظة موجزة حذر من المتطفلين ومن خطر كونه مخلصاً. وذكرهم أن الشيطان كانت له تلك العادة السيئة في استعمال خدع الكرنفال من أجل إيهام الغافلين. وكانت حجته أنه إذا كانت الأجنحة هي العنصر الأساسي في الأقرار بالاختلاف بين الصقر والطائرة، فهي اقل من ذلك أهمية لدى التعرف على الملائكة. لكنه رغم ذلك قد وعد بأن يكتب رسالة إلى اسقفه كي يكتب الأخير رسالة إلى كبير أساقفته الذي بدوره سيكتب إلى الحبر الأعظم لغرض الحصول على الحكم الأخير من أعلى السلطات. لقد وقعت حكمته على قلوب عقيمة. وانتشرت أخبار الملاك الأسير بسرعة هائلة حتى أن الباحة قد امتلأت بعد سويعات بضجة كضجة السوق وتحتم عليهم أن يطلبوا النجدة من قوات يحملون حراب مشرعة لتفريق جمهور الغوغاء الذين أوشكوا أن يطيحوا بالبيت. وكان ظهر أليسندا قد انقصم من تنظيف نفايات ذلك السوق، حتى تولدت لديها فكرة وضع سياج للباحة وطلب خمس سنتات رسم دخول لمشاهدة الملاك. وجاء حب الاستطلاع من مكان بعيد. إذ وصل كرنفال من الرحالة ومعهم بهلوان طائر كان يئز فوق الجمهور المزدحم مرة إثر مرة من دون أن ينتبه إليه أحد لأن جناحيه لم يكونا لملاك بل، بالأحرى، لخفاش نجمي. وحضر أغلب التعساء من المرضى الباحثين عن الشفاء؛ إمرأة مسكينة تحصي دقات قلبها وقد نفدت الأرقام لديها؛ رجل برتغالي لم يستطع النوم لأن ضوضاء النجوم تقلق راحته؛ سائر في نومه نهض في الليل وألغى كل ما عمله عندما كان في اليقظة، والكثير ممن لديهم مصائب أقل جدية. في خضم تلك الفوضى التي جاءت من السفينة الغارقة، كان بيلايو وأليسندا سعيدان ومرهقان، لأنهما في أقل من أسبوع امتلأت غرفهما بالأموال ولا يزال هنالك طابور جد طويل للحجاج ينتظر دوره للدخول يصل مداه إلى ما بعد الأفق. كان الملاك هو الوحيد الذي لم يشترك في مشهده. فقضى وقته محاولاً أن يستريح في عشه المستعار، مربكاً من الحرارة الجحيمية لمصابيح الزيت وشموع السر المقدس التي وضعت بمحاذاة أسلاك القن. حاولوا في البداية أن يجعلوه يأكل كرات العث، الطعام الذي يوصف للملائكة تبعاً إلى توصية الجارة الحكيمة. لكنه رفضها كما رفض وجبات الطعام البابوية التي جلبها له المرضى، ولم يعرفوا أن رفضه قد جاء بسبب أنه كان ملاكاً أو بسبب أنه رجل عجوز. ولم يأكل في الأخير غير الباذنجان المهروس. كانت ميزته الخارقة للطبيعة الوحيدة هي الصبر. خصوصاً في الأيام الأولى، عندما نقرته الدجاجات بحثاً عن الطفيليات المفضلة لديها والتي تتكاثر في جناحيه وكان المشلولون ينزعون عنه الريش ليضعوه على أعضائهم المصابة، وحتى أكثرهم عطفاً عليه كانوا يرجمونه بالأحجار محاولين إيقافه لينظروا إليه وهو منتصبا. والمرة الوحيدة التي نجحوا في إيقافه عندما حرقوا جنبه بسيخ لوسم الثيران المخصية، لأنه كان جامداً لساعات طويلة حتى ظنوا أنه ميت. نهض مذعوراً زاعقاً بلغته السحرية تتساقط الدموع من عينيه ونفض جناحيه عدة مرات مما اثار زوبعة من غبار ذروق الدجاج ونوبة ذعر بدت آتية من عالم غير هذا العالم. ورغم أن الكثيرين ظنوا ان رد الفعل هذا لم يأت من الغضب بل من الألم، صاروا حذرين في أن لا يزعجونه، لأنهم أدركوا أن سلبيته لم تتأت من انه يريد أن يستريح بل هو هدوء العاصفة. كان الأب غونزاكا يرد الجموع المندفعة بكلمات مستوحات من الخادمة بينما كان في انتظار وصول الحكم النهائي بشأن طبيعة الأسير. ولكن بريد روما لم تبد عليه العجلة. فالوقت في معرفة إذا كان الاسير له سرة، أو إن كانت لغته لها علاقة بالآرامية، وكم مرة يمكنه أن يثبت رأس الدبوس، أو فيما إذا لم يكن غير نرويجي له أجنحة. هذه الرسائل الهزيلة لربما تستمر في أن تأتي وتذهب إلى آخر الزمان لو لم تضع العناية الألهية نهاية للمصائب التي على رأس الكاهن. وحدث في تلك الأيام، أن من بين كرنفالات الجذب، وصل المدينة عرض لرحالة ظهرت فيه المرأة التي انقلبت إلى عنكبوت لأنها لم تطع والديها. كان الرسم الذي يدفع لرؤيتها ليس أقل مما يدفع لرؤية الملاك فحسب، بل سمح للناس أن يسألوها كل أنواع الأسئلة حول حالتها المزرية ويتفحصونها من كل جوانبها حتى لايشك أحد بحقيقة رعبها. كانت عبارة عن عنكبوت ضخم بحجم الكبش ولها رأس فتاة حزينة. وما كان يمزق القلب هو ليس شكلها الغريب بل الألم الصادق المنبعث من روايتها لتفاصيل حظها العاثر. فعلى الرغم من أنها كانت لاتزال طفلة تسللت من منزل والديها لتذهب للرقص، وأثناء عودتها عبر الغابات بعد أن قضت الليل بطوله ترقص من دون السماح لها بذلك، صعق رعد السماء وفلقها وعبر ذلك الانفلاق جاء صاعق برقي كبريتي وحولها إلى عنكبوت. كان غذاؤها الوحيد هو من الكرات اللحمية التي يتصدق بها المحسنون ويدفعونها في فمها. مشهد مثل هذا، مليء بالحقيقة البشرية وبدرس مروع، كان على وشك أن يقضي على مشهد ملاك متعجرف نادراً ما كان يتلطف بالنظر إلى الناس. فضلاً عن ذلك ثمة بضعة معجزات أوعزت إلى الملاك توضح اختلاله العقلي، مثل الرجل الأعمى الذي لم يشفه بل زرع له ثلاثة اسنان جديدة، والمشلول الذي لم يتمكن من السير بل كاد يربح اليانصيب، والمجذوم الذي نبتت في تقرحاته زهور عباد الشمس. عزاء المعجزات هذا، الذي كان أشبه بالسخرية، كان قد حطم سمعة الملاك التي سحقت تماماً في الأخير مع مجيء المرأة التي تحولت إلى عنكبوت. وهكذا شفي الأب غونزاكا تماماً من أرقه وخلت باحة دار بيلايو مثلما كانت خالية عندما أمطرت السماء لثلاثة أيام ودخلت السرطانات إلى غرف النوم. لم يكن ثمة من داع لإلقاء اللوم على صاحبي المنزل. فقد بنيا بالمال الذي حصلا عليه بيتا بطابقين وله شرفات وحدائق وشبكة عالية تمنع السرطانات من النزول داخل البيت عند الشتاء، ووضعا قضباناً حديدية تمنع الملائكة من الدخول. وعمل بيلايو مزرعة أرانب قرب المدينة وتخلى عن عمل وكيل مزرعة إلى الأبد، واشترت أليسندا أحذية ساتانية فاخرة بكعب عال والكثير من الثياب القزحية الحريرية، التي ترتدى في تلك الأيام من قبل اغلب النساء في يوم الأحد. كان قن الدجاج هو الوحيد الذي لم ينتبهوا إليه. وإن كانوا يغسلونه بالكريولين وقطرات من الصمغ الراتينجي بين الحين والحين. لكن ذلك ليس إجلالاً للملاك بل لإبعاد رائحة الروث التي لاتزال عالقة في كل مكان كالشبح وتحيل البيت الجديد إلى بيت قديم. وعندما تعلمت الطفلة المشي لأول مرة حرصا على أن لا تقترب من قن الدجاج. لكنهما فيما بعد أبعدا مخاوفهما وألفا الرائحة، وقبل أن يظهر السن الثاني لطفلتهما كانت قد ذهبت لتلعب قرب قن الدجاج حيث تداعى الجدار السلكي للقن. كان الملاك فاتراً معها مثلما كان مع باقي الكائنات، لكنه تحمل أبشع سلوك بريء بصبر كلب لا أوهام لديه. وأصيبا كلاهما بجدري الدجاج. الطبيب الذي جاء لمعلجة الطفلة لم يستطع مقاومة أغراء الاستماع إلى قلب الملاك، ووجد صوت صفير في القلب وسمع الكثير من الأصوات في كليتيه حتى بدا للطبيب أن من الاستحالة أن يكون حيا. الشيء الأغرب هو منطق جناحيه. لقد كانا يبدوان طبيعيين على ذلك الجسم البشري حتى أنه استغرب لماذا لا يملك البشر الآخرون مثلهما. عندما بدأت الطفلة بالذهاب إلى المدرسة كان قد مر بعض الوقت الذي هدمت فيه الشمس والأمطار قن الدجاج. وظل الملاك يجر نفسه هنا وهناك مثل رجل ضال يلفظ أنفاسه الأخيرة. كانوا يطردونه من غرفة النوم بالمكنسة فيجدونه قد ذهب إلى المطبخ. حتى ظهر لهم أنه موجود في عدة أماكن في اللحظة نفسها وظنوا أنه صار أكثر من واحد، كأنه يولد من نفسه آخرين ينتشرون داخل البيت، مما جعل أليسندا الساخطة والمشوشة أن تصرخ أن هذه حياة بائسة في جحيم مليء بالملائكة. كان نادراً ما يأكل وأمست عيناه الأثريتين مضببتين أدت به إلى أن يصطدم بالأعمدة. كل ما بقي له هي الإبر المجردة لآخر ريشات له. رمى عليه بيلايو بطانية وتفضل عليه أيضاً بالسماح له بالمنام في السقيفة ولاحظوا عندذاك أن حرارته قد ارتفعت في الليل وبدأ بالهذيان ملتوي اللسان مثل عجوز نرويجي. وكانت تلك هي من المرات القليلة التي يشعرون فيها بالخطر، لاعتقادهم أنه سوف يموت ولن تستطيع حتى جارتهم الحكيمة أن تنصحهم بما يجب أن يعملونه بملاك ميت. ولكنه لم يعش طوال الشتاء فحسب بل بدا أنه تحسن مع الأيام المشمسة الأولى. وبقي دون حراك لعدة أيام في ابعد زاوية من الباحة، حيث لا أحد يراه، ومع بواكير كانون الثاني نبتت له بعض الريش الكبيرة الصلبة، ريش فزاعة، هي اشبه بعجز مأساوي آخر. ولكن لابد أنه كان يعلم سبب تلك التغيرات، لأنه كان حريصاً جداً على أن لا يلاحظه أحد ، ولا أحد يسمع الأناشيد البحرية التي كان يغنيها أحياناً تحت النجوم. وفي احد الأيام عندما كانت أليسندا تقطع البصل للغداء دخلت إلى المطبخ ريح بدت كأنها آتية من أعالي البحار. ثم أطلت من النافذة ورأت الملاك وهو في أولى محاولاته للطيران. كانت غير متقنة لدرجة أن أظافره قد فتحت حفرة في البقعة الخضراء وكان على وشك أن يطيح بالسقيفة برفرفته الخرقاءالمنفلتة في الضياء والتي لم توفق في قبض الهواء. ولكنه تمكن من تحقيق بعض العلو. وأطلقت اليسندا تنهيدة راحة، من أجل نفسها ومن أجله، عندما راقبته يمر من فوق أخر المنازل، رافعاً نفسه على نحو ما برفرفة مجازفة كأنها لنسر عجوز. ظلت تراقبه وهي لاتزال تقطع البصل واستمرت تراقبه حتى حين لم يعد بإمكانها رؤيته، لأنه عند ذاك لم يعد يمثل أي قلق لحياتها بل مجرد نقطة خيالية في أفق البحر.
"الحب أقوى من الموت" ياسر الهلالي عندما وجد السيناتور أونيسمو سانشيز امرأة التي انتظرها طوال عمره، كان لا يزال أمامه ستة أشهر وأحد عشر يوماً قبل أن توافيه المنية. وكان قد التقاها في روزال دل فيري، وهي قرية متخيّلة، كانت تستخدم كرصيف ميناء سري لسفن المهربين في الليل، أما في وضح النهار، فكانت أشبه بمنفذ لا فائدة منه يفضي إلى الصحراء، وتواجه بحراً قاحلاً لا اتجاه له، وكانت قرية نائية وبعيدة عن أي شيء، إلى درجة أن أحداً لم يكن يتوقع أن يكون بوسع أي انسان أن يغيّر مصير أي فرد من سكانها. حتى أن اسمها كان يثير الضحك نوعا ما، وذلك لأن الوردة الوحيدة الموجودة في تلك القرية كان يضعها السيناتور أونيسمو سانشيز في سترته عصر ذلك اليوم الذي التقى فيه لورا فارينا. وكانت كذلك محطة إجبارية في الحملة الانتخابية التي كان يقوم بها السيناتور كلّ أربع سنوات. فقد كانت عربات الكرنفال قد وصلت في الصباح الباكر، ثم تبعتها الشاحنات التي تقل الهنود الذين كانوا يُستأجرون ويُنقلون إلى المدن الصغيرة لزيادة عدد الحشود في الاحتفالات العامة وتضخيمها. وقبل الساعة الحادية عشرة بقليل، وصلت السيارة التابعة للوزارة التي يشبه لونها لون مشروب الفراولة الغازي، بالإضافة إلى السيارات التي تقل الموسيقيين، والألعاب النارية، وسيارات الجيب التي تقل أفراد الحاشية. أما السيناتور أونيسمو سانشيز، فكان يجلس مسترخياً في سيارته المكيّفة، لكنه ما أن فتح باب السيارة، حتى هبّت عليه نفحة قوية من اللهب، وعلى الفور تبلل قميصه المصنوع من الحرير الصافي، وأصبح وكأنه قد غمس في حساء فاتح اللون، واعتراه شعور بأنه كبر عدة سنوات، وأحس بالوحدة على نحو لم يشعر به من قبل. في الحياة الحقيقية، كان قد بلغ الثانية والأربعين من العمر، وكان قد تخرّج من جامعة غوتينجين بدرجة شرف كمهندس في استخراج المعادن. كان قارئاً نهماً للأعمال الكلاسيكية اللاتينية المترجمة ترجمة ركيكة. وكان السيناتور زوج امرأة ألمانية متألقة أنجبت له خمسة أطفال، وكانوا جميعهم يعيشون بسعادة في بيتهم، وكان هو أكثرهم سعادة إلى أن أخبروه، منذ ثلاثة أشهر، بأنه سيموت ميتة أبدية قبل أن يحل عيد الميلاد القادم. وفيما كانت التحضيرات للاجتماع الحاشد على وشك أن تُستكمل، تمكّن السيناتور من الاختلاء بنفسه لمدة ساعة في البيت الذي كانوا قد أعدّوه له ليرتاح فيه. وقبل أن يتمدد على الفراش، وضع الوردة التي حافظ عليها طوال رحلته عبر الصحراء في كأس مليء بمياه الشرب، وابتلع الحبوب التي أخذها معه ليتحاشى تناول قطع لحم العنز المقلّي التي كانت تنتظره أثناء النهار، وتناول عدّة حبوب مسكّنة قبل وقتها المحدد خشية أن يعتريه الألم. ثم وضع المروحة الكهربائية قرب الأرجوحة واستلقى عارياً لمدة خمس عشرة دقيقة في ظلّ الوردة، وبذل جهداً كبيراً كي يبعد فكرة الموت عنه كي يغفو قليلاً. وفيما عدا الأطباء، لم يكن أحد يعرف أن أمامه أياماً معدودات سيعيشها، لأنه قرّر أن يبقي سرّه طي الكتمان، وأن لا يغيّر شيئاً في حياته، لا بدافع من الكبرياء، بل بسبب الخجل والخزي. أحسّ أنه يمتلك زمام أموره عندما خرج للقاء الجمهور للمرة الثانية في الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم، مرتاحاً ونظيفاً، وهو يرتدي بنطالاً من الكتّان الخشن، وقميصاً مزّهراً، وكانت الحبوب المضادة للألم قد ساعدته في إضفاء شيء من السكينة على روحه. غير أن التآكل الذي كان الموت يحدثه فيه أكثر خبثاً مما كان يظن، لأنه ما أن صعد إلى المنصة، حتى اعتراه شعور غريب بالازدراء للذين كانوا يسعون جاهدين لأن يحظوا بشرف مصافحته، ولم يشعر بالأسف، كما في السابق، على جموع الهنود الذين قلما كان بوسعهم تحمّل جمرات نترات البوتاسيوم الملتهبة تحت أقدامهم الحافية في الساحة الصغيرة المجدبة. وبحركة من يده أوقف التصفيق، بغضب تقريباً، وبدأ يتكلم دون أن تبدو على وجهه أية تعابير محددة. وكانت عيناه مثبتتين على البحر الذي كان يئن تحت وطأة لهيب الحرارة. وكان صوته العميق الموزون يشبه المياه الراكدة، لكنه كان يعرف أنه لم يكن يقول الصدق في الخطاب الذي كان قد حفظه عن ظهر قلب، والذي كان قد ألقاه أمام الجموع مرات كثيرة، بل كان يناقض أقوال ماركوس أوريليوس صاحب النزعة الجبرية في كتاب تأملاته الرابع.
إننا هنا لكي نلحق الهزيمة بالطبيعة، بدأ خطابه بخلاف كلّ قناعاته. لن نصبح لقطاء في بلدنا بعد الآن، أيتام الله في عالم العطش والمناخ الرديء، منفيين في أرض آبائنا وأجدادنا. بل سنكون أناساً مختلفين، أيها السيدات والسادة، سنكون أناساً عظماء وسعداء. كان ثمة نمط معين في هذا السيرك الذي يقوم به. ففيما كان يلقي كلمته، كان مساعدوه يلقون بمجموعات من الطيور الورقية في الهواء، فتدّب الحياة في هذه المخلوقات الاصطناعية، وتحلّق حول المنصة المنتصبة من ألواح خشبية، وتطير باتجاه البحر. وفي الوقت نفسه، كان رجال آخرون يفرغون بعض جذوع الأشجار من الشاحنات، ويغرسونها في تربة نترات البوتاسيوم وراء الجموع الحاشدة. وكانوا قد أقاموا واجهة كرتونية من بيوت خيالية من الآجر الأحمر ذات نوافذ زجاجية، وأخفوا وراءها الأكواخ الحقيقية البائسة. أطال السيناتور خطابه مستشهداً باقتباسين اثنين باللغة اللاتينية ليطيل أمد المهزلة. ووعد الحشد بآلات تصنع المطر، وبأجهزة نقّالة لتربية حيوانات المائدة، وبزيوت السعادة التي تجعل الخضراوات تنمو في تربة نترات البوتاسيوم، وبشتلات من أزهار الثالوث المزروعة في أصص. وعندما رأى أنه استطاع أن يخلق عالمه الخيالي، أشار إليه بيده، وصاح بأعلى صوته: ذاك الدرب سيكون دربنا، أيها السيدات والسادة. انظروا! ذاك الدرب سيكون لنا. التفت الحشد. كانت سفينة مصنوعة من الورق الملّون تعبر وراء البيوت، وكانت أطول من أعلى بيت في المدينة الاصطناعية. وعندها لاحظ السيناتور، أنها بعد أن شُيدت وأُنزلت وحُملت من مكان إلى مكان آخر، التهم الطقس الشنيع البلدة الكرتونية المتداخلة، وكادت تصبح سيئة كما هو حال قرية روزال دل فيري. وللمرة الأولى منذ اثتني عشرة سنة، لم يتوجه نلسن فارينا ليرحب بالسيناتور. بل كان يستمع إلى خطاب السيناتور وهو مستلق على أرجوحته في ما تبقى من قيلولته، تحت ظلال عريشة البيت ذي الألواح غير المستوية، الذي بناه بيديّ الصيدلي اللتين جرّ فيهما زوجته الأولى والتي قطعّها إلى أشلاء. ثم هرب من جزيرة الشيطان، وظهر في روزال ديل فيري على متن سفينة محمّلة بببغاوات بريئة من نوع المقو، برفقة امرأة سوداء جميلة كافرة، كان قد التقى بها في باراماريبو وأنجب منها فتاة. لكن المرأة ماتت لأسباب طبيعية بعد فترة قصيرة، ولم تلق مصير المرأة الأخرى، التي ساهمت أعضاؤها المقطعّة إرباً في تسميد قطعة الأرض المزروعة بالقنبيط، بل ووريت التراب بكامل جسدها، محتفظة باسمها الهولندي، في المقبرة المحلية. وقد ورثت الابنة لون أمها وقوامها الجميل، فضلاً عن عينيّ أبيها الصفراوين المندهشتين، وكان يحق له أن يعتقد أنه كان يربّي أجمل امرأة في العالم. ومنذ أن اجتمع بالسيناتور أونيسمو سانشيز خلال حملته الانتخابية الأولى، طلب منه نلسن فارينا أن يساعده في الحصول على بطاقة هوية مزورة تجعله في منأى عن قبضة القانون. إلا أن السيناتور رفض بطريقة ودّية، ولكن حازمة. غير أن نلسن فارينا لم يستسلم، بل ظل ولسنوات عديدة، وكلما أتيحت له الفرصة، يكرّر طلبه بأساليب مختلفة. أما هذه المرة، فقد بقي في أرجوحته، وقد كتب عليه أن يتعفّن حياً في عرين القراصنة اللاهب ذاك. وعندما سمع التصفيق الأخير، رفع رأسه، وأخذ يتطلع من فوق ألواح السياج، ورأى الجانب الخلفي من المهزلة: الدعائم التي أُحضرت للمباني، جذوع الأشجار، والمخادعين المتوارين الذين يدفعون السفينة فوق المحيط. ثم بصق بإحساس مفعم بالحقد والازدراء. وبعد أن ألقى كلمته، أخذ السيناتور كدأبه يجوب شوارع القرية وسط أنغام الموسيقى والأسهم النارية، وقد تحلّق حوله سكان القرية، الذين راحوا يبثون له شكاويهم ومشاكلهم. وكان السيناتور يصغي إليهم باهتمام وود شديدين ولم يكن يتورع عن مواساة كلّ فرد منهم، دون أن يقدم لأي منهم أي خدمات هامة. وتمكنت امرأة تقف على سطح أحد المنازل مع أطفالها الستة الصغار من أن تُسمعه صوتها وسط الضجيج وأصوات الأسهم النارية. إني لا أطلب الكثير، أيها السيناتور، قالت، حمار واحد فقط لأتمكن من سحب الماء من بئر الرجل المشنوق. لاحظ السيناتور الأطفال النحاف الستة وسألها: ماذا حدث لزوجك؟ ذهب يبحث عن الثروة في جزيرة أروبا، أجابت المرأة بروح دمثة، وعثر على امرأة أجنبية، من النوع الذي يضع الماس في أسنانهن. أحدث الجواب عاصفة من الضحك. حسناً، قرّر السيناتور، ستحصلين على حمارك. وما هي إلا لحظات، حتى أحضر أحد مساعديه حماراً مزوداً بسرج جيد إلى بيت المرأة، وقد دُوِّن على كفله شعار من شعارات الحملة الانتخابية بطلاء لا يمكن إزالته لكي لا ينسى أحد أبداً أنه هدية من السيناتور. وعلى امتداد الشارع القصير، قام ببعض الأعمال الصغيرة الأخرى، بل وحتى قدم ملعقة دواء للرجل المريض الذي أمر بإخراج سريره ووضعه عند باب بيته كي يتمكن من رؤية السيناتور عندما يمرّ. في الزاوية الأخيرة تلك، ومن خلال ألواح السياج، رأى نلسن فارينا وهو مستلق في أرجوحته، وقد بدا شاحباً وكئيباً، لكن ومع ذلك، حيّاه السيناتور دون أن يبدي له أية مشاعر بالمودّة. مرحباً، كيف حالك؟ التفت نلسن فارينا من فوق أرجوحته ورمقه بنظرته المفعمة بالارتياب والغّل. أنا، كما تعرف، قال. خرجت ابنته إلى الباحة عندما سمعت التحية. كانت ترتدي فستاناً هندياً رخيصاً من نوع غواجيرو، وكانت تزّين رأسها أقواس ملوّنة، وكانت قد دهنت وجهها بأصباغ لتقيه من أشعة الشمس. إلا أنه، حتى في وضعها السيئ ذاك، يستطيع المرء أن يتصور أنه لا توجد امرأة أخرى في جمالها على وجه البسيطة كلها. وقف السيناتور منقطع الأنفاس وقال بدهشة: اللعنة. يفعل الله أكثر الأشياء جنوناً. في تلك الليلة، جعل نلسن فارينا ابنته ترتدي أجمل ثيابها، وبعث بها إلى السيناتور. وطلب منها الحارسان المسلحان بالبنادق اللذان كانا يهزان رأسيهما من شدة الحرارة في البيت المستعار، أن تنتظر على الكرسي الوحيد في الردهة. كان السيناتور يعقد في الغرفة المجاورة اجتماعاً مع أناس على قدر من الأهمية في روزال دل فالي، الذين كان قد جمعهم لينشد على مسامعهم الحقائق التي لم يكن قد ذكرها في خطابه، والذين كانوا يشبهون إلى درجة كبيرة جميع من كان يلتقي بهم في البلدات الصحراوية كلها. وكان قد بدأ يعتري السيناتور الملل ويشعر بالتعب من تلك الجلسات الليلية التي لم تكن تتوقف. كان قميصه مبللاً بالعرق، وكان يحاول أن يجففه على جسده من التيار الحار المنبعث من المروحة الكهربائية التي كانت تصدر طنيناً كطنين ذبابة الفرس في وسط الحرارة اللاهبة التي تغمر الغرفة. قال: بالطبع لا نستطيع أن نأكل طيوراً ورقية ثم أضاف: إنكم تعرفون، وأنا أعرف أن اليوم الذي ستنمو فيه الأشجار والأزهار في كومة روث العنزات هذه، وفي اليوم الذي سيحل سمك الشابل محل الديدان في برك الماء، عندها، لن يعود لكم، ولن يعود لي شيء هنا، هل تفهمون ما أقوله لكم؟ لم يحر أحد جواباً. وفيما كان السيناتور يتكلم، مزّق صفحة من التقويم، وشكّل منها بيديه فراشة ورقية، ثم ألقاها نحو تيار الهواء المنبعث من المروحة، فراحت الفراشة تتطاير حول الغرفة، ثم خرجت وانسلت عبر شق الباب الموارب. وتابع السيناتور كلامه، بعد أن تمالك نفسه، يساعده في ذلك الموت المتواطئ معه.
وأضاف: لذلك، لا يتعين عليّ أن أكرّر على أسماعكم ما تعرفونه جيداً: بأن انتخابي مرة أخرى هو لمصلحتكم أنتم أكثر مما هو لمصلحتي أنا، لأني سئمت المياه الراكدة وعرق الهنود، في الوقت الذي تكسبون فيه أنتم، أيها الناس، رزقكم منه. رأت لورا فارينا الفراشة الورقية وهي تنسرب من باب الغرفة. رأتها فقط لأن الحارسين في البهو كانا يغطان في النوم وهما جالسين على الدرج، يعانق كل منهما بندقيته. وبعد أن دارت عدة دورات، انفتحت الفراشة المثنية بكاملها، وارتطمت بالحائط، والتصقت به. حاولت لورا فارينا أن تقتلعها بأظافرها. إلا أن أحد الحارسين، الذي استيقظ على صوت تصفيق منبعث من الغرفة المجاورة، لاحظ محاولتها العقيمة. لا يمكنك اقتلاعها، قال بفتور، إنها مرسومة على الحائط. عادت لورا فارينا وجلست عندما بدأ الرجال يخرجون من الاجتماع. وقف السيناتور عند مدخل الغرفة ويده على المزلاج. ولم يلحظ لورا فارينا إلا عندما أضحت الردهة خاوية. ماذا تفعلين هنا؟ قالت: لقد أرسلني أبي. فهم السيناتور . أمعن النظر في الحارسين النائمين، ثم تمعّن في لورا فارينا، التي كان جمالها الفائق يفوق ألمه، وهنا عرف أن الموت هو الذي اتخذ قراره نيابة عنه. ادخلي قال لها. وقفت لورا فارينا والدهشة تعتريها عند مدخل الغرفة: كانت آلاف من الأوراق النقدية تتطاير في الهواء، تخفق كالفراشات. لكن السيناتور أطفأ المروحة، فتوقفت عن السباحة في الهواء وأخذت تتهاوى وتتساقط فوق قطع الأثاث في الغرفة. كما ترين، قال مبتسماً، حتى الخراء يمكن أن يطير. جلست لورا فارينا على المقعد المدرسي. كانت بشرتها ناعمة ومشدودة، وبلون النفط الخام وكثافته، وكان شعرها مثل عرف فرس صغيرة، وكانت عيناها الواسعتان تمنحان بريقاً أكثر لمعاناً من وهج الضوء. وتبع السيناتور مسار نظرتها ووجد أخيراً الوردة التي تلوثت بنترات البوتاسيوم. قال: إنها وردة. نعم قالت وفي صوتها نبرة ارتباك. لقد شاهدتها عندما كنت في ريوهاتشا. جلس السيناتور على السرير العسكري، وراح يتحدث عن الورود فيما بدأ يفك أزرار قميصه. وعلى الجانب الذي كان يخيّل إليه أن قلبه موجود فيه داخل صدره، كان قد رُسم وشم في شكل قلب يخترقه سهم. ألقى القميص المبلل على الأرض وطلب من لورا فارينا أن تساعده في خلع حذائه الطويل. جثت أمام السرير. لم يبعد السيناتور عينيه عنها وهو يتمعن فيها بدقّة، وفيما كانت تفكّ رباط حذائه، كان يتساءل من منهما سيكون سيء الحظ من لقائهما هذا. قال: إنك مجرد طفلة. قالت: قد لا تصدق. سأبلغ التاسعة عشرة من عمري في شهر نيسان القادم. أبدى السيناتور مزيداً من الاهتمام. في أيّ يوم؟ قالت: في اليوم الحادي عشر. أحس السيناتور بأنه أصبح أفضل حالاً، ثم قال: ننتمي كلانا إلى برج الحمل، ثم أضاف مبتسماً: إنه برج العزلة. لم تكن لورا فارينا تبدي اهتماماً بما كان يقوله لأنها لم تكن تعرف ماذا تفعل بالحذاء. أما السيناتور، فلم يكن يعرف ماذا يفعل بلورا فارينا، لأنه لم يكن قد اعتاد مثل علاقات الحبّ المفاجئة هذه، كما أنه كان يعرف أن أصل هذه العلاقة يعود إلى الذل والمهانة. ولكي يتاح له قليل من الوقت للتفكير، أمسك لورا فارينا بإحكام بين ركبتيه، وضمها حول خصرها، واستلقى على ظهره فوق السرير. ثم أدرك أنها كانت عارية تحت ثيابها، بعد أن انبعثت من جسدها رائحة قوية من عطر حيوان الغابة، لكن قلبها كان واجفاً، وكسا جلدها عرق جليدي. لا أحد يحبّنا، قال متنهداً. حاولت لورا فارينا أن تقول شيئاً، لكن لم يكن لديها من الهواء سوى قدر يكفيها كي تتنفس. جعلها تستلقي بجانبه ليساعدها، وأطفأ الضوء وأصبحت الغرفة في ظلّ الوردة. استسلمت إلى رحمة قدرها. وراح السيناتور يداعبها ببطء، يسعى إليها بيده، يلمسها لمساً خفيفاً، لكنه صادف شيئاً حديدياً يعوق طريقه في البقعة التي كان يسعى إليها. ماذا تضعين هناك؟ قالت: قفل. لماذا بحق السماء! قال السيناتور غاضباً وسأل عن الشيء الذي يعرفه جيداً. أين المفتاح؟ تنفست لورا فارينا الصعداء. أجابت: إنه موجود عند أبي، وأضافت: لقد طلب مني أن أخبرك بأن ترسل أحداً من رجالك للحصول عليه، وأن ترسل معه وعداً خطياً بأنك ستحلّ مشكلته. ازداد السيناتور توتراً. ودمدم ساخطاً: يا له من ضفدع ابن زنى. ثم أغمض عينيه ليسترخي وألقى بنفسه في الظلام. تذكّر، تذكّر، سواء كنت أنت أو شخصاً آخر، فلن تمضي في هذه الحياة فترة طويلة وستموت حتى لن يبقى أحد يلهج باسمك. انتظر حتى تلاشت القشعريرة التي اعترته. سألها: قولي لي شيئاً واحداً: ماذا سمعت عني؟ هل تريد أن أقول الحق؟ الحق. قالت لورا فارينا: حسناً، إنهم يقولون إنك أسوأ من الآخرين لأنك مختلف. لم ينزعج السيناتور. لاذ بالصمت لفترة طويلة وهو مغمض العينين. وعندما فتحهما ثانية، بدا أنه أفاق من أكثر غرائزه المثيرة للخوف. ثم قرّر: أوه، بحقّ السماء، قولي لأبيك ابن العاهرة بأنني سأحلّ مشكلته. إذا أردت، يمكنني أن أذهب وأجلب المفتاح بنفسي، قالت لورا فارينا، لكن السيناتور أوقفها. قال: انسِ أمر المفتاح، ونامي قليلاً معي. جميل أن يكون بصحبة المرء أحد عندما يكون وحيداً تماماً. ثم وضعت رأسه على كتفها، وعيناها مثبتتان على الوردة. طوّق السيناتور خصرها بذراعيه، ودفن وجهه في إبطها الذي تفوح منه رائحة حيوان الغابة، واستسلم للرعب. وبعد ستة أشهر وأحد عشر يوماً مات وهو في تلك الوضعية ذاتها، مُحتقراً ومُهاناً بسبب الفضيحة التي شاعت بأنه كان مع لورا فارينا وكان يبكي بحرقة لأنه مات بدونها. يقول غابرييل غارسيا ماركيز في احدى رواياته ......ليس العمر ما يملكه المرء من سنوات, بل ما يملكه من (احاسيس).
"قصة بائعة الورد" تحسست مينا طريقها في عتمة الفجر, و لبست ثوبها القصير الأكمام الذي كانت قدعلقته في الليلة الماضية قرب الفراش, و جعلت تفتش في الصندوق الكبير عن الكمينالمنفصلين الذين يكسوان الذراعين امتثالاً للواجب قبل الذهاب إلى الكنيسة ... ثمبحثت عنهما فوق المسامير المعلقة على الحائط و خلف الأبواب, حريصة في كل ذلك ألاتحدث أقل جلبة لكيلا توقظ جدتهما العمياء, التي كانت نائمة في نفس الغرفة ... و لكنما أن اعتادت عيناها العتمة, حتى لاحظت أن جدتها قد نهضت من الفراش, فذهبت إليها فيالمطبخ لكي تسألها عن الكمين .. فقالت الجدة العمياء : - هما في الحمام .. إنني غسلتهما أمس بعض الظهر .. و فعلاً وجدتهما في المطبخ, معلقين من سلك ممدودبمشبكين .. و لكنهما كانا لا يزالان مبتلين .. فعادت مينا بهما إلى المطبخ وبسطتهما فوق أحجار الموقد .. و كانت الجدة العمياء تقلب القهوة و قد سمرت حدقتيعينيها الجامدتين على جدار الشرفة التي رصت فيها أصص الزهور مليئة بأعشاب طيبة .. قالت لها مينا : لا تأخذي أشيائي مرة ثانية .. لا يمكنك هذه الأيام أنتتأكدي من طلوع الشمس .. حركت المرأة العمياء وجهها نحو الصوت و قالت : - إنني نسيت أن هذا يوم الجمعة الأول من أسبوع الفصح, موعد القداس .. و بعد أنتأكدت الجدة بنفس قوي من فمها أن القهوة نضجت, رفعت الإناء عن الموقد, ثم قالت : - ضعي قطعة من الورق تحت الكمين, لأن أحجار الموقد متسخة . أجرت ميناأصابعها على أحجار الموقد .. فوجدها متسخة فعلاً, و لكن بطبقة من السناج المتحجرالذي لا يمكن أن يلوث الكمين إذا لم يحتكا بالأحجار .. على أنها قالت لجدتها : - إذا اتسختا فستكونين أنت المسؤولة !.. و ما لبثت الجدة العمياء أن صبتلنفسها قدحاً من القهوة, و قالت و هي تجذب مقعداً شطر الشرفة : - أنت غاضبة .. و من المحرم أن يذهب الانسان للقداس و هو غاضب ... و جلست لشرب القهوة عنكثب من الزهور في الحوش .. و عندما انبعث رنين دقات الناقوس الأولى إيذاناً بموعدالقداس رفعت مينا الكمين عن الموقد, فكانا لا يزالان مبتلين .. بيد أنها لبستهما .. فإن القس لا يرضى دخول أحد إلى الكنيسة بثوب عاري الذراعين .. ثم مسحت آثار الأحمرمن وجهها بمنشفة, و أخذت كتاب الصلاة و الشال من غرفتها, و خرجت للشارع ... و بعد ربع ساعة عادت أدراجها ... فقالت الجدة العمياء و هي جالسة فيمواجهة الزهور في الحوش : - سوف تصلين إلى هناك بعد القراءة الأولى .. أمامينا فقالت و هي تتجه إلى دورة المياه : - لن أتمكن من الذهاب إلى القداس اليوم .. الأكمام مبتلة, و الثوب كله " مكركش " .. و على الأثر شعرت بعينين فاهمتينتتبعانها .. و ما لبثت العجوز أن هتفت : يوم الجمعة الأول و لا تذهبين للقداس !.. و لما عادت مينا من دورة المياه صبت لنفسها قدحاً من القهوة و جلست فيالمدخل المطلي بالمصيص الأبيض عن قرب من العجوز العمياء .. بيد أنها لم تستطع أنتشرب القهوة .. و غمغمت في سخط كامن و هي تشعر بأنها توشك على الغرق في دموعهاالحبيسة : - أنت السبب !.. فهتفت العجوز العمياء : أنت تبكين !.. وأضافت و هي تمر قرب جدتها بعد أن وضعت قدح القهوة على الأرضية : يجب أن تذهبيللاعتراف لأنك جعلتني أضيع قداس يوم الجمعة الأول !.. " الجمال النائم والطائرة " كانت جميلة فاتنة ، رشيقة القوام ، وبشرتها ناعمة بلون الخبز ؛ عيناها مثل اللوز الأخضر و شعرها الأسود مسدول على كتفيها ؛ ذات هيئة أندونيسية ، كما قد تكون قادمة من بلاد الأنديز . كانت ترتدي لباسا ذا نسق خلاق ينم عن ذوق رفيع ؛ سترة مصنوعة من فراء اللينكس ، قميصا من الحرير الخالص بأزهار متناسقة ، سروالا ذا قماش طبيعي مع حذاء ذي حزام ضيق بلون نبات البوغنفيليا . "هذه أجمل امرأة على الإطلاق شاهدتها في حياتي "؛ قلت في نفسي عندما لمحتها عيناي وهي تمر أمامي بخطوات رهيفة حذرة كخطوات اللبؤة ، و أنا واقف في الصف أمام مكتب التسجيل لدفع الأمتعة بمطار شارل ديغول بباريس ، إستعدادا لرحلتي إلى نيويورك . لقد كان ظهورا خارقا لملاك فائق الجمال وللحظات فقط بحيث سرعان ما اختفى في زحمة بهو المطار كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا ، و كان الثلج يتساقط منذ الليلة المنقضية . كانت حركة المرور أبطأ من العادي في شوارع باريس ، و أكثر بطئا على الطرق السريعة أين اصطفت الشاحنات الكبيرة على جانب الطريق ، بينما تزاحمت السيارات و اختلط دخانها بالثلج ؛ أمّا بداخل بهو المطار فكان الجو لايزال ربيعيا . وقفت في الطابور أنتظر دوري ، خلف مسنّة هولندية أمضت ساعة كاملة في الحديث عن حقائبها الإحدى عشر ؛ و بدأت أشعر بقليل من الملل عندما وقعت عيناي على الجمال الفاتن الذي قطع عليّ أنفاسي وأنقذني من تلك الضوضاء ، و لم أدر بعدها كيف انتهى مسلسل المرأة الهولندية وحقائبها ؛ ولم أنزل من تحليقي في السحاب إلاّ على صوت مضيفة المكتب وهي تعاتبني عن شرود ذهني ؛ وبادرتها ملتمسا عذرها إن كانت تؤمن بالحب من أوّل نظرة . " طبعا ، أمّا بقية الأصناف فهي مستحيلة " ردّت عليّ دون أن تحوّل عينيها من شاشة الكمبيوتر ، ثمّ سألتني إن كنت أفضّل مقعدا في مساحة التدخين أو عكس ذلك . رددت عليها بلهجة تهجّم قصدت بها السيّدة الهولندية" لا يهم، ما دام أنّني لن أجاور الإحدى عشر حقيبة ." أبدت قبولها للتعليق ببسمة تجارية ، ثمّ قالت لي دون أن تفارق عيناها الشاشة لحظة : " اختر أحد الأرقام التالية ؛ ثلاثة ، أربعة أو سبعة " قلت : " أربعة " . ردّت ، و قد كشفت ابتسامتها عن نشوة وسعادة : " منذ خمسة عشر عاما و أنا أشغل هذا المكان ، ما رأيت أحدا قبلك اختار غير الرقم سبعة " . كتبت رقم المقعد على بطاقة الركوب ، ثم أرجعتها إليّ مع بقية الوثائق . نظرت إليّ لأوّل مرة بعينين بلون العنب أغدقتا عليّ عزاء ، و خفّفتا من حرقتي ريثما يظهر الجمال الفاتن من جديد . و في هذه اللحظة بالذات ، أخبرتني أنّ المطار قد أغلق للتو في وجه الملاحة ، و أنّ كلّ الرحلات قد أجّلت إلى مواعيد لاحقة . "إلى متى يدوم هذا التأجيل ؟ " "علم ذلك عند الله " ، ردّت عليّ بابتسامة ، وواصلت : " لقد أذيع هذا الصباح بأنّ هذه العاصفة هي الأعنف خلال العام كلّه " . لقد كانت على خطأ ؛ لقد كانت عاصفة القرن كلّه ؛ إلاّ أنّ الجو ظلّ ربيعيا في قاعة الإنتظار ذات الدرجة الأولى ، و يمكنك ملاحظة ورود حقيقية لازالت حيّة في إصّيصاتها ، وحتى الموسيقى المنبعثة تضفي سحرا وهدوءا تماما كما تصوّرها مبدعوها ؛ ثمّ فجأة قرّرت في نفسي أنّ هذه الظروف تمثّل ملجأ مناسبا للجمال الفاتن ، و كذلك رحت أبحث عنها في قاعات الإنتظار الأخرى تائها ولهانا و غير آبه بما قد أسبّبه من لفت أنظار الجمهور إليّ . كان معظم المنتظرين رجالا من الحياة الواقعية ، يقرؤون صحفا بالإنجليزية ، بينما كانت زوجاتهم يفكرن في أشخاص آخرين وهن ينظرن من خلال النوافذ إلى الطائرات الجامدة في الثلج وإلى المصانع الخامدة المتجمّدة وحقول " رواسي " الواسعة التي حطّمتها أسود جائعة . وما أن حلّ منتصف النهار حتى شغلت كل أماكن الجلوس وارتفعت درجة حرارة القاعة ، و باتت لا تحتمل إلى درجة أنّني غادرت لآخذ جرعة هواء منعشـة . وبالخارج شاهدت منظرا غير عادي ؛ لقد تجمهر كل أصناف البشر داخل قاعات الإنتظار ، و منهم من قبع في الأروقة وعلى المدرّجات منقوصة الهواء ، ومنهم من ألقى بنفسه على الأرض رفقة الحيوانات الأليفة والأمتعة والأبناء . وانقطعت الإتصالات مع المدينة وأضحى القصر البلاستيكي الشفاف أشبه بكبسولة فضائية عملاقة تركت قابعة على الأرض في وجه العاصفة . ولم يفارق ذهني التفكير في أن الجمال الفاتن يقبع في مكان ما وسط هذا الحشد المدجّن ( المروّض ) ، و ألهمني ذلك شجاعة و صبرا لأظلّ منتظرا ظهوره . ما أن حلّ وقت الغذاء حتى أدركنا أنّ حالنا أضحى شبيها بمن تحطّمت سفينتهم في البحر ، وأضحت الطوابير غير منتهيّة خارج مطاعم المطار السبعة ، و خارج المقاهي و الحانات ؛ وفي أقلّ من ثلاث ساعات أوصدت أبوابها لأنّه لم يبق بها شيء للإستهلاك . و حتى الأطفال ، الذين ظهروا في لحظة ما و كأنّهم كل أطفال العالم قد اجتمعوا هنا ، شرعوا في البكاء دفعة واحدة . ثمّ ما لبثت أن انبعثت رائحة القطيع من الجمهور الغفير ؛ لقد كان نداء الفطرة . وفي تلك الزحمة ، لم أستطع الحصول سوى على كأسين من مثلّجات الفانيلا من محلّ بيع للأطفال . لقد كان الناذلون يضعون الكراسي على الطاولات عندما غادر أصحاب المحل ، في حين كنت أتناول وجبتي ببطء عند الكونتوار وأنا أتأمّل نفسي في المرآة المقابلة مع آخر كأس وآخر ملعقة صغيرة ، ولكن دائم التفكير في الجمال الفاتن . في الثامنة ليلاّ ، غادرت رحلة نيويورك المبرمجة أصلاّ على الساعة الحادية عشر صباحاّ . وما أن امتطيت الطائرة حتى كان مسافرو الدرجة الأولى قد أخذوا أماكنهم ؛ واصطحبتني المضيفة إلى مقعدي ؛ وفجأة كاد قلبي يتوقّف عن النبض . يا لغريب الصدف ! رأيت الجمال الفاتن جالسا على المقعد المجاور أمام النافذة . لقد كانت مستغرقة في ترتيب مجالها الحيوي بأستاذية المسافر الخبير ؛ و قلت في نفسي : " لو قدّر لي أن أكتب هذا ، فلن يصدّقني أحد ". ثمّ نجحت في إلقاء تحية متردّدة بعد تلعثم لم تسمعها و لم تنتبه لها . لقد شغلت مقعدها كما لو كانت تنوي أن تعمّر هنالك لأعوام ؛ وضعت كلّ شيء في مكانه المناسب و في متناول يدها حتى أنّ محيط مقعدها أصبح مصفّفا كالبيت المثالي . و في أثناء ذلك ، أحضر لنا المضيف شامبانيا الضيافة . أخذت كأسا لأناولها إياه ، لكنّني تمهلت قليلا و فكّرت في ذلك ثمّ عدلت عن رأيي في الوقت المناسب . لم تكن تريد سوى كأس ماء ، ثمّ أوعزت إلى المضيف ، أوّل الأمر بلغة فرنسية غير مفهومة ثمّ بلغة إنجليزية لم تكن أوضح من سابقتها إلاّ بقليل، بأن لا يوقظها خلال الرحلة، و لأيّ سبب كان. لقد كان يشوب صوتها الدافىء بعض الحزن الشرقي . وعندما أحضر المضيف الماء ، كانت تضع في حجرها محفظة تجميل ذات زوايا نحاسيّة ؛ أخذت قرصين ذهبيين من علبة تحتوي على أقراص أخرى ذات ألوان مختلفة . كانت تفعل كلّ شيء بطريقة منهجيّة و بثقة كبيرة وكأن لا شيء غير متوقع قد حدث لها منذ ولادتها . وما إن انتهت حتى أسدلت الستار على النافذة ، سحبت مقعدها إلى الخلف في اتجاه عمودي ومدّدته إلى أقصى ما يمكن ، غطّت جسمها ببطانية إلى الخصر دون أن تنزع حذاءها ، وضعت قناع النوم على رأسها ، استدارت وولّتني ظهرها ثمّ سرعان ما غرقت في نوم عميق . لم تصدر عنها تنهيدة واحدة ، ولا أدنى حركة طيلة الساعات الثمانية الأبدية ودقائقها الإثني عشر الإضافية ، زمن الرحلة إلى نيويورك . لقد كانت الرحلة خارقة واستثنائية بالنسبة إليّ . لقد آمنت دائما ولازلت أؤمن بأن لا شيء أجمل في الوجود من امرأة جميلة ؛ وكان يستحيل عليّ أن أهرب للحظة واحدة من أسر ذلك المخلوق الفاتن الذي ينام بجانبي ، والذي كثيرا ما تردّده الروايات والقصص . ما إن أقلعت الطائرة حتى اختفى المضيف وخلفته مضيفة شابة ، حاولت أن توقظ الملاك النائم لتناولها محفظة النظافة وسماعات الموسيقى . ردّدت عليها التعليمات التي أملاها الملاك على زميلها ، غير أنها أصرّت على السماع منه شخصيا ممّا اضطر المضيف أن يؤكد أوامرها مع أنّه ألقى ببعض اللوم عليّ لأنّ الملاك لم يعلّق إشارة " أرجو عدم الإزعاج " حول رقبتـه . تناولت وجبة العشاء بمفردي ، محدّثا نفسي في سكون بكلّ ما كنت سأقوله لها لو شاركتني عشائي . كان نومها هادئا منتظما إلى درجة أنّ نفسي حدّثتني في إحراج بأنّ الأقراص المنوّمة التي تناولتها لم تكن للنوم بل كانت للموت . و مع كلّ شراب كنت أرفع كأسي لأشرب نخب صحّتها . خفتت الأضواء ، و كان يعرض على الشاشة فيلم لم يكن لينتبـه إليه أحد ، و كنّا ولا أحد معنا في ظلمة هذا العالم . لقد ولّت عاصفة القرن وكان ليل الأطلسي صافيا ورهيبا ، وكانت الطائرة تبدو جاثمة غير متحرّكة بين النجوم . ثمّ رحت أتأمّلها بتمعّن لعدّة ساعات ، وأدقّق في جسمها شبرا بشبر، ولم أكن ألاحظ أية إشارة تدلّ على الحياة سوى ظلال الأحلام التي كانت تعبر من خلال جبهتها عبور السحب فوق الماء . كانت تضع حول رقبتها سلسلة رقيقة تكاد لا ترى نظرا للون بشرتها الذهبي . لم تكن أذناها المكتملتان مثقوبتين ، وأظافرها الوردية تعكس صحتها الجيدة . وكان يزيّن يدها اليسرى خاتم بسيط ؛ ولأنّها لا تبدو أكبر من العشرين عاما ، كان عزائي أنّه لا يمثّل خاتم زفاف بل لا يعدو أن يكون علامة خطبة عابرة أو ارتباط آني. ورحت على وقع تأثير الشامبانيا أردّد في سرّي روائع جيراردو دييغو حول المرأة والحب والجمال . خفّضت ظهر مقعدي ليصل إلى نفس مستوى مقعدها ، وألقيت بجسمي عليه ، فكنّا أقرب إلى بعضنا البعض من لو كنّا ممدّدين على سرير الزوجية . كانت بشرتها تحرّر عبيرا منعشا ، محاكيا صورتها ، لم يكن سوى رائحة جمالها . لقد كان شيئا مدهشا حقا . لقد قرأت في الربيع الماضي قصّة جميلة للكاتب ياسوناري كاواباتا عن أثرياء كيوتو القدامى الذين كانوا يدفعون مبالغ ضخمة من المال مقابل قضاء ليلة في التفرج على أجمل فتيات المدينة وهنّ مخدرات و مستلقيات عرايا على نفس السرير ، يتعذبون من حرقة الشغف والحب ولا يستطيعون ايقاظهن أو لمسهن ، بل ولا يجرؤون حتى على المحاولة لأنّ مبعث لذّتهم و تلذذهم هو رؤية الفتيات العاريات وهنّ نائمات . في تلك الليلة ، وأنا أراقب الجمال النائم ، لم أصل فقط إلى إدراك معنى التألم الناجم عن الضعف النفسي والحسّي ، بل مارسته وجرّبته وتذوّقت مرارته إلى أبعد الحدود ؛ وقلت في نفسي وقد ازدادت آلامي واتقدت أحاسيسي بفعل الشمبانيا : " ما فكّرت يوما في أن أصبح من قدماء اليابانيين عند هذا العمر المتأخّر ". أعتقد أنّني نمت لعدة ساعات تحت تأثير الشامبانيا وتفجيرات الفيلم الصامتة ؛ وعندما استيقضت كانت رأسي تؤلمني بشدّة . ذهبت إلى الحمّام ، وألفيت المرأة المسنّة مستلقيّة على مقعدها تماما كالجثّة الهامدة في ساحة المعركة . كانت نظاراتها متساقطة على الأرض في وسط الرواق ، و للحظة ، إنتابني شعور عدواني ممتع في عدم التقاطها . ما إن تخلّصت من الشمبانيا الزائد في دمي ، حتى رحت أتأمّل نفسي في المرآة ، فوجدتني قبيح المنظر وتعجّبت كيف يحطّم الحب صاحبه إلى هذا الحد . فقدت الطائرة علوّها من دون سابق إنذار ، ثمّ عادت واستوت وواصلت تسابق الأجواء بسرعة كاملة إلى الأمام . ظهرت فجأة إشارة " ألتزموا أماكنكم " ، فأسرعت إلى مقعدي على أمل أن أجد الجمال النائم قد استيقظ بفعل الإضطراب ، لعلّه يلجأ إلى حضني ليحتمي به ويدفن فيه خوفه وذعره . وخلال حركتي الخاطفة، كدت أن أدوس على نظارات المرأة الهولندية وكنت سأسعد لو أنّني فعلت ؛ غير أنّتي غيرت موضع قدمي في آخر لحظة ، ثمّ التقطتها ووضعتها في حجرها شكرا لها وامتنانا لعدم اختيارها للمقعد ذي الرقم أربعة. كان نوم الملاك الجميل أعمق من أن تعكره حركة الطائرة . وعندما استوت الطائرة في مسارها من جديد ، كان عليّ أن أقاوم رغبتي الجامحة في ايقاظها بافتعال عذر ما ، لأنّ كل ما كنت أرغب فيه خلال الساعة الأخيرة من الرحلة هو فقط رؤيتها يقظة ، حتى ولو كانت غاضبة ، لأستردّ حريّتي المسلوبة وربما لأستعيد شبابي كذلك ؛ غير أنّني افتقدت الشجاعة الكافية لذلك ، و قلت لنفسي باحتقار شديد : " إذهب إلى الجحيم ! لماذا لم أولد ثورا ؟ " استفاقت من نومها ، ومن تلقاء نفسها ، عند اللحظة التي اشتعلت فيها أضواء الهبوط . كانت جميلة ناعمة و مرتاحة كما لو أنها نامت في حديقة للورود ؛ وحينها أدركت أنّ الأشخاص الذين يتجاورون في مقاعد الطائرة لا يبادرون بتحية الصباح تماما كما هو شأن الأزواج القدامى ؛ و كذلك هي لم تفعل . خلعت قناعها ، فتحت عيناها المشعّتين ، أرجعت ظهر المقعد إلى وضعيته العاديّة ، وضعت البطانية جانبا ، حرّكت شعرها ليعود إلى نسقه بفعل وزنه ، وضعت محفظة التجميل على ركبتيها ، عالجت وجهها ببعض المساحيق غير الضرورية لتستهلك وقتا كافيا يعفيها من النظر إليّ ريثما تفتح أبواب الطائرة ، ثمّ لبست سترتها اللينكسيـة . تخطّتنـي مع عبارة عفو تقليدية بلغة اسبانية لاتينوأمريكية نقيّة ، وغادرت من غير كلمة وداع ، أو على الأقل كلمة شكر على ما بذلته من أجل أن أجعل ليلتنا سعيدة ، ثمّ سرعان ما اختفت في شمس يومنا الجديد في غابة نيويورك الأمازونية .
"كتبه ورواياته باللغة العربية والانجليزية للتحميل " كل هذه المجموعة الدسمة من رواياته وقصصه ستجدونها على هذا الرابط اثنتا عشر حكاية تائهة - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf الأم الكبيرة - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf الجنرال في المتاهة - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf الحب في زمن الكوليرا - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf الحب_وشياطين_اخرى_..pdf القصص_القصيرة_الكاملة-ماركيز.pdf ايرينديرا البريئة - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf خبر اختطاف غابرييل غارسيا ماركيز.pdf خريف البطريرك - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf خطبة لازعة ضد رجل جالس - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf رحلة موفقة سيدي الرئيس.pdf ساعة نحس ـ ماركيز.pdf سرد احداث موت معلن - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf سيرة حياة ماركيز.pdf عشت لأروي.pdf غريق على أرض صلبة - غابرييل غارسيا ماكيز.pdf قصة موت معلن - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf قصص ضائعة - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf قصص من أمريكا اللاتينية - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf كيف تكتب الرواية - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf لا يوجد لصوص في هذه المدينة - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf ليالي الحب والرعب - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf ليلة_الكروان-ماركيز.pdf مئة عام من العزلة - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf مئة_عام_من_العزلة.pdf مختارات قصصية - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf نزوة القص المباركة - غابرييل غارسيا ماركيز.pdf http://www.4shared.com/folder/blcaUICQ/___online.html
وعلى هذا الرابط أيضا : رابط يحوي جميع اعماله http://search.4shared.com/q/ACA/1/%D8%BA%D8%A7%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%8A%D9%84+%D8%BA%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A%D8%A7+%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%B2
خريف البطريرك..ماركيز ج1. http://www.4shared.com/file/28167938/d3dc35ad/__1.html?dirPwdVerified=9635ac8b خريف البطريرك (ج2) ـ ماركيز. http://www.4shared.com/file/28110666/6db84f7b/___2___.html?dirPwdVerified=9635ac8b خريف البطريرك (ج3) ـ ماركيز. http://www.4shared.com/file/28111720/59c92218/___3___.html?dirPwdVerified=9635ac8b
مائة عام من العزلة1 ـ ماركيز. http://www.4shared.com/file/28169277/cb8575ea/___1__.html?dirPwdVerified=9635ac8b مائة عام من العزلة 2 ماركيز. http://www.4shared.com/file/28169977/c7d09a0b/____2_.html?dirPwdVerified=9635ac8b مائة عام من العزلة3 ـ ماركيز. http://www.4shared.com/file/28170669/7247a74a/___3__.html?dirPwdVerified=9635ac8b عشت لأروي. http://www.4shared.com/file/28172688/31ca72d9/3ichto_orwi.html?dirPwdVerified=9635ac8b الأم الكبيرة..ماركيز. http://www.4shared.com/file/28180325/9b067b5f/__online.html?dirPwdVerified=9635ac8b في ساعة نحس..ماركيز. http://www.4shared.com/file/28182605/5f213bd/___online.html?dirPwdVerified=9635ac8b قصة موت معلن -غابرييل غارسيا ماركيز. http://www.4shared.com/file/28181291/c6e16bdf/kisato_mawt.html?dirPwdVerified=9635ac8b ليس لدى الكولونيل من يكاتبه. http://www.4shared.com/file/21266638/73302288/____.html قصص مختارة من ماركيز. http://www.4shared.com/file/21266637/e38f3f19/___.html مختارات قصصية..ماركيز. http://www.4shared.com/file/21427825/856160c6/__online.html ماركيز..الجنرال في المتاهة. http://www.4shared.com/file/39352082/88471e34/___online.html?dirPwdVerified=87e0a05 ماركيز..الحب في زمن الكوليرا..كاملة. http://www.4shared.com/file/38793603/73be1bde/___.html?dirPwdVerified=87e0a05 ماركيز..غريق على أرض صلبه. http://www.4shared.com/file/38872740/79c38e86/___.html?dirPwdVerified=87e0a05 ماركيز..كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى. http://www.4shared.com/file/38822645/c08b9f4e/____.html?dirPwdVerified=87e0a05 ماركيز..لا يوجد لصوص فى هذه المدينة. http://www.4shared.com/file/38823163/a62d2919/_____.html?dirPwdVerified=87e0a05 ماركيز..مائة عام من العزلة. http://www.4shared.com/file/38882920/a75793db/___.html?dirPwdVerified=87e0a05 ماركيز..مسرحية خطبة لاذعة ضد رجل جالس. http://www.4shared.com/file/38823366/d5c309f8/_____.html?dirPwdVerified=87e0a05 جابرييل مارسيل..من الرأى الى الايمان. http://www.4shared.com/file/38823960/3137291b/___.html?dirPwdVerified=87e0a05 http://ahmedkelhy75.jeeran.com/aalmamy/archive/2010/3/1029414.html http://nj180degree.com/bookstore/litg/
https://spreadsheets.google.com/pub?key=pGrelYe3XqV0MsEZQ6HFqMQ&gid=0 http://ahmedkelhy75.jeeran.com/aalmamy/archive/2010/3/1029414.html
http://nj180degree.com/bookstore/litg/
https://spreadsheets.google.com/pub?key=pGrelYe3XqV0MsEZQ6HFqMQ&gid=0
Gabriel García Márquez http://w11.zetaboards.com/thefictionalwoods/forum/49891/
القصص القصيره الكامله لماركيز http://www.mediafire.com/?xanzfozjpq2t6jm
جبريال جارسيا ماركيز مائة عام من العزله http://www.4shared.com/file/38882920/a75793db/___.html?s=1
.الحب في زمن الكوليرا. http://www.4shared.com/file/38793603/73be1bde/___.html?s=1
عشت لأروى http://www.4shared.com/file/39321554/72d47459/__online.html?s=1
عدد كبير جدا من اعماله http://www.4shared.com/folder/e6KyrEfJ/___online.html
قصص ضائعة - غابرييل غارسيا ماركيز http://www.4shared.com/office/pox57mtm/__-___.html
فى ساعة نحس http://www.4shared.com/file/38875298/59aa82ab/___online.html?s=1
قصة موت معلن http://www.4shared.com/file/55049138/e79efb3a/___online.html?s=1
خريف البطريرك_الجزء الأول http://www.4shared.com/file/38984345/62c7c97d/___online.html?s=1 خريف البطريرك_الجزء الثانى http://www.4shared.com/file/38986609/a3df4a32/___online.html?s=1
خريف البطريرك_الجزء الثالث http://www.4shared.com/file/38985408/c5e90124/___online.html?s=1
الأم الكبيرة http://www.4shared.com/file/39350357/e5cce224/__online.html?s=1
قصص ضائعة http://www.4shared.com/file/65707512/b4a13ed2/___.html?s=1
ايرينديرا البريئة http://www.4shared.com/file/55046261/b91019d4/__online.html?s=1
الحب وشياطين أخرى http://www.4shared.com/file/55044636/f7031865/___.html?s=1
الجنرال فى المتاهة http://www.4shared.com/file/39352082/88471e34/___online.html?s=1
مختارات قصصية http://www.4shared.com/file/55050780/4e54b04b/__online.html?s=1
اثنتا عشرة حكاية تائهة http://www.4shared.com/file/55043281/104dc468/___.html?s=1
لا يوجد لصوص فى هذه المدينة http://www.4shared.com/file/38823163/a62d2919/_____.html?s=1
الحب في زمن الكوليرا للتحميل: http://www.4shared.com/file/28935460/26121f1f/___.html
"عشت لأروي". http://www.adrive.com/public/cb6e177961362de11212b57e8885f73a164d64e5df46cdffefe4cbfcae181730.html
سيرة الكاتب الذاتية http://www.biblio.com/gabriel-gabriel-garcia~191090~author
موقعه الشخصي http://www.themodernword.com/gabo/gabo_biography.html
Gabriel García Márquez (1928- ) http://www.levity.com/corduroy/marquez.htm
Gabriel García Márquez s writing career ended by dementia http://www.guardian.co.uk/books/2012/jul/07/gabriel-garcia-marquez-career-dementia
غريق على أرض صلبة http://www.4shared.com/file/38872740/79c38e86/___.html?s=1
كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى http://www.4shared.com/file/38822645/c08b9f4e/____.html?s=1
مسرحية خطبة لاذعة ضد رجل جالس http://www.4shared.com/file/38823366/d5c309f8/_____.html?s=1
ذاكرة غانياتى الحزينات http://www.4shared.com/file/55028647/ad3f42c/___online.html?s=1
بائعة الورد http://www.4shared.com/file/55028518/e55da3a1/__online.html?s=1
ليس لدى الكولونيل من يكاتبه http://www.4shared.com/file/55028832/3f66bb6e/____.html?s=1 أشباح أغسطس http://www.4shared.com/file/55028337/4359a000/__online.html?s=1
الموت أقوى من الحب http://www.4shared.com/file/55028407/6d3be546/___.html?s=1
عينا كلب أزرق http://www.4shared.com/file/55028702/1f17af90/___online.html?s=1
ثمن عشرين قتيلاً http://www.4shared.com/file/55028531/aeb77987/___online.html?s=1
رجل عجوز بجناحين كبيرين http://www.4shared.com/file/55028666/4fe2a638/___.html?s=1
الجمال النائم والطائرة http://www.4shared.com/file/55028355/fb0d66aa/___online.html?s=1
أجمل غريق فى العالم http://www.4shared.com/file/55028260/a188abd1/___.html?s=1
عذراً على التأخير http://www.4shared.com/file/55028688/36d9a6b1/___online.html?s=1
فى يوم من الأيام http://www.4shared.com/file/55028711/9f05cf6b/___.html?s=1
Gabriel García Márquez- Nobel Prize in Literature in 1982 http://www.youtube.com/watch?v=HMZe1bYKrnw
غابرييل غارسيا ماركيز ..هكذا يودع العظماء الحياة - YouTube http://www.youtube.com/watch?v=4jN9ADxaToc
Gabriel García Márquez- Nobel Prize in Literature in 1982 http://www.youtube.com/watch?v=HMZe1bYKrnw&feature=related
خطاب الوداع - جابرييل جارسيا ماركيز http://www.youtube.com/watch?v=6JF5gqh1G8Q&feature=related
غابرييل غارسيا ماركيز...في اخر رساله له للعالم http://www.youtube.com/watch?v=S_74Bcf8B5M&feature=related
A Farewell Letter by Gabriel Garcia Marquez http://www.youtube.com/watch?v=N9vlkQO468w
ايرينديرا البريئة - رواية بقلم الروائي غابرييل غارسيا ماركيز
http://www.4shared.com/office/Q_heivNp/__-______.html
جابريل جارسيا ماركيز..ليلة الكروان.وقصص اخرى http://arab-uprising.blogspot.com/2012/06/blog-post_636.html
Gabriel García Márquez Biography http://classiclit.about.com/od/marquezgabrielgarcia/p/Gabriel-Garcia-Marquez-Biography.htm
García Márquez, Gabriel http://www.infoplease.com/ce6/people/A0820181.html
غابرييل في جميع تفاصيله http://www.answers.com/topic/gabriel-garc-a-m-rquez
More About Gabriel Garcia Marquez Read more: http://www.oprah.com/topics/entertainment/gabriel-garcia-marquez.htm#ixzz25hju0ELO
________ الأدب العالمي " المكتبة الإلكترونية " المصادر سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز: جيرالد مارتن: تقاعد جابرييل جارسيا ماركيز .. مارك لاوسون مئة عام من العزلة بقلم: د. علي حافظ سيرة ماركيز الروائية ومائة عام من السعادة: السيرة الذاتية تحكي (أنت ما كنتَه) والرواية تقول: (أنت ما تتخيّل) بقلم : خليل قنديل الأحد - 3 ديسمبر 2006م - العدد / 14041 /- جريدة الرياض السعودية غابرييل غارسيا ماركيز أجمل غريق في العالم ترجمة الدكتور محمد قصيبات غابرييل غارثيا ماركيز : ترجمة: عبدالسلام باشا الممارسة النقدية والنقد الذاتي لدى غابرييل غارسيا ماركيز د. ماجدة حمود
Gabriel García Márquez: a Life http://www.goodreads.com/book/show/5741575-gabriel-garc-a-m-rquez
الشروق فى عددها الصادر الاثنين 21 مايو 2012 غابرييل غارسيا ماركيز من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة غابرييل غارسيا ماركيز «عشت لأروي» ترجمة صالح علماني، ج1، دار البلد دمشق، ط1، 2003. لا وجود لمسن ينسى أين خبأ كنزه - الكاتب جابرييل جارسيا ماركيز - د.ليلى إبراهيم شلبى شيماء أحمد عيسى - ديوان العرب بريهان قمق - مركز الأخبار ( أمان ) 17/9/2003 - بيان ماركيز يعيد وجه الثقافة الغائب الشروق ويكيبيديا، الموسوعة الحرة ( ديوان العرب ) في 8 آذار (مارس) 2006 رياض أبو عواد 20/3/2002 اسلام أون لاين أخبار الأدب - الأحد 14 من سبتمبر 2003
#فاطمة_الفلاحي (هاشتاغ)
Fatima_Alfalahi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترنيمة من على شفة الفجر
-
كفانا نهز أرداف الكلمات
-
أخاف أن يدركني الهوى
-
تنهيدات الغربة ... وانتظار الحلم
-
النبي آرميا مع أحزانه
-
إصدار المجموعة- ترانيم تقترف الوَلَه-
-
بسملة عصية على النسيان
-
فوضى قلم وَ رسائل شوق حبيسة منفى
-
انشوطة الغياب
-
حوقلة
-
ماعاد لي زمن
-
أَجج صمتك المبطن
-
خيانة المساءات
-
تسول في زمن الحب
-
كذبة
-
-أولئك الذين يعانقون الوهم باسم الدين، فيقتُلون ويُقتَلون- .
...
-
إصدار المجموعة الشعرية -التيه بين تنهيدتين -
-
كروان
-
كنت أغنيتي
-
لون روحك
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|