روبير البشعلاني
الحوار المتمدن-العدد: 3860 - 2012 / 9 / 24 - 16:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نادرة هي الدراسات التي تقارب مفهوم الطائفة في بلادنا بشكل مباشر ظنا ربما من الباحثين انها ظاهرة ثانوية او بقايا وعي قديم او بقايا انماط متهالكة لن تصمد بوجه الراسمالية , او لانها بحسب البعض الاخر استثناءً يقتصر بالكاد على لبنان بسبب تركيبته "الخاصة" المتنوعة . اما المقاربات القليلة فاكتفت بتناول هذه الظاهرة على نحو جانبي او من خلال آثارها على البنيان السياسي او الاجتماعي , الطائفية.
سيطرة المنظار المركزي- الأوروبي بشقيه الليبرالي والاشتراكي جعلت الباحث يرى" ما يريد" لا ما يشاهد على ارض الواقع .فكل ما لا يتناسب مع جهازه النظري اكتفى بشتمه ولعنه . فالطائفة والطائفية مثلا صارتا مرضا ولعنة وسرطانا , وبالإجمال آفة أخلاقية يستحسن تجنبها .منهم من رأى اليها كمقولة فلسفية فكرية تتعلق بالدين او الدين نفسه ومنهم من رأى اليها كطبقة-طائفة او كطبقة ذات وجه طائفي وهناك من اعتبرها جماعة ثقافية –دينية او حضارة خاصة , اما الرؤية الغالبة فكانت سياسوية , الاسلام السياسي , المارونية السياسية الخ..
بقيت الطائفية في وعينا, او لاوعينا, نظاما عفنا يقتصر على لبنان الاستثناء ,الى ان انفجرت المجتمعات العربية مؤخرا كاشفة عن عوارض تشبه كنقطتي ماء ما نعرفه عن لبنان. فبعد "اطياف" العراق اكتشفنا قبائل ليبيا وبربر الجزائر ,وامازيغ المغرب وآل الاحمر في اليمن وجهات تونس واقباط وسنة مصر وعلوية سوريا وسنتها وهلمجرا. فاجأتنا الانتفاضات العربية بالكشف عن اجتماع لا نعرف عنه الا القليل. الاستثناء صار القاعدة وبان عزوف المثقفين عن مقاربة ملموسة لمجتمعنا نحن وعن تحديد تركيبه الاجتماعي نأيا بنا عن فهم مجتمعاتنا وعن إنتاج معرفة حقيقية بها.
في هذا السياق وفي اطار الاسهام بسد هذا النقص قدمتٌ فرضية في مقالة سابقة تعتبر الطائفة قرابة دينية تتميز عن القرابات الاخرى التي عرفها تاريخ مجتمعاتنا باستعارة الدين او المذهب من الدين كذريعة قرابة بدلا من قرابة الدم المحدودة الحجم بالضرورة. الطائفة , باعتقادي, هي نوع من استمرار الاجتماع القرابي الرحمي وارقاها يناسب ملكا اوسع من السابق , كما انه يناسب نمط الاقتصاد الراسمالي الشكلي –الريع- الذي هيمن الغرب بواسطته على منطقتنا.
وبما اننا نعرف ان القرابة الرحمية متحد اجتماعي كلي اي انه كيان يهيمن على مستويات الاجتماع كافة من سياسية واقتصادية وايديولوجية فإن الطائفة ,كقرابة, قد ورثت هذه الادوار كلها ايضا .فهي تتعاطى السياسة وتدير الاقتصاد مباشرة وتقدم عقيدتها وتفسيرها الديني للدين . لكن طريقة اشتغال الطائفة اعقد من القرابة الرحمية ولذلك فهي تلجأ الى اواليات وسيطة تبدو لمن يدرسها من خارج سياقها وكأنها عمليات فساد او رشوة .
من اهم هذه الاواليات تقنية "الواسطة " التي نادرا ما توفر جانبا من جوانب حياتنا اليومية. وبالرغم من ذلك نادرا ما نراها
تنعكس في دراساتنا الاجتماعية او السياسية الا تحت خانة الفساد والعفن السلطوي. ذلك ان فهمنا للواسطة غلب عليه فهم الغرب لها كجزء من تعطل النسق لا من صحته . فالواسطة, في الغرب استثناء يشير, بالاضافة لانتهاكه للقانون, الى عطل في نمط اشتغال الاقتصاد والإدارة ينسب إلى الفساد لأنه يسد إمكان وصول الكفاءات الضرورية لانجاز العمل المطلوب في المنشأة الاقتصادية.
ونظرا الى شروط الانتاج المعقدة تقنيا والحاجة الى ضغط الاكلاف وتنزيل الاسعار للحصول على رقع اكبر من السوق وعلى اعلى الهوامش الربحية الممكنة في مواجهة المنافسة المتزايدة باستمرار فإن الواسطة قد تكون عقبة في توظيف الأعلى كفاءة, ومرضا يضرب الانتاجية والتنافسية الاقتصادية للمنشاة. العقلانية الاقتصادية حاجة موضوعية تفرض التنظيم والترشيد والبراعة والاكتشاف من هنا : السيرة الذاتية وامتحانات الدخول والمقابلات المتكررة واقسام الموارد البشرية .
اما في بلادنا , بلاد القرابات الدينية والرحمية ,من عشائر وقبائل وطوائف, حيث تتميز النشاطات الاقتصادية بقلة المكننة وببساطة العمليات والمهمات المطلوبة نسبيا ,وبغياب المنافسة الفعلية وسيطرة الاحتكار القرابي ,ونظرا لهيمنة الرأسمال الشكلي أو الريعي, تلعب الواسطة دورا طاغيا ومميزا سواء في الميدان الاقتصادي أم في الميدان الاجتماعي .
ففي المجال الاقتصادي تمثل الواسطة قناة توزيع الريع الإجمالي الذي تحصل عليه القرابة ككل (الحجم) ثم توزيع هذه الحصة الاجمالية على "عظام رقبتها", وفق توزيع بالطبع غير متكافئ. وفي المجال الاجتماعي تحتل الواسطة مكانة أساسية في تصليب القرابة وإعادة إنتاجها. فالظاهرة عندنا ليست عطلا استثنائيا ولا مسألة عرضية أو مؤقتة بل هي في صلب نسق قرابي , ديني أو رحمي, لا مكان فيه للصدفة أو الفساد أو الفوضى.
الواسطة هي واسطة إعادة إنتاج اللحمة القرابية بواسطة الغلة , وهي تقنية عالية المهارة والإتقان. فالناس لا يمكنها الاحتفاظ طويلا بقرابتها وانتمائها وهويتها فقط على قاعدة صلة الدم أو الرحم أو المذهب والدين –قرابة روحية- وبدون نسق يؤمن شروط العيش المادي والاقتصادي لأفرادها. كما انه لا حياة مادية ممكنة للفرد إذا شذ أو خرج على طاعة النسق هذا . الانتماء المحدِد إذا ليس ثقافيا ولا دينيا ولا "وعيا ناقصا" كما يظن الكثير من البحاثة . الانتماء مسألة حياة أو موت بالنسبة للفرد القرابي, ولذا تتفانى الناس بالدفاع عنه .
الحصول على عمل أو خدمة أو إجراء معاملة إدارية أو قانونية ليسا مسالة خضوع اخلاقي للفوضى او للفساد بل للنسق المنظم الذي يمر حكما بقناة "خارجية" تجيز وتحلل, أو لا, مشروعية الطلب, بناءً عل معايير قرابية صرفة . هذه القناة هي الواسطة وهي على أي حال لا حاجة لها من الناحية الاقتصادية والعقلانية الرأسمالية -كلفة إضافية غير مبررة. اما مبررها الوحيد فموجود خارج عقلانية الاقتصاد التنافسي وقانونية الإدارة والدولة .فالواسطة حاجة الاجتماع القرابي لإعادة إنتاج لحمته وري شرايينه عبر إعادة توزيع الغلة الريعية . الريع وحده يمكنه ان يتحمل هذه الكلفة الاضافية اما الربح فلا .
الواسطة عندنا إذا علاقة توزيع ريعي بين"قريب وقريب " , بين قريب محتاج وقريب نافذ يحصل بموجبها طالب العمل أو الخدمة على دعم من خارج علاقات العمل والاقتصاد للمنشأة الاقتصادية . الداعم لا يمثل المنشأة الاقتصادية بل مظلتها القانونية والاقتصادية, غطاؤها السياسي والقانوني من ضمن علاقة معقدة ومركبة خلافا لما يظهر للوهلة الأولى .أي أن طالب العمل أو الخدمة لا يستطيع أن يدخل في علاقة مباشرة مع "النافذ" الأخير بل يمر عبر قنوات قرابية هرمية متعددة قبل الوصول إلىى النافذ الأخير.
يتيح هذا المرور المتنوع الهرمي ترسيخ الأدوار الاجتماعية لجميع القنوات والإطارات والشخصيات و"المفاتيح " البشرية, الفعاليات, التي تمثل هيكلية القرابة وسلطانها . كما انه يتيح ترسيخ "القاعدة" أن لا مجال للعيش بدون احترامها والرضوخ لها . فبدونها لا عمل ممكن غالبا ولا زيادة أجر ولا ترقي , ولا رخصة لإعمار المنزل , أو لإعماره بلا رخصة, أو لا تسجيل للأطفال في المدرسة أو لا رخصة سوق ولا إخراج موقوف من السجن ولا فتح محل أو شركة أو أي نشاط اقتصادي آخر. فالشهادة الجامعية مثلا ليست بذاتها مفتاح الحصول على عمل بل "ختم" القرابي -الأمي أحيانا - يمنحها القيمة الفعلية ,الصلاحية .
الواسطة اذا ممر إجباري اجتماعي مادي ينظم و"يدوزن " الحياة الاقتصادية والاجتماعية وليست مسالة أخلاقية أو فردية , لانها قناة يتم عبرها تنظيم التوازن في سوق العمل, أي عرض العمل والطلب عليه .
في الغرب, الرأسمالي الفعلي, حيث السعي إلى الربح يدفع إلى شحذ كافة الوسائل التقنية والبشرية وتنظيمها وفق أعلى الإشكال العقلانية لكي تصبح تنافسية , تسعى المنشأة الاقتصادية بداهة إلى الحصول على اليد العاملة الموصوفة . أما عندنا في الشرق, حيث لا هيمنة بعد للرأسمال الفعلي, كما ادعي, "المنشأة الاقتصادية" ما تزال جزءا من نشاط القرابة الاقتصادي وحقلا من حقولها. وآية ذلك أن المنشأة هذه لم تولد في المخاطرة الفردية, استثمار رساميل فردية, التي تحتاج إلى صراع اقتصادي لإثبات نفسها وسلعتها أو خدمتها في السوق بل هي تولد من رحم القرابة وبالزواج معها منذ اللحظة الأولى , ابتداء من تركيب الأنصبة الرأسمالية مرورا ب"الرخصة" والموقع الجغرافي وصولا إلى السوق والزبائن...
الكل مضبوط في منظومة محكمة لا مجال مادي للخروج منها. فإذا كانت المنشأة الاقتصادية تتمتع والحال هذه بحماية قرابية , بمظلة الاحتكار الإداري ,الوكالة الحصرية مثلا, أو بالتحكم بمفاصل سوق التوزيع, فإنها لا تعود بحاجة ماسة إلى الكفاءة العلمية والمهنية بل إلى كثير من الولاء والطاعة وقليل من الدربة, إلى كثير من "الشطارة". الربح الاقتصادي ليس إذا ما يحرك المنشأة الاقتصادية في الشرق لأنه "متوافر " مع "خلقتها" في أحضان القرابات . أي انه ريع لا ربح , امتياز لا مخاطرة. والقرابة تستعمل هذا الريع وتوزعه لكي تروي شرايينها الاجتماعية القرابية وفق تراتبيتها القرابية لا وفق القرب أو البعد من الملكية الرأسمالية كما هو الحال في الغرب. سوق العمل في هذه الشروط يصبح مرتعا للقرابات تستخدمه لتوزيع الريع لا لتقريب الكفاءة من المنشأة ودوزنة سعر العرض والطلب أي الأجر . الأجر عندنا هو العلاقة بين "وزن" الأجير في القرابة وبين المنشأة لا بين وزن كفاءته والحاجة العلمية والاستثمارية لها
يجري ذلك كما لو أن الملكية بشكل عام والفردية منها بشكل خاص لم تنشأ بعد في بلادنا . الملك لا يزال لله , للقرابة جمعاء. "الرأسمالي" عندنا ليس له حق الملكية بل حق الاستعمال . لديه امتياز اقتصادي
(concession)
لا ملكية نهائية فهو إذا غير مستقل اقتصاديا ولم يصل إلى مرتبة "البورجوازي" .
عدم نشوء البورجوازي جعل منه- او من القائم مقامه- تكنوقراطيا يعمل لحساب القرابة ,أداة, تنحصر مهمته في "إدارة" الريع وتوزيعه لا خلق الربح . كما جعله أداة اجتماعية "تدوزن" سوق العمل القرابي الذي يتقرر داخل القرابة لا داخل المنشأة (ظبطو بمعرفتك). سوق العمل من ألفه إلى يائه تضبطه القرابة ولا دور رئيسي فيه للبورجوازي عندنا وذلك ابتداء من التشغيل مرورا بالترقيات والزيادات والأجر طبعا وصولا إلى حل وتسوية النزاعات الاجتماعية كافة .
الواسطة حلقة اجتماعية-اقتصادية أساس في بناء القرابة اذ بدونها تفقد القرابة, في ظني, عنصر تماسكها الرئيس. فلو افترضنا ان القرابة لا تقوم الا فقط على العصبية الانتروبولوجية الرحمية –قرابة الدم- او الدينية –قرابة افتراضية دينية- او على مشروع ملك, لكانت فقدت شهيتها على عائدات الريع, ولكانت حرمت من امكانية "اطعام" ابنائها وتغذيتهم عبر الامساك بمفاصل الملك الذي وحده يتيح التحكم بمفاتيح الريع . في هذه الحالة تفقد القرابة امكان المحافظة على انضباط افرادها الذين يتحولون تدريجا الى "احرار" يبيعون قوة عملهم في سوق العمل والكسب المعيشي, وهو الشرط الاول لنشوء "العامل " الفرد او المواطن. من هنا استبسال القرابات في الدفاع عن حصصها التوزيعية في نظام التحاصص في لبنان او العراق مثلا او على كامل الحصص في انظمة الطوائف الوحيدة كالسعودية وبقية دول الخليج ؟
الريع نمط عيشنا والقرابة والواسطة قنواته . بالتالي فهما –القرابة والريع- ليسا عنصرا "طارئا" على النسق بل النسق نفسه , وهما ليسا بقايا نمط سابق بل صلب النمط الحالي , وهما ليسا فسادا للقانون او للاخلاق بل السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة وكسب وسائل العيش . القرابة ما تزال شكل وجودنا الاجتماعي الرئيس وعليه فهي بناء مادي لا صلة له بالمقاييس الاخلاقية او التربوية او بالوعي او باصلاح النفوس او النصوص .
فهم الواقع الملموس شرط التغيير الاول اما عدم فهمه فلا يتيح للمثقف الا اللعن والشتيمة او الدعوة والتبشير .
#روبير_البشعلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟