مجدى زكريا
الحوار المتمدن-العدد: 3859 - 2012 / 9 / 23 - 22:26
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ما ان انتهت الحرب العالمية الاولى حتى انذرت الحالة الخطرة للاقتصاد الاوروبى باضطراب اضافى. وفى اواخر تشرين الاول 1929, وقعت الكارثة. فسوق الاسهم المالية لنيويورك هبط هبوطا شديدا, فذعر الناس. وفى الفترة التى تلت مباشرة انهارت مئات البنوك. وخسر الاف الناس ملايين الدولارات, فقفز بعضهم من الابنية العالية مما ادى الى موتهم.
والكساد الاعظم اوقع العالم بكامله فى خراب اقتصادى, وبجعله الاوضاع التى سببت الحرب العالمية الثانية متفاقمة اوقعه فى فوضى سياسبة لاحقة. وصف البروفسور فى التاريخ رينه البرخت ثلاثينات ال1900 بأنها " كانت موسومة بفترات من الازمات. برزت ضمن محيط كارثة اقتصادية. "
وهكذا بعد اقل من عشرين سنة من 1914, كان واضحا الى حد بعيد ان انظمة العالم الاقتصادية لم تكن على مستوى مهام القرن الجديد. وهذا مهم, لانه بحسب نبوات الكتاب المقدس , فان سماح الله بالحكم البشرى دون رادع انتهى. فقد تنبأت الرؤيا 11 عدد18 بأن الله سيهلك الذين يهلكون الارض. ونظرا الى واقع اننا نواجه تلوثا عالميا, تلفا فى طبقة الاوزون الواقية حول الارض, وامكانية كارثة بيئية بسببها, وظواهر اخرى كثيرة يحذر منها العلماء بالحاح. لدينا سبب كاف ان مسلسل اهلاك الارض يتم الان بنجاح منقطع النظير, مما يترتب عليه تدخل الهى لتخليص الارض من ضيوفها المهلكين.
وضعت الثورة الصناعية الاساس لنوع جديد من التقدم - تقدم يجعل تزويد البشر بضروراتهم وحاجاتهم اسهل, اسرع, وارخص لكن فى الوقت نفسه بسبب المطر الحمضى, يحدث الانسكاب الكيميائى ويهلك غابات الارض المطيرة, تقدم يجعل ممكنا للسائحين ان يسافروا بطائرات نفاثة الى الجهة الاخرى من الارض بحيث يتمكنون من ملء الشواطئ التى كانت نظيفة ذات مرة بالقمامة ويهلكون البيئة الطبيعية. تقدم يهددنا بهلاك سابق لأوانه بتلويث طعامنا, ومائنا, وهواءنا.
وبالاضافة الى تطوير التكنولوجيا التى ادت لتخريب الارض, فان العمل التجارى الكبير زود الدافع ايضا, وكما ذكرت مجلة تايم, " السعى بسرعة شديدة الى الارباح بواسطة الاعمال التجارية هو منذ زمن طويل مصدر رئيسى للتلوث. " وثمة عالم اقتصادى فى علم الاحراج للامم المتحدة اقتبس منه القول ان القطع التجارى غير الشرعى للغابات المطيرة متأصل فى الجشع. "
والانظمة غير الرأسمالية هى ايضا مذنبة, كتب الصحفى ريتشارد هورنيك فى سنة 1987 انه " طوال ثلاثة عقود تقريبا من الحكم الشيوعى, اكدت بكين انه من غير الممكن ان تؤدى برامج التحسين الاشتراكية الى افساد بيئى. " ولكن اتى الان الوقت لمواجهة العواقب, وحتى الصين ادركت " الاضرار البيئية للتقدم الاقتصادى. "
ودعا صحافى اخر التأثيرات المهلكة للتلوث خلال السنوات الاربعين من التخريب فى اوروبا الشرقية " سر الشيوعية الاكثر فظاعة. " والان فقط يصير مدى الضرر واضحا, مانحا بيترفلت 30 ميلا شمالى ليببتزيغ, السمة المشكوك فيها لامكانية كونها المدينة الاكثر تلوثا على نحو خطير فى المنطقة الاكثر تلوثا على الارجح فى العالم.
تماما كما يوجه الدين والسياسة الى حد بعيد الكثير من افعالنا وردود فعلنا كذلك ايضا نتأثر الى درجة كبيرة بالعمل التجارى الكبير. وفى الواقع, ان القبضة الضيقة التى له على الجنس البشرى ربما يجرى ادراكها على النحو الافضل بالطريقة التى بها يصوغ الشخصيات.
ان الاساس نفسه الذى يبنى عالم التجارة الرأسمالية, روح التنافس الشديد, موجود فى كل مكان - فى عالم المدرسة, العمل, التسلية, الرياضة, واحيانا فى العائلة ايضا. ويجرى تعليم الاولاد من الطفولية ان يكونوا تنافسيين, ان يكونوا الافضل, ان يكونوا فى الطليعة. والتفوق اقتصاديا يعتبر ذا اهمية كبرى. وتوضع قيود قليلة على كيفية انجاز ذلك. ومن اجل النجاح, يجرى تشجيع الرجال والنساء ان يكونوا طموحين, وحتى مغامرين اذا لزم الامر.
ويجرى تدريب رجال الاعمال ليكونوا وديين ولطفاء. ولكن هل تصور هاتان الصفتان دائما شخصيتهم الحقيقية, ام تعكسان احيانا قناعا يلبسونه فيما يلعبون دورا؟ فى سنة 1911, اعطى ادغار واطسون هاو صحافى اميركى, هذه النصيحة : " عندما يحاول انسان يبيعكم شيئا ما, لا تتخياوا انه لطيف هكذا كل الوقت. "
بعزز التنافس مشاعر الحسد, الغيرة, والجشع, والناس الذين يتفوقون قد يبدأون بالتفكير فى انفسهم انهم أسمى, مما يجعلهم متعجرفين ومتغطرسين. والفاشلون باستمرار, من ناحية اخرى, قد يتألمون من عدم احترام الذات, مما يسبب اليأس. واذ يواجهون ضغوط التنافس التى لا يمكنهم التغلب عليها, قد يختارون ان يتوقفوا عن العمل, موقف يساعد على ايضاح فورة الانتحار بين الاحداث فى بعض البلدان.
وبالفشل فى تزويد كل امرئ بضرورات الحياة دون محاباة, يمكن للأنظمة الاقتصادية غير الفعالة ان تحول الشخصيات الى الصيرورة غير شاكرة, انانية, وقاسية من ناحية او حاقدة, مشفقة على الذات, ومدبرة للمكايد من ناحية اخرى. وبترفيع المال والممتلكات الى منزلة الالوهية الفعلية, يمكن للتجارة بسهولة ان تسلب الاشخاص خصالهم الجيدة.
ما ان جرى ادخال المال فى المجتمع حتى ابتدأ بالتغلغل فى كل المجتمع البشرى وبالتالى فى التأثير فى العلاقات البشرية. ونظام الاسعار فرض قيما نقدية على السلع والخدمات, وبسرعة اصبح كل شئ يعبر عنه بلغة المال, كونه المقياس الذى به يمكن به تقييم كل شئ من حيث الاهمية. ولكن ذلك حجب الحقيقة التى تعبر عنها جيدا الاغنية ان " افضل الامور فى الحياة هى التى تكون دون مقابل. "
وحتى البشر اصبحوا يقيمون على اساس النقود. اذ يجرى تقديرهم فى الدرجة الاولى على اساس الراتب او الممتلكات. اعترف الصحفى ماكس لرنر بذلك فى سنة 1949. عندما كتب : " فى حضارتنا نصنع ابطالا من الرجال الذين يجلسون على قمة كومة من المال, وننتبه ليس فقط لما يقولونه فى حقل اختصاصهم, بل لحكمتهم فى كل مسألة اخرى فى العالم. " وعبر مرة مراسل صحفى عن مخاوفه من نظرة احد رؤساء الولايات المتحدة والمتمسك بها بشدة ان الثروة هى مقياس الانسان. ووجد المراسل الصحفى ان ذلك " دليل على الاهمية المفرطة المعطاة للاهداف المادية التى حولت ثمانيات ال1900 الى عقد يكون فيه الميل السائد للناس امتلاك الاشياء, وقت فيه تعرفون وتقدرون بممتلكاتكم. "
والافراط فى التشديد على المال والاشياء التى يمكنه شراؤها يؤدى الى التقليل من قيمة العلاقات البشرية. والموقف الذى يركز على المال يحط ايضا من قيمة العمل, جاعلا اياه وسيلة فقط لغاية, حملا وليس بعد متعة. فالمرء يعمل, لا من اجل فرح الانجاز او من اجل فرح اعطاء الاخرين الاشياء التى يحتاجون اليها, بل لمجرد الحصول على المال. وهذا الموقف فعلا يسلب الفرد الفرح لانه " مغبوط هو العطاء اكثر من الاخذ. " اعمال 20 عدد 35.
ان التقدم العلمى والتكنولوجى الذى جعل ممكنا باكتشاف وتطبيق القوانين الطبيعية التى هى من مصدر الهى كان غالبا ذا فائدة عظيمة للجنس البشرى. ومع ذلك, لا يمكن الانكار ان امكانية فعل الخير التى يتيحها هذا التقدم افسدها الى حد ةبعيد الناس الذين سمحوا لشخصياتهم بأن يصوغها بطريقة غير تقوية الدين الباطل, السياسة الفاسدة, والانظمة الاقتصادية الناقصة.
اذ تضيق التجارة قبضتها على الجنس البشرى, هل هناك طريقة لمنعها من تحديد شخصياتنا ؟
متفرقات :
- تشدد التسلية التجارية على المتعة دون دون الاكتفاء وقد خلقت جيلا مدمنا على طلب المتعة.
- الممتلكات ليست سببا للافتخار, على رغم من ادعاءات الماديين. قال ايسوب الاغريقى كاتب الحكايات على ألسنة الحيوانات : " المظهر الخارجى هو بديل وضيع للقيمة الداخلية "
- ان الفرق القوية, كمروجى السلاح والتبغ, تنفق باصرار ثروات محاولة فرض خطط سياسية لضمان مبيعات مرتفعة, على الرغم من ان مصنوعاتها تعرض الصحة والامن العام للخطر.
- قال العالم الاقتصادى ادم سميث ان : " التجارة, التى يلزم طبيعيا ان تكون, بين الامم, كما بيت الافراد, رابط اتحاد وصداقة, صارت المصدر الاكثر خصوبة للنزاع والعداء "
- ان الشركات التى لاسباب الربح تبيع الدول النامية منتوجات محظورة فى مكان اخر او التى تقيم مصانع خطرة فى بلدان لديها قوانين امان اقل صرامة تظهر اهتماما قليلا بحياة الاخرين.
- قال الكاتب الانكليزى توماس فولر : " الثروة تزيد من الرغبات عوض عن اشباعها " و " المتاجرة والتجارة المألوفتان تغشان فى كل مكان بالموافقة "
- الماديون هم انانيون, موقف يشجع عليه الاعلان التجارى, الذى يؤكد : انت تستحق الافضل, احسن الى نفسك, اهتم بمصالحك الخاصة اولا.
- قال الكاتب الهزلى مار توين : " بعض الناس بعبدون المركز الاجتماعى الرفيع, البعض يعبدون الابطال, البعض يعبدون السلطة, البعض يعبدون الله . . ولكنهم جميعا يعبدون المال
- الشراء المفرط بالتقسيط, فورات الانفاق باستعمال بطائق الائتمان, ووجهة النظر " اشتر الان, ادفع لاحقا " التى تشجع عليها التجارة من اجل الربح الشخصى, تكشف عن عدم ضبط النفس. وبعض المساعى التجارية تستغل الضعفات البشرية وتصنع ثروات من المخدرات, الفساد الادبى الجنسى, والمقامرة.
-تقول صحيفة المنبر الالمانى: " حيث تكون الكلفة الهائلة لمعالجة التلوث البيئى مشمولة, تصير المقاييس الادبية احيانا منخفضة جدا. " والناس الذين ليست لديهم مقاييس ادبية يجدون من السهل ان يخونوا الاخرين من اجل الربح الشخصى.
#مجدى_زكريا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟